هو العالم الفاضل الجليل الألمعي شمس عصره و زينة مصره الشيخ عبد الرحمن
بن علي بن محمد العربي خليف القيرواني قدس الله ثراه و أكرم مثواه .
ولد المغفور له – إن شاء الله تعالى - يوم 5 شعبان1335 الموافق للسابع و العشرين من ماي – آيار 1917 .
كان والده فقيرا إذ كان يشتغل بنجارة المحاريث الخشبية . عرف بصدقه و
أمانته و نصحه لمن يقصده .و كان محبا للقرآن وأهله لذلك حرص على إدخال
ابنه عبدالرحمن إلى الكتاب رغم الموجة الرائجة آنذاك و التي ترى في
المدارس مستقبلا واعدا .
دخل الكتاب و حفظ القرآن كجُلِِ أترابه على الشيخ المؤدب عليََة بن غانم
رحمه الله وأسكنه فراديس جنانه .فكان له الأثر الكبير في تكوين الشيخ
عبدالرحمن و الذي برز بتفوقه فأتم حفظ كتاب الله في ثلاث سنين أي سنة 1931.
التحق بالتعليم الزيتوني في جمادى الأولى 1350 - سبتمبر أيلول 1931 . ثم
انتقل إلى تونس سنة 1934 و حصل على الشهادات التالية و كلها بتفوق:
- شهادة الأهلية سنة 1355- 1936 .
- شهادة التحصيل في القراءات السبع 1358 – جويلية 1939
- شهادة التحصيل في العلوم 1359- ديسمبر كانون أول 1940 .
- شهادة العالمية في فن القراءات 1360 – 1941 .
- شهادة العالمية في العلوم بالقسم الأدبي 1363 – 1944 .
درس شيخنا رحمه الله على الأفاضل من المشايخ بكل من القيروان و تونس: فنذكر على سبيل المثال لا الحصر:
- في القراءات : المشايخ الهادي بن محمود و محمد الباجي و حمودة بن يحيى .
- في الفقه : المشايخ محمد بن عمر العلاني و محمود صدام ومحمد بوراس .
- في البلاغة : الشيخ محمد الشاذلي النيفر .
رحم الله الجميع و أجزل لهم المثوبة .
شارك في مناظرة للتدريس بعد وفاة الشيخ عبد الملك بن فرحات وقبل فيها من
بين 3 مرشحين وذلك سنة 1943. و بعدها شارك في مناظرة للتدريس من الطبقة
الثانية في تونس سنة 1944 فقبل فيها و أقام بحمام الأنف( ضواحي تونس
الجنوبية ) و بقي فيها حتى سنة 1952 .
امتاز عام 1952 بوقوع حادث سير أليم على مشارف عين دراهم بالغرب التونسي
حيث انقلبت سيارة تقل ستة أشخاص : الشيخ الأمجد قدية الذي توفي على عين
المكان و الشيخ محمد بوشربية الذي توفي بعد أربعة أيام و الشيخ محمود
قريبع و الشيخ الطيب الورتتاني و الأستاذ البشير جراد و الشيخ عبدالرحمن
خليف الذي أصيب بكسر في عموده الفقري ألزمه الفراش أربعة أشهر . رحم الله
الجميع برحمته الواسعة .
وعاد الشيخ على إثر الحادث إلى القيروان و استقر بها للتدريس منذ أكتوبر تشرين أول 1952 .
و انطلقت مع سنة 1952 قراءة الحزبين القرآنيين اليومية إثر صلاة المغرب
بجامع عقبة بن نافع و مازالت هذه الختمة الشهرية تقرأ إلى يومنا هذا , كما
انطلقت إملاءات يشرف عليها خريجو الزيتونة من أمثال الشيخ صالح البحري
حفظه الله ورعاه و الشيخ الطيب الورتتاني رحمه الله تعالى و شيخنا الفاضل
عبدالرحمن رحمه الله و ذلك بالمساجد: الزيتونة , عقبة, المصلى. الحنفية
وغيرها .
وبعد حركة المديرين عين الشيخ عبدالرحمن على إدارة الفرع الزيتوني
بالقيروان خلفا للشيخ يوسف بن عبدالعفو رحمه الله ..و ذلك سنة 1956 .
و كانت له المبادرة بإنشاء معهد للطلبة خارج الجامع الأعظم فكان الحي
الزيتوني بالوسط ( و المعروف الآن بمعهد ابن رشيق ) و تم تكليف لجنتين
لجمع التبرعات عن طريق مقتطعات ذات 100 و 500 مليم . اللجنة الأولى فيها
الشيخين سالم الشعباني و علي بوحولة و اللجنة الثانية فيها السيدان خالد
القهواجي و المختار الحولة .
و في أكتوبر تشرين الأول 1960 تم عزله عن إدارة المعهد مع بقاءه به كأستاذ
و لكن في 17 جانفي كانون الثاني حدثت واقعة ما أطلق عليها " الله أكبر ما
يمشيشي " حيث عمدت السلطة آنذاك بعد إزاحته من إدارة المعهد إلى نفيه إلى
حامة قابس بالجنوب التونسي لإبعاده عن النشاط الديني . مما أثار غضب
القيروانيين الذين خرجوا للتعبير عن رفضهم ذلك الإجراء . و على إثرها حوكم
الشيخ مع العديد من المشايخ و من تلاميذ الشيخ بجامع عقبة .
وقد حكم على الشيخ آنذاك بالسجن المؤبد مع الأشغال الشاقة . وعلى إثر
تدخلات عديدة تم الإفراج عن الشيخ عبدالرحمن في أوت –آب 1962 . و تم نقله
إلى مدينة سوسة للتدريس بالمعهد الثانوي للذكور مع الإقامة الجبرية بها .و
بقي بها حتى سنة 1970. وفي الأثناء أصبح مرشدا تربويا في التربية
الإسلامية . وحين عاد إلى القيروان عام 1970 كان جامع عقبة ما زال تحت
الترميم و إعادة البناء . فقام بالتدريس في جامع الباي إثر صلاة العصر و
ذلك خلال شهر رمضان .و لما تم فتح جامع عقبة تولى الإمامة و الخطابة به مع
الشيخ الطاهر صدام . وعادت الدروس الليلية مع الإملاء القرآنية.
- المدرسة الثانوية الزيتونية بالقيروان 1954-1956
- المدرسة الثانوية المختلطة بالقيروان مع مباشرة الإدارة 1956-1960 .
- المعهد الثانوي للذكور بسوسة 1962-1970
- مدرسة ترشيح المعلمين بالقيروان.
- انتدب لخطة مرشد بيداغوجي في التربية الإسلامية منذ عام 1968 ثم انتدب لخطة متفقد أول للتعليم الثانوي حتى تقاعده في أكتوبر1982 .
باشر الخطابة في أحد جوامع تونس كخطيب نائب وذلك ارتجالا حين تغيب الإمام الراتب . و سمي خطيبا بجامع عقبة بالقيروان سنة 1955.
ثم عاد إلى الإمامة والخطابة بعد عودته من مدينة سوسة و بعد إعادة فتح
جامع عقبة في السبعينات من القرن الماضي . فكان شعلة في النشاط . كان في
النهار يسافر إلى بعض المعاهد من خارج القيروان ( القصرين . سبيطلة...) ثم
يعود مع المغرب إلى الجامع لتلاوة حزبي القرآن ثم يتولى الإملاء القرآني
ثم التدريس . كان قلبه وفكره و كل كيانه معلق بالجامع : فلا راحة أسبوعية
و لا سنوية إلا لعذر ( سفر. حج . مرض) فكان يجمع بين الإمامة و الخطابة
والإملاء و التدريس .
وبقي على هذا النسق حتى أواخر التسعينات حيث بدأ المرض يفل من قواه .فبدأ
يتغيب عن الإملاء القرآنية ثم عن الدروس ثم عن الخطابة . ولكن كلما شعر
بتحسن في صحته عاد إلى نشاطه في التدريس أو الخطابة . فكانت آخر دروسه في
صيف 2005 حول فقه الصيام و ذلك قبل حلول رمضان .أما آخر خطبه فكانت سلسلة
خطب رمضانية لعام 1426-2005 .
- انتدب لتدريس القراءات بالكلية الزيتونية سنة 1977 .
- حاضر في الفقه و أصوله بالمركز الإسلامي في العاصمة البلجيكية –بروكسل – سنتي 1972 و1983.
- شارك في عدة ملتقيات و دورات لتدريب الأئمة و الدعاة و ذلك بإشراف رابطة
العالم الإسلامي في كل من أندونيسيا . جزر القمر .جزر المالديف. فرنسا
.بلجيكا .هولندا .
- شارك في ندوات إسلامية في مصر وليبيا و وتونس والجزائر و المغرب .
- شارك في لجنة التحكيم الخاصة بالمباراة القرآنية السنوية التي تقام بمكة سنة 1997.
• سمي عضوا بالمجلس الإسلامي الأعلى بتونس بداية من سنة 1988 حتى وفاته .
• انتخب عضوا بمجلس النواب بتونس لدورة واحدة من 1989 حتى 1994 .
أذيعت له حوارات مباشرة في التسعينات من إذاعات المنستير و صفاقس.
ساهم مع استوديوهات لطفي زيني –رحمه الله – في إنتاج مسلسل تلفزيوني على
قناة اقرأ و التلفزيون التونسي .المسلسل حمل اسم " السلام عليكم " و تناول
بأسلوب تمثيلي رائع عدة مواضيع اجتماعية وأخلاقية و تربوية و فقهية .
ولاقت هذه السلسلة استحسان العديد من المشاهدين مما حدا بقناة اقرأ و
قنوات " راديو و تلفزيون العرب" من بثها عدة مرات لسنوات متتالية .كما وأن
الشيخ واصل إنتاج مسلسل آخر بعنوان " الحل بين يديك" بنفس الأسلوب
التمثيلي و المواضيع المتنوعة والواقعية . وقد تم بثها مع سلسلة خاصة
بمناسك الحج على قنوات "راديو و تلفزيون العرب " .
هذا المشروع الضخم بدأ إنجازه في أواسط السبعينات .كان حلما يراود الشيخ
رحمه الله . كان يرى ضرورة ارتباط الشباب بكتاب الله و حتى لا يصبح القرآن
غريبا بين أبناءه سعى بكل جهوده إلى بعث هذا المعلم الذي أصبح قبلة الشباب
من داخل الوطن ومن خارجه . و بعون الله سبحانه وتعالى وبمساعدة المؤسسات
المحلية وأهل الخير تم بناء هذا الصرح قرب جامع عقبة ليبقى شاهدا على مدى
علاقة المعلمين ببعضهما .
يضم مركز دار القرآن:
1- وحدة خاصة بقاعات الدراسة للطلبة المسجلين حيث يدرسون مختلف العلوم
الشرعية ( حفظ القرآن . تجويد . فقه ..) وغيرها ( تاريخ جغرافيا..).
2- وحدة تضم مبيتا للطلبة الأجانب أو الذين ليس لهم أهل بالقيروان.
3- وحدة تضم قاعات للأطفال وهي عبارة عن رياض للأطفال من 3 إلى 6 سنين .
4- وحدة خاصة بقاعات المحاضرات( غير جاهزة ) .
5- مكتبة .
وانتشر صيت هذه الدار القرآنية حتى أصبحت تستقطب الكثير من خارج تونس و
خاصة من أواسط إفريقيا :غانا – بوركينافاسو – مالي – كوت ديفوار ...و بعد
حفظهم لكتاب الله و تزودهم بالعلوم الشرعية يعود هؤلاء الطلبة إلى بلادهم
أو يكملوا دراساتهم العليا في بعض البلاد المشرقية( السعودية . سوريا..)
و تقديرا لجهود الشيخ عبدالرحمن خليف في تعليم القرآن قامت إحدى المؤسسات
في بوركينافاسو بإنشاء مركز لتحفيظ القرآن أطلقت عليه اسم " مركز الشيخ
عبدالرحمن خليف لتحفيظ القرآن الكريم" و لله المنة والفضل .
ويعتبر هذا الصرح أهم صدقة جارية تركها شيخنا الفاضل رحمه الله إذ كان
شديد الحرص على متابعة سير هذه الدار و لم يوص قبل وفاته بأي شيء قدر ما
أوصى بدار القرآن و كأنها فلذة من فلذات كبده .
لن نقدر أن نحصي تلاميذ شيخنا الجليل رحمه الله تعالى و لكن الأكيد أن له صنفان من التلاميذ:
1- تلاميذ التعليم الرسمي إذ تخرج على يديه رحمه الله أجيال عديدة لا
يحصيها إلا الباري سبحانه وتعالى فمهم الوزراء و السفراء و عمداء الكليات
و رؤساء المصالح و رجالات التعليم و رجال الأعمال و المحامين والأطباء و
الصيادلة و غيرهم ..
2- تلاميذه من جامع عقبة : كان رحمه الله يقوم بدورة كاملة لحفظ القرآن كل
ستة أعوام تقريبا فحفظ على يديه العديد والعديد من الرجال و الولدان
والنسوة فمنهم من توفي ومنهم من هو على قيد الحياة .
رغم أعباء الشيخ المهنية والدينية فإنه كان معطاء في التأليف خاصة بعد تفرغه من عمله . وهذه قائمة الكتب الصادرة للشيخ :
1- رسالة " من مسائل الصيام " بمشاركة الشيخ الأمجد قدية – طبعت بتونس 1952 ,
2- كتاب "التربية من الكتاب و السنة" بمشاركة أستاذين – طبع بالعراق وقرر للتدريس بتونس .
3- كتاب" العقيدة والسلوك" بمشاركة أستاذين –طبع بتونس و قرر للتدريس بتونس.
4- كتاب "ترتيب مناسك الحج " طبع بتونس سنة 1972.
5- كتاب "آفاق الصيام في الإسلام" طبع بتونس سنة 1990 .
6 - كتاب" كيف تكون خطيبا" طبع بالسعودية و بلبنان و بمركز الدراسات الإسلامية بالقيروان سنة 1994.
7 - كتاب" أين حظ الإسلام من لغة القرآن ؟" طبع بالكويت
8 - كتاب "مشاهد الناس عند الموت" طبع بمصر 1997.
9 - كتاب "مشاهد الناس بعد الموت" طبع بتونس 2002.
10 - كتاب " تنوير المسالك لأداء المناسك" طبع ولم ينشر.
11 - كتاب " تصحيح الرسول صلى الله عليه وسلم لمفاهيم الصحابة " – لم يطبع بعد .
تزوج شيخنا الراحل عام 1947 و أنجب ثمانية أبناء: ثلاثة منهم ذكور – كلهم
أطباء – و خمس بنات .أما الأحفاد فله 37 حفيدا منهم أربعة يحملون اسم
عبدالرحمن .
توفي رحمه الله تعالى وأسكنه فراديس جنانه و رضي عنه عصر الأحد 19 محرم 1427 -19 فيفري 2006 .
ودفن صباح الاثنين . و شهد جنازته وفود رسمية من وزراء (أوفد رئيس الدولة
وزير الشؤون الدينية نيابة عنه) و كتاب دولة و رؤساء مصالح و من تلاميذه و
أصدقائه و من عامة الناس ما لا يحصى . و لكن قدرت الجموع بحوالي ثلاثين
ألفا .
وكان لوفاته صدى واسعا في كثير من البلدان و القنوات الفضائية التي تناولت خبر الوفاة وكذلك الصحف الوطنية والعربية .
و في الختام يجدر بنا أن نسجل أمرين :
الأمر الأول هو أن السماء بدأت تقطر بقطرات من الماء منذ خروج جثمان الشيخ
من جامع عقبة بعد الصلاة عليه و ذلك حتى وصوله إلى مكان الدفن . نعم كانت
قطرات ولكنها عبرات .لقد بكت السماء على رحيل عالم رباني ترك فراغا من
الصعب ملأه إلا أن يرحمنا الله .
الأمر الثاني : هو أنه كان لوفاته وقعا على بعض العصاة من الذكور و الإناث
الذين شاهدوا موكب الجنازة فعادوا إلى جادة الطريق . عاش شيخنا داعيا إلى
الله و مات داعيا إلى الله..
فهنيئا له و تغمده الله من عفوه بما يفوت آمال المُؤملين و يوجب له مرافقة الأنبياء و المرسلين .
اللهم نور له البرهان و ألبسه الرضوان و فسح له الجنان و اجمعنا و إياه مع
خاتم الأنبياء و المرسلين صلى الله عليه وسلم في أعلى عليين .