سلسلة القصص والعبر
4 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
سلسلة القصص والعبر
قصة أصحاب الأخدود
يسوق لنا تعالى في قصة {أصحاب الأخدود} مثالاً واقعياً يبيِّن فيه عاقبة المعرض ونتائج
أعماله السيِّئة وما تعود به عليه، قال تعالى:
{قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ، النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ، إِذْ هُمْ
عَلَيْهَا قُعُودٌ، وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ،
وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}.
ولشرح ملخص هذه القصة سنبدأ بتأويل الآيات
الكريمة السابقة، ونبدأ بآية: {قُتِلَ
أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} فنقول: {قُتل} بمعنى هلك وذهبت حياته،
وقُتل هنا فعل مبني للمجهول لأن فاعله معلوم، فكل واحد من أصحاب الأخدود
إنما أهلك نفسه بفعله وما جنى عليه غير عمله.
والأخدود:
هو الشق والحفرة المستطيلة في الأرض. وأصحاب
الأخدود هم الأشخاص الذين حفروا
تلك الحفرة المستطيلة في الأرض، وجعلوا يُلقون فيها من كانوا يقتلونهم من
المؤمنين.
فقد ذكروا أن أحد الملوك الحِمْيَريين الذين ملكوا اليمن
قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وكان اسم ذلك الملك {ذا نواس} لم
يرقْ له أن يرى جماعة من أهل نجران يخالفونه في دينه فيؤمنون برسالة
سيدنا عيسى عليه السلام ويؤمنون بالله، بل أراد أن يعيدهم إلى دينه وكان
يهودياً مُصرّاً على كفره ويهوديته فأمر أعوانه بتعذيب أولئك المؤمنين
وتقتيلهم وإلقائهم في الأُخدود أو أن يعودوا إلى الكفر. وقد أراد تعالى أن
يبيِّن لنا نوع الجزاء الذي سيحلّ بأولئك المعتدين فقال تعالى:
{النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ}:
أي: أن أصحاب الأخدود أهْلكوا أنفسهم وقتلوها
بعملهم لأنهم سيصبحون أصحاب النار ذات الوقود.
والوقود: مأخوذة من وَقَدَ بمعنى اشتعل، والنار
ذات الوقود: أي: الشديدة الاشتعال.
ثم بيَّن لنا تعالى كيفية عذابهم فيها فقال
تعالى:
{إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ}:
والقعود:
جمع قاعد وهو الجالس فبسبب ما فيهم من ألم وعلل
تجدهم قعوداً على النار لا يبرحون
ولا يتحوَّلون عنها. ثم بيَّن تعالى سبب عذابهم فيها فقال تعالى:
{وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ}:
فهؤلاء حينما تنكشف لهم
الحقيقة ويرون عملهم إزاء هؤلاء المؤمنين هنالك يتألَّمون مما فعلوه
بهم ويحرق الألم نفوسهم فلا يجدون مخلصاً من ذلك الألم المعنوي سوى النار. وعلى
وجه المثال نقول:
لو أن رجلاً غاب عن وعيه ساعة فقام إلى زوجته
وأولاده النائمين فذبحهم ذبح النعاج، وإن هي إلا ساعة مضت حتى رجع له وعيه
وثاب إلى رشده فرأى أولاده وزوجته جثثاً هامدة ودماؤهم جارية على الأرض
فيا ترى حينما يقف هذا الشاهد أمام المشهودين ما يكون عليه حاله؟!. هل
تراه يطيب له عيش ويكون له نعيم؟. وهل يصرفه عن ألمه النفسي شيء؟. إنه
ليس يغيِّبه عن ألمه إلاّ ألم جسدي عظيم وليس من ألم جسدي أعظم من حرقه
بالنار.
وهكذا فالنار من رحمة الله بأولئك الذين تتغلب
عليهم آلامهم
النفسية يوم القيامة، بسبب ما فعلوه مع من قتلوهم وأزهقوا أرواحهم، أو من سلبوا
أموالهم، أو اعتدوا على أعراضهم، أو مع من ضلَّلوهم وكانوا سبباً في
زيغهم عن الحق، تراهم يومئذ يقفون موقفاً يحزُّ فيه الألم قلوبهم،
فبسبب إعراضهم عن الرحيم الرحمن قست قلوبهم وقاموا بأعمال شريرة عكس ما
خُلقوا من أجله من عمل الخير وعمل الإحسان التي بها يرتقون في الجنَّات،
فعندما تزول دنياهم وتزول معها شهواتهم الخبيثة التي كانت تحجبهم عن
الحقائق ويعودون لفطرة الكمال فيرون فظائع ما اقترفوه وما كان سبباً
لخسرانهم الحياة الحقيقية الأبدية، خسرانهم لما أعدَّ لهم الله من الخيرات
السرمدية، لقد خسروا جنَّاتهم العُلى وانحطت قيمتهم الإنسانية التي كانت
ستعلو بهم فوق كافة الخلائق غير المكلَّفة، بل فقدوا مشاهدة خالق الجمال
والمجد والجلال. كانوا لو استجابوا لربِّهم فآمنوا وعملوا الصالحات
سيتسنمون أعلى مكانة في العالمين، فبإعراضهم وأمراضهم التي سببت لهم الخزي
والعار هووا إلى أسفل سافلين وأصبحوا شر البرية، فهنالك تشتعل بهم نيران
الحسرة والخجل، نيران الانحطاط والسفالة والخزي والخسارة، ويستجيرون
بالله، يطلبون منه أن يحجبهم عمَّا هم فيه من الألم النفسي المُهلك،
وهناك يرحمهم الله بالنار، فيرتمون في أحضانها ليغيبوا بحريقها وألم عذابها
الجسدي عن ألمهم النفسي لأن أجسادهم التي ارتكبوا فيها هذه الجرائم
تكون محاطة بنفوسهم المُعرضة عن الله والتي لم تعرف إلاَّ الجسد ومشتهياته
في حياتهم الدنيا فبشخوص بصيرتهم إلى أجسادهم يعيشون بذكرى أعمالهم
الشريرة والمُترعة باللؤم والخبث والمكر فتلتهب نفوسهم بنيران خزيهم
وإجرامهم حتى تشوي نفوسهم شيّاً، فتأتي نيران اللظى لتُنسيهم آلامهم النفسية
الفظيعة، فنار الله الموقدة ينزع لظاها هذا الشوى النفسي الذي يتحرَّقون
به ( كَلاَّ
إِنَّهَا لَظَى، نَزَّاعَةً لِلْشَّوَى ) سورة المعارج: الآية (15-16).
هذه النار الموقدة تجدي
ولكنها لا تشفي، إذ لا شافي للنفس ولا طهارة لها إلاَّ بالاتجاه
إلى وجه الله الكريم الذي إذا اتَّجهوا إليه سرى نوره إلى نفوسهم وطهَّرها من
أدرانها الخبيثة وميولها السفلية وشفاها، لكنَّ كبرهم حجبهم فاحتاجوا
إلى هذا الدواء المر، وقانا الله من أن تكون لزاماً. وذلك هو يومئذ حال
أصحاب الأخدود حينما يَرَونَ ما فعلوه بأولئك المؤمنين الذين لا ذنب لهم
إلاّ أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد، وأنهم ما نقموا منهم إلا بسبب
إيمانهم، ولذلك قال تعالى:
{وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ،
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيدٌ}.
ونقم منه: أي: عاقبه عقاباً يخرج من نفسه ما
فيها وما انطوت عليه.
وهكذا فالنقمة إنما تكون على
حسب حال الناقم، فإن كان ذا صفة عالية كانت نقمته سبباً في خروج الفساد
من قلب من نقم منه. فالأب والمعلِّم المخلص ينقمان من الطفل، أي: يعاقبانه
عقاباً ينتزع من نفسه ما فيها من الشر.
أما أصحاب الصفة الدنيئة
والنفس المنحطة فإنما ينقم من غريمه ظلماً وبغياً، وليست له غاية سوى
تجريد من ينقم منه من كل ما يتمتع به من نعمة.
والانتقام والحالة هذه على صورٍ
شتَّى، فإما أن يعمد الناقم إلى إخراج من ينقم منه من وظيفته وحرمانه مما
كان يناله بسببها من الخير، وإما أن يعمد إلى حبسه وتجريده من حرِّيته،
وإما أن يعمد إلى قتله وإخراج روحه، وإما أن يشدد عليه لينتزع إيمانه من
قلبه.
وحيث إن أصحاب الأخدود كانوا من ذوي النفوس
المنحطة لذلك عمدوا في نقمتهم إلى إخراج أرواح المؤمنين تشديداً عليهم
وسعياً في ردِّهم عن إيمانهم، ولذلك تراهم يوم القيامة يتألَّمون كثيراً
عندما يرون أن أولئك المؤمنين لم يكن لهم ذنب ولا جُرم، وأنّ نقمتهم منهم
لم تكن إلا أن يؤمنوا بالله، أي بالمسيِّر لهذا الكون.
العزيز: أي: المتفرّد في الكمال. الحميد: أي:
الذي يُحمد على كل ما يسوقه لعباده.
{الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}:
أي:
المالك المتصرِّف بشؤون كل ما في السموات
والأرض، فهو الممدُّ لها بالوجود،
المتفضِّل عليها بالحياة. وهو الذي يهبها كل ما تحتاج إليه، ويسيِّرها
فيما يعود عليها وعلى الكون بالخير.
{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}:
والشهيد: هو المشاهد الرقيب. فكل ما تفعله أيها
الإنسان محفوظ عنده تعالى وهو معك أينما كنت، ناظر إليك ومطَّلع عليك.
عدل سابقا من قبل إسماعيل في السبت 29 أغسطس - 2:26 عدل 1 مرات
*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*الكلمة الطيبة كشجرة طيبة*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*
"هذا مذهب كلّه جد فلا تخلطوه بشيء من الهزل"
إسماعيل- مشرف
- عدد المساهمات : 2980
العمر : 53
نقاط تحت التجربة : 16464
تاريخ التسجيل : 17/04/2008
رد: سلسلة القصص والعبر
بارك الله فيك
وجازاك خير جزاء
على الموضوع القيم
وجازاك خير جزاء
على الموضوع القيم
ti7a-
- عدد المساهمات : 456
المكان : فـــي قــلــــوب أحبــــــــابـــــــي
المهنه : والله حايره
الهوايه : شفتك مره
نقاط تحت التجربة : 13111
تاريخ التسجيل : 08/02/2007
رد: سلسلة القصص والعبر
:rendeer:
حنان-
- عدد المساهمات : 2113
العمر : 36
المكان : مجاز الباب باجة
المهنه : متزوجة
الهوايه : نقش الحناء
نقاط تحت التجربة : 13894
تاريخ التسجيل : 04/06/2008
قصة سيدنا موسى مع سيدنا الخضر عليهما السلام
قصة سيدنا موسى مع سيدنا الخضر عليهما السلام
ذُكرت هذه القصة في
القرآن الكريم في سورة الكهف،
يقول سبحانه وتعالى: {وَإِذْ
قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ..}: فلماذا
وردت هذه الآية؟... قال تعالى كما رأينا: أبصر به: أرهم ملكي. وأسمع: أسمعهم
بحناني.
كان سيدنا موسى قد دعا على فرعون بقوله: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ..}!... {..رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ
وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا
الْعَذَابَ الْأَلِيم، قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا
يَعْلَمُونَ} سورة يونس 88-89.
فلما دعا سيدنا موسى عليه
السلام بهذا أمره الله بالذهاب لمجمع البحرين، وهنالك ترى حيث تجتمع بعبد
علَّمه تعالى من لدنه علماً منه ما يدلك على عنايتي بعبادي وحكمتي بخلقي. فقال
لفتاه: {..لَا
أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا}: عمري
كله، وهكذا الصادق يطلب العلم ولو بالصين، العلم هذا العلم: معرفة مراد الله في
خلقه.
{فَلَمَّا
بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا..}: لما
وصلا لهذا الموضع نسي فتاه الحوت فما قاما. وثب الحوت وصار في البحر، فرآه الفتى
ولم يره موسى عليه السلام، وكان الله تعالى قد بيَّن لموسى صلى الله عليه
وسلم أنه سيجعل له علامة على الموضع {..فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا}: سرب
الحوت إلى البحر.
{فَلَمَّا
جَاوَزَا..}: موسى عليه السلام وفتاه
عن الموضع المطلوب. {..قَالَ
لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا}: تعباً.
{قَالَ
أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ..}: أن
أذكر قصته لك. {..وَمَا
أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ..}: أن
أذكر لك القصة. {..وَاتَّخَذَ
سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا}: ولكن
عجباً كيف سرب!...
{قَالَ
ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ..}: وكان تعالى قد أخبرهما
من قبل أن هذه علامة المكان الذي سيوجد فيه العبد.
{..فَارْتَدَّا
عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا}.
{فَوَجَدَا
عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا..}: وهو الخضر عليه السلام. {..آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا
عِلْمًا}. غير علم سيدنا موسى
عليه السلام.
سيدنا موسى عليه السلام علمه علم التشريع، دلالة
الخلق على الله، هذا العبد الصالح علمه غدا بمراد الله من فعله.
{قَالَ
لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}؟.
{قَالَ
إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}: قال
ولمَ؟ فأجابه.
{وَكَيْفَ
تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا}!...
{قَالَ
سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا..}: أنت
شيخي سأصبر. {..وَلَا
أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}.
{قَالَ
فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ
ذِكْرًا}: إن أردت السير معي فلا
تتكلم بشيء، إن لم أبيِّن لك فلا تسألنِ.
{فَانْطَلَقَا
حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا..}: ثقبها
الخضر عليه السلام ومن ثم أصلحوها.
{..قَالَ
أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا..}؟... أنت رجل صالح وتفعل هذا!... {..لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا}: أمره
عظيم، هذا أمر عظيم.
{قَالَ
أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}؟...
{قَالَ
لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا}: لا
تعسِّر علي هذا الأمر.
{فَانْطَلَقَا
حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ..}: هذا
بيان بأن الأمور كلها تجري بعلمه تعالى، بأمره سبحانه وكلٌّ بحسب استحقاقه: هذا
كله أجراه تعالى ليرى موسى عنايته بعباده وعطفه وحنانه، الحمد لله
رب العالمين، الحمد لله على كل حال: هذا كله عطف.
{..قَالَ
أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا}. هذا
منكر لا يرضى به أحد، شيء منكر لا أحد يقبله.
{قَالَ
أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}: وأنت
لا تعرف شيئاً من سرِّ عملي!...
{قَالَ
إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ
لَدُنِّي عُذْرًا}: معك حق، أنت معذور من
طرفي لا تعد لصحبتي.
{فَانْطَلَقَا
حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا..}: طلبا
الطعام منهم. {..فَأَبَوْا
أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا..}: بخلاً منهم. {..فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ..}: أصلحه
ومكَّنه. {..قَالَ
لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا}: أنت
طلبت منهم طعاماً مع جوعنا فامتنعوا وأنت تصلح!.
{قَالَ
هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ
عَلَيْهِ صَبْرًا}.
{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ
كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا}: هذه
السفينة لجماعة فقراء وملك وراءهم يأخذ كل سفينة غصباً والخضر
عليه السلام بخرقها عيَّبها فظلَّت تشتغل وهكذا فما كان للملك أن يصادرها،
غيرها توقف عن الشغل لكن هي ظلَّت تعمل. هذا الخرق نتج عنه خير وفائدة.
{وَأَمَّا
الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا..}: كان
عمله بإرادة الله. الله تعالى سأل الخلق ألست بربكم؟...
- فأناس نالوا الشهادة: الرسل
والأنبياء ونال سيد الخلق صلى الله عليه وسلم أعلى درجة.
- من بعدهم المؤمنون أقل
درجة: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، يسمو بالدنيا بصاحب القابلية، العمر حتَّى
إذا اجتهد ينال.
- من لا جدوى له: جعل
تعالى عمره قصيراً، دون البلوغ يموت.
إذن فهذا الغلام في الأزل
يوم ألست بربكم ظهر أنه سيكون كافراً، أمّا أمّه وأبوه فقد نالوا يومها
شهادة عالية. نال الولد درجة منحطة وليس له طريق.
يريد الله تعالى أن يرحم
الطفل وأبويه والخضر عليه السلام، جعل أجل الطفل قصيراً قبل البلوغ،
أبواه بموته رضيا بحكم الله فعلا مقامهما عند الله، الولد مات إلى الجنة،
ونال الخضر الخير بفعله. {..فَخَشِينَا..}: إرادته
تعالى موت الولد. {..أَنْ
يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا}.
{فَأَرَدْنَا
أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً..}: أهل
الإيمان. {..وَأَقْرَبَ
رُحْمًا}: فالله تعالى خاطب سيدنا
موسى: أنت تدعو على عبادي انظر عطفي وحناني ومعاملتي.
{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ
وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا..}: المال
الحلال يحفظه الله وبعكس ذلك. المال حلال من وجه طيب، فالله أراد أن يحفظ لهما
مالهما فأمر الخضر برفع الجدار. {..فَأَرَادَ
رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا..}: يكبرا. {..وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا
فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي..}: هذا كله بأمر الله: كل
ما يقع بأمر الله، وهكذا فلا ظلم في الكون بل كلٌّ يأخذ حقه.
فلا إله إلا الله، كل شيء بالله، هو الحي
القيوم؛ إن أصابك شيء ارجع إلى الله يرفع عنك البلاء.
رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما مال أصحابه
للدنيا خُذلوا يوم أُحد. {..ذَلِكَ
تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}: هذا
كله من الله. فيا موسى أنا لست تاركاً عبادي؛ أنا لي عطف وحنان عليهم كل ما أسوقه
لهم، كله خير، أنت لا تدع عليهم فأنا أرتِّب لهم الدواء المناسب.
فالله خلق الإنسان للسعادة لا للشقاوة. فإن أصبح
المرء ولا طريق له: الآخرة دواء له أيضاً. حاله يسوق له النار المحرقة.
المؤمن دوماً يحمد الله، فإن جاءه ما
يسوؤه تذكَّر ورجع.
ذُكرت هذه القصة في
القرآن الكريم في سورة الكهف،
يقول سبحانه وتعالى: {وَإِذْ
قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ..}: فلماذا
وردت هذه الآية؟... قال تعالى كما رأينا: أبصر به: أرهم ملكي. وأسمع: أسمعهم
بحناني.
كان سيدنا موسى قد دعا على فرعون بقوله: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ..}!... {..رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ
وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا
الْعَذَابَ الْأَلِيم، قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا
يَعْلَمُونَ} سورة يونس 88-89.
فلما دعا سيدنا موسى عليه
السلام بهذا أمره الله بالذهاب لمجمع البحرين، وهنالك ترى حيث تجتمع بعبد
علَّمه تعالى من لدنه علماً منه ما يدلك على عنايتي بعبادي وحكمتي بخلقي. فقال
لفتاه: {..لَا
أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا}: عمري
كله، وهكذا الصادق يطلب العلم ولو بالصين، العلم هذا العلم: معرفة مراد الله في
خلقه.
{فَلَمَّا
بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا..}: لما
وصلا لهذا الموضع نسي فتاه الحوت فما قاما. وثب الحوت وصار في البحر، فرآه الفتى
ولم يره موسى عليه السلام، وكان الله تعالى قد بيَّن لموسى صلى الله عليه
وسلم أنه سيجعل له علامة على الموضع {..فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا}: سرب
الحوت إلى البحر.
{فَلَمَّا
جَاوَزَا..}: موسى عليه السلام وفتاه
عن الموضع المطلوب. {..قَالَ
لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا}: تعباً.
{قَالَ
أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ..}: أن
أذكر قصته لك. {..وَمَا
أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ..}: أن
أذكر لك القصة. {..وَاتَّخَذَ
سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا}: ولكن
عجباً كيف سرب!...
{قَالَ
ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ..}: وكان تعالى قد أخبرهما
من قبل أن هذه علامة المكان الذي سيوجد فيه العبد.
{..فَارْتَدَّا
عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا}.
{فَوَجَدَا
عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا..}: وهو الخضر عليه السلام. {..آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا
عِلْمًا}. غير علم سيدنا موسى
عليه السلام.
سيدنا موسى عليه السلام علمه علم التشريع، دلالة
الخلق على الله، هذا العبد الصالح علمه غدا بمراد الله من فعله.
{قَالَ
لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}؟.
{قَالَ
إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}: قال
ولمَ؟ فأجابه.
{وَكَيْفَ
تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا}!...
{قَالَ
سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا..}: أنت
شيخي سأصبر. {..وَلَا
أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}.
{قَالَ
فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ
ذِكْرًا}: إن أردت السير معي فلا
تتكلم بشيء، إن لم أبيِّن لك فلا تسألنِ.
{فَانْطَلَقَا
حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا..}: ثقبها
الخضر عليه السلام ومن ثم أصلحوها.
{..قَالَ
أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا..}؟... أنت رجل صالح وتفعل هذا!... {..لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا}: أمره
عظيم، هذا أمر عظيم.
{قَالَ
أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}؟...
{قَالَ
لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا}: لا
تعسِّر علي هذا الأمر.
{فَانْطَلَقَا
حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ..}: هذا
بيان بأن الأمور كلها تجري بعلمه تعالى، بأمره سبحانه وكلٌّ بحسب استحقاقه: هذا
كله أجراه تعالى ليرى موسى عنايته بعباده وعطفه وحنانه، الحمد لله
رب العالمين، الحمد لله على كل حال: هذا كله عطف.
{..قَالَ
أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا}. هذا
منكر لا يرضى به أحد، شيء منكر لا أحد يقبله.
{قَالَ
أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}: وأنت
لا تعرف شيئاً من سرِّ عملي!...
{قَالَ
إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ
لَدُنِّي عُذْرًا}: معك حق، أنت معذور من
طرفي لا تعد لصحبتي.
{فَانْطَلَقَا
حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا..}: طلبا
الطعام منهم. {..فَأَبَوْا
أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا..}: بخلاً منهم. {..فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ..}: أصلحه
ومكَّنه. {..قَالَ
لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا}: أنت
طلبت منهم طعاماً مع جوعنا فامتنعوا وأنت تصلح!.
{قَالَ
هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ
عَلَيْهِ صَبْرًا}.
{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ
كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا}: هذه
السفينة لجماعة فقراء وملك وراءهم يأخذ كل سفينة غصباً والخضر
عليه السلام بخرقها عيَّبها فظلَّت تشتغل وهكذا فما كان للملك أن يصادرها،
غيرها توقف عن الشغل لكن هي ظلَّت تعمل. هذا الخرق نتج عنه خير وفائدة.
{وَأَمَّا
الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا..}: كان
عمله بإرادة الله. الله تعالى سأل الخلق ألست بربكم؟...
- فأناس نالوا الشهادة: الرسل
والأنبياء ونال سيد الخلق صلى الله عليه وسلم أعلى درجة.
- من بعدهم المؤمنون أقل
درجة: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، يسمو بالدنيا بصاحب القابلية، العمر حتَّى
إذا اجتهد ينال.
- من لا جدوى له: جعل
تعالى عمره قصيراً، دون البلوغ يموت.
إذن فهذا الغلام في الأزل
يوم ألست بربكم ظهر أنه سيكون كافراً، أمّا أمّه وأبوه فقد نالوا يومها
شهادة عالية. نال الولد درجة منحطة وليس له طريق.
يريد الله تعالى أن يرحم
الطفل وأبويه والخضر عليه السلام، جعل أجل الطفل قصيراً قبل البلوغ،
أبواه بموته رضيا بحكم الله فعلا مقامهما عند الله، الولد مات إلى الجنة،
ونال الخضر الخير بفعله. {..فَخَشِينَا..}: إرادته
تعالى موت الولد. {..أَنْ
يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا}.
{فَأَرَدْنَا
أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً..}: أهل
الإيمان. {..وَأَقْرَبَ
رُحْمًا}: فالله تعالى خاطب سيدنا
موسى: أنت تدعو على عبادي انظر عطفي وحناني ومعاملتي.
{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ
وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا..}: المال
الحلال يحفظه الله وبعكس ذلك. المال حلال من وجه طيب، فالله أراد أن يحفظ لهما
مالهما فأمر الخضر برفع الجدار. {..فَأَرَادَ
رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا..}: يكبرا. {..وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا
فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي..}: هذا كله بأمر الله: كل
ما يقع بأمر الله، وهكذا فلا ظلم في الكون بل كلٌّ يأخذ حقه.
فلا إله إلا الله، كل شيء بالله، هو الحي
القيوم؛ إن أصابك شيء ارجع إلى الله يرفع عنك البلاء.
رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما مال أصحابه
للدنيا خُذلوا يوم أُحد. {..ذَلِكَ
تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}: هذا
كله من الله. فيا موسى أنا لست تاركاً عبادي؛ أنا لي عطف وحنان عليهم كل ما أسوقه
لهم، كله خير، أنت لا تدع عليهم فأنا أرتِّب لهم الدواء المناسب.
فالله خلق الإنسان للسعادة لا للشقاوة. فإن أصبح
المرء ولا طريق له: الآخرة دواء له أيضاً. حاله يسوق له النار المحرقة.
المؤمن دوماً يحمد الله، فإن جاءه ما
يسوؤه تذكَّر ورجع.
*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*الكلمة الطيبة كشجرة طيبة*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*
"هذا مذهب كلّه جد فلا تخلطوه بشيء من الهزل"
إسماعيل- مشرف
- عدد المساهمات : 2980
العمر : 53
نقاط تحت التجربة : 16464
تاريخ التسجيل : 17/04/2008
قصة أصحاب الفيل
من أساليب الكلام الرفيع، والبيان البليغ أن يسوق المتكلِّم قصة ينتزعها من
الواقع، لا يريد بها سرداً مُجرَّداً لهذه القصة، ولا تعريفاً بتلك
الواقعة، بل إنما يبتغي من ورائها تقريراً لحقائق ثابتة، وغرساً لمبادئ
سامية، أو طمأنة لقلوب وجلة، وتثبيتاً لنفوس مؤمنة أو تحذيراً من عواقب
وخيمة، وإنذاراً من نتائج مُخزية، إلى غير ذلك من المعاني التي تتراءى
للنفس فيها الحقائق جليَّة واضحة حتى إنها لتتخطى القرون والأجيال وتكاد
تقف مع الحادثة وجهاً لوجه على الرغم من بُعد الأمد وطول العهد، وإذا
بالنفس تجد في هذه القصة الموعظة البليغة المؤثِّرة بأسلوب لطيف وعرض
جذَّاب رقيق. على هذا النهج وبمثل هذا الأسلوب تجد القرآن الكريم في كثير
من الأحيان يسوق الموعظة والقصة، وبهذا وردت هذه قصة أصحاب الفيل في سورة
كريمة هي سورة الفيل لتُحدِّثنا عن قصة هؤلاء القوم.
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ، أَلَمْ يَجْعَلْ
كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ،
تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ}
وخلاصة هذه القصة "أصحاب الفيل" أن أحد ملوك اليمن ابتنى كعبة في حاضرتها صنعاء،
ليصرف الناس إليها ويُحوِّلهم عن الكعبة بيت الله الحرام، فجاء أحد العرب
وأساء له فيها فأغاظه ذلك وأثار ثائرته، وعزم ليهدمنَّ الكعبة فسيَّر
جيشاً في طليعته فيل عظيم ومن ورائه أفيال، وظنَّ أن له فعلاً، وحسب أن له
قوة وأن باستطاعته تنفيذ ما صمَّم عليه، ولم يدرِ أنه ليس له من الأمر
شيء، وأن الأمر كله لله، فلمَّا أضحى على مقربة من مكة شاءت الرحمة
الإلهية أن تُذكِّر أولئك المعتدين بخطئهم فيما اعتزموا عليه، وأن تُوقيهم
الهلاك الذي سيصيرون إليه إن لم يرجعوا عمَّا هم فيه من التصميم على
العدوان فحوَّل ربُّك الفيل العظيم الذي يتقدَّم في الطليعة وتحوَّلت من
بعده الفيَلة مُدبرة، وما كانت لتسلس قيادها لأصحابها وما كانت لتولّي
وجهها شطر الكعبة، وأخيراً ومن بعد تذكير مُلِحْ ورغماً عن تذكير أكيد،
وبناءً على تصميم المعتدين على العدوان وصممهم عن التحذير الإلهي، أراد
ربُّك أن يجعل من هؤلاء القوم عبرة لكل معتدٍ أثيم، فأرسل تعالى عليهم
سرباً من طيور ضعيفة ترميهم بحجارة صغيرة فجعلت من هلاكهم عبرة باقية
تُذكِّر كل باغٍ بمصرعهم، موعظة لا تُنسى على الدهر، وكيف تُنسى وقد جاءت
تردِّدُها آي الذِّكر الحكيم الذي تعهَّد تعالى بحفظه من كلِّ تحريف
وتغيير.
وفي السورة الكريمة؛ سورة الفيل لم يُخاطب الله تعالى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}
إلاَّ ليذكِّره بتلك الواقعة التي جرت منذ عهد قريب فكان لها أثرها
البيِّن في أنفس قريش، فلمَّا أراد المعتدون كيداً بالبيت الحرام وبمن
يحميه من الناس جعل الله تعالى من هلاك أولئك المعتدين آية بيِّنة وعبرة
ناطقة، وعلم الناس إذ ذاك أن الأمور في هذا الكون لا تجري جزافاً، بل جميع
ما يقع فيه إنما هو بمقادير ووفق حساب دقيق.
والآن وقد أرادت قُريش أن تكيد للرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه، وقد عزمت أن تُطفئ نور الله، والله
مُتمُّ نوره، فلْتستعد للبلاء ولتوطِّن أنفسها للهلاك، ولتعلم أن الذي
أهلك أصحاب الفيل مُهلك كُلَّ معتدٍ أثيم، وسيصيب الباغين من المشركين، لا
بل كل مُعاند للحق ما أصاب أصحاب الفيل، والله ناصر رسوله ومؤيِّده، والله
وحده المتصرِّف في هذا الكون والعاقبة للمتَّقين.
هذه الآية الكريمة تقول: لا تُبالِ أيها الرسول الكريم بخصومك مهما كادوا لك ومهما تآمروا
ولا تكُ في ضيق مما يمكرون، فما هم بمستطيعين أن يردُّوا ما جئت به من
الحق، أو يحولوا دون نشر ما أنزله الله من الكتاب عليك، فمهما يكن خصمك
قوياً فالله سبحانه هو القوي ومنه تعالى يَستمدُّ القوة كل قوي، ومهما يكن
لمعارضيك من كيد ومكر وتدبير، فالله هو السميع العليم وما يمكرون إلاَّ
بأنفسهم وما يشعرون، وإني لمؤيِّدك وناصرك وإني من ورائهم مُحيط.
ألم تر ما حلَّ بأولئك المعتدين يوم جاؤوا معتمدين على قوَّتهم والهلاك الذي صاروا إليه؟.
ألم تعلم أني أنا الفعَّال وأني أنا المتصرِّف بهذا الكون لا إله غيري وأني على كل شيء قدير: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}. فإذا
كان المخاطب الأول بهذا الكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا شك أن فيها
إشارة وخطاباً ضمنياً لكل مؤمن وتثبيتاً لكل داعٍ إلى الحق ومُرشد.
ففيها من التثبيت على الحق والتشجيع على المضي في الدعوة ما يجعل الداعي يسير
قدماً غير مُبالٍ. وفيها من التعريف بالتسيير الإلهي ما يجعل المؤمن
يتذكَّر دوماً أن المتصرِّف الحقيقي في الكون هو الله وحده، وما على
الإنسان إلاَّ أن يصلح نيته والله آخذ بيده وناصره.
وهكذا ففي هذه الآية الكريمة تشجيع للمؤمنين على الصبر في نشر الحق، وطمأنة لهم وتثبيت،
وفيها إنذار للمعارضين في كل عصر وحين، وتوقية لهم من الهلاك وتحذير،
وفيها بيان بأن الأمور في هذا الكون لا تجري جزافاً، فالله وحده هو
المتصرّف والمسيِّر وهو الله لا إله إلاَّ هو، وهو العزيز الحكيم، وما ذلك
كله إلاَّ طرف ممّا تضمَّنته هذه الآية الكريمة واشتملت عليه.
هذه السورة الكريمة تُحذِّرنا من مخالفته تعالى، وتبيِّن لنا أنّ أخذه سبحانه
أليم شديد، وأنّه لا يُعجزه في هذا الكون شيء، فإذا كان الإنسان لا يقدِّر
إحسان ربِّه المحسن إليه، ولا يسلك الطريق الذي أمره به ودلَّه عليه؛
فلْيستعدَّ للبلاء وليذكر ما حلَّ بأصحاب الفيل:
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}. وقد جاءت الصيغة لا للاستفهام، بل للتذكير والتقرير وتثبيت الحادث في الأذهان.
أي: هلاَّ سمعت أيها الإنسان بما سلَّطه مربِّيك على هؤلاء الظالمين،
وهلاَّ رأيتَ ما فعله ربُّك بأولئك الذين خرجوا عن الحق وحادوا عن طريق
الإنسانية، فجاؤوا لهدم الكعبة ليحوِّلوا الناس إلى كعبتهم التي بنَوْها
في اليمن طمعاً في الأرباح الماديَّة التي تعود عليهم من الحج.
وقد أراد تعالى أن يُبيِّن لنا ما فعله بأولئك المعتدين من أصحاب الفيل ليكون
ذلك عبرةً لمن يكون ميله إلى الدنيا سبباً في حياده عن الحق، فقال تعالى:
{أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ}.
والكيد: هو التدبير الذي قام به أصحاب الفيل، وإن شئت فقل تلك الخطة التي رسموها والمؤامرة التي
دبَّروها يبتغون من ورائها هدم الكعبة، وإيقاع السوء بأهل مكة، إذ الكيد
هو: إرادة السوء بالآخرين، وفعل ما يغيظ.
والتضليل: هو التحويل عن المقصد، والصرف عن الهدف والضياع، مأخوذة من ضلَّلَ. تقول: ضلَّل الرجل
الأعداء عن مكان قومه أي حوَّلهم إلى جهة أخرى غير التي يقيم فيها القوم،
فإذا هم لا يهتدون إليهم ولا يعرفون مكانهم.
والمراد بالتضليل هنا: إحباط تلك المؤامرة، والقضاء على تلك الخطة المرسومة التي دبَّرها ورسمها
أصحاب الفيل، فقد ساق الله تعالى لهم من البلاء، وأنزل بهم من الهلاك ما
جعل خطَّتهم تذهب أدراج الرياح، فإذا بتلك المؤامرة التي قُضي عليها
بالقضاء عليهم وقد اندثرت، وإذا بتلك الخطة التي انمحت آثارها بهلاكهم وقد
تشتَّتت وزالت، وإذا بكيدهم الذي زال لمَّا زالوا من الوجود وقد أُبيد،
ولم يبقَ له من أثر في أنفس قريش، كلُّ ذلك يبيِّن لنا طرفاً من قوله
تعالى: {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ}. وقد خاطب الله تعالى بها رسوله الكريم تقول: ألم ترَ أني لا أهمل الظالم، بل
أمهله فإذا ما بلغ الأجل أنزلت به من الهلاك ما يجعله عبرةً للآخرين؟.
ألم ترَ أني لست بغافل عمَّا يعمل الظالمون، فلا يطمع معارضوك بحلمي عليهم، وليحذروا الاستمرار فيما هم فيه فإن أخذي أليم شديد.
ألم ترَ أني أنا المتصرِّف في هذا الكون، وإني لكلِّ شيء حسيب، وعلى كل شيء رقيب.
لتطمئنَّ أيها الرسول بالاً ولتعلم أني ناصرك ومُؤيِّدك والعاقبة للمتَّقين.
وهكذا فلا تخشَ أيها المؤمن الخصم مهما كان قوياً، ولا تحسب له حساباً مهما كان
ذا دهاء وكيد وتدبير، فتدبير الله تعالى لك فوق كل تدبير.. اتقِ الله
حيثما كنت، وحاول أن تكون مُطيعاً لأمر الله، فإن لم تكن معتدياً ولا
ظالماً فاعلم أن الله تعالى معك دوماً، وأنه ناصرك وآخذ بيدك، وذلك أيضاً
مما توحي لنا به آية: {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ}.
وقد أراد الله تعالى أن يُبيِّن لنا الكيفية التي جعل فيها كيد أصحاب الفيل
يذهب في تضليل، وأن يُعرِّفنا بذلك البلاء الذي ساقه إليهم فذهبوا مثلاً
في العالمين، فقال تعالى: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ}.
والطير الأبابيل: الطائفة البسيطة، نوع من الطير يتَّصف بالضعف يجتمع فرقاً، وهي
تعني الكثرة، يُقال: إبل أوابل، أي كثيرة، أبلت الإبل، أي: كثُرت، ومنه
الإبالة أي الحزمةُ من الحطب أو الحشيش. وهذه الكلمة هنا ترمز إلى الضعف،
لأنه لا يجتمع من الطيور فرقاً إلاَّ ضعيفها، أما الطيور الكاسرة الجارحة
فلا تتكتَّل ولا تطير مجتمعة، وذلك تعريف بأن الله تعالى قد يُهلك الخصم
القوي بأبسط الأشياء، وأضعف المخلوقات، وليست الأمور في هذا الكون بمتوقفة
على ضعف وقوة، فالقوي كما ذكرنا من قبل هو الله وحده، فإذا شاء وأراد
واقتضى الأمر، خلق من الضعف قوة، وجعل من القوي ضعيفاً، وأهلك الخصم مهما
كان جبَّاراً عنيداً.
وقد بيَّن تعالى أنَّ هلاك أصحاب الفيل مع عظيم شأنهم وكبير قوَّتهم كان بأبسط الأشياء، وبأضعف المخلوقات. فالطير
الأبابيل، أي: ذلك المخلوق الضعيف الذي لا طاقة له بمقاومة عدوٍّ، ولا
يقوى على القيام بعمل عظيم، أرسله ربُّك، وكان سبباً في هلاك المعتدين
الظالمين. ثم بيَّن تعالى عدله في خلقه، وأن كلَّ ظالم عمله مسجَّلٌ عليه،
فإذا حان الحين، عاد على كل امرئٍ ما قدَّم، ونزل به ما هو مسجَّل ومدوَّن.
والسجِّيل: مأخوذة من سجَّل بمعنى أثبت الشيء، ومنه السجل.
والسجِّيل: هو العمل المسجَّل المكتوب وهو الكتاب الذي فيه أعمال المرء، صغيرها
وكبيرها، جليلها وحقيرها، فإذا ما حلَّ الأجل، وحان هلاك الظالم، أرسل
الله تعالى له بلاء مُتطابقاً مع ما هو مسطر عليه في سجِّيله.
ومن هنا يتبيَّن لنا أن الهلاك لا يُصيب الظالمين جُزافاً، بل يُصيب كل امرئ بقدر
عمله، وبقدر ما هو مُسجَّل عليه. فالحجارة أصابت أولئك بما قدَّموه، ومما
هو مُسجَّل عليهم.
فقد يقع انفجار في أرض، أو زلزال في منطقة فإذا بهذا يزول من الوجود، وبذا تتقطَّع بعض أعضائه، وبآخر يمرض رعباً، وبغيره
تنحل قواه خوفاً، وإذا بآخرين وقد بثَّ الله تعالى في قلوبهم الطمأنينة لا
يخشون شيئاً، ولا يفزعون من شيء، فكأن لم تقع واقعة وكأن لم يحدث شيء،
وكلُّ امرئ بما كسب رهين.
وأخيراً وصف لنا تعالى حال أصحاب الفيل عند حلول العذاب وقد دمَّرهم الهلاك النازل بهم تدميراً، فقال تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ}.
والعصف: هو الهشيم أو التبن من ساق القمح أو الشعير، يضحي قطعاً صغيرة خفيفة الجرم
فتذهب به الريح حيث تشاء، تعصف بها فلا مُقاومة لها، ولا ثبات أمام الريح.
والعصف المأكول: هو التبن الذي أكلته الدواب وأخرجته روثاً فإذا به وقد فسدت
رائحته، واشمأز الناس منه لا يعبأ به أحد ولا يلتفت إليه.
فهؤلاء لمَّا رأَوُا الهلاك، أصبحوا بين يديه كالعصف الذي تريد أن تأكله الدواب،
فهو لا يقوى على الخلاص منها، ولا بدَّ له من الدخول في فكَّيها، والنزول
تحت رحى أضراسها. وكذلك أصبح القوم من بعد هلاكهم، فقد أضحوا جيفاً
مُلقاة في فلاة، فلا شأن لهم ولا اعتبار، وإذا بهم قد غدوا عبرة ومثلاً
للعالمين، هذا كان مصير هؤلاء، وكذلك حال كل ظالم لنفسه، خارج عن طاعة
ربِّه.
وأخيراً نجمع القول فنقول: في هذه القصة الكثير من الإشارات،
وفيها من التحذير من الاستمرار في الطغيان، وفيها من تثبيت المؤمنين
والتصبير على معارضات المعارضين، وفيها من البيان بأن الله تعالى هو
المسيِّر وهو المتصرِّف وحده في هذا الكون، ما يجعلنا نُدرك ما في القرآن
من حكمة وما فيه من عبرة وموعظة، وما فيه من عناية إلهية ورحمة.
قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً. سورة الإسراء: الآية (9).
{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً} سورة الإسراء: الآية (82).]والحمد لله الذي يخلق من القوي ضعيفاً، ولا قوة إلاَّ به.
الواقع، لا يريد بها سرداً مُجرَّداً لهذه القصة، ولا تعريفاً بتلك
الواقعة، بل إنما يبتغي من ورائها تقريراً لحقائق ثابتة، وغرساً لمبادئ
سامية، أو طمأنة لقلوب وجلة، وتثبيتاً لنفوس مؤمنة أو تحذيراً من عواقب
وخيمة، وإنذاراً من نتائج مُخزية، إلى غير ذلك من المعاني التي تتراءى
للنفس فيها الحقائق جليَّة واضحة حتى إنها لتتخطى القرون والأجيال وتكاد
تقف مع الحادثة وجهاً لوجه على الرغم من بُعد الأمد وطول العهد، وإذا
بالنفس تجد في هذه القصة الموعظة البليغة المؤثِّرة بأسلوب لطيف وعرض
جذَّاب رقيق. على هذا النهج وبمثل هذا الأسلوب تجد القرآن الكريم في كثير
من الأحيان يسوق الموعظة والقصة، وبهذا وردت هذه قصة أصحاب الفيل في سورة
كريمة هي سورة الفيل لتُحدِّثنا عن قصة هؤلاء القوم.
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ، أَلَمْ يَجْعَلْ
كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ،
تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ}
وخلاصة هذه القصة "أصحاب الفيل" أن أحد ملوك اليمن ابتنى كعبة في حاضرتها صنعاء،
ليصرف الناس إليها ويُحوِّلهم عن الكعبة بيت الله الحرام، فجاء أحد العرب
وأساء له فيها فأغاظه ذلك وأثار ثائرته، وعزم ليهدمنَّ الكعبة فسيَّر
جيشاً في طليعته فيل عظيم ومن ورائه أفيال، وظنَّ أن له فعلاً، وحسب أن له
قوة وأن باستطاعته تنفيذ ما صمَّم عليه، ولم يدرِ أنه ليس له من الأمر
شيء، وأن الأمر كله لله، فلمَّا أضحى على مقربة من مكة شاءت الرحمة
الإلهية أن تُذكِّر أولئك المعتدين بخطئهم فيما اعتزموا عليه، وأن تُوقيهم
الهلاك الذي سيصيرون إليه إن لم يرجعوا عمَّا هم فيه من التصميم على
العدوان فحوَّل ربُّك الفيل العظيم الذي يتقدَّم في الطليعة وتحوَّلت من
بعده الفيَلة مُدبرة، وما كانت لتسلس قيادها لأصحابها وما كانت لتولّي
وجهها شطر الكعبة، وأخيراً ومن بعد تذكير مُلِحْ ورغماً عن تذكير أكيد،
وبناءً على تصميم المعتدين على العدوان وصممهم عن التحذير الإلهي، أراد
ربُّك أن يجعل من هؤلاء القوم عبرة لكل معتدٍ أثيم، فأرسل تعالى عليهم
سرباً من طيور ضعيفة ترميهم بحجارة صغيرة فجعلت من هلاكهم عبرة باقية
تُذكِّر كل باغٍ بمصرعهم، موعظة لا تُنسى على الدهر، وكيف تُنسى وقد جاءت
تردِّدُها آي الذِّكر الحكيم الذي تعهَّد تعالى بحفظه من كلِّ تحريف
وتغيير.
وفي السورة الكريمة؛ سورة الفيل لم يُخاطب الله تعالى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}
إلاَّ ليذكِّره بتلك الواقعة التي جرت منذ عهد قريب فكان لها أثرها
البيِّن في أنفس قريش، فلمَّا أراد المعتدون كيداً بالبيت الحرام وبمن
يحميه من الناس جعل الله تعالى من هلاك أولئك المعتدين آية بيِّنة وعبرة
ناطقة، وعلم الناس إذ ذاك أن الأمور في هذا الكون لا تجري جزافاً، بل جميع
ما يقع فيه إنما هو بمقادير ووفق حساب دقيق.
والآن وقد أرادت قُريش أن تكيد للرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه، وقد عزمت أن تُطفئ نور الله، والله
مُتمُّ نوره، فلْتستعد للبلاء ولتوطِّن أنفسها للهلاك، ولتعلم أن الذي
أهلك أصحاب الفيل مُهلك كُلَّ معتدٍ أثيم، وسيصيب الباغين من المشركين، لا
بل كل مُعاند للحق ما أصاب أصحاب الفيل، والله ناصر رسوله ومؤيِّده، والله
وحده المتصرِّف في هذا الكون والعاقبة للمتَّقين.
هذه الآية الكريمة تقول: لا تُبالِ أيها الرسول الكريم بخصومك مهما كادوا لك ومهما تآمروا
ولا تكُ في ضيق مما يمكرون، فما هم بمستطيعين أن يردُّوا ما جئت به من
الحق، أو يحولوا دون نشر ما أنزله الله من الكتاب عليك، فمهما يكن خصمك
قوياً فالله سبحانه هو القوي ومنه تعالى يَستمدُّ القوة كل قوي، ومهما يكن
لمعارضيك من كيد ومكر وتدبير، فالله هو السميع العليم وما يمكرون إلاَّ
بأنفسهم وما يشعرون، وإني لمؤيِّدك وناصرك وإني من ورائهم مُحيط.
ألم تر ما حلَّ بأولئك المعتدين يوم جاؤوا معتمدين على قوَّتهم والهلاك الذي صاروا إليه؟.
ألم تعلم أني أنا الفعَّال وأني أنا المتصرِّف بهذا الكون لا إله غيري وأني على كل شيء قدير: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}. فإذا
كان المخاطب الأول بهذا الكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا شك أن فيها
إشارة وخطاباً ضمنياً لكل مؤمن وتثبيتاً لكل داعٍ إلى الحق ومُرشد.
ففيها من التثبيت على الحق والتشجيع على المضي في الدعوة ما يجعل الداعي يسير
قدماً غير مُبالٍ. وفيها من التعريف بالتسيير الإلهي ما يجعل المؤمن
يتذكَّر دوماً أن المتصرِّف الحقيقي في الكون هو الله وحده، وما على
الإنسان إلاَّ أن يصلح نيته والله آخذ بيده وناصره.
وهكذا ففي هذه الآية الكريمة تشجيع للمؤمنين على الصبر في نشر الحق، وطمأنة لهم وتثبيت،
وفيها إنذار للمعارضين في كل عصر وحين، وتوقية لهم من الهلاك وتحذير،
وفيها بيان بأن الأمور في هذا الكون لا تجري جزافاً، فالله وحده هو
المتصرّف والمسيِّر وهو الله لا إله إلاَّ هو، وهو العزيز الحكيم، وما ذلك
كله إلاَّ طرف ممّا تضمَّنته هذه الآية الكريمة واشتملت عليه.
هذه السورة الكريمة تُحذِّرنا من مخالفته تعالى، وتبيِّن لنا أنّ أخذه سبحانه
أليم شديد، وأنّه لا يُعجزه في هذا الكون شيء، فإذا كان الإنسان لا يقدِّر
إحسان ربِّه المحسن إليه، ولا يسلك الطريق الذي أمره به ودلَّه عليه؛
فلْيستعدَّ للبلاء وليذكر ما حلَّ بأصحاب الفيل:
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}. وقد جاءت الصيغة لا للاستفهام، بل للتذكير والتقرير وتثبيت الحادث في الأذهان.
أي: هلاَّ سمعت أيها الإنسان بما سلَّطه مربِّيك على هؤلاء الظالمين،
وهلاَّ رأيتَ ما فعله ربُّك بأولئك الذين خرجوا عن الحق وحادوا عن طريق
الإنسانية، فجاؤوا لهدم الكعبة ليحوِّلوا الناس إلى كعبتهم التي بنَوْها
في اليمن طمعاً في الأرباح الماديَّة التي تعود عليهم من الحج.
وقد أراد تعالى أن يُبيِّن لنا ما فعله بأولئك المعتدين من أصحاب الفيل ليكون
ذلك عبرةً لمن يكون ميله إلى الدنيا سبباً في حياده عن الحق، فقال تعالى:
{أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ}.
والكيد: هو التدبير الذي قام به أصحاب الفيل، وإن شئت فقل تلك الخطة التي رسموها والمؤامرة التي
دبَّروها يبتغون من ورائها هدم الكعبة، وإيقاع السوء بأهل مكة، إذ الكيد
هو: إرادة السوء بالآخرين، وفعل ما يغيظ.
والتضليل: هو التحويل عن المقصد، والصرف عن الهدف والضياع، مأخوذة من ضلَّلَ. تقول: ضلَّل الرجل
الأعداء عن مكان قومه أي حوَّلهم إلى جهة أخرى غير التي يقيم فيها القوم،
فإذا هم لا يهتدون إليهم ولا يعرفون مكانهم.
والمراد بالتضليل هنا: إحباط تلك المؤامرة، والقضاء على تلك الخطة المرسومة التي دبَّرها ورسمها
أصحاب الفيل، فقد ساق الله تعالى لهم من البلاء، وأنزل بهم من الهلاك ما
جعل خطَّتهم تذهب أدراج الرياح، فإذا بتلك المؤامرة التي قُضي عليها
بالقضاء عليهم وقد اندثرت، وإذا بتلك الخطة التي انمحت آثارها بهلاكهم وقد
تشتَّتت وزالت، وإذا بكيدهم الذي زال لمَّا زالوا من الوجود وقد أُبيد،
ولم يبقَ له من أثر في أنفس قريش، كلُّ ذلك يبيِّن لنا طرفاً من قوله
تعالى: {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ}. وقد خاطب الله تعالى بها رسوله الكريم تقول: ألم ترَ أني لا أهمل الظالم، بل
أمهله فإذا ما بلغ الأجل أنزلت به من الهلاك ما يجعله عبرةً للآخرين؟.
ألم ترَ أني لست بغافل عمَّا يعمل الظالمون، فلا يطمع معارضوك بحلمي عليهم، وليحذروا الاستمرار فيما هم فيه فإن أخذي أليم شديد.
ألم ترَ أني أنا المتصرِّف في هذا الكون، وإني لكلِّ شيء حسيب، وعلى كل شيء رقيب.
لتطمئنَّ أيها الرسول بالاً ولتعلم أني ناصرك ومُؤيِّدك والعاقبة للمتَّقين.
وهكذا فلا تخشَ أيها المؤمن الخصم مهما كان قوياً، ولا تحسب له حساباً مهما كان
ذا دهاء وكيد وتدبير، فتدبير الله تعالى لك فوق كل تدبير.. اتقِ الله
حيثما كنت، وحاول أن تكون مُطيعاً لأمر الله، فإن لم تكن معتدياً ولا
ظالماً فاعلم أن الله تعالى معك دوماً، وأنه ناصرك وآخذ بيدك، وذلك أيضاً
مما توحي لنا به آية: {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ}.
وقد أراد الله تعالى أن يُبيِّن لنا الكيفية التي جعل فيها كيد أصحاب الفيل
يذهب في تضليل، وأن يُعرِّفنا بذلك البلاء الذي ساقه إليهم فذهبوا مثلاً
في العالمين، فقال تعالى: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ}.
والطير الأبابيل: الطائفة البسيطة، نوع من الطير يتَّصف بالضعف يجتمع فرقاً، وهي
تعني الكثرة، يُقال: إبل أوابل، أي كثيرة، أبلت الإبل، أي: كثُرت، ومنه
الإبالة أي الحزمةُ من الحطب أو الحشيش. وهذه الكلمة هنا ترمز إلى الضعف،
لأنه لا يجتمع من الطيور فرقاً إلاَّ ضعيفها، أما الطيور الكاسرة الجارحة
فلا تتكتَّل ولا تطير مجتمعة، وذلك تعريف بأن الله تعالى قد يُهلك الخصم
القوي بأبسط الأشياء، وأضعف المخلوقات، وليست الأمور في هذا الكون بمتوقفة
على ضعف وقوة، فالقوي كما ذكرنا من قبل هو الله وحده، فإذا شاء وأراد
واقتضى الأمر، خلق من الضعف قوة، وجعل من القوي ضعيفاً، وأهلك الخصم مهما
كان جبَّاراً عنيداً.
وقد بيَّن تعالى أنَّ هلاك أصحاب الفيل مع عظيم شأنهم وكبير قوَّتهم كان بأبسط الأشياء، وبأضعف المخلوقات. فالطير
الأبابيل، أي: ذلك المخلوق الضعيف الذي لا طاقة له بمقاومة عدوٍّ، ولا
يقوى على القيام بعمل عظيم، أرسله ربُّك، وكان سبباً في هلاك المعتدين
الظالمين. ثم بيَّن تعالى عدله في خلقه، وأن كلَّ ظالم عمله مسجَّلٌ عليه،
فإذا حان الحين، عاد على كل امرئٍ ما قدَّم، ونزل به ما هو مسجَّل ومدوَّن.
والسجِّيل: مأخوذة من سجَّل بمعنى أثبت الشيء، ومنه السجل.
والسجِّيل: هو العمل المسجَّل المكتوب وهو الكتاب الذي فيه أعمال المرء، صغيرها
وكبيرها، جليلها وحقيرها، فإذا ما حلَّ الأجل، وحان هلاك الظالم، أرسل
الله تعالى له بلاء مُتطابقاً مع ما هو مسطر عليه في سجِّيله.
ومن هنا يتبيَّن لنا أن الهلاك لا يُصيب الظالمين جُزافاً، بل يُصيب كل امرئ بقدر
عمله، وبقدر ما هو مُسجَّل عليه. فالحجارة أصابت أولئك بما قدَّموه، ومما
هو مُسجَّل عليهم.
فقد يقع انفجار في أرض، أو زلزال في منطقة فإذا بهذا يزول من الوجود، وبذا تتقطَّع بعض أعضائه، وبآخر يمرض رعباً، وبغيره
تنحل قواه خوفاً، وإذا بآخرين وقد بثَّ الله تعالى في قلوبهم الطمأنينة لا
يخشون شيئاً، ولا يفزعون من شيء، فكأن لم تقع واقعة وكأن لم يحدث شيء،
وكلُّ امرئ بما كسب رهين.
وأخيراً وصف لنا تعالى حال أصحاب الفيل عند حلول العذاب وقد دمَّرهم الهلاك النازل بهم تدميراً، فقال تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ}.
والعصف: هو الهشيم أو التبن من ساق القمح أو الشعير، يضحي قطعاً صغيرة خفيفة الجرم
فتذهب به الريح حيث تشاء، تعصف بها فلا مُقاومة لها، ولا ثبات أمام الريح.
والعصف المأكول: هو التبن الذي أكلته الدواب وأخرجته روثاً فإذا به وقد فسدت
رائحته، واشمأز الناس منه لا يعبأ به أحد ولا يلتفت إليه.
فهؤلاء لمَّا رأَوُا الهلاك، أصبحوا بين يديه كالعصف الذي تريد أن تأكله الدواب،
فهو لا يقوى على الخلاص منها، ولا بدَّ له من الدخول في فكَّيها، والنزول
تحت رحى أضراسها. وكذلك أصبح القوم من بعد هلاكهم، فقد أضحوا جيفاً
مُلقاة في فلاة، فلا شأن لهم ولا اعتبار، وإذا بهم قد غدوا عبرة ومثلاً
للعالمين، هذا كان مصير هؤلاء، وكذلك حال كل ظالم لنفسه، خارج عن طاعة
ربِّه.
وأخيراً نجمع القول فنقول: في هذه القصة الكثير من الإشارات،
وفيها من التحذير من الاستمرار في الطغيان، وفيها من تثبيت المؤمنين
والتصبير على معارضات المعارضين، وفيها من البيان بأن الله تعالى هو
المسيِّر وهو المتصرِّف وحده في هذا الكون، ما يجعلنا نُدرك ما في القرآن
من حكمة وما فيه من عبرة وموعظة، وما فيه من عناية إلهية ورحمة.
قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً. سورة الإسراء: الآية (9).
{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً} سورة الإسراء: الآية (82).]والحمد لله الذي يخلق من القوي ضعيفاً، ولا قوة إلاَّ به.
*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*الكلمة الطيبة كشجرة طيبة*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*
"هذا مذهب كلّه جد فلا تخلطوه بشيء من الهزل"
إسماعيل- مشرف
- عدد المساهمات : 2980
العمر : 53
نقاط تحت التجربة : 16464
تاريخ التسجيل : 17/04/2008
قصة سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام الجزء الاول
قصة سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام الجزء الاول
تجدون في هذه القصة:
1- تعريف بعناصر الإنسان الثلاثة: النفس والروح والجسد.
2- نظام خروج الإنسان إلى هذه الدنيا.
3- البشر في الأصل متماثلون، لكن التمايز يكون بالصدق.
4- من هي السيدة مريم عليها السلام، وكيف صارت سيدة نساء العالمين.
5- سيدنا زكريا عليه السلام يكفل السيدة مريم عليها السلام.
6-الله سبحانه وتعالى يكرم السيدة مريم بمولود من
غير أب هو السيد المسيح عليه السلام.
لا بدَّ لنا قبل البدء بقصة سيدنا عيسى عليه السلام من أن نقدِّم الكلمة التالية فنقول:
خلق الله الإنسان مركباً من عناصر ثلاثة: جسد ونفس وروح.
فالجسد: هو هذا الجسم المادي المؤلف من لحم وعظم وعروق وأعصاب ودم، والجسم تنتابه أعراض كثيرة من قوة وضعف وصحة ومرض ونحول وسمن وفتوة وهرم.
أمَّا النفس: فهي تلك الذات المعنوية الشاعرة المستقرة في الصدر والتي تسري أشعتها في الأعصاب المنتشرة في سائر أنحاء الجسم.. والنفس هي ذات الإدراك والحس وصاحبة الوجدان والشعور فهي التي تتصور وتتخيل وتحفظ وتتذكَّر وتعقل وهي التي ترضى وتغضب وتسرُّ وتحزن وتتألَّم وتتنعَّم، ما هذا الجسد إلاَّ لباس النفس وثوبها والجسد بالنسبة إلى النفس أشبه بقفص بالنسبة إلى العصفور، وما العين والأُذن وسائر الجوارح إلاَّ نوافذ تطلُّ منها النفس على العالم الخارجي فعن طريق الأذن تسمع وبالعين تُبصر ومن حفرة الأنف تشمُّ وبواسطة اليد والجلد تلمس وتحسُّ وباللسان تتذوَّق. والجسد مطيَّة النفس ومركبها، وهو خادمها الذي به تُنفِّذ رغائبها فبالرِجل تمشي إلى مكان قصدها، وباليد تكسب الأعمال التي عزمت عليها وباللسان تُعبِّر عما يجول في خاطرها.
أما الروح: فهي ذلك النور الإلهي الساري في الجسد يبعث فيه الحياة ويحفظه من أن تمتد له يد الانحلال والفناء فبواسطتها تدور أجهزته ويحصل فيه ما يحصل من تمثيل وامتصاص وهضم واحتراقات وتغذية وكبر ونماء ولولا الروح لتوقَّف الجسد عن الحركة ولأصبح خامداً لا حراك فيه شأنه شأن سائر الجمادات. نظام خروج الإنسان إلى هذا العالم:
وقد كان خلق الأنفس قبل خلق الأجساد بما لا يعلمه إلاَّ الله من عدد السنين قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيَّتَهُم وَأَشْهَدَهُم عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى..} سورة الأعراف: الآية (172).
قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمواتِ وَالأَرضِ والْجِبَالِ فَأبَينَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} سورة الأحزاب: الآية (72).
فلما أراد تعالى أن يظهر النوع الإنساني لهذا العالم عالم الصور والأجساد جعل لذلك قانوناً وسنة فجعل لكل إنسان والدين: أب وأم،
يحمل الأب في ظهره أنفس أبنائه
وجميع نفوس ذريته، ثمَّ ينتقل الإبن من الأب إلى رحم أمه منطوية نفسه في ذلك الحوين الذي لا تدركه العين المجردة
لدقته وصغر جرمه ومايزال مستقراً
في الرحم يتغذَّى وينمو ويتخلَّق يوماً بعد يوم حتى يصبح إنساناً سوياً.
وهكذا فالناس كلهم كانوا في ظهر أبيهم آدم عليه
السلام ومنه نسلوا، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسانَ مِن سُلالةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ
جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطفَةَ
عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ
عِظَاماً فَكَسَونَا العِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأنَاهُ خَلْقاً
آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ}سورة المؤمنون: الآية (12-14).
وقد شذَّ
عن ذلك النظام الذي بموجبه توالد البشر وجاؤوا إلى هذه الدنيا سيدنا آدم عليه السلام، فقد خلق الله تعالى جسد آدم من
تراب ثم أرسل نفس سيدنا آدم
عليه السلام محمولة بواسطة الملك إلى جسدها من غير أن يكون ذلك عن طريق أب. وكذلك كان خلق سيدنا عيسى بن مريم عليه
السلام فقد أرسل الله نفس سيدنا
عيسى إلى بطن أمه بواسطة الملك من غير أن يتوسط أب في نقل هذه النفس الكريمة إليها، قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ
اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} سورة آل عمران: الآية (59).
وقد فصَّل
لنا تعالى قصة حمل أم سيدنا عيسى به، وبيَّن لنا في هذه القصة أنه لا بدَّ وأن يجزي الصادق بصدقه رجلاً كان أو امرأة
فقال تعالى: {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ
وَآلَ عِمرانَ عَلَى العَالَمِينَ، ذُرِيّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ
وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
والمُراد بكلمة {ذُرِيّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} أي: أنَّ البشر
جميعاً متماثلون في
الأصل فهم يتوالدون ويتناسلون بعضهم من بعض لا ميزة لأحد على آخر في هذه الناحية. أمَّا كلمة {وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
فإنما تُبين سبب التمايز
والاختلاف، فإذا كان البشر في الأصل متماثلين لا فرق ولا ميزة لأحد على أحد من جهة النسب والحسب فهذا التمايز
إِنَّما يحصل بينهم بحسب الصدق
والنية العالية فالله تعالى سميع لما يتطلَّبه كلُّ إنسان عليم بحاله وصدق نفسه وكل من صدق مع ربِّه في طلب الحق
والكمال فلا بدَّ أن يجزيه
الله بصدقه.
ثمَّ ذكر لنا تعالى مثالاً على أهل الصدق فقال: {إذْ قَالَتِ اِمْرأَتُ عِمرَانَ رَبِّ إِنِي نَذَرْتُ
لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً}
أي: عزمت أن أجعل هذا الولد الذي أنا حاملة به محرراً أي: خالصاً للقيام بخدمتك وذلك مما تعني به أن يكون ولدها
قائماً بفعل الإحسان والخير
تجاه عباد الله فلعل الله تعالى يقبل دعاءها ويجعل ولدها مرشداً يدل الناس على الله ويعرِّفهم به ثم تممت داعية
بقولها: {فَتَقَبَّلْ مِنّي
إِنَّك أَنتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} أي: سميع لقولي عليم بحالي وصدقي في مطلبي.
ثمَّ إنها لمَّا ولدت وضعت مريم عليها السلام، قال تعالى: {فَلَمَّا وَضَعَتْها قَالَت رَبِّ إِني
وَضَعْتُها أُنثى وَاللهُ أَعْلَمُ
بِمَا وَضَعَتْ وَلَيسَ الذَّكَرُ كالأُنثَى} أي: أنها كانت تتطلب أن يكون مولودها ذكراً ليستطيع أن يقوم بهذه
المهمة العالية في الإرشاد
والدلالة على الله ثمَّ تابعت القول بما أشارت إليه الآية الكريمة في قوله تعالى: {وَإِنِّي سَمّيتُها مَرْيَمَ
وَإِني أُعيذُهَا بِكَ وذُرِّيَّتها
مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}.
وقد استجاب الله دعوة الأم الصادقة فأنبت هذه البنت نباتاً حسناً قال تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً
حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَريَّا}
أي: جعله عليه السلام ولي تربيتها ونشأت هذه البنت الصغيرة، وما أن بدأت تعي وتميّز حتى أُفعِمَ قلبُها بمحبة الله
والإقبال عليه شأنها
في ذلك شأن كل ولي مقرَّب إلى الله. وكان الله تعالى يفيض عليها بإقبالها عليه من العلم والمعرفة ما يفيضه على
قلوب عباده المؤمنين المقبلين
وكان سيدنا زكريا عليه السلام كلما دخل عليها المحراب أي مكان خلوتها للعبادة في محاربتها للشيطان وجد عندها
رزقاً أي علماً ومعرفة وبياناً
عن كمال الله فيعجب بذلك ويسألها يا مريم من أين جئت بهذا العلم وهذه المعرفة العالية فتقول هو من عند الله، قال
تعالى مبيناً ذلك بقوله الكريم:
{كلَّما دَخَلَ عَلَيها زَكَريَّا المحرَابَ وَجَدَ عِندَها رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَم أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ
هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ
إِنَّ اللهَ يَرزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيرِ حِسَابٍ}.
وهي تريد بكلمة {إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ
يَشَاءُ} أي: يرزق كل صادق، وإني صدقت مع ربِّي في طلب الحق فأكرمني بما أكرمني به.
والمراد بقولها: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي: إِنَّ الأمر لا يحتاج
إلاَّ إلى الصدق فلما
رأى سيدنا زكريا عليه السلام ذلك وسمع منها ما سمع طلب من الله تعالى أن يرزقه ولداً صالحاً يرثه من بعده فيكون مرشداً
وكان عليه السلام لا ولد له فدعا ربه بما أشارت إليه الآية الكريمة في قوله
تعالى:{هُنالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّه قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَدُنْكَ
ذُريَّةً طَيِبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ} سورة آل عمران: الآية (33-38).
وهكذا فمسرى
الآية يبين لنا أن الرزق الذي كان يجده سيدنا زكريا عليه السلام عند هذه البنت في المحراب ليس هو الجوز والرمان فمثل
هذا ليس بمطلب الأنبياء ولا
يستدعي أن يتشوَّق النبي للولد ويدعو الله. إنما الرزق هو ذلك العلم والمعرفة التي كان يجدها عندها ويسمعه منها وذلك
هو الذي قدَّره وعظَّمه منها
ولا يعرف الفضل إلاَّ ذووه.
وقد استمرت سيدتنا مريم عاكفةً على الوجهة إلى ربِّها لا تنقطع فكان لها من هذه الصلة
الدائمة بربِّها أن طهرت
نفسها طهارة أوصلتها إلى درجة تليق معها بأن يصطفيها ربها على نساء العالمين وبذلك أصبحت أعلى النساء عند الله شأناً
وأعظمهن منزلةً.
وقد زاد
بها هذا الصفاء النفسي إلى أن بلغت الدرجة التي يتغلَّب بها نور النفس اللطيف على حجاب الجسم الكثيف والتي يستطيع معها
الإنسان أن يشهد الملائكة الكرام
فيُخاطبهم ويُخاطبونه وقد أشارت الآيات الكريمة إلى ما نوَّهنا عنه من تلك الطهارة النفسية والإصطفاء كما أشارت إلى
ذلك التسامي النفسي الذي أهَّل
هذه السيدة الكريمة إلى أن تتلقى خطاب الملائكة الكرام فقال تعالى في كتابه العزيز: {وَإذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ
يَا مَرْيمُ إِنَّ اللهَ اصطفَاكِ وطَهَّركِ
واصطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ العَالَمِينَ، يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ
واسْجُدِي وارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} سورة آل عمران: الآية (42-43).
وبما أن
الركوع في حقيقته هو ذلك الخضوع النفسي لله تعالى، ذلك الخضوع الذي يتمثَّل في نفس المؤمن الذي شاهد كمال ربه وحنانه
فقدَّره حقَّ قدره من بعد
أن عرف رحمته بخلقه وإحسانه، وعلى هذا فالراكعون هم في الأصل الأنبياء والرسل الكرام ومن شارف منزلتهم من الصدِّيقين ومن
تابعهم من المؤمنين. ولذلك
أمر الله تعالى هذه الصدِّيقة بأن تَقْنت لربِّها أي تديم وجهتها إليه تعالى وتسجد له وتركع مع الراكعين.
وقد أراد ربك أن يكرمها كما أكرم أمّها بها من قبل فجعلها تعالى أمّاً لرسول من رسله
الكرام هو سيدنا عيسى
عليه السلام ذلك الرسول الذي كان مجيئه إلى الدنيا بآية من الله تعالى وكانت له في طفولته آية وكانت على يديه من
بعد آيات بينات أظهرها الله
تعالى ليكون منها عبرة لمعتبر فلعل هذه الآيات تستلفت نظر الإنسان الجاحد وتحرّك فكره الخامد فيثوب إلى رشده ويتعرّف
بسببها إلى خالقه. ونبدأ
الآن بالآية التي كان بها مجيء هذا الرسول الكريم إلى الدنيا وهي آية حمل أمه به من دون أن يتوسَّط في ذلك أب فنقول:
قدَّمنا في مطلع حديثنا
عن قصة هذا الرسول الكريم أن الله تعالى جعل لهذا النوع الإنساني في المجيء لهذه الدنيا نظاماً وسنة، أمَّا سيدنا
عيسى عليه السلام فكان مجيئه
وولادته مخالفاً لهذا النظام والسنَّة، فما حَمَلَه عليه السلام أب إِنما جاء المَلَكُ كما ذكرنا حاملاً تلك النفس
الكريمة إلى السيدة مريم عليها
الصلاة والسلام وكانت إذ ذاك في مكان عبادتها ملتجئة عن أهلها منصرفة في الوجهة إلى ربِّها مقبلة عليه بكلِّيتها
فإذا بها ترى جبريل عليه
السلام أمامها وقد أرسله الله تعالى لها فتمثَّل لها على هيئة بشر سوي، قال تعالى مُشيراً إلى قصة الحمل بقوله
الكريم: {وَاذْكُر فِي الكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا
مَكَاناً شَرْقِياً، فاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً
فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً}.
وقد اضطربت سيدتنا مريم وهي في خلوتها من رؤية هذا الشخص أمامها
فقالت وقد حسبته رجلاً:
{..إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ} أي: ألتجئ إليه وأحتمي به ويكون ما نفهمه من كلمة {..إِنّي أَعُوذُ
بِالرَّحمنِ مِنْكَ} أي: إنني التجأت
واحتميت بالرحمن منك فمن أنت؟.
والذي نفهمه من مدلول الآية أنه عرَّفها بأنَّه ملك من ملائكة الله فأجابته: {إِن
كُنتَ تَقِيّاً} أي: وإن كنتَ
تقياً ملَكاً ولكنك بشر، فهل يحقُّ لك مخالفة أوامر الله تعالى والدخول على من حرَّم الله عليك الخلوة بها.. وإلاَّ
فما مرادك؟.
فأجابها بما ورد في الآية الكريمة {..إِنَّما أَنَا رَسُولُ
رَبِّكِ لأَهَبَ لكِ غُلاَماً
زَكِياً} أي: إنني مُرسَل من الله تعالى، وأنا لا أشتهي لكوني غير مكلَّف بحمل الأمانة، إني ملَك لأهب لكِ
غلاماً طيباً طاهراً عالي الاسم
والشأن فعجبت أن يكون لها ولد ولم تتزوج ولم يمسسها بشر، فأجابته: {..أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَم يَمْسَسْني
بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغيّاً،
قَالَ كَذلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ولِنَجْعَلَهُ آيَةً للنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً
مَقْضِيّاً} أي: واقعاً لا
محالة وفيما هي تخاطب الملك الذي كان يحمل نفس سيدنا عيسى عليه السلام سرت نفس سيدنا عيسى الطاهرة إليها سريان النور أو
كما تسري القوة اللاسلكية
محملة على الأثير إلى الهاتف فإذا هو عليه السلام محمول في بطنها، قال تعالى مُشيراً إلى ذلك بقوله الكريم: {فَحَمَلَتْهُ فانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصيّاً، فَأَجاءهَا
المَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ}
أي: ألجأها ألم الولادة إلى الاستناد والتمسك بجذع النخلة. هنالك قالت وقد اجتمع عليها ألم الولادة وألم نفسي آخر
هو أعظم من ذلك الألم
الجسمي ناشئ عن خوفها أن يتَّهمها الناس بالزنى وتكثر الأقاويل وهم لا يعلمون من أمر تلك المعجزة التي حملت بها شيئاً
وقد يُنْكِرُون عليها كل
الإنكار وقد لا يُصدِّقونها إذا أرادت أن تعرِّفهم بحقيقة الأمر وهكذا لاقت غمّاً وحُزناً شديداً، والشريف يَكْبُر عليه
أن يتَّهمه النَّاس بتهمةٍ
باطلة ويتمنَّى أن يموت ولا يتكلَّم عليه أحد بما يلوِّث سمعته وشرفه ولذلك: {قَالَت يَا لَيْتَني مِتُّ قَبْلَ
هَذَا وكُنتُ نَسْياً مَنسِيّاً}.
وولدت سيدتنا مريم سيدنا عيسى عليه السلام وأراد
ربك أن يخفِّف
عنها ما تجده من غمٍّ وحزن فأنطق مولودها ساعة ولادته بما أشارت إليه الآية الكريمة في قوله تعالى: {فَنَادَاهَا
مِن تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَني
قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً}. والمراد بكلمة {سَرِيّاً} أي: ولداً وجيهاً يسري ذكره وشأنه العالي في
الآفاق.
ثم تمَّم هذا المولود قوله: {وَهُزِّي إِليكِ بِجذْعِ
النَّخْلَةِ تُسَاقِط عَلَيكِ رُطَباً جَنِيّاً، فَكُلِي واشْرَبِي وقَرّي عَيْناً فَإمَّا
ترَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً
فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَومَ إِنسِيّاً} سورة مريم: الآية (16-26). والمراد بكلمة {صَوْماً} أي: انقطاعاً عن الكلام.
والحمد لله رب العالمين
عدل سابقا من قبل إسماعيل في الثلاثاء 1 سبتمبر - 18:14 عدل 1 مرات
*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*الكلمة الطيبة كشجرة طيبة*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*
"هذا مذهب كلّه جد فلا تخلطوه بشيء من الهزل"
إسماعيل- مشرف
- عدد المساهمات : 2980
العمر : 53
نقاط تحت التجربة : 16464
تاريخ التسجيل : 17/04/2008
قصة سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام الجزء الثاني
قصة سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام الجزء الثاني
بيّنا في الجزء الأول كيف تمّ حمل سيدنا عيسى بدون أب من السيدة مريم عليها
السلام بمعجزة من الله سبحانه وتعالى. وبعد أن تمت ولادة هذا الرسول
العظيم، جاءت سيدتنا مريم عليه السلام بمولودها وأتت به قومها تحمله؛ قال
تعالى مُشيراً إلى ذلك: {فَأَتَتْ بِهِ قَومَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً، يَا
أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً}
والمراد بكلمة {يَا أُخْتَ هَارُونَ}: في التقوى والصلاح.
{فَأشارَتْ إِليهِ قَالُوا كَيفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المَهْدِ صَبِيّاً}
وقد تكلَّم سيدنا عيسى عليه السلام في المهد وأراد الله تعالى أن يجعل من
كلامه آية تبين براءة ذمة أمّه بما قد يتَّهمها به المتهمون من جهة، وتنضم
إليها معجزة حمْلها به من دون أب من جهة ثانية، فيؤمنون من وراء ذلك بعظمة
الله تعالى كما يعظِّمون هذا المولود ويؤمنون برسالته يوم يبعثه الله
رسولاً، وقد أشارت الآيات الكريمة إلى كلام سيدنا عيسى عليه السلام في
المهد بما ورد في قوله تعالى: {قَالَ إِني عَبْدُ
اللهِ آتَانيَ الكِتَابَ وَجَعَلَني نَبِيّاً، وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً
أَيْنَ مَا كُنتُ وَأوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمتُ حَيّاً،
وَبَرّاً بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً، والسَّلامُ
عَلَيَّ يَومَ وُلِدْتُ وَيَومَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً، ذَلِكَ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الحَقِّ الذي فِيهِ يَمْتَرُونَ، مَا كَانَ
للهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إذَا قَضَى أَمْراً
فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ
فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ} سورة مريم: الآية (30-36).
وبعد أن ذكر لنا تعالى قصة حمل سيدتنا مريم بسيدنا عيسى عليه السلام وبعد أن
بيَّن لنا تعالى معجزة كلامه عليه السلام في المهد تلك المعجزة التي
تبيِّن براءة السيدة مريم من جهة كما تبيِّن رسالة سيدنا عيسى عليه السلام
وكونه عبد الله ورسولاً من رسله الكرام ختم لنا تعالى ذلك بقوله الكريم:
{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الحَقِّ الذي فِيهِ يَمْتَرُونَ، مَا كَانَ
للهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ}
وتفيد كلمة (سُبْحَانَهُ) الواردة في هذه الآية معنى أنه تعالى منزَّه عن أن يكون له ولد
لأن المولود من خصائصه أن يحمل صفة أبيه ويشابهه فالله تعالى مُنَزَّه عن أن يشابهه
أحد في ذاته أو في أي اسم من أسمائه.
وبشيءٍ من التفصيل نقول: إِنَّ الله تعالى
أزلي قديم أي أول بلا بداية لا أول لوجوده فمهما قلت أول فهو أول وأول
وليس له أول، أما سيدنا عيسى بن مريم فله أول وأوله زمن ظهوره لعالم
الوجود وهو بهذا كغيره من المخلوقات التي لها بداية ونهاية والبداية
والحدوث صفة تلازم المخلوقات وتتنافى مع الألوهية.
والله تعالى صمد في ذاته وفي كل اسم من أسمائه، والصمد هو الذي يُمِدُّ ولا يستمد ولا يحتاج
إلى غيره. فالله تعالى مثلاً صمدٌ في حياته بمعنى أنه لا يستمد الحياة من
غيره ولا تتوقَّف حياته على أحد أو على شيء من الأشياء، بل هو تعالى الحي
منبع الحياة ومصدر الحياة ومنه تعالى وحده تُسْتَمدُ حياة كل مخلوق من
المخلوقات. أمَّا سيدنا عيسى فهو كغيره من المخلوقات في هذه الناحية
فحياته عليه السلام مستمدة من الله تعالى فإذا انقطع إمداد الله تعالى
بالحياة عن سيدنا عيسى مات في الحال.
ثم إنَّ الإله إنَّما يكون قائماً بذاته بمعنى أنه لا يحتاج في بقاء وجوده إلى عامل من العوامل أو شيء من الأشياء.
أمَّا سيدنا عيسى عليه السلام فهو خاضع للقوانين الكونية التي أبدعها الله تعالى
للأحياء فهو محتاج إلى الطعام والشراب والنور والهواء وبقاء حياته متوقف
على كثير من العوامل شأنه في ذلك كشأن غيره من المخلوقات. ثمَّ إن الولد
يتخذ ليكون عوناً لأبيه ومساعداً له والله تعالى غني عن أن يساعده مخلوق
من مخلوقاته، وإذا كان المخلوق إِنَّما يستمد كل شيء من الله تعالى، فكيف
يصح أن يستعين خالق قوي بمخلوق ضعيف لاحول ولا قوة له.
والإله إلى جانب كل ما ذكرناه إِنَّما يكون مُحيطاً بسائر الموجودات فهو أعظم من كل شيء
وأكبر من كل شيء. أمَّا سيدنا عيسى عليه السلام فإنما كان محمولاً على سطح
الأرض مُحاطاً بالهواء والفضاء والسموات وذلك كلَّه ممَّا يتنافى مع صفات
الألوهية وقد أشارت الآيات الكريمة مبيِّنة فساد ادِّعاء من نسب الألوهية
إلى هذا الرسول الكريم فقال تعالى:
{لَقَدْ كَفَرَ الذينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ المَسِيحُ ابنُ مَرْيَمَ وَقَالَ
المَسِيحُ يَا بَنِي إسْرَائيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ
إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الجَنَّةَ
وَمأْواهُ النَّارُ وَمَا لِلظَالِمينَ مِنْ أَنْصَارٍ، لَقَدْ كَفَرَ
الذينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلهٍ إِلاَّ
إِلهٌ واحِدٌ وإنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الذينَ
كَفَرُوا مِنْهُم عَذابٌ أَلِيمٌ، أَفلاَ يَتُوبُونَ إِلى اللهِ
وَيَسْتغْفِرونَهُ وَاللهُ غَفورٌ رَحِيمٌ، مَا المَسِيحُ ابنُ مَرْيَمَ
إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ
كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيفَ نُبيّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ
انْظُر أَنَّى يُؤفَكُونَ، قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ
يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً واللهُ هُوَ السَّميعُ العَلِيمُ} سورة المائدة: الآية (72-76).
]وهكذا فتوقف الحياة على الطعام والشراب ينافي الألوهية ويثبت الاحتياج، والإله
كما رأينا صمد لا تتوقف حياته على شيء ولا يحتاج لشيء من الأشياء وهو غني
عن كل شيء.
وقد أرسل الله تعالى سيدنا عيسى عليه السلام لبني إسرائيل
وكان الناس في عصره على جانب عظيم من المهارة والمعرفة بالطب فأيَّده الله
تعالى بآيات بينات تتناسب مع عصره ويعجز النَّاس مهما برعوا في الطب
والمداواة أن يأتوا بمثلها إظهاراً لرسالته فلعل النَّاس يستعظمون رسولهم
ويتبعونه فترافق نفوسهم تلك النفس الزكية الطاهرة وتعرج بمعيَّتها إلى
خالقها فتشهد الكمال الإلهي وتشهد بذلك النور الإلهي الحقائق فترى الخير
من الشر والحق من الباطل وهنالك تعرض عن الدنيا وسفاسفها وتقبل على الله
تعالى فتعمل للآخرة وتسعى لها.
وممَّا أيَّد الله تعالى به هذا الرسول الكريم أنه كان يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله
وأنه كان يُحي الموتى بإذن الله وقد أشار تعالى إلى ما أظهره على يد هذا الرسول من المعجزات:
{وَرَسُولاً إِلى بَنِي إسْرائيلَ أَنّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِن رَبِّكُم أَنِّي
أَخْلُقُ لَكُم مِن الطِّينِ كَهَيئَةِ الطَّيرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ
فَيَكُونُ طَيْراً بإِذنِ اللهِ وَأُبرئُ الأَكْمَهَ والأَبْرَصَ وأُحْي
المَوتَى بِإذنِ اللهِ وأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأكُلُونَ وَمَا
تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيةً لَكُمْ إِن كُنْتُم
مُؤْمِنينَ} سورة آل عمران: الآية (49).
قال تعالى: {إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيكَ وَعَلَى
وَالِدَتِكَ إِذ أَيَّدتُّكَ بِروحِ القُدُسِ تُكَلّمُ النَّاسَ فِي
المَهْدِ وكَهْلاً وإذْ عَلَّمْتُكَ الكِتَابَ والحِكْمَةَ والتَّوراةَ
والإنجِيلَ وإِذ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيئَةِ الطَّيرِ بإِذنِي
فَتنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيراً بإذْنِي وتُبْرئُ الأكْمَهَ والأَبْرصَ
بإِذنِي وإِذْ تُخرِجُ المَوتَى بِإِذنِي وَإِذ كَفَفْتُ بَني إسْرائيلَ
عَنكَ إذْ جِئْتَهُم بِالبَيّناتِ فَقَالَ الذينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ
هَذَا إِلاَّ سِحرٌ مُبينٌ} سورة المائدة: الآية (110).
وهكذا فمهما تقدَّم الطب فالأطباء جميعاً في كل زمان ومكان عاجزون عن إحياء
الميت وردِّ روحه إليه، وأيَّد الله تعالى رسوله بهذه المعجزة البيِّنة
غير أنَّ الإنسان مهما رأى من آيات ومهما ظهر له من معجزات لا يغني ذلك
شيئاً إن هو لم يفكر في آيات هذا الكون ويتعرَّف منها إلى خالقه، وما دام
هذا الإنسان كافراً أي لا تقدير لديه ولا تعظيم لآيات الله فلا يمكن أن
يرجع عن ضلاله ولا أن يُعظِّم ما يراه من المعجزات التي يُظهرها الله على
يد رسله. فهذا السيد المسيح عيسى بن مريم صلوات الله عليه وسلامه يخلق
من الطين كهيئة الطير بإذن الله وينفخ فيها فتكون طيراً بإذن الله ويُبرئ
الأكمه والأبرص ويُخرج الموتى بإذن الله ومع ذلك كله تجد الذين كفروا، أي
الذين لم يقدِّروا آيات الله ولم يعبؤوا بها يتَّهمونه بالسحر كما
اتَّهموا غيره من الرسل صلوات الله عليهم أجمعين. فيقولون إِنْ هذا
إِلاَّسحر مبين وقد سمعوا كلام سيدنا عيسى عليه السلام في المهد ثم قالوا
إلى جانب ذلك على مريم بهتاناً عظيماً.
ثمَّ إِنَّك إلى جانب هؤلاء الكافرين المعرضين تجد آخرين ما آمنوا بالله حق الايمان وما تعرَّفوا إلى
خالقهم عن طريق النظر والاستدلال، بل قلَّدوا آباءهم تقليداً أعمى فهؤلاء
لمَّا رأوا على يد سيدنا عيسى عليه السلام ما رأوه من معجزات غلوا في
دينهم وكفروا أيضاً بالله فقال فريق منهم إن الله هو المسيح ابن مريم.
وقال فريق المسيح ابن الله وقال آخرون إن الله ثالث ثلاثة فزعموا أنَّ
سيدنا عيسى وأمه إلهين من دون الله كما مرَّ بنا في آيات مضت وقد ندَّد
تعالى بكذبهم وكفرهم فذكر لنا موقف سيدنا عيسى عليه السلام يوم القيامة
بين يديه وأشار إلى كذب هؤلاء فيما قالوه عن لسان رسوله الكريم فقال
تعالى: {وإِذ قَالَ الله يَا عِيسَى ابْنَ
مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُوني وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن
دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَن أَقُولَ مَا لَيسَ لِي
بِحَقٍّ إِن كُنْتُ قُلْتُهُ فقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي
وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ، مَا
قُلْتُ لَهُم إِلاَّ مَا أَمَرْتَني بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي
وَرَبَّكُم وكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمتُ فِيهِم فَلَمَّا
تَوفَّيتني كُنتَ أَنتَ الرَّقيبَ عَليهِم وَأنتَ عَلى كُلِّ شيءٍ شَهِيدٌ} سورة المائدة: الآية (116-117).
وقد عارضت بنوا إسرائيل سيدنا عيسى عليه السلام معارضة شديدة كما عارضوا من
قبل من جاءهم من الرسل الكرام لأنهم فتنوا بالدنيا وشهواتها بسبب إعراضهم
عن ربهم فما كان يروق لهم أن يأتيهم رسول بما لا تهوى أنفسهم. قال تعالى
مُشيراً إلى موقفهم هذا تجاه رسله: {..أَفَكلَّما جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُم فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} سورة البقرة: الآية (87).
وكاد بنوا إسرائيل لسيدنا عيسى كيداً شديداً قال تعالى مُشيراً إلى ذلك بقوله
الكريم: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنهُمُ الكُفْرَ قَالَ مَن أَنْصَاري إِلى اللهِ قَالَ الحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ
واشْهَدْ بِأنَّا مُسْلِمُونَ، رَبَّنَا آمَنَّا بِما أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدينَ}.
وقد حمل الكفر أولئك المعارضين الذين كفروا بربِّهم على تدبير المؤامرات لقتل
رسوله عليه السلام، قال تعالى مُشيراً إل ذلك بقوله الكريم: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ واللهُ خيرُ المَاكِرينَ} [size=9]سورة آل عمران: الآية (52-54).
وقد ضاق صدر سيدنا عيسى عليه السلام بهؤلاء الكفرة وهكذا المؤمن كالمرآة
الصافية تنعكس في نفسه أحوال المعرضين عن الله فيضيق بهم صدراً ويلقى من
جرَّاء اجتماعه بهم غمّاً شديداً ولذلك وعد الله رسوله عليه السلام بأن
يُطهِّره من الذين كفروا وبشَّره بذلك فقال تعالى: {إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِليّ
وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذينَ اتَّبعُوكَ فَوقَ الذينَ كَفَرُوا إِلى يَومِ القِيَامَةِ ثُمَّ إِليَّ مَرْجِعُكُم
فَأَحْكُمُ بيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُم فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} سورة آل عمران: الآية (55).
والحمد لله رب العالمين.
بيّنا في الجزء الأول كيف تمّ حمل سيدنا عيسى بدون أب من السيدة مريم عليها
السلام بمعجزة من الله سبحانه وتعالى. وبعد أن تمت ولادة هذا الرسول
العظيم، جاءت سيدتنا مريم عليه السلام بمولودها وأتت به قومها تحمله؛ قال
تعالى مُشيراً إلى ذلك: {فَأَتَتْ بِهِ قَومَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً، يَا
أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً}
والمراد بكلمة {يَا أُخْتَ هَارُونَ}: في التقوى والصلاح.
{فَأشارَتْ إِليهِ قَالُوا كَيفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المَهْدِ صَبِيّاً}
وقد تكلَّم سيدنا عيسى عليه السلام في المهد وأراد الله تعالى أن يجعل من
كلامه آية تبين براءة ذمة أمّه بما قد يتَّهمها به المتهمون من جهة، وتنضم
إليها معجزة حمْلها به من دون أب من جهة ثانية، فيؤمنون من وراء ذلك بعظمة
الله تعالى كما يعظِّمون هذا المولود ويؤمنون برسالته يوم يبعثه الله
رسولاً، وقد أشارت الآيات الكريمة إلى كلام سيدنا عيسى عليه السلام في
المهد بما ورد في قوله تعالى: {قَالَ إِني عَبْدُ
اللهِ آتَانيَ الكِتَابَ وَجَعَلَني نَبِيّاً، وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً
أَيْنَ مَا كُنتُ وَأوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمتُ حَيّاً،
وَبَرّاً بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً، والسَّلامُ
عَلَيَّ يَومَ وُلِدْتُ وَيَومَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً، ذَلِكَ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الحَقِّ الذي فِيهِ يَمْتَرُونَ، مَا كَانَ
للهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إذَا قَضَى أَمْراً
فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ
فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ} سورة مريم: الآية (30-36).
وبعد أن ذكر لنا تعالى قصة حمل سيدتنا مريم بسيدنا عيسى عليه السلام وبعد أن
بيَّن لنا تعالى معجزة كلامه عليه السلام في المهد تلك المعجزة التي
تبيِّن براءة السيدة مريم من جهة كما تبيِّن رسالة سيدنا عيسى عليه السلام
وكونه عبد الله ورسولاً من رسله الكرام ختم لنا تعالى ذلك بقوله الكريم:
{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الحَقِّ الذي فِيهِ يَمْتَرُونَ، مَا كَانَ
للهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ}
وتفيد كلمة (سُبْحَانَهُ) الواردة في هذه الآية معنى أنه تعالى منزَّه عن أن يكون له ولد
لأن المولود من خصائصه أن يحمل صفة أبيه ويشابهه فالله تعالى مُنَزَّه عن أن يشابهه
أحد في ذاته أو في أي اسم من أسمائه.
وبشيءٍ من التفصيل نقول: إِنَّ الله تعالى
أزلي قديم أي أول بلا بداية لا أول لوجوده فمهما قلت أول فهو أول وأول
وليس له أول، أما سيدنا عيسى بن مريم فله أول وأوله زمن ظهوره لعالم
الوجود وهو بهذا كغيره من المخلوقات التي لها بداية ونهاية والبداية
والحدوث صفة تلازم المخلوقات وتتنافى مع الألوهية.
والله تعالى صمد في ذاته وفي كل اسم من أسمائه، والصمد هو الذي يُمِدُّ ولا يستمد ولا يحتاج
إلى غيره. فالله تعالى مثلاً صمدٌ في حياته بمعنى أنه لا يستمد الحياة من
غيره ولا تتوقَّف حياته على أحد أو على شيء من الأشياء، بل هو تعالى الحي
منبع الحياة ومصدر الحياة ومنه تعالى وحده تُسْتَمدُ حياة كل مخلوق من
المخلوقات. أمَّا سيدنا عيسى فهو كغيره من المخلوقات في هذه الناحية
فحياته عليه السلام مستمدة من الله تعالى فإذا انقطع إمداد الله تعالى
بالحياة عن سيدنا عيسى مات في الحال.
ثم إنَّ الإله إنَّما يكون قائماً بذاته بمعنى أنه لا يحتاج في بقاء وجوده إلى عامل من العوامل أو شيء من الأشياء.
أمَّا سيدنا عيسى عليه السلام فهو خاضع للقوانين الكونية التي أبدعها الله تعالى
للأحياء فهو محتاج إلى الطعام والشراب والنور والهواء وبقاء حياته متوقف
على كثير من العوامل شأنه في ذلك كشأن غيره من المخلوقات. ثمَّ إن الولد
يتخذ ليكون عوناً لأبيه ومساعداً له والله تعالى غني عن أن يساعده مخلوق
من مخلوقاته، وإذا كان المخلوق إِنَّما يستمد كل شيء من الله تعالى، فكيف
يصح أن يستعين خالق قوي بمخلوق ضعيف لاحول ولا قوة له.
والإله إلى جانب كل ما ذكرناه إِنَّما يكون مُحيطاً بسائر الموجودات فهو أعظم من كل شيء
وأكبر من كل شيء. أمَّا سيدنا عيسى عليه السلام فإنما كان محمولاً على سطح
الأرض مُحاطاً بالهواء والفضاء والسموات وذلك كلَّه ممَّا يتنافى مع صفات
الألوهية وقد أشارت الآيات الكريمة مبيِّنة فساد ادِّعاء من نسب الألوهية
إلى هذا الرسول الكريم فقال تعالى:
{لَقَدْ كَفَرَ الذينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ المَسِيحُ ابنُ مَرْيَمَ وَقَالَ
المَسِيحُ يَا بَنِي إسْرَائيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ
إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الجَنَّةَ
وَمأْواهُ النَّارُ وَمَا لِلظَالِمينَ مِنْ أَنْصَارٍ، لَقَدْ كَفَرَ
الذينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلهٍ إِلاَّ
إِلهٌ واحِدٌ وإنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الذينَ
كَفَرُوا مِنْهُم عَذابٌ أَلِيمٌ، أَفلاَ يَتُوبُونَ إِلى اللهِ
وَيَسْتغْفِرونَهُ وَاللهُ غَفورٌ رَحِيمٌ، مَا المَسِيحُ ابنُ مَرْيَمَ
إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ
كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيفَ نُبيّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ
انْظُر أَنَّى يُؤفَكُونَ، قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ
يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً واللهُ هُوَ السَّميعُ العَلِيمُ} سورة المائدة: الآية (72-76).
]وهكذا فتوقف الحياة على الطعام والشراب ينافي الألوهية ويثبت الاحتياج، والإله
كما رأينا صمد لا تتوقف حياته على شيء ولا يحتاج لشيء من الأشياء وهو غني
عن كل شيء.
وقد أرسل الله تعالى سيدنا عيسى عليه السلام لبني إسرائيل
وكان الناس في عصره على جانب عظيم من المهارة والمعرفة بالطب فأيَّده الله
تعالى بآيات بينات تتناسب مع عصره ويعجز النَّاس مهما برعوا في الطب
والمداواة أن يأتوا بمثلها إظهاراً لرسالته فلعل النَّاس يستعظمون رسولهم
ويتبعونه فترافق نفوسهم تلك النفس الزكية الطاهرة وتعرج بمعيَّتها إلى
خالقها فتشهد الكمال الإلهي وتشهد بذلك النور الإلهي الحقائق فترى الخير
من الشر والحق من الباطل وهنالك تعرض عن الدنيا وسفاسفها وتقبل على الله
تعالى فتعمل للآخرة وتسعى لها.
وممَّا أيَّد الله تعالى به هذا الرسول الكريم أنه كان يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله
وأنه كان يُحي الموتى بإذن الله وقد أشار تعالى إلى ما أظهره على يد هذا الرسول من المعجزات:
{وَرَسُولاً إِلى بَنِي إسْرائيلَ أَنّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِن رَبِّكُم أَنِّي
أَخْلُقُ لَكُم مِن الطِّينِ كَهَيئَةِ الطَّيرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ
فَيَكُونُ طَيْراً بإِذنِ اللهِ وَأُبرئُ الأَكْمَهَ والأَبْرَصَ وأُحْي
المَوتَى بِإذنِ اللهِ وأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأكُلُونَ وَمَا
تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيةً لَكُمْ إِن كُنْتُم
مُؤْمِنينَ} سورة آل عمران: الآية (49).
قال تعالى: {إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيكَ وَعَلَى
وَالِدَتِكَ إِذ أَيَّدتُّكَ بِروحِ القُدُسِ تُكَلّمُ النَّاسَ فِي
المَهْدِ وكَهْلاً وإذْ عَلَّمْتُكَ الكِتَابَ والحِكْمَةَ والتَّوراةَ
والإنجِيلَ وإِذ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيئَةِ الطَّيرِ بإِذنِي
فَتنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيراً بإذْنِي وتُبْرئُ الأكْمَهَ والأَبْرصَ
بإِذنِي وإِذْ تُخرِجُ المَوتَى بِإِذنِي وَإِذ كَفَفْتُ بَني إسْرائيلَ
عَنكَ إذْ جِئْتَهُم بِالبَيّناتِ فَقَالَ الذينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ
هَذَا إِلاَّ سِحرٌ مُبينٌ} سورة المائدة: الآية (110).
وهكذا فمهما تقدَّم الطب فالأطباء جميعاً في كل زمان ومكان عاجزون عن إحياء
الميت وردِّ روحه إليه، وأيَّد الله تعالى رسوله بهذه المعجزة البيِّنة
غير أنَّ الإنسان مهما رأى من آيات ومهما ظهر له من معجزات لا يغني ذلك
شيئاً إن هو لم يفكر في آيات هذا الكون ويتعرَّف منها إلى خالقه، وما دام
هذا الإنسان كافراً أي لا تقدير لديه ولا تعظيم لآيات الله فلا يمكن أن
يرجع عن ضلاله ولا أن يُعظِّم ما يراه من المعجزات التي يُظهرها الله على
يد رسله. فهذا السيد المسيح عيسى بن مريم صلوات الله عليه وسلامه يخلق
من الطين كهيئة الطير بإذن الله وينفخ فيها فتكون طيراً بإذن الله ويُبرئ
الأكمه والأبرص ويُخرج الموتى بإذن الله ومع ذلك كله تجد الذين كفروا، أي
الذين لم يقدِّروا آيات الله ولم يعبؤوا بها يتَّهمونه بالسحر كما
اتَّهموا غيره من الرسل صلوات الله عليهم أجمعين. فيقولون إِنْ هذا
إِلاَّسحر مبين وقد سمعوا كلام سيدنا عيسى عليه السلام في المهد ثم قالوا
إلى جانب ذلك على مريم بهتاناً عظيماً.
ثمَّ إِنَّك إلى جانب هؤلاء الكافرين المعرضين تجد آخرين ما آمنوا بالله حق الايمان وما تعرَّفوا إلى
خالقهم عن طريق النظر والاستدلال، بل قلَّدوا آباءهم تقليداً أعمى فهؤلاء
لمَّا رأوا على يد سيدنا عيسى عليه السلام ما رأوه من معجزات غلوا في
دينهم وكفروا أيضاً بالله فقال فريق منهم إن الله هو المسيح ابن مريم.
وقال فريق المسيح ابن الله وقال آخرون إن الله ثالث ثلاثة فزعموا أنَّ
سيدنا عيسى وأمه إلهين من دون الله كما مرَّ بنا في آيات مضت وقد ندَّد
تعالى بكذبهم وكفرهم فذكر لنا موقف سيدنا عيسى عليه السلام يوم القيامة
بين يديه وأشار إلى كذب هؤلاء فيما قالوه عن لسان رسوله الكريم فقال
تعالى: {وإِذ قَالَ الله يَا عِيسَى ابْنَ
مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُوني وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن
دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَن أَقُولَ مَا لَيسَ لِي
بِحَقٍّ إِن كُنْتُ قُلْتُهُ فقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي
وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ، مَا
قُلْتُ لَهُم إِلاَّ مَا أَمَرْتَني بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي
وَرَبَّكُم وكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمتُ فِيهِم فَلَمَّا
تَوفَّيتني كُنتَ أَنتَ الرَّقيبَ عَليهِم وَأنتَ عَلى كُلِّ شيءٍ شَهِيدٌ} سورة المائدة: الآية (116-117).
وقد عارضت بنوا إسرائيل سيدنا عيسى عليه السلام معارضة شديدة كما عارضوا من
قبل من جاءهم من الرسل الكرام لأنهم فتنوا بالدنيا وشهواتها بسبب إعراضهم
عن ربهم فما كان يروق لهم أن يأتيهم رسول بما لا تهوى أنفسهم. قال تعالى
مُشيراً إلى موقفهم هذا تجاه رسله: {..أَفَكلَّما جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُم فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} سورة البقرة: الآية (87).
وكاد بنوا إسرائيل لسيدنا عيسى كيداً شديداً قال تعالى مُشيراً إلى ذلك بقوله
الكريم: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنهُمُ الكُفْرَ قَالَ مَن أَنْصَاري إِلى اللهِ قَالَ الحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ
واشْهَدْ بِأنَّا مُسْلِمُونَ، رَبَّنَا آمَنَّا بِما أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدينَ}.
وقد حمل الكفر أولئك المعارضين الذين كفروا بربِّهم على تدبير المؤامرات لقتل
رسوله عليه السلام، قال تعالى مُشيراً إل ذلك بقوله الكريم: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ واللهُ خيرُ المَاكِرينَ} [size=9]سورة آل عمران: الآية (52-54).
وقد ضاق صدر سيدنا عيسى عليه السلام بهؤلاء الكفرة وهكذا المؤمن كالمرآة
الصافية تنعكس في نفسه أحوال المعرضين عن الله فيضيق بهم صدراً ويلقى من
جرَّاء اجتماعه بهم غمّاً شديداً ولذلك وعد الله رسوله عليه السلام بأن
يُطهِّره من الذين كفروا وبشَّره بذلك فقال تعالى: {إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِليّ
وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذينَ اتَّبعُوكَ فَوقَ الذينَ كَفَرُوا إِلى يَومِ القِيَامَةِ ثُمَّ إِليَّ مَرْجِعُكُم
فَأَحْكُمُ بيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُم فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} سورة آل عمران: الآية (55).
والحمد لله رب العالمين.
*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*الكلمة الطيبة كشجرة طيبة*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*
"هذا مذهب كلّه جد فلا تخلطوه بشيء من الهزل"
إسماعيل- مشرف
- عدد المساهمات : 2980
العمر : 53
نقاط تحت التجربة : 16464
تاريخ التسجيل : 17/04/2008
قصة سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام الجزء الثالث
قصة سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام الجزء الثالث
تجدون في هذه القصة:
تجدون في هذه القصة:
1- اليهود يمكرون للتخلص من السيد المسيح عليه السلام والقضاء على رسالته.
2- معنى التوفي لغةً؛ وأنواع الوفاة
3- وما هو التوفي الذي حصل للسيد المسيح عليه السلام.
4- السيد المسيح عليه السلام لم يمتْ.
5- السيد المسيح عليه السلام ليس في السماء كما يظن الكثير، بل هو بربوة دمشق.
6- معنى الرفعة التي رُفِعَها السيد المسيح عليه السلام
بيّنا في الجزء الماضي من القصّة كيف حمل الكفر أولئك المعارضين من اليهود الذين
كفروا بربِّهم على تدبير المؤامرات لقتل رسوله عليه السلام كما هي عادتهم،
قال تعالى مُشيراً إل ذلك بقوله الكريم: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ واللهُ خيرُ المَاكِرينَ} سورة آل عمران: الآية (52-54).
وقد ضاق صدر سيدنا عيسى عليه السلام بهؤلاء الكفرة وهكذا المؤمن كالمرآة
الصافية تنعكس في نفسه أحوال المعرضين عن الله فيضيق بهم صدراً ويلقى من
جرَّاء اجتماعه بهم غمّاً شديداً ولذلك وعد الله رسوله عليه السلام بأن
يُطهِّره من الذين كفروا وبشَّره بذلك فقال تعالى: {إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِليّ
وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذينَ اتَّبعُوكَ فَوقَ الذينَ كَفَرُوا إِلى يَومِ القِيَامَةِ ثُمَّ إِليَّ مَرْجِعُكُم
فَأَحْكُمُ بيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُم فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} سورة آل عمران: الآية (55).
وقد بدأت الآية الكريمة بكلمة {إِنّي مُتَوَفِّيكَ}، وليس المراد من التوفي الموت لأن التوفي يقع في حال النوم أيضاً قال تعالى:
{وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُمْ بِالليلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ
بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فيهِ لِيُقضَى أَجَلٌ مُسَمّىً..}) سورة الأنعام: الآية (60).
]والتوفي لغةً: هو أَخْذك الشيء واستيفاؤك إيَّاه بعد أن تكون قد منحت فيه حق
التصرُّف لغيرك حيناً. تقول: توفيت دَيْني من فلان، أي: أخذته واستعدته
منه، وتقول: توفَّى فلان حقَّه من غريمه. وبناءً على ما قدَّمناه ولبيان
المراد من توفي النفس نقول: إن الله تعالى منح النفس في هذه الحياة الدنيا
الاختيار وبناء على اختيارك ينفذ الله تعالى لك مرادك ومطلوبك وتوفي النفس
إنما يكون بقبض الاختيار. وكما يقع التوفِّي في حال الموت يقع في حالة
النوم. ففي حال النوم يكون توفي النفس بأن يقبض الله تعالى الاختيار من
النفس مدة وجيزة وهنالك يستسلم الإنسان لنومٍ لا يستيقظ منه إلاَّ إذا
أعاد الله تعالى للنفس اختيارها وعاد عليها بسابق فضله.
أمَّا في حال الموت فيكون توفي النفس بأن يقبض الله تعالى من النفس اختيارها قبضاً
نهائياً، قال تعالى مُشيراً إلى وفاة النفس في حال الموت ووفاتها في حال
النوم ومبيِّناً لنا الفرق بين الوفاتين بقوله تعالى: {اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا
فَيُمْسِكُ التي قَضَى عَلَيهَا المَوْتَ ويُرسِلُ الأُخْرَى إِلَى أجَلٍ مُسَمّىً..} سورة الزمر: الآية (42)
ويختلف توفي النفس في حال الموت عن توفي النفس في حال النوم أيضاً بأنَّ توفي النفس في حال الموت يرافقه توفي الروح وقبضها من الجسد.
فالروح: وهي ذلك النور الإلهي والذي تكون به حياة الجسد وانتظام سير أجهزته إذا هي
قُبضت من الجسد فعندئذٍ يتوقف عن الحركة وتنقطع أجهزته عن القيام بوظائفها
وتنعدم منه الحياة فتمتد إليه يد البلى والفناء. ثم إنَّ توفِّي الروح
إنما يكون بواسطة الملك، فالمَلك الموكَّل بنفخ الروح في الإنسان عندما
يكون جنيناً في بطن أمه هو الموكَّل أيضاً بقبض الروح من الجسد حين الموت
قال تعالى مُشيراً إلى ذلك بقوله الكريم:{قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَلَكُ المَوْتِ الذي وُكِّلَ بِكُمْ..} [size=9]سورة السجدة: الآية (11). قال تعالى:{..حَتَّى إِذا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} سورة الأنعام: الآية (61).
وبناءً على ما قدَّمناه إذا قرنت كلمة (التوفي) بكلمة (المَلَكْ) فهي إنما تعني توفِّي الروح وأعني بذلك الموت وانقطاع الحياة.
والآن وبعد أن بيَّنا معنى التوفِّي والفرق بين وفاة الموت ووفاة النوم نقول: بما أنّ كلمة {إِنّي مُتَوَفِّيكَ}
التي خاطب الله تعالى بها سيدنا عيسى عليه السلام لم تقترن بذكر الملك فهي
إذاً لا تعني قبض الروح المعبَّر عنه بالموت وإنَّما تُشير إلى توفي النفس
وأعني به قبض الاختيار الذي يقع في حال النوم وهكذا فقد توفّى الله تعالى
سيدنا عيسى توفّياً أخفى به جسمه عن الأنظار وجعله في حال كحال النائم
ويشبه ذلك ما وقع لأصحاب الكهف الذين توفَّاهم الله تعالى مئات السنين دون
أن يتطرق البلى إلى أجسامهم ثم بعثهم ليكونوا عبرة للّذينَ كانوا في ذلك
العصر الذي بعثهم الله فيه قال تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الكَهْفِ سِنينَ عَدَداً، ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ
لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزبينِ أَحصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً}سورة الكهف: الآية (11-12).
وبما أن سيدنا عيسى عليه السلام يعلم أنه لا يُقَرِّب العبد من خالقه زلفى سوى
عمله العالي وليس يرفعه إلى ذلك الجناب الإلهي الكريم غير فعله المعروف
ودعوته الناس إلى طريق الحق والايمان، وبما أنَّ سيدنا عيسى عليه السلام
لقي من قومه ما لقي من الكفر والمعارضة ولم يذعن لدلالته إلاَّ نفر قليل
أو ضئيل من الناس لذلك لمَّا أخبره الله تعالى بأنه متوفِّيه حزن أسفاً
على أنه لم تحقَّق له نيته العالية ولم يتم له مطلبه في هذه الحياة.
وقد أراد الله تعالى أن يُسلِّيه عن ذلك ويُبشِّره بما سيجعله من الخير على يديه فقال تعالى: {وَرَافِعُكَ إِليَّ}:
أي لا تحزن فلا بد من أن أُعيدك للناس ثانية وستدعوهم إلى الإيمان
فيؤمنون، وإني رافعك إِليّ بصدقك ونيتك العالية، وبما ستقوم به حينئذٍ من
دلالتك لخلقي عليّ وجهادك في سبيل الأخذ بأيديهم إلى سبيل الإيمان.
وإذاً فليس المراد من كلمة {وَرَافِعُكَ إِليَّ}
ما يتبادر إلى الأذهان، أذهان بعض الناس من أنه رُفِعَ إلى السماء. فإن
الآية جاءت صريحة بقوله تعالى: {وَرَافِعُكَ إِليَّ} ولم تقل ورافعك إلى
السماء والله تعالى هذا الخالق العظيم الذي لا نهاية له مُنزَّهٌ عن أن
يُحيط به زمان ومكان فهو خالق الزمان والمكان.
ثم إنَّ السماء والأرض عند الله تعالى سيَّان في المنزلة والشأن وكلاهما مخلوق وليس يرفع من شأن
الإنسان رفعهُ إلى السماء، إنَّما الذي يرفع الإنسان إلى خالقه ويدنيه من
جنابه الكريم عمله العالي وجهاده في سبيل الله ودعوته الناس إلى طريق الحق
وهدايتهم إلى الصراط المستقيم. وإذاً فالذي جاءت به الآية الكريمة ليس
رفعاً جسمياً إنَّما هو رفع المنزلة والشأن نقول: رفع الأمير فلاناً إليه
أي أدناه منه منزلة ومكانة لا جسمياً ومكاناً.
أقول: والذي ينفي أيضاً رفع سيدنا عيسى عليه السلام إلى السماء قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيةً وَآويْنَاهُمَا إِلىَ رَبْوةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ} سورة المؤمنون: الآية (50).
والربوة: هي المكان المرتفع من الأرض. والقرار: هو الجبل الراسخ المستقر. والمعين:
الماء الجاري الذي لا ينقطع، وقد جاء في بعض الأقوال وهو ما رواه البيضاوي
في تفسيره والمؤرخ ابن جبير في كتابه "تذكرة الأخبار عن اتفاقات الأسفار"
أنَّ هذا الإيواء إِنَّما كان إلى ربوة دمشق، وجاء في بعض الآثار أن ظهور
سيدنا عيسى عليه السلام في آخر الزمان سيكون في دمشق.
والآن وبعد أن بيَّنا ما تُشير إليه الآية الكريمة من التوفي والرفع نقول:
بعد أن بشَّر الله تعالى سيدنا عيسى عليه السلام بالعودة والقيام بالدعوة إلى
الحقِّ أراد تعالى أن يطمئن قلب رسوله بأن النَّاس في زمنه سيهتدون به
وسينقلب العالم بأسره إلى عالم مؤمن بالله وستُمحى دولة الكفر من الوجود
وتحلُّ محلها دولة التوحيد والإيمان وهنالك ينطوي النَّاس تحت لواء الحق
جميعاً فلا يعود يضيق صدرك من أحد ولا تعود تشعر بهذا الضيق الذي تلقاه
اليوم من اجتماعك بأهل الكفر والضلال إِنَّك ستجد صفاءً وسروراً وستشعر
بهذه الطهارة من هؤلاء الكفار طهارة دائمية وذلك ما أشارت إليه الآية
الكريمة بقوله تعالى: {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذينَ كَفَرُوا}، ثم بيَّن
تعالى أنَّ هذه الدولة دولة الإيمان ستبقى إلى يوم القيامة وسيبقى
للمؤمنين الشأن والسيطرة يهتدي العالم بهدْيهم قال تعالى:
{وَجَاعِلُ الذينَ اتَّبَعُوكَ فَوقَ الذينَ كَفَرُوا إِلَى يَومِ القِيَامَةِ ثُمَّ إِليَّ مَرْجِعُكُمْ فَأحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا
كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} سورة آل عمران: الآية (55)
والحمد لله رب العالمين
*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*الكلمة الطيبة كشجرة طيبة*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*
"هذا مذهب كلّه جد فلا تخلطوه بشيء من الهزل"
إسماعيل- مشرف
- عدد المساهمات : 2980
العمر : 53
نقاط تحت التجربة : 16464
تاريخ التسجيل : 17/04/2008
قصة سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام- الجزء الرابع
قصة سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام- الجزء الرابع
تجدون في هذه القصة:
1- اليهود يمكرون للتخلص من السيد المسيح عليه السلام والقضاء على رسالته.
2- كيف شبّه السيد المسيح عليه السلام لليهود وغيرهم أنّه قتل؟.
3- أشار تعالى إلى عودة السيد المسيح عليه السلام بشكل واضح في القرآن الكريم.
4- السيد المسيح عليه السلام هو البينة على من كفر من أهل الكتاب ومن أشركوا.
5- لِمَ توفى الله سيدنا عيسى عليه السلام نوماً، وسيعيده في آخر الزمان؟.
بعد أن بيَّنا في القصة السابقة المُراد من التوفِّي والرفع والتطهير الواردة في الآية
الكريمة السابقة لا بدَّ لنا من ذكر موجز القصة، التي كانت سبباً في توفي سيدنا عيسى عليه السلام نوماً، وحجبه عن
الأنظار، فنقول:
لما تآمر اليهود على قتل سيدنا عيسى عليه السلام، شاركهم في ذلك رجل منافق منهم كان قد
تظاهر بالإيمان، وأنه من أتباعه عليه السلام،ودلَّهم على المغارة التي
كانت مركز قيادة حربية لسيدنا عيسى عليه السلام، وفي اليوم الذي أرادوا
فيه تنفيذ المؤامرة، كان ذلك الرجل ملازماً المكان الذي كان فيه سابقاً
سيدنا عيسى عليه السلام حيث حجب الله تعالى رسوله وأخفاه عن الأنظار، بأن
أمره بالذهاب مع أمه إلى أن يصل إلى مغارة بيَّنها تعالى له، وهنالك ناما،
فأبقاهما نائميْن كأصحاب الكهف، فكانت هذه الفترة الطويلة من النوم آية، كما
أورد تعالى بقوله: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى
رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } سورة المؤمنون 50. إلى حين
ظهورهما في زمننا هذا. وألقى الشبه على ذلك الخائن، الذي كان يبالغ في
العناية باللباس والمظهر الديني، وإطالة اللحية والعمامة، للتعمية على
نفاقه، فظنه الزبانية الرومان هو الإمام، أي ظنوه من بين الحواريين أنه
هو سيدنا عيسى عليه السلام، ولمّا لم يكن سيدنا عيسى عليه السلام موجوداً
بالمغارة، إذ سبق أمر الله بالمغادرة، ومعه أمه إلى مغارة أُخرى بربوة
سيّرهما تعالى إليها، وكان الأمر الصادر بإلقاء القبض على سيدنا عيسى
صارماً لزبانية الرومان، ذلك لأن اليهود أعلموا الحاكم الروماني إذ
ذاك بشعبيّة سيدنا عيسى عليه السلام، وأنه غدا يهدد استقرار حكمه، لأن
جماهير فلسطين تبعته، بسبب الخوارق والمعجزات السحرية بزعمهم. عندها خشي
الحاكم الروماني من الخطر بنشوء ثورة أو قتال من قبل الجماهير المتأثرة والتابعة لهذا الشخص، الذي بلغت شهرته مبلغاً
رهيباً، بسبب عجائبه وخوارقه، فأمر بأن يقتلوه فور القبض عليه،
لأنهم إن لم يقتلوه، فستثور الجماهير والعوام بثورة
ساحقة ماحقة. أما إن وضع الشعب أمام أمر واقع، وهو أنه
قد قتل وقضي الأمر، فسيقضى على الفتنة في مهدها، ويجد الناس أنه مقتول
فسيهمدون.
كانت هذه وجهة نظر الحاكم الروماني، الذي أثاره
علماء اليهود ضِد سيدنا عيسى، فأصدر أمر قتله وصلبه فور القبض عليه، دون إبقائه وسجنه،
فتثور الناس بثورة قد تودي بالحاكم وجنده، لذا أمر الجنود الذين أرسلهم
بقتله مباشرة، وهؤلاء الزبانية كانوا جنوداً منفذين، لا يعرفون شخص
سيدنا عيسى عليه السلام، فلما ولجوا الكهف وشاهدوا الحواريين الأحد عشر،
ومعهم هذا المنافق الخائن، بمظهره الديني الرائع، ولم يجدوا سواه، ظنوه
سيدنا عيسى، والأمر بقتله كان مشدداً صارماً من الحاكم، لذا اعتقلوه، فقاوم
فأذلوه، وبصقوا عليه وعذبوه. فأخذوه يريدون أن يقتلوه ويصلبوه،
فتمنَّع تمنُّعاً شديداً، وبيَّن لهم أنه ليس بعيسى، ونفى ذلك نفياً قوياً، فما سمعوا له قولاً، بل قتلوه وصلبوه وهم
يظنون أنه عيسى عليه السلام، وهكذا فقد لقي ذلك
الخائن مصرعه، ونال جزاءه قال تعالى: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} سورة آل عمران 54.
ثم إِن هؤلاء المتآمرين بعد أن فعلوا ما فعلوا خامرهم الشك فقالوا وهم يتساءلون فيما
بينهم، إن كنَّا قد قتلنا عيسى فأين صاحبنا، وإن كنا قد قتلنا صاحبنا،
فأين عيسى، وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله الكريم: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ
اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ
مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا،بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } سورة النساء 157ـ158.
وقد أشار تعالى إلى عودة سيدنا عيسى عليه السلام في آخر الزمان وإيمان فريق من أهل الكتاب به قبل موته فقال تعالى: {وَإِن منْ أَهْلِ الكِتَابِ إلاَّ لَيُؤمِننَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَومَ القِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} سورة النساء: الآية 157-159.
وأشار تعالى إلى خروج سيدنا عيسى عليه السلام وعودته في آخر الزمان في مواضع ثانية من
القرآن الكريم، فقال تعالى في سورة البيِّنة مخاطباً سيدنا محمَّداً صلى
الله عليه وسلم بقوله الكريم: {لَمْ يَكُنِ الذينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ
الكِتَابِ وَالمُشْرِكينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ البَيِّنةُ} أي: إِنَّك لتطمع في إيمان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين
وهؤلاء لا ينفكُّون عن كفرهم وعنادهم حتى تأتيهم البيِّنة.
ثمَّ بيَّن تعالى هذه البيّنة أنَّها رسولٌ من الله فقال تعالى: {رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا
صُحُفاً مُطَهَّرةً} والصحف المطهرة ما أرسله الله تعالى من الأوامر
الإلهية والتشريع الحكيم الدال على طريق السعادة والخير وهي بحسب الآية
التالية الموضحة لها إنما تعني القرآن الكريم، الذي حوى كافة الكتب السماوية
والصحف المقدّسة.
قال تعالى: {فِيْهَا كُتُبٌ قَيِّمةٌ}، أي أنّ هذه الصحف المطهرة التي يتلوها رسول من الله إنَّما
تضمنت بين طياتها كُتباً ذات قيمة عالية. وما هذه الكتب القيِّمة إلاَّ الكتب الإلهية
التي أنزلها الله تعالى على من سبق سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم من
المرسلين، وما هذه الصحف المطهرة إلاَّ صحف القرآن الكريم الذي حوى الكتب
الإلهية السابقة. ولذلك فالقرآن الكريم بحسب ما ورد في هذه الآيات هو
الكتاب الذي سيتلوه سيدنا عيسى بن مريم عليه السلام يوم عودته على الخلق كافة. ثم إنَّ الله تعالى أراد أن يوضِّح لنا
توضيحاً لا يتطرَّق إليه الشك أن هذه البيِّنة إِنما هي
سيدنا عيسى عليه السلام فقال تعالى في سورة البينة: {وَمَا تَفَرَّقَ الذينَ أُوتُوا الكِتابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ}
أي: أنَّ الذين أوتوا الكتاب وهم بنوا إسرائيل لم يتفرقوا إلى يهود ونصارى إلاَّ من بعد ما جاءهم سيدنا عيسى عليه
السلام وعلى هذا أصبحت كلمة {البيِّنة} تعني بلا شك سيدنا عيسى عليه السلام.
وقد بيَّن لنا تعالى في القرآن الكريم أنَّ ظهور سيدنا عيسى عليه السلام في آخر الزمان سيكون عِلْماً أي: بياناً
للساعة فقال تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ، وَقَالُوا ءَآلِهَتُنَا خَيرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ
إلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَومٌ خَصِمونَ، إِن هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمنا عَليهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَني
إسْرائيلَ، وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم مَلائِكةً في الأَرْضِ يَخْلُفُونَ، وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا
وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقيمٌ، وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيطانُ إِنَّه لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} سورة
الزخرف: الآية 57-62.
ولعلك تقول: لِمَ توفى الله سيدنا عيسى عليه السلام ذلك التوفي الذي بيَّناه ووعده بأن
يعيده في آخر الزمان وما وقع هذا لأحد من المرسلين؟.
فأقول: إذا آمن الإنسان بخالقه حقَّ الإيمان وأقبل على الله تعالى حقَّ الإقبال امتلأت نفسه بالكمال وأصبحت تهوى فعل الخير والإحسان. وبما أنَّ الله تعالى لا يعطي امرءاً يوم القيامة منزلة من
المنازل إلاَّ بناءً على ما قدَّم من أعمال طيبة وحيث أنَّ سيدنا عيسى عليه السلام لما جاء بالبينات عارضته بنوا
إسرائيل كما رأينا من قبل تلك المعارضة الشديدة وما استطاع أن يحقِّق رغائبه ونيَّته العالية في تعريف الناس بخالقهم
ودلالتهم عليه تعالى ولذلك وعده الله عزَّ وجل أن يُعيده في آخر الزمان وأن يرفعه بعمله
العالي وأن يجعل المؤمنين الذين سيتَّبعونه فوق الذين كفروا إلى يوم
القيامة، تطييباً لنفسه وإظهاراً لعمله ولما خفي من عالي نيَّته وذلك ما أشارت إليه
الآية الكريمة التي قدَّمناها من قبل في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ
إِليَّ وَمُطَهِّركَ مِنَ الذين كَفَرُوا وَجَاعِلُ الذين اتَّبَعُوكَ فَوقَ الذينَ كَفَرُوا إِلى يَومِ القِيامَةِ ثُمَّ إِليَّ
مَرْجِعُكُمْ فَأحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} سورة آل عمران: الآية55 .
والحمد لله رب العالمين.
وانتهت قصة سيدنا عيسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والتسليم والحمد لله رب العالمين
*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*الكلمة الطيبة كشجرة طيبة*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*
"هذا مذهب كلّه جد فلا تخلطوه بشيء من الهزل"
إسماعيل- مشرف
- عدد المساهمات : 2980
العمر : 53
نقاط تحت التجربة : 16464
تاريخ التسجيل : 17/04/2008
قصة سيدنا زكريا ويحيى عليهما الصلاة و السلام
قصة سيدنا زكريا ويحيى عليهما الصلاة و السلام
تجدون في هذه القصة:
1- سيدنا زكريا يكفل السيدة مريم عليهما السلام.
2- حقيقة الرزق الذي كان يجده سيدنا زكريا عند السيدة مريم عليهما السلام.
3- سيدنا زكريا يتمنّى الولد الصالح من بعده يرث النبوّة.
4- يهب الله تعالى لسيدنا زكريا سيدنا يحيى ابنا -عليهما السلام- على الكبر ومن امرأته العاقر.
5- هل حقاً قتل سيدنا زكريا وابنه سيدنا يحيى عليهما السلام!.
إنّ علماء بني إسرائيل لمَّا اقترعوا أن يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم "ورد ذلك في سورة آل عمران".جعل الله تعالى القرعة تقع على سيدنا زكريا عليه السلام وكفَّله تعالى تلك البنت الصغيرة الناشئة على عبادة ربها، ولو أنَّ أولئك العلماء عرفوا مقام سيدنا زكريا
في النبوة وعظيم معرفته بالله تعالى لما تجرَّأ أحد منهم على أن ينازعه في أمر تربيتها لكن الله تعالى، وهو العليم بحال كل إنسان يجعل الصادق كفيلاً على الصادق ويولي الأخيار على الأخيار، إليه يرجع الأمر كله وهو يتولى الصالحين.
فالله تعالى فتح على سيدتنا مريم فتحاً عظيماً وكان سيدنا زكريا عليه السلام كلما دخل عليها المحراب وجد عندها من العلم والمعرفة
بالله رزقاً جديداً فكان يعجب مما يسمعه منها ويسألها يا مريم أنَّى لك هذا فتقول هو من عند الله إنَّ الله يرزق من يشاء بغير حساب. هنالك لمّا رأى سيدنا زكريا ما في الولد الصالح من الخير وحيث أنه خاف على أتباعه من بعد موته أن ينحرفوا عن طريق الحق ويضلوا سواء السبيل لذلك طلب من الله تعالى أن يهبه من لدنه ولياً أي ولداً صالحاً موالياً له يرثه في مقام الدلالة على الله ويرث النبوة السارية في آل يعقوب، فيقوم مقام المرشد لأولئك الأتباع.
وكذلك أهل الإيمان والمعرفة إنَّما يطلبون الولد لمثل هذه الغاية السامية قال تعالى مُشيراً إلى قصة سيدنا زكريا عليه
السلام في مطلبه هذا بقوله الكريم:
{..كلَّما دَخَلَ عَلَيهَا زَكَرِيَّا المِحرابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَت هُو مِنْ عِندِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرزُق
مَن يَشَاءُ بِغَيرِ حِسَابٍ، هُنالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَدُنكَ ذُرِيَّةً طَيِّبةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ}
سورة آل عمران: الآيات
37-38.
وقال تعالى في مطلع سورة مريم: {كهيعص، ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَريَّا، إذْ نَادى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِياً، قَالَ رَبِّ إِني وَهَنَ العَظمُ مِني واشْتَعَل الرَّأسُ شَيباً وَلَم أَكُن بِدُعائكَ رَبِّ شَقِياً، وَإِنّي خِفْتُ المَواليَ مِن وَرَاءِى وَكَانتِ امْرأَتي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَدُنكَ وَلياً، يَرِثُني وَيَرِثُ مِن آلِ يَعقُوبَ واجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} سورة مريم:
الآية 1-6.
وقد سمع الله تعالى ذلك النداء الخفي الصادر من تلك النفس المؤمنة بربِّها واستجاب تلك الدعوة المنبعثة من قلبٍ مؤمن موقن بأن الله تعالى لا بدَّ مجيب دعاءه فليس على الله بعزيز أن يهبه ولداً ولو أن امرأته كانت عاقراً ولو أنه اشتعل رأسه شيباً وبلغ من الكبر عتياً، ولذلك أرسل الله الملائكة تُبشِّرهُ بيحيى وأشار تعالى إلى ذلك
بقوله الكريم: {فَنَادَتهُ المَلاَئِكَةُ وَهُو قَائِمٌ يُصَلّي فِي المِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدّقاً بِكَلِمةٍ مِن اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنبياً مِنَ الصَّالِحينَ} سورة آل عمران: الآية
39.
كما أشار تعالى إلى ذلك في موضع آخر من القرآن الكريم فقال سبحانه:
{يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمهُ يَحيى لَم نَجْعَل لَهُ مِن قَبلُ سَمِيّاً، قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكونُ
لِي غُلامٌ وَكَانتِ امْرأتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِن الكِبَرِ عِتِيّاً} سورة مريم:
الآية 7-8.
وقد سأل سيدنا زكريا ربه بقوله: {رَبِّ
أَنَّى يَكونُ لِي غُلامٌ وَكَانتِ امْرأتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِن الكِبَرِ عِتِيّاً} لا سؤال
المستعجب المستغرب فإن الأنبياء الذين عرفوا عظمة الله تعالى وقدرته على
كل شيء، لا يستبعدون على الله شيئاً، بل إِنما كان سؤاله كسؤال سيدنا ابراهيم عليه الصلاة والسلام لمَّا قال:
{..ربِّ أَرِني كَيْفَ تُحْيِ المَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِيَطْمَئِنَّ قَلْبي} أي: بلى يا رب آمنت
بذلك إيماناً غيبياً غير أني أُريد بسؤالي هذا أن تريني
الكيفية التي يكون بها الإحياء فيكون إيماني بهذا إيماناً شهودياً هنالك أجابه الله تعالى بما أشارت إليه الآية الكريمة في
قوله عزَّ وجل: {قَالَ
فَخُذْ أَرْبَعَةً مِن الطَّيرِ فَصُرْهُنَّ إِليكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزءاً ثُمَّ
ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً
وَاعْلَم أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } سورة البقرة: الآية 260.
وهكذا
فقد طلب سيدنا زكريا من ربِّه أن يعرِّفه بالكيفية أي الطريق التي سيكون بها الولد
فقال: {رَبِّ
أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ} أي: أريد
بسؤالي هذا أن أعرف الكيفية التي سيكون بها الولد فأجابه الله تعالى بما أشارت
إليه الآية الكريمة في قوله تعالى: {قَالَ
كَذَلِكَ} أي: مع هذا الحال
الراهن الذي أنت وزوجك فيه سيكون لك الولد فمن امرأتك هذه ومنك أنت وقد بلغت هذا
السن.
ثمَّ فصَّل تعالى ذلك بقوله الكريم: {قَالَ
رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} سورة مريم: الآية 9.
هنالك طلب سيدنا زكريا عليه السلام من ربِّه أن يجعل له آية أي
إشارة ودليلاً يتعرف به إلى الوقت الذي سيهبه الله
تعالى فيه ذلك الغلام. { قَالَ
رَبِّ اجْعَلْ لِي آيةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ
أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً..} سورة آل عمران: الآية 41.
وبالآية الثانية:{..قَالَ آيتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِياً}: وفي يوم وجد سيدنا
زكريا نفسه في حال لا يستطيع معه الكلام. قال تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ المِحْرابِ فَأوْحَى إِليهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشياً } سورة مريم:
الآية 10-11.
وقد نفَّذ الله تعالى وعده لنبيه فأصلح له زوجه ووهبه يحيى. قال تعالى:
{وَزَكَرِيَّا إذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيرُ الوَارِثِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبنا لهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُم كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الخَيْراتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنا خَاشِعينَ} سورة الأنبياء: الآية 89-90.
وقد أمر تعالى سيدنا يحيى أن يأخذ الكتاب أي التوراة بقوة بأن
يقوم بتبليغها على حقيقتها مبيِّناً شذوذ الناس عنها
بجرأة لا يخشى في الحق لومة لائم، وآتاه الله تعالى الحكم صبياً، أي
علَّمه كيفية وضع كل حكم من أحكام التوراة في موضعه شرحاً وتبياناً
وإيضاحاً لحكمته العليّة. فقال تعالى: {يَا يَحْيى خُذِ الكِتَابَ بِقُوةٍ وَآتَيناهُ الحُكْمَ صَبِيّاً}.
ثمَّ بيَّن لنا تعالى ما انطوى عليه قلب هذا النبي الكريم من
الحنان وما تحلَّت به نفسه من الزكاة أي الطهارة وبيَّن
تعالى أنَّ الحنان والطهارة النفسية إِنَّما يشتقها العبد من الله تعالى
فقال: {وَحَنَاناً مِن لدُنَّا وَزَكَاةً}.
ثم بيَّن لنا تعالى أن التقوى أي أن الاستنارة بنور الله تعالى هي الأصل
لا بل هي الطريق الموصلة إلى الحنان والزكاة فقال تعالى: {وَكَانَ تَقِياً} ثم أتبع ذلك بقوله
الكريم: {وَبرّاً بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً} سورة مريم:
الآية 12-14.
والآن بعد أن بيَّنا قصة سيدنا زكريا ويحيى عليهما الصلاة والسلام
لا بدَّ وأن نتعرَّض إلى نقطة هامة كثرت فيها
الأقاويل الباطلة فقال الذين لم يدققوا في كلام الله ولم يعطوه حقَّه من
التدبُّر والإمعان أن زكريا ويحيى عليهما الصلاة
والسلام قتلهما اليهود وذكروا بهذا الخصوص قصة ملفَّقة وكان مما قالوه أن اليهود لما جاءهم سيدنا يحيى بالبيّنات عارضوه
وادَّعوا أن ما جاء به مخالف لما عرفوه ولذلك صمَّموا
على قتله، ولمَّا قتلوه فرَّ أبوه سيدنا زكريا عليه السلام مستخفياً وفي
طريقه مرَّ على شجرة عظيمة وقد أرادت الشجرة أن تؤويه إليها فانشقَّ
جذعها له وما أن أوى إلى الجذع حتى انطبق عليه وأخفاه غير أنَّ الشيطان
اجتذب طرف ثوب سيدنا زكريا وبذلك استطاع الخصوم أن يعرفوا مكانه فنشروا
الجذع نشراً ولمَّا وصل المنشار إلى أمِّ رأس سيدنا زكريا تأوَّه ألماً
فناداه ربه يا زكريا لئن تأوَّهت ثانيةً لأرفعنَّ اسمك من ديوان النُبوة.
والآن وبعد أن عرضنا موجزاً لهذه القصة الموضوعة نقول: إنَّ نظرة
واحدة إلى هذه القصة تشهد ببطلانها من وجوه عديدة وبقليل من التفكير نستطيع
دحضها، ونستطيع الآن أن نثبت أنَّ سيدنا يحيى عليه السلام لم تقتله اليهود
لنتوصَّل من ذلك إلى نقض القصة وبالتالي إلى ردِّ ذلك الزعم القائل
بنشر سيدنا زكريا عليه السلام.
إنَّ التصديق بأن سيدنا يحيى عليه السلام قتله اليهود فيه مواضع
لاعتراضات كثيرة يكفي أن نُورد واحداً منها فنقول:
لقائل أن يقول إذا كان الله تعالى عليماً فكيف وعد سيدنا زكريا بأن يهبه
وارثاً لمقامه في الدلالة على الله ثم جاء اليهود وقتلوا سيدنا يحيى في
حياة أبيه؟. وإذا كان تعالى قديراً فكيف استطاع اليهود بقتلهم سيدنا يحيى
أن يحولوا دون تنفيذ أمر الله تعالى؟.
وهكذا فالتسليم بهذه القصة معناه أن الله تعالى ليس بعليم ولا قدير، وبما
أن الله تعالى عليم لا يعزب عن علمه شيء، قدير لا تحول إرادة دون إرادته
فهذه القصة موضوعة لا أصل لها باطلة من أساسها وقد شهد القرآن الكريم بكذبها، فقد ذكر لنا تعالى في معرض الكلام عن سيدنا
يحيى بما أشارت إليه الآيات الكريمة في قوله تعالى:
{يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوةٍ وَآتَينَاهُ الحُكمَ صَبِيّاً، وَحَنَاناً مِن لدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِياً، وَبَرّاً بِوالِدَيهِ وَلَمْ يَكُن جَبّاراً عَصِيّاً، وَسَلامٌ عَلَيْهِ يومَ وُلِدَ وَيَومَ يَمُوتُ وَيَومَ يُبْعَثُ حَيّاً} سورة مريم: الآية 12-15.
وحيث أنَّ السلام من الله تعالى هو الأمان وإذا كان الله تعالى
ذكر في كتابه الكريم أنَّ السلام على يحيى يوم يموت
فمعنى ذلك أنه لم يجرؤ أحد على التعرُّض له وهكذا فقد عاش سيدنا يحيى
بعد أبيه وقام مقام المُرشد لأتباع أبيه فكان دليلاً لهم على الله وسلام
عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً.
*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*الكلمة الطيبة كشجرة طيبة*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*
"هذا مذهب كلّه جد فلا تخلطوه بشيء من الهزل"
إسماعيل- مشرف
- عدد المساهمات : 2980
العمر : 53
نقاط تحت التجربة : 16464
تاريخ التسجيل : 17/04/2008
رد: سلسلة القصص والعبر
ربي يبارك فيك أخي الكريم وفيما تقدمه لنا
من قصص الأنبياء
وجعل الله كل هذا في ميزان حسناتك .وإن شاء الله سأحاول
تصفحه في كل مرة لمتابعة الجديد
تحياتي الأخوية .
من قصص الأنبياء
وجعل الله كل هذا في ميزان حسناتك .وإن شاء الله سأحاول
تصفحه في كل مرة لمتابعة الجديد
تحياتي الأخوية .
b.kalija-
- عدد المساهمات : 4701
العمر : 45
المكان : france
نقاط تحت التجربة : 17224
تاريخ التسجيل : 16/12/2008
رد: سلسلة القصص والعبر
b.kalija كتب:ربي يبارك فيك أخي الكريم وفيما تقدمه لنا
من قصص الأنبياء
وجعل الله كل هذا في ميزان حسناتك .وإن شاء الله سأحاول
تصفحه في كل مرة لمتابعة الجديد
تحياتي الأخوية .
وفيك البركة أختاه
الضرورة في بعض الأحيان تدفعنا لغض الطرف عمّا ألفناه.
فما تجدوه من تطويل في بعض الدروس غايته إيصال المعلومة والفكرة كاملة حتى يستفيد المطلع.
والله وليّ التوفيق.
*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*الكلمة الطيبة كشجرة طيبة*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*
"هذا مذهب كلّه جد فلا تخلطوه بشيء من الهزل"
إسماعيل- مشرف
- عدد المساهمات : 2980
العمر : 53
نقاط تحت التجربة : 16464
تاريخ التسجيل : 17/04/2008
غزوةُ بدرٍ الكُبرى دورسٍ وعِبر
غزوةُ بدرٍ الكُبرى دروسٍ وعِبر
الحمد الله الذي بعث نبية بالحق هاديا وبشيرا ،، وجعله للحق صامداً وله ونصيرا
إخوتي واساتذتي الكرام. يصادف هذا اليوم السابع عشر من شهر رمضان تلك الغزوة الشهيرة التي حدثت في
السنة الثانية من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم للمدينة والتي فصلت بين
الحق والباطل ،، لست هنا بسرد التاريخ القصصي لتلك المعركة التاريخية
الشهيرة فأنتم أعلم مني بأحداثها
ولكن أردت من خلال هذا المقال أن نستخلص العبر والدروس من تلك الغزوة العظيمة ،، يجب أن نغرسها
في نفوس ابنائنا كيف كانوا عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في التضحية والفداء
يجب أن نغرس في نفوسهم تلك الهمم الشامخة التي يحملونها في قلوبهم ،، كيف كانوا عليه من اليقين بنصر الله
وكيف أصبحت أحوالنا
وأيضاً النصر المحقق عندما يتيقن من إخلاص العباد للله عز وجل
قال الله جل وعلا (((ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون)) آل عمران
وقال ايضا عز وجل(( إذا تقول للمؤمنين ألأن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين.
بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين))
وماجعله الله إلا بشرى لكم ولتمطمئن قلوبكم به . ومالنصر إلا من عند الله العزيز الحكيم
(( آل عمران آية رقم 124 ،،و 125 ،،126
هذه الايات تحاكي قصة النصر العظيم الذي ألبسة نبيه وأصحابة لأنهم أقدموا بقلوب راضية ،، ونفوس مخلصة
يقول أحد المستشرقين وصف محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه في غزوة بدر بأنهم "قطاع طرق، خرجوا يترقبون قافلة أبي
سفيان، ينهبون منها ما شاؤوا ويتركون منها ما شاؤوا"! (( المصدر مجلة المجتمع))
سبحان الله العظيم اي بهتان هذا !!!!!
نسي هذا الأرعن العذاب الذي تلقاه نبينا واصحابة في مكة ،، هربوا بدينهم إلى المدينة المنورة مهاجرين تاركين
كل غالي من دار وأموال وأهل وولد. هل من المعقول إذا أستردوا جزء مما سُلب منهم أن يكونوا قطاع طرق؟؟
]حقيقة إن غزوة بدر مليئة بالمواعظ والدروس وتلميذكم أستخلص بعض الدورس والعبر فمن لدية
إضافة فلا يبخل علينا بها وجزاه الله خيرا
الدرس الأول : تلك الهمم العظيمة التي يحملها أولئك الرجال الموقنين بنصر الله ،، وليس في قلوبهم ونفوسهم
إلا إعلاء كلمة الله وليس الهدف لديهم إرضاء فلان وعلان(( ومن يتوكل الله فهو حسبة ))
فها هو المقداد بن الأسود رضي الله عنه يقول للنبي صلى الله عليه وسلم :
"يا رسول الله، امض لما أمرك الله به، فوالله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى:
فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون (24) (المائدة).
ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا معكما مقاتلون،
والله لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه" فدعا له
النبي صلى الله عليه وسلم بخير.
وها هو سعد بن معاذ سيد الأوس، يقول في ثبات للنبي صلى الله عليه وسلم :
"قد آمنا بك وصدقناك وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا فامض لما أمرك
الله. والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لنخوضنه معك، وما نكره
أن تلقى العدو بنا غداً، وإنا لصُبرٌ عند الحرب صُدُق عند اللقاء، ولعل
الله يريك منا ما تقر به عينك فسر على بركة الله". وها هو النبي القائد
ينزل على رأي ومشورة الحباب ابن المنذر في منزل بدر. (( المصدر مجلة المجتمع))
عندما أعزوا دين الله أعزهم الله ورفع قدرهم ومنزلتهم
ثانيا : مركزية القيادة تتمثل المصطفى صلى الله عليه وسلم ولكن هذا لم يدعة يتفرد بالامر وحده على الرغم
أن الوحي سوف يأتية من رب العزة والجلال عندما قال أحد الصحابة رضوان الله عليه أهذا منزل أنزلك الله إياه
أم الحرب والمكيدة ؟؟ فقال لا بل هو الحرب وةالمكيدة قال رضي الله عنه إنني أرى أن ننزل بماء بدر فنمنع
المشركين من الإقتراب إليه
ومن هنا نتعلم أن القيادة ليست عنجهية وكبراً وإنما هي تعاون ومشورة صادقة.
صادقة مع من يصدق مع الله وينور قلبه بالايمان ،، وعنهجهية مع من أظل الله قلبه
ثالثاً/ يقول الله عز وجل (( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيره)) ومامعركة بدر الكبرى إلا خير مثال على ذالك
فالمسلمون كانو قرابة ثلاثمائة وسبعة عشر فردا ومعهم ثلاثة خيول بينما المشركين ألف رجل أو يزيدون
ومعهم قرابة المائة من الخيول
كيف نصر الله هذه الفئة القليلة على هذا العتاد الكبير الذي أتى به المشركين ؟؟
ينصر الله المسلمون عندما تتحقق في قلوبهم قبل ألسنتهم هذه الكلمة العظيمة
وهم مقدمون على ماوعدهم الله من النصر والتمكين مقدمون يصيحون بكلمة واحده تتجلجل منها قلوب العباد قبل الجماد
الله أكبر في الآفاق نطلقها ولكن عندما يأتي المثبطون عندما يقولون أنه ليس عندنا العتاد الكافي لمقابلة
الأعداء فكيف عندما يأتي نصر الله عندما يمد المسلمون بألف من الملائكة مسومين
رابعاً // العنجهية التي دائما تسموا على أعداء الله عندما قال ابو جهل عندما علموا بهروب قافلة ابو سفيان
والله لانرجع حتى نذبح الجزُر وتغني القيان لنعلم محمد بقوتنا وكانت الدائرة عليهم بإذن الله جل وعلا
سبحان وكأن هذه العنجهية خُلفت في أعداء الله إلى يوم الدين فكم من عدو في عصرنا تجرأ على دينة
كم من عدو في عصرنا تجرأو على عباده ولكن الله لهم بالمرصاد عاجلاً أم آجلاً
ولكن !!!
عندما تتحد كلمة المسلمين ونتيقن إن النصر من عند الله وليس بالقوة والعتاد
نسأل الله أن يبعث النصر والتمكين للسلمين ،، وأن ينصرهم على أعدائهم ،، وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين
موقع غزوة بدر الكبرى
أســمـاء الـشــهـداء رضــوان الله عـلـيـهـم
مـسـجـد الـعـريـش حـيـث كـان الـمـكـان الـذي يـديـر مـنـه الـرسـول صـلـى الله عـلـيـه وسـلـم الـمـعـركـة
*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*الكلمة الطيبة كشجرة طيبة*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*
"هذا مذهب كلّه جد فلا تخلطوه بشيء من الهزل"
إسماعيل- مشرف
- عدد المساهمات : 2980
العمر : 53
نقاط تحت التجربة : 16464
تاريخ التسجيل : 17/04/2008
فتح مكة
اليوم العشرون من رمضان ذكرى
فتح مكة
فتح مكة
فتح مكة و يسمى أيضاُ الفتح الأعظم [1] هو حدث تاريخي تم فيه فتح مدينة مكة
على يدالرسول صلى الله عليه وسلم في 20 رمضان 8 هـ [2] بعد أن هاجر منها ،
كانت هجرته للمدينة نواة لتأسيس دولته والعمل على العودة لمكة مجددا.
سوابق
لما كان من بنود صلح الحديبية أن من أراد الدخول في حلف المسلمين دخل،
ومن أراد الدخول في حلف قريش دخل ، دخلت قبيلة خزاعة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ،
ودخلت بنو بكر في عهد قريش، وقد كانت بين القبيلتين حروب وثارات قديمة ، فأراد بنو بكر أن يصيبوا من
خزاعة الثأر القديم ، فأغاروا عليها ليلاً ، فاقتتلوا ،
وأصابوا منهم ، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح والرجال ، فأسرع عمرو بن
سالم الخزاعي إلى المدينة ، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بغدر قريش وحلفائها .[3]
وأرادت قريش تفادي الأمر ، فأرسلت أبا سفيان إلى المدينة
لتجديد الصلح مع المسلمين ، ولكن دون جدوى ؛ حيث أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بالتهئ والاستعداد ،
وأعلمهم أنه سائر إلى مكة ، كما أمر بكتم الأمر عن قريش من أجل مباغتتها في دارها.
أهمية مكة
تعتبر مكة عند المسلمين بيت الله، وهي حرام منذ خلق الله السماوات والأرض ، لكن الله أحلها
إلى رسوله يوم الفتح: "وإنها أحلت لي ساعة من نهار ، وإنها لن تحل
لأحدٍ بعدي ، فلا ينفّر صيدُها ، ولا يختلي شوكها ، ولا تَحِلُّ ساقطتها
إلى لمنشد ، ومن قُتل له قتيل فهو بخير النظرين ، إما أن يفدى وإما أن
يقتل " . [4] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة : " والله إنك لخير أرض الله ، وأحب أرض الله إلى الله ،
ولولا أني أُخرِجتُ منك لما خَرجتُ. [4]
الصلاة في المسجد الحرام يضاعف أجرها أضعافاً كثيرة حسب
الإسلام، " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد
الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة " . [4]
الإستعداد
بعدها قام الرسول بتجهيز الجيش للخروج إلى مكة فحضرت جموع
كبيرة من قبائل جهينة وبني غفار ومزينة واسد وقيس وبني سليم و
الأنصار والمهاجرين.
وقد دعى الرسول الله قائلا: اللّهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها [5]
وقام ابي حاطب بن أبي بلتعة بكتابة كتاب بعث به إلى قريشٍ مع امرأة ،
يخبرهم بما عزم عليه رسول الله ، وأمرها أن تخفي الخطاب في ضفائر شعرها
حتى لا يراها أحدٌ . فإذا الوحي ينزل على رسول الله عليه وسلم بما صنع
حاطب ، فبعث الرسول صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب والزبير بن العوام ليلحقا بالمرأة . وتم
القبض عليها قبل أن تبلغ مكة ، وعثرا على الرسالة في ضفائر شعرها .
فلما عاتب النبي صلى الله عليه وسلم حاطباً اعتذر أنه لم يفعل ذلك ارتداداً عن دينه ، ولكنه خاف إن فشل
رسول الله على أهله والذين يعيشون في مكة.
فقال عمر : " يا رسول الله ، دعني أضرب عنق هذا المنافق " . فقال رسول اللهصلى الله عليه وسلم:
" إنه قد شهدبدراً ، وما يدريك لعل الله قد اطلع على من شهد بدراً فقال اعملوا ما
شئتم فقد غفرت لكم " وكان حاطب ممن حارب مع رسول الله في غزوة بدر . فعفا عنه.
مغادرة الجيش المدينة
وفي رمضان من السنة الثامنة للهجرة غادر الجيش الإسلامي
المدينة إلى مكة ، في عشرة آلاف من الصحابة بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن استخلف على المدينة أبو ذر الغفاري . وصلوا "
مر الظهران " قريباً من مكة ، فنصبوا خيامهم ، وأشعلوا عشرة آلاف شعلة نار . فأضاء الوادي .
ولما كان بالجحفة لقيه عمه العباس بن عبدالمطلب ، وكان قد خرج بأهله
وعياله مسلماً مهاجراً . وركب العباس بغلة رسول الله صلى
الله عليه وسلم البيضاء ، يبحث عن أحد يبلغ قريشاً لكي تطلب الأمان من
رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخل مكة .
الفتح
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة من أعلاها وهو يقرأ قول القرآن : (( إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً )).
أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يري أبا سفيانٍ قوة المسلمين ، فحبسه عند مضيق الجبل . ومرت القبائل
على راياتها ، ثم مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء. فقال أبو سفيان : ما لأحدٍ بهؤلاء من قبل ولا طاقة .
ثم رجع أبو سفيانٍ مسرعاً إلى مكة ، ونادى بأعلى صوته : " يا معشر قريش ،
هذا محمدٌ قد جاءكم فيما لا قبل لكم به . فمن دخل داري فهو آمن ، ومن أغلق
عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ". فهرع الناس إلى دورهم وإلى
المسجد . وأغلقوا الأبواب عليهم وهم ينظرون من شقوقها وثقوبها إلى جيش
المسلمين ، وقد دخل مرفوع الجباه . ودخل جيش المسلمين مكة في صباح يوم
الجمعة الموافق عشرين من رمضان من السنة الثامنة للهجرة .
دخل الجيش الإسلامي كل حسب موضعه ومهامه ، وانهزم من أراد المقاومة من
قريش ، ثم دخل رسول الله المسجد الحرام والصحابة معه ، فأقبل إلى الحجر الأسود ، فاستلمه.
خاف الأنصار بعد الفتح من إقامة الرسول بمكة ، فقال لهم :
( معاذ الله ، المحيا محياكم ، والممات مماتكم). [6]
هدم الأصنام
بعد الطواف بالكعبة أمر بتحطيم الأصنام المصفوفة حولها و كان عددها
ثلاثمائة وستون صنماً مثبتة بالرصاص ، فجعل يطعنها ويقول : { جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً } الإسراء : 81 [7]
ثم دعا عثمان بن طلحة ، فأخذ منه مفتاح الكعبة ، فأمر بها ففتحت ،
فدخلها فرأى فيها الصور فمحاها ، وصلى بها ، ثم خرج وقريش صفوفاً ينتظرون ما يصنع ، فقال : ( يا معشر قريش ،
ما ترون أني فاعل بكم ؟) قالوا : أخ كريم وابن أخ كريم ، قال : ( فإني
أقول لكم كما قال يوسف لإخوانه : {لا تثريب عليكم اليوم } اذهبوا فأنتم الطلقاء ).وأعاد المفتاح ل عثمان بن طلحة ، ثم أمر بلالاً أن يصعد الكعبة فيؤذن.
الخطبة
وفي اليوم الثاني قام رسول الله، وألقى خطبته المشهورة ، وفيها : ( إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض ، فهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة ،لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي ، ولم تحلل لي قط إلا ساعة من الدهر ، لا ينفر صيدها ، ولا يعضد
شوكها ، ولا يختلى خلاها ، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد) رواه البخاري .
العفو و البيعة
بايع الناس رسول الله ، فقد جلس صلى الله عليه وسلم
عند قَرْنِ مَسْقَلة فجاءه الناس الصغار والكبار ، والرجال والنساء ،
فبايعوه على الإيمان ، وشهادة أن لا إله إلا الله . وفما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من بيعة الرجال ، أخذ في بيعة النساء وهو على الصفا ، و عمر بن الخطاب قاعد أسفل منه ، فبايعهن عنه صلى الله عليه وسلم ، وبايعهن
على أن لا يشركن بالله شيئاً ، ولا يسرقن ، ولا يزنين ، ولا يقتلن أولادهن ،
ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ، ولا يعصينه في معروف .
وهناك تقابل العباس بن عبد المطلب وأبو سفيان .
فأخذه العباس بن عبدالمطلب إلى الرسول. بعد حوارٍ طويلٍ
دخل أبو سفيانٍ في الإسلام . وقال العباس : " إن أبا سفيانٍ يحب الفخر فاجعل له شيئاً .
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " من دخل دار أبي سفيانٍ فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن " .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا معشر قريش ، ما ترون أني فاعل بكم ؟ " قالوا : " خيراً . أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كريم " . فقال عليه الصلاة والسلام: " اذهبوا فأنتم الطلقاء".
النفر الذين أمر بقتلهم يوم الفتح
أمن النبي يوم فتح مكة كل من دخل المسجد أو أغلق عليه
بابه، إلا أربعة أمر بقتلهم ولو وجدوا متعلقين بأستار الكعبة،: [8]
عكرمة بن أبي جهل
عبد الله بن سعد بن أبي السرح
عبد الله بن خطل
مقيس بن صبابة
أما عكرمة وابن أبي السرح فقد أسلما ولهما مواقف جهادية رائعة.
وأما الآخران فقد قتلا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*الكلمة الطيبة كشجرة طيبة*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*
"هذا مذهب كلّه جد فلا تخلطوه بشيء من الهزل"
إسماعيل- مشرف
- عدد المساهمات : 2980
العمر : 53
نقاط تحت التجربة : 16464
تاريخ التسجيل : 17/04/2008
ليلة القدر:قصة واقعية حدثت مع العلامة محمد امين شيخو في السادسة عشر من عمره
ليلة القدر:قصة واقعية
حدثت مع العلامة محمد امين شيخو في السادسة عشر من عمره
هذه القصة حدثت بأحد شهور رمضان المبارك حيث يصوم الناس سعداء مسرورين لما ينالونه
من لذة ونعيم لشعورهم بالقرب من الله لأنهم أرضوه بتأديتهم لهذه الفريضة الإلهية.. ولمَّا
يحين موعد الإفطار توضع موائد الطعام الشهي بعبق روائحها الطيِّبة
الزكية وينتظر الصائمون وهم بشوق أذان المغرب، فما أن يؤذِّن المؤذِّن
حتى يُسمُّون بالله ويبدأون الطعام.. وهذه الواقعة ستصور لنا جانباً
مضيئاً عظيماً من حياة ذاك العهد، العصر الذي سبقنا ومن حياة السيد محمد أمين
وقد أصبح بسنِّ السادسة عشر من عمره، فتىً يتألَّق ذكاءً وإدراكاً.. فتوةً
وشباباً متفوِّقاً على كافة أقرانه.. لا يسير بالأكثرية كما تسير
أكثرية الناس بالتقليد الأعمى، بل يريد أن يتمتَّع بما وهبه الله من ملكات
ويكتشف بذاته ويتأكَّد من صحة كل ما يسمعه ويمس حياته ليتيقَّن من صحته قبل
أن يتبنَّاه ويتكلَّم فيه. لقد شاع بين الناس وسرى وصف ليلة القدر تلك
الليلة المباركة التي تحدث في شهر رمضان وبآخر عشرِ ليالٍ منه، ذكرها الله
تعالى بالقرآن الكريم وحضَّ الناس عليها لنوالها كمكافأة للصائمين
المستحق منهم، وذلك حسب جدِّه ومدى طاعته لربِّه فغالوا بوصفها.. يظنُّون
الظُّنون ويتخيلون التخيُّلات فتصوَّروا بأن الله تعالى ينزل في هذه الليلة
عن عرشه من السماء السابعة إلى السماء الدنيا، وبلحظة هبوطه جلَّ جلاله
واستقراره في السماء الدنيا ولشدة نوره تعالى تضيء السماء كاملة على
الأرض وتشعُّ نوراً كنور القمر وهو بدر.. وبهذه اللحظة العظيمة تستطيع أن
تطلب أيها الإنسان وتتمنَّى ما تشاء فأنت تطلب من قريب مجيب ( جلَّ جلاله )،
إذ صار بالسماء الدنيا يسمع نداءك وطلبك وأنت ما عليك إلاَّ الطلب،
فطلبك مستجاب. وزعموا قائلين مدعِّمين ظنونهم هذه برواية أن جدَّ "بيت العظم"
( العائلة المترعة بالغنى في دمشق ) رأى هذه الليلة ( ليلة القدر ) فدعا
الله طالباً مالاً وبنين وعزّاً لا يميل.. وقد تحقَّق له ذلك وها هي
عائلة بيت العظم ما تزال غنية لِمَا ترك لهم جدُّهم من ثروة طائلة كان قد
رُزقها بعد دعائه إثر مشاهدته لليلة القدر.. وهكذا فقد ذهب كل واحد منهم
يتكلَّم ويذكر ما يعرفه أو ما سمعه أو ما يعتقد أنه حصل معه أو مع فلان من
الناس في هذه الليلة ( ليلة القدر ) حتى أصبح الكلام عنها كثيراً جدّاً يبلغ
الخيال واللامعقول. أمَّا الفتى الحر السيد محمد أمين فقد سمع هذا الحديث
قبل شهر رمضان وسُرَّ كثيراً بذلك وراح يحدِّث نفسه ويرسم أحلامه العذبة
وأمانيه العظيمة في سماء ليلة القدر هذه قائلاً: يا لكبير سعادتي، يا
لعظيم روائع ما سيتحقَّق لي ولبني الإنسان أجمع، حقّاً سأكون سعيداً جداً
إن تحقَّق أملي وطموحي في هذه الحياة بالذي سأطلبه من ربِّي في ليلة
القدر. وما هي إلاَّ أيام معدودة ويحلُّ رمضان يحملُ معه ليلة القدر فأدعو
ربِّي ليحقِّق لي هدفي ومبتغاي في حياتي.. وهكذا قرَّر السيد محمد أمين
أن يُراقب الليالي العشر الأخيرة من شهر رمضان بهمَّةٍ عالية وصدقٍ عظيم
دون أدنى كسل أو ملل حتى يشهد ما وصفوا له من ليلة القدر ويدعو ربَّه
فيحقِّق مبتغاه.. فهو أول من صدر للتحقيق العلمي العصري الحديث والتجربة
العملية الواقعية الرائدة، بهذه القضية المهمّة. ولكن أيُّ مبتغىً هذا
المبتغى!. وأي هدفٍ وطموح هذا الطموح!. إنه ليس للمال ولا للجاه.. لا
المنصب ولا البنين، ليس ممَّا في الدنيا من نعيمٍ وزينة، إنَّما هو
طلب إنساني عظيم بما يفيض به الحب السامي ويتناثر من ثنايا قلبه فيتناثر على
بني الإنسان..
ذهب السيد محمد أمين إلى صاحبه وبلهفةٍ واهتمام بالغ قال: صديقي أما سمعت عما سمعته أنا؟.
قال صديقه: خيراً يا سيد أمين.. ماذا سمعت، أخبرني؟. بدأ السيد محمد
أمين يشرح له بشوق وتأثُّر عظيم ما كان قد سمعه عن ليلة القدر وما يزعمه
الناس فيها وكيف يحقِّق الإنسان فيها أمنياته الثلاث بدعائه إلى الله حينما
يهبط من السماء السابعة إلى السماء الدنيا فتتنوَّر وتُضيء بحلوله جلَّ
جلاله فيها. ردَّ الصديق: أحقّاً ما تقول يا أمين؟. قال السيد محمد أمين: هذا
ما سمعته بأذنيَّ من الناس، ومتى حضر موعد الليالي العشر الأخيرة من
رمضان سأراقب هذه الليلة وأطلب أمنيتي من الله، إن كان ما سمعته
صحيحاً. قال الصديق: وما هي أمنيتك يا صديقي؟. قال الفتى أمين: أمنيتي.. أمنيتي
أن أرى ليلة القدر وأطلب من الله أن يجمع لي ملوك الأرض لأعرض عليهم
دين الإسلام، فإن أسلموا سينتشر دين الحق في بقاع الأرض كاملةً
فيسود الحب والأمان، فكل بني الإنسان أخوة أحباب، سعادة وسلام لا شقاء بعدها
ولا دمار، لا قتل ولا سلب ولا نهب، أما إن لم يُسلموا فسأقطع رقابهم
جميعاً.. ومن بعدها سأبحث عن طريقة ثانية لنشر الإسلام والسلام بين الناس
جميعاً. ردَّ الصديق قائلاً: مثلك سأنتظر ليلة القدر هذه لعلَّه يتحقَّق
أملي وطلبي. قال السيد محمد أمين: وما هو طلبك أنت يا صديقي؟. ردَّ الصديق
؛ وبدا كأنه يحلم بطلبه قد تحقَّق، إذ قال بصوت هادئ ممدود: سأطلب مالاً..
سأطلب بنين وأطلب عزّاً لا يميل، سأصبح ذا مال كثير وجاه واسع.. سأملُك
ملكاً كما ملك الأغنياء الأثرياء وهذه فرصتي ولن أفوِّتها.
لقد كان الفرق شاسعاً بين طلبيهما، فأين الثرى من الثريا، طلبُ السيد محمد أمين طلبٌ
إنسانيٌ عظيم يُخلِّد طالبه بجنان الخلد الأبدية ويعيش حياة السعادة دنيا وآخرة،
أما طلب صديقه فأناني دنيوي منقضٍ زائل.. مهما امتدَّ لا يمتدُّ معه
أكثر من بضع سنين ثم ينتهي بالموت والرحيل عن هذه الدنيا الفانية. وهكذا..
فقد اتفق الفتيان على مراقبة هذه الليلة وترصُّدها ليطلب كلٌّ منهما
مطلبه واتفقا أن تكون مراقبتهما جماعية حتى إذا غفل أحدهما أو أخذته غفوة
من النوم فيوقظه الثاني لكي لا تفوتهما هذه الليلة فيخسرا هذه الفرصة
الثمينة. بدأ شهر رمضان وتوالت الأيام والليالي والسيد محمد أمين وصديقه
يعدانها بفارغ الصبر وبدقَّة حتى انقضت العشرون ليلةً الأولى. ولمَّا بدأت
الليالي العشر الأخيرة وبحلول ليلة الواحد والعشرين من رمضان وقبل
الإفطار أسرع الفتى أمين وهو بغاية الحيوية والنشاط، يزداد شوقه لهذه الليالي.. ويعظم،
فلقد آن الأوان لينال عظيم طموحه ومناه. أسرع لصديقه يذكِّره قائلاً: اليوم..
اليوم ومن بعد الإفطار مباشرة نصعد معاً إلى سطح دارنا ونبدأ مراقبتنا
بدءاً من هذه الليلة. ولقد سمعت أن موعد حدوثها من بعد أذان العشاء حتى
أذان الفجر ولكن وللحيطة سنراقبها من بعد الإفطار حتى شروق ضوء الصباح. ولمَّا
حان موعد الإفطار وأذَّن المؤذن لصلاة المغرب أفطرا سوياً ثم صعدا مع
ظهور أول نجمة في السماء، لسطح البيت. كان الجو لطيفاً والسماء صافية
والسكون مخيِّماً على الأرجاء.. يحلُّ الليل رويداً رويداً فيمتزج سواده
بلون الشفق البديع في جهة الغروب فيبدي للعيان لوناً ساحراً جذَّاباً.. هناك
وعلى سطح البيت استلقى كل واحد منهما على ظهره ووجهه للسماء بجوار
بعضهما حتى يشعر أحدهما بالآخر إذا نام فيوقظه.. ومضيا يراقبان
السماء بدون أي كلام.. صمتٌ وسكون تامان.. عيونٌ مفتوحة على أشدها تحدِّق إلى
السماء الصافية حيث الليل يحلُّ شيئاً فشيئاً والنور يغادر رويداً
رويداً والسيد محمد أمين يراقب اللحظة التي يحلُّ بها الله في السماء
الدنيا وهو يحلم بانتشار الإسلام وقد حلَّ بكل بقاع الأرض، أما صديقه فكان
يحلم بالمال والبنين.
*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*الكلمة الطيبة كشجرة طيبة*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*
"هذا مذهب كلّه جد فلا تخلطوه بشيء من الهزل"
إسماعيل- مشرف
- عدد المساهمات : 2980
العمر : 53
نقاط تحت التجربة : 16464
تاريخ التسجيل : 17/04/2008
مواضيع مماثلة
» من أروع القصص الحقيقية
» أروع القصص على الاطلاق
» من أجمل القصص التي يمكن أت تقرأها
» سلسلة الطريق الى الله 2
» من روائع القصص لفضيلة الشيخ نبيل العوضي
» أروع القصص على الاطلاق
» من أجمل القصص التي يمكن أت تقرأها
» سلسلة الطريق الى الله 2
» من روائع القصص لفضيلة الشيخ نبيل العوضي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى