هل الفتور معصية ؟
صفحة 1 من اصل 1
هل الفتور معصية ؟
هل الفتور معصية ؟
كيف نجمع بين قولنا : إذا لم يكن المسلم في زيادة
فهو في نقصان ، وبين أن المسلم يفتر أوقاتا عن الطاعات ؟ وأيضا هل الفتور
معصية ؟ وإذا مات وهو في فتور هل يعتبر كمن يعمل ويجتهد ثم يختم له بسوء ؟
الحمد لله
الفتور هو الكسل والتراخي بعد الجد والنشاط ، ولا شك أنه من الآفات التي
تعرض للنفس بين الحين والآخر ، سواء في شؤون الدين ، أم في شؤون الدنيا ،
وذلك من طبيعتها التي خلقها الله تعالى عليها .
وكل مسلم – بل كل إنسان – يجد ذلك في نفسه تراه مجتهدا في العبادة والتأدب
بالأخلاق الحسنة وفي طلب العلم والدعوة إليه ، ثم بعدَ حينٍ يَدِب إليه
الفتور ، فتضعف همته عن الخير الذي كان فيه إلى مغريات الكسل والراحة .
وكل امرئ بقدر فترته محاسب .
فمن أداه فتوره إلى ترك الفرائض والوقوع في المحرمات ، فهو على خطر عظيم ،
وفتوره حينئذ معصية تستوجب الخوف من سوء الخاتمة نسأل الله العافية .
أما من كان فتوره في الفضائل والنوافل ، وهو مع ذلك محافظ على الفرائض
والواجبات ، مجتنب للكبائر والمحرمات ، ولكن قلَّ نصاب الساعات التي كان
يقضيها في طلب العلم مثلا ، أو في قيام الليل ، أو في قراءة القرآن الكريم
، فمِثلُه يُرجَى له أن تكون فترته عَرضا زائلا ، وآفةً مؤقتة ، تنتهي بعد
مدة قصيرة إن شاء الله ، ولكن تحتاج إلى شيء من السياسة الحكيمة في العلاج
والمداواة .
وهذا هو معنى ما رواه عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ :
ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِجَالٌ
يَجْتَهِدُونَ فِي الْعِبَادَةِ اجْتِهَادًا شَدِيدًا فَقَالَ : ( تِلْكَ
ضَرَاوَةُ الْإِسْلَامِ وَشِرَّتُهُ ؛ وَلِكُلِّ ضَرَاوَةٍ شِرَّةٌ ،
وَلِكُلِّ شِرَّةٍ ، فَتْرَةٌ فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى اقْتِصَادٍ
وَسُنَّةٍ : فَلِأُمٍّ مَا هُوَ ، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى
الْمَعَاصِي : فَذَلِكَ الْهَالِكُ ) رواه أحمد (2/165) وحسنه الألباني في
"السلسلة الصحيحة" (رقم/2850) .
قوله : ( فَلِأُمٍّ مَا هُوَ ) أي : قد رجع في فترته إلى أصل عظيم ، يعني
: السنة ، أو : إنه ما زال على الصراط المستقيم ، ما دام متمسكاً بالكتاب
والسنة ، وفي بعض الروايات : ( فقد أفلح ) .
يقول أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله : " ومن عيوبها – أي النفس - فَتَرٌ
فيها في حقوق كان يقوم بها قبل ذلك ، وأتم منه عيبا من لا يهتم بتقصيره
وفترته ، وأكثر من ذلك عيبا من لا يرى فترته وتقصيره ، ثم أكثر منه عيبا
من يظن أنه متوفر [ يعني : مجتهد ] مع فترته وتقصيره ، وهذا من قلة شكره
في وقت توفيقه للقيام بهذه الحقوق ، فلما قل شكره أزيل عن مقام التوفر إلى
مقام التقصير ، ويستر عليه نقصانه ، واستحسن قبايحه ، قال الله تعالى : (
أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا ) .
والخلاص من ذلك داوم الالتجاء إلى الله تعالى ، وملازمة ذكره ، وقراءة
كتابه ، وتعظيم حرمة المسلمين ، وسؤال أولياء الله الدعاء له بالرد إلى
الحالة الأولى ، لعل الله تعالى أن يمن عليه بأن يفتح عليه سبيل خدمته
وطاعته " انتهى "عيوب النفس" (ص/.
والمسلم القائم بحقوق الله تعالى ، المبتعد عن نواهيه ، هو على خير إن شاء
الله تعالى ، وإن جاءه ملك الموت على ذلك الحال فليستبشر بفضل الله ورحمته
، ويكفيه أنه يحمل في قلبه كلمة التوحيد متحققا بها عمله أيضا .
وما ورد عن شقيق بن عبد الله رحمه الله قال : ( مَرِضَ عبدُ الله بن مسعود
، فعدناهُ ، فجعل يَبكي ، فعوتب ، فقال : إني لا أبكي لأجل المرض ، لأني
سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : المرض كفارة .
وإنما أبكي أنه أصابَني على حال فترة ، ولم يُصِبْني في حال اجتهاد ، لأنه
يُكتَب لِلْعبد من الأجر إذا مَرِض ما كان يُكتب له قبل أن يَمرض
فَمَنَعَهُ منه المرض " انتهى .
عزاه ابن الأثير في "جامع الأصول" لـ "رزين" .
فلا يفسر ذلك على أن الموت في حال الفتور يعني سوء الخاتمة ، وإنما هي
رغبة في الكمال ، وحرص على أفضل الأحوال ، ولكن قد لا يتيسر لكل مسلم أن
يموت على الحال التي يتمنى .
وعلى كل حال فقد بشر الله تعالى المؤمنين المقتصدين بالأجر والخير ، فقال سبحانه :
( إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا
الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ
وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) البقرة/277 ، وقال عز
وجل : ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا
فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . أُولَئِكَ أَصْحَابُ
الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )
الأحقاف/13-14 .
قال ابن القيم رحمه الله : " فتخلل الفترات للسالكين أمرٌ لازمٌ لا بد منه
، فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد ، ولم تُخرجه من فرض ، ولم تدخله في
محرَّم ، رُجي له أن يعود خيرا مما كان .
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه :
إن لهذه القلوب إقبالا وإدبارا ، فإذا أقبلت فخذوها بالنوافل ، وإن أدبرت
فألزموها الفرائض . وفي هذه الفترات والغيوم والحجب التي تعرض للسالكين
مِن الحِكَم ما لا يعلم تفصيله إلا الله ، وبها يتبين الصادق من الكاذب :
فالكاذب ينقلب على عقبيه ويعود إلى رسوم طبيعته وهواه .
والصادق ينتظر الفرج ولا ييأس من روح الله ، ويُلقي نفسه بالباب طريحا
ذليلا مسكينا مستكينا ، كالإناء الفارغ الذي لا شيء فيه البتة ، ينتظر أن
يضع فيه مالك الإناء وصانعه ما يصلح له ، لا بسبب من العبد - وإن كان هذا
الافتقار من أعظم الأسباب - لكن ليس هو منك ، بل هو الذي مَنَّ عليك به ،
وجرَّدَك منك ، وأخلاك عنك ، وهو الذي يحول بين المرء وقلبه ، فإذا رأيته
قد أقامك في هذا المقام فاعلم أنه يريد أن يرحمك ويملأ إناءك ، فإن وضعت
القلب في غير هذا الموضع فاعلم أنه قلبٌ مضيَّع ، فسل ربه ومن هو بين
أصابعه أن يرده عليك ، ويجمع شملك به ، ولقد أحسن القائل :
إذا ما وضعت القلب في غير موضع ... بغير إناء فهو قلب مضيع " انتهى "مدارج السالكين" (3/126) .
وليس ثمة تعارض بين تأخر منزلة مَن فَتَرَ عن الكمالات ، وبين تعرُّضِ المؤمنين للفتور ، من وجهين اثنين :
1- أن المؤمن الذي يكون فتوره إلى اقتصاد والتزام ، يرجى له أن يرجع بعده
أنشط على الخير ، وأحرص على الأجر ، فيعوض ما فاته من درجات المعالي
وأسباب الكمال .
2- أنه إن بقي بعد ذلك تفاوت بين المؤمنين بسبب فتور بعضهم وَهِمَّةِ
آخرين ، فذلك فضل الله تعالى ، يفاضل به بين درجات المؤمنين في الجنة .
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى : " إضاعة الوقت الصحيح يدعو إلى درك
النقيصة ، إذ صاحب حفظه مترق على درجات الكمال ، فإذا أضاعه لم يقف موضعه
، بل ينزل إلى درجات من النقص ، فإن لم يكن في تقدم فهو متأخر ولا بد ،
فالعبد سائر لا واقف ، فإما إلى فوق ، وإما إلى أسفل ، إما إلى أمام ،
وإما إلى وراء ، وليس في الطبيعة ولا في الشريعة وقوف ألبتة ، ما هو إلا
مراحل تطوى أسرع طي ، إلى الجنة أو إلى النار ، فمسرع ومبطئ ، ومتقدم
ومتأخر ، وليس في الطريق واقف ألبتة ، وإنما يتخالفون في جهة المسير وفي
السرعة والبطء ، قال تعالى : ( إنها لإحدى الكبر . نذيرا للبشر . لمن شاء
منكم أن يتقدم أو يتأخر ) ، ولم يذكر واقفا ، إذ لا منزل بين الجنة والنار
، ولا طريق لسالك إلى غير الدارين ألبتة ، فمن لم يتقدم إلى هذه الأعمال
الصالحة ، فهو متأخر إلى تلك بالأعمال السيئة .
فإن قلت : كل مُجِدٍّ في طلب شيء لا بد أن يعرض له وقفة وفتور ثم ينهض إلى طلبه ؟
قلت : لا بد من ذلك ، ولكن صاحب الوقفة له حالان :
إما أن يقف ليجم نفسه ، ويعدها للسير : فهذا وقفته سير ، ولا تضره الوقفة ، فإن لكل عمل شرَّة ، ولكل شرَّة فترة .
وإما أن يقف لداع دعاه من ورائه ، وجاذب جذبه من خلفه ، فإن أجابه أخره
ولا بد ، فإن تداركه الله برحمته ، وأطلعه على سبق الركب له وعلى تأخره :
نهض نهضة الغضبان الآسف على الانقطاع ، ووثب ، وجمز – أي : [ قفز ] ،
واشتد سعيا ليلحق الركب .
وإن استمر مع داعي التأخر ، وأصغى إليه ، لم يُرض برده إلى حالته الأولى
من الغفلة وإجابة داعي الهوى ، حتى يرده إلى أسوأ منها ، وأنزل دركا ، وهو
بمنزلة النكسة الشديدة عقيب الإبلال من المرض ، فإنها أخطر منه وأصعب .
وبالجملة : فإن تدارك الله سبحانه وتعالى هذا العبد بجذبة منه مِن يَدِ
عدوِّه وتخليصه ، وإلا فهو في تأخر إلى الممات ، راجع القهقرى ، ناكص على
عقيبه ، أو مُوَلٍّ ظهره ، ولا قوة إلا بالله ، والمعصوم من عصمه الله "
انتهى .
"مدارج السالكين" (1/267-268) .
والله اعلم
محمد صالح المنجد
كيف نجمع بين قولنا : إذا لم يكن المسلم في زيادة
فهو في نقصان ، وبين أن المسلم يفتر أوقاتا عن الطاعات ؟ وأيضا هل الفتور
معصية ؟ وإذا مات وهو في فتور هل يعتبر كمن يعمل ويجتهد ثم يختم له بسوء ؟
الحمد لله
الفتور هو الكسل والتراخي بعد الجد والنشاط ، ولا شك أنه من الآفات التي
تعرض للنفس بين الحين والآخر ، سواء في شؤون الدين ، أم في شؤون الدنيا ،
وذلك من طبيعتها التي خلقها الله تعالى عليها .
وكل مسلم – بل كل إنسان – يجد ذلك في نفسه تراه مجتهدا في العبادة والتأدب
بالأخلاق الحسنة وفي طلب العلم والدعوة إليه ، ثم بعدَ حينٍ يَدِب إليه
الفتور ، فتضعف همته عن الخير الذي كان فيه إلى مغريات الكسل والراحة .
وكل امرئ بقدر فترته محاسب .
فمن أداه فتوره إلى ترك الفرائض والوقوع في المحرمات ، فهو على خطر عظيم ،
وفتوره حينئذ معصية تستوجب الخوف من سوء الخاتمة نسأل الله العافية .
أما من كان فتوره في الفضائل والنوافل ، وهو مع ذلك محافظ على الفرائض
والواجبات ، مجتنب للكبائر والمحرمات ، ولكن قلَّ نصاب الساعات التي كان
يقضيها في طلب العلم مثلا ، أو في قيام الليل ، أو في قراءة القرآن الكريم
، فمِثلُه يُرجَى له أن تكون فترته عَرضا زائلا ، وآفةً مؤقتة ، تنتهي بعد
مدة قصيرة إن شاء الله ، ولكن تحتاج إلى شيء من السياسة الحكيمة في العلاج
والمداواة .
وهذا هو معنى ما رواه عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ :
ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِجَالٌ
يَجْتَهِدُونَ فِي الْعِبَادَةِ اجْتِهَادًا شَدِيدًا فَقَالَ : ( تِلْكَ
ضَرَاوَةُ الْإِسْلَامِ وَشِرَّتُهُ ؛ وَلِكُلِّ ضَرَاوَةٍ شِرَّةٌ ،
وَلِكُلِّ شِرَّةٍ ، فَتْرَةٌ فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى اقْتِصَادٍ
وَسُنَّةٍ : فَلِأُمٍّ مَا هُوَ ، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى
الْمَعَاصِي : فَذَلِكَ الْهَالِكُ ) رواه أحمد (2/165) وحسنه الألباني في
"السلسلة الصحيحة" (رقم/2850) .
قوله : ( فَلِأُمٍّ مَا هُوَ ) أي : قد رجع في فترته إلى أصل عظيم ، يعني
: السنة ، أو : إنه ما زال على الصراط المستقيم ، ما دام متمسكاً بالكتاب
والسنة ، وفي بعض الروايات : ( فقد أفلح ) .
يقول أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله : " ومن عيوبها – أي النفس - فَتَرٌ
فيها في حقوق كان يقوم بها قبل ذلك ، وأتم منه عيبا من لا يهتم بتقصيره
وفترته ، وأكثر من ذلك عيبا من لا يرى فترته وتقصيره ، ثم أكثر منه عيبا
من يظن أنه متوفر [ يعني : مجتهد ] مع فترته وتقصيره ، وهذا من قلة شكره
في وقت توفيقه للقيام بهذه الحقوق ، فلما قل شكره أزيل عن مقام التوفر إلى
مقام التقصير ، ويستر عليه نقصانه ، واستحسن قبايحه ، قال الله تعالى : (
أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا ) .
والخلاص من ذلك داوم الالتجاء إلى الله تعالى ، وملازمة ذكره ، وقراءة
كتابه ، وتعظيم حرمة المسلمين ، وسؤال أولياء الله الدعاء له بالرد إلى
الحالة الأولى ، لعل الله تعالى أن يمن عليه بأن يفتح عليه سبيل خدمته
وطاعته " انتهى "عيوب النفس" (ص/.
والمسلم القائم بحقوق الله تعالى ، المبتعد عن نواهيه ، هو على خير إن شاء
الله تعالى ، وإن جاءه ملك الموت على ذلك الحال فليستبشر بفضل الله ورحمته
، ويكفيه أنه يحمل في قلبه كلمة التوحيد متحققا بها عمله أيضا .
وما ورد عن شقيق بن عبد الله رحمه الله قال : ( مَرِضَ عبدُ الله بن مسعود
، فعدناهُ ، فجعل يَبكي ، فعوتب ، فقال : إني لا أبكي لأجل المرض ، لأني
سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : المرض كفارة .
وإنما أبكي أنه أصابَني على حال فترة ، ولم يُصِبْني في حال اجتهاد ، لأنه
يُكتَب لِلْعبد من الأجر إذا مَرِض ما كان يُكتب له قبل أن يَمرض
فَمَنَعَهُ منه المرض " انتهى .
عزاه ابن الأثير في "جامع الأصول" لـ "رزين" .
فلا يفسر ذلك على أن الموت في حال الفتور يعني سوء الخاتمة ، وإنما هي
رغبة في الكمال ، وحرص على أفضل الأحوال ، ولكن قد لا يتيسر لكل مسلم أن
يموت على الحال التي يتمنى .
وعلى كل حال فقد بشر الله تعالى المؤمنين المقتصدين بالأجر والخير ، فقال سبحانه :
( إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا
الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ
وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) البقرة/277 ، وقال عز
وجل : ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا
فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . أُولَئِكَ أَصْحَابُ
الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )
الأحقاف/13-14 .
قال ابن القيم رحمه الله : " فتخلل الفترات للسالكين أمرٌ لازمٌ لا بد منه
، فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد ، ولم تُخرجه من فرض ، ولم تدخله في
محرَّم ، رُجي له أن يعود خيرا مما كان .
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه :
إن لهذه القلوب إقبالا وإدبارا ، فإذا أقبلت فخذوها بالنوافل ، وإن أدبرت
فألزموها الفرائض . وفي هذه الفترات والغيوم والحجب التي تعرض للسالكين
مِن الحِكَم ما لا يعلم تفصيله إلا الله ، وبها يتبين الصادق من الكاذب :
فالكاذب ينقلب على عقبيه ويعود إلى رسوم طبيعته وهواه .
والصادق ينتظر الفرج ولا ييأس من روح الله ، ويُلقي نفسه بالباب طريحا
ذليلا مسكينا مستكينا ، كالإناء الفارغ الذي لا شيء فيه البتة ، ينتظر أن
يضع فيه مالك الإناء وصانعه ما يصلح له ، لا بسبب من العبد - وإن كان هذا
الافتقار من أعظم الأسباب - لكن ليس هو منك ، بل هو الذي مَنَّ عليك به ،
وجرَّدَك منك ، وأخلاك عنك ، وهو الذي يحول بين المرء وقلبه ، فإذا رأيته
قد أقامك في هذا المقام فاعلم أنه يريد أن يرحمك ويملأ إناءك ، فإن وضعت
القلب في غير هذا الموضع فاعلم أنه قلبٌ مضيَّع ، فسل ربه ومن هو بين
أصابعه أن يرده عليك ، ويجمع شملك به ، ولقد أحسن القائل :
إذا ما وضعت القلب في غير موضع ... بغير إناء فهو قلب مضيع " انتهى "مدارج السالكين" (3/126) .
وليس ثمة تعارض بين تأخر منزلة مَن فَتَرَ عن الكمالات ، وبين تعرُّضِ المؤمنين للفتور ، من وجهين اثنين :
1- أن المؤمن الذي يكون فتوره إلى اقتصاد والتزام ، يرجى له أن يرجع بعده
أنشط على الخير ، وأحرص على الأجر ، فيعوض ما فاته من درجات المعالي
وأسباب الكمال .
2- أنه إن بقي بعد ذلك تفاوت بين المؤمنين بسبب فتور بعضهم وَهِمَّةِ
آخرين ، فذلك فضل الله تعالى ، يفاضل به بين درجات المؤمنين في الجنة .
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى : " إضاعة الوقت الصحيح يدعو إلى درك
النقيصة ، إذ صاحب حفظه مترق على درجات الكمال ، فإذا أضاعه لم يقف موضعه
، بل ينزل إلى درجات من النقص ، فإن لم يكن في تقدم فهو متأخر ولا بد ،
فالعبد سائر لا واقف ، فإما إلى فوق ، وإما إلى أسفل ، إما إلى أمام ،
وإما إلى وراء ، وليس في الطبيعة ولا في الشريعة وقوف ألبتة ، ما هو إلا
مراحل تطوى أسرع طي ، إلى الجنة أو إلى النار ، فمسرع ومبطئ ، ومتقدم
ومتأخر ، وليس في الطريق واقف ألبتة ، وإنما يتخالفون في جهة المسير وفي
السرعة والبطء ، قال تعالى : ( إنها لإحدى الكبر . نذيرا للبشر . لمن شاء
منكم أن يتقدم أو يتأخر ) ، ولم يذكر واقفا ، إذ لا منزل بين الجنة والنار
، ولا طريق لسالك إلى غير الدارين ألبتة ، فمن لم يتقدم إلى هذه الأعمال
الصالحة ، فهو متأخر إلى تلك بالأعمال السيئة .
فإن قلت : كل مُجِدٍّ في طلب شيء لا بد أن يعرض له وقفة وفتور ثم ينهض إلى طلبه ؟
قلت : لا بد من ذلك ، ولكن صاحب الوقفة له حالان :
إما أن يقف ليجم نفسه ، ويعدها للسير : فهذا وقفته سير ، ولا تضره الوقفة ، فإن لكل عمل شرَّة ، ولكل شرَّة فترة .
وإما أن يقف لداع دعاه من ورائه ، وجاذب جذبه من خلفه ، فإن أجابه أخره
ولا بد ، فإن تداركه الله برحمته ، وأطلعه على سبق الركب له وعلى تأخره :
نهض نهضة الغضبان الآسف على الانقطاع ، ووثب ، وجمز – أي : [ قفز ] ،
واشتد سعيا ليلحق الركب .
وإن استمر مع داعي التأخر ، وأصغى إليه ، لم يُرض برده إلى حالته الأولى
من الغفلة وإجابة داعي الهوى ، حتى يرده إلى أسوأ منها ، وأنزل دركا ، وهو
بمنزلة النكسة الشديدة عقيب الإبلال من المرض ، فإنها أخطر منه وأصعب .
وبالجملة : فإن تدارك الله سبحانه وتعالى هذا العبد بجذبة منه مِن يَدِ
عدوِّه وتخليصه ، وإلا فهو في تأخر إلى الممات ، راجع القهقرى ، ناكص على
عقيبه ، أو مُوَلٍّ ظهره ، ولا قوة إلا بالله ، والمعصوم من عصمه الله "
انتهى .
"مدارج السالكين" (1/267-268) .
والله اعلم
محمد صالح المنجد
Gafsi06-
- عدد المساهمات : 205
العمر : 113
المهنه : مهندس
نقاط تحت التجربة : 12058
تاريخ التسجيل : 14/07/2008
مواضيع مماثلة
» وإن كانت معصية تأخرت
» إذا دعتك نفسك إلى معصية الله
» قصة مؤثرة جدا: معصية أورثت ندما وتوبة وإسلاما...
» إذا دعتك نفسك إلى معصية الله. فاعصه ولكن اليك خمسة شروط!
» إذا دعتك نفسك إلى معصية الله
» قصة مؤثرة جدا: معصية أورثت ندما وتوبة وإسلاما...
» إذا دعتك نفسك إلى معصية الله. فاعصه ولكن اليك خمسة شروط!
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى