الـود والإخـاء بيـن الإماميـن
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
الـود والإخـاء بيـن الإماميـن
الـود والإخـاء بيـن الإماميـن:
الإمام محمد الخضر حسين والإمام محمد الطاهر بن عاشور
تمهيــــــــــــد:
ما ذُقت طعم الذلِّ لكن أعافـه كما عِفت سمًّا في فم الصِّلِّ ناقـعا
وأرتدي بالكبرِ أسحب ذيلــــه و لو جاء في أسمى الأمانيِّ طائـعا
( الإمام محمد الخضر حسين)
لم تنجب تونس علمين بارزين في القرن العشرين، قدما إنتاجا علميا فريدا وذاع صيتهما ونال من الشهرة ما لم ينله أحد دونهما إلى مرحلتنا هذه، مثل الإمامين: محمد الحضر حسين ومحمد الطاهر ابن عاشور. كانا غزيرا الإنتاج، ثاقبا النظر، لهما مدد يتواصل بعد حياتها عقود وعقود..
الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله
نالت مؤلفاتهما من الشهرة والانتشار الواسع، درجات عالية. وألف فيهما الكتب العديدة. ولكن في تقديرنا لم يخصص النظر في العلاقة بين الإمامين بدارسات مستقلة. وبمناسبة ذكرى وفاة الإمام محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر رحمه الله، نحيي ذكراه العطرة بالكتابة في العلاقة الحميمة التي كانت تربطه بالإمام العلامة محمد الطاهر بن عاشور، طيب الله ثراه
الشيخ محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله
وقد شهد الشعر على هذه العلاقة بأبلغ العبارات و أدقها نورد منها اللقطات التالية:
اللقطة الأولى:
يذكر الإمام محمد الخضر حسين بأنه حظي بصديقين لا يوجد في قلبه أعز منهما، الأول أحمد تيمور باشا الذي وجد عنده العون وروح الأنصار عندما خرج من تونس، ولذلك كانت وصيته أن يدفن قربه في مقبرة آل تيمور. والثاني هو العلامة الإمام محمد الطاهر بن عاشور الذي باعد ظلم الاستعمار بينهما:
تقاسم قلبي صاحبان وددت لو تمَلتهما عيناي طول حياتي
وعَللت النفس بالمنى فإذا النوى تعُل الحشى طعنا بغير قناة
فأحمد في مصر قضى ومحمد بتونس لا تحظى به لحظاتي
اللقطة الثانية:
وعندما سئل عن علاقته بالشيخ محمد الطاهر بن عاشور، أجاب شعرا يقتر منه ندى الود والإخاء الصافي:
أحببته ملء الفؤاد وإنمـــــا أحببت من ملأ الودادَ فؤادُه
فطفرت منه بصاحب إن يدْر مــا أشكوه جافى ما شكوت رقادُه
ودريْت منه كما درَى مني فــتى عرفَ الوفاء نجادُه ووهادُه
اللقطة الثالثة:
وفي محرم 1322هـ الموافق لـ أبريل 1904، بادر الإمام محمد الخضر حسين إلى إصدار أول مجلة عربية في تونس، وكان لشيخنا محمد الطاهر بن عاشور خير مؤازر ومشارك، وقد أرسل إليه تقريظا لطيفا ينم عن علو همة وتقدير كبير بينهما: "إلى العلامة النحرير صديقي منشئ "السعادة العظمى" أيده الله تعالى، سلام وتحية و إجلال، كما يليق بذي قلم سعى بصريره في تقويم الأمة، وتأييد شرعة الحق، وأطلع لأهل لغتنا العربية شمسا طالما حجبها دونهم سحاب مركوم، وأعقب نهارها ليل عطل سماءه أفول البدر وإدبار النجوم
اللقطة الرابعة:
وفي سنه 1331هـ سافر الإمام إلى دمشق، فجاشت قريحة الشيخ ابن عاشور شعرا رقراقا و كتب إليه:
"هذه كلمات جاشت بها النفس الآن عند إرادة الكتابة إليكم، فأبثها على علاتها، وهي وإن لم يكن لها رونق البلاغة والفصاحة فإنّ الود والإخاء والوجدان النفسي يترقرق في أعماقها
بعدتَ ونفسي في لقاك تصِــيدُ فلم يغن عنها في الحنان قصيدُ
وخلفت ما بين الجوانح غــصّة لها بين أحشاء الضلوع وقودُ
وأضحت أماني القرب منك ضئيلة ومُرّ الليالي ضعْفها سيزيد
أتذكر إذ ودعتنا صبح ليـــلة يموج بها أنس لنا وبرودُُُُُُ
وهل كان ذا رمزا لتوديع أنسِـنا وهل بعد هذا البيْن سوف يعودُ
ألم تر هذا الدهر كيف تلاعــبت أصابعه بالدرّ وهو نضيدُ
إذ ذكروا للودّ شخصا محافــظا تجلى لنا مرآك وهو بعيدُ
إذا قيل من للعلم والفكر والتقى ذكرتك إيقانا بأنك فريد
فقل لليالي جددي من نظامــنا فحسبك ما قد كان فهو شهيد
اللقطة الخامسة:
ولم يتأخر الجواب، وأتى أرقى شعرا وأدبا وبلاغة، وكأنهما في غير العالم الذي يعيشونه، فالإخاء الحق والود الذي يجمع بينهما كان من معين أشرِبَ روحانية ترفـعت بسموها عن مكبلات المادة:
أينعم لي بال و أنت بعيد وأسْلو بطيف والمنام شريد
إذا أججت ذكراك شوقي أُخضلت لعمري- بدمع المقلتين- خدود
بعدت وآماد الحياة كثــــيرة وللأمد الأسمى عليّ عهود
بعُدت بجثماني وروحي رهيـــنة لديك وللودّ الصميم قيودُ
عرفتك إذ زرت الوزير وقد حـنا عليّ بإقبال وأنت شهيد
فكان غروب الشمس فجر صداقة لها بين أحناء الضلوع خلود
لقيت الوداد الدرّ في قلب ماجـدٍ وأصدق من يصفي الوداد مجيد
ألم ترم في الإصلاح عن قوس ناقد درى كيف يرعى طارف وتليد
وقمت على الآداب تحمي قديمها مخافة أن يطغى عليه جديد
أتذكر إذ كنا نباكر معـــهدا حميّاه علم والسّقاة أُسود
أتذكر إذ كنّا قرينين عـــندما يحين صدور أو يحين ورود
فأين ليالينا وأسمارها الـــتي تبلُّ بها عند الظِّماء كُبودُ
ليال قضيناها بتونس ليتـــها تعود وجيش الغاصبين طريد
اللقطة السادسة:
وعندما قدم الشيخ الإمام محمد الخضر حسين من الشام إلى مصر سنة 1339 هجري ، متشوقا إلى تونس ومن فارقهم من الأحبة والأصدقاء، لم ينس الشيخ الإمام أن يعرج بشعره على مدينة المرسى مقر العلامة محمد الطاهر بن عاشور، شوقا له:
يا شاطئ المرسى إلام الهـجود فُكَّ القيودَ
وكن كما كنتَ لعهد الجدود غِيل الأسود
اللقطة السابعة:
وعندما وُلِّي العلامة ابن عاشور التدريس في جامع الزيتونة بتونس سنة 1323هجري، هنّأه الإمام محمد الخضر حسين شعرا أيضا ونقتطف لكم مما قاله شعرا هذه الأبيات:
مساعي الورى شتّى وكل له مرمى ومسعى ابن عاشور له الأمد الأسمى
فتى آنس الآداب أوّل نشئـــه فكانت له روحا وكان لها جـسما
وما أدب الإنسان إلاّ عــوائـدُ تخطّ له في لوح إحساسه وسْمـــا
فتى شبّ في مهد النعيم ولم تــنل زخارفه من عزمه المنتضى ثلـــما
وفي بهجة الدنيا وخضرة عيشهــا غرور لباغي المجد إن لم يُفق حزمــا
وشاد على التحقيق صرح علومــه فما استطاع أعداء النبوغ له هـضما
خاتمــة: أوصى بعدم نشر مذكراته:
هذا غيض من فيض، وإن أضأنا بعض جوانب هذه العلاقة الفريدة بين الإمامين، فهي بحاجة إلى إضاءات جديدة. وبهذه المناسبة نتوجه بشكرنا الجزيل إلى الأستاذ المحامي علي الرضا الحسيني، الذي رافق الإمام في مراحل عديدة من حياته، خاصة عندما تولي مشيخة الأزهر الشريف، وكان له الفضل الأكبر- بعد الله سبحانه وتعالى - في حفظ تراث الإمام، وإزالة الغبار عنه، وأعادة تنظيمه ونشره
وعندما سعدنا بلقائه - وكان الشوق يشدنا لسماع صفحات من حياة الإمام - ذكر لنا بأن عمه الإمام محمد الخضر حسين دوّن مذكراته ولكن أوصى بعدم نشرها، ولو نُشرت لربما أضافت الشئ الكثير لتاريخ تونس و للمنطقة عموما
مسألتان:
وعندما طلب مني العزيز على قلبي الأخ خالد (جماعي) المساهمة في إحياء ذكرى وفاة الإمام بالكتابة في أية مسألة أراها مناسبة، كان يؤرقه سؤالان لم يجد إجابة مقنعة أو وافية عنهما:
يتعلق الأول بعدم نقل جثمانه الطاهرة إلى تونس عندما خرج المستعمر رغم مساعي السلطة في بداية تشكلها، ويتعلق الثاني بالأسباب الحقيقية لاستقالة الإمام من منصب مشيخة الأزهر الشريف
و في تقديري المتواضع بأن المسألة الأولى تتعلق بوصية الإمام بأن يوارى ثراه في مقبرة آل تيمور بجانب صديقه الحميم أحمد تيمور، وما كان لأهله من بعده إلاّ أن يبقوا أوفياء لهذه الوصية. ونسأل الله تعالى أن يسكنه وصاحبيه الجنان ويمن علينا بالرضا والقبول.
أما فيما يتعلق باستقالته من مشيخة الأزهر فقد كُتب فيها من العديد من العلماء والمؤرخين والمفكرين ونجملها في هذه العجالة:
1. يقول الشيخ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي: ".. ولما لم يمكن لكل ما أراد أن يطبق أبى إلاّ الاستقالة عن منصبه معتذرا بأنه ليس من الوفاء للحق أن يملأ منصبا دون أن يملك أن يعطيه حقه"
2. ويعلل الأستاذ كمال العريف استقالة الإمام بالمرض والحاجة إلى العلاج والاستجمام
3. أما الأستاذ محمد مواعدة فيعلل ذلك بكون مشيخة الأزهر "حالت دون تلقي العلم و كتابته " ولذلك استقال
4. ولكن يذهب أبو القاسم محمد كرو إلى أن الدسائس والمنافسات التي تحيط بهذه المهمة الحساسة دوما هي التي دفعت الإمام إلى الاستقالة
5. ورأي آخر يذهب إلى أن استبعاد اللواء محمد نجيب سياسيا، والذي كان صديقا وسندا للإمام، دفعه إلى خطو هذه الخطوة وهو مبرر كاف لاستقالته
والله خيـــر الوارثيــــــن
أحمد نصيب-
- عدد المساهمات : 9959
العمر : 66
المكان : أم المدائن قفصة
المهنه : طالب علم
الهوايه : المطالعة فحسب
نقاط تحت التجربة : 24437
تاريخ التسجيل : 05/08/2007
رد: الـود والإخـاء بيـن الإماميـن
إحياء ذكرى الشيخ محمد الخضرحسين رحمه الله
بسم الله الرحمان الرحيم
الإمام الأكبر
نال الشيخ عضوية جماعة كبار العلماء برسالته القيمة "القياس في اللغة العربية" سنة (1950)، ثم لم يلبث أن وقع عليه الاختيار شيخا للجامع الأزهر في (16 سبتمبر 1952)، وكان الاختيار مفاجئًا له فلم يكن يتوقعه أو ينتظره بعدما كبر في السن وضعفت صحته، لكن مشيئة الله أبت إلاّ أن تكرم أحد المناضلين في ميادين الإصلاح، حيث اعتلى أكبر منصب ديني في العالم الإسلامي
تـولـى مـشـيـخـة الأزهـر وفـي ذهـنـه رسالة طالما تمنى قيام الأزهر بها، وتحمل هذا العبء بصبر وجد، وفي عهده أرسل وعاظ من الأزهر إلى السودان ولاسيما جنوبه، وعمل على اتصال الأزهر بالمجتمع وكان يـصـدر رأي الإسـلام في المواقـف الحاسـمـة
كتب أحمد عبد العزيز أبو عامر:
ولا أزال أذكر ما قصه علينا أستاذ أزهري كان آنذاك طالباً في أصول الدين إبان رئاسة الشيخ للأزهر، حين دعا أحد أعضاء مجلس الثورة إلى مساواة الجنسين في الميراث، ولما علم الشيخ بذلك اتصل بهم وأنذرهم إن لم يتراجعوا عن ما قيل فإنه سيلبس كفنه ويستنفر الشعب لزلزلة الحكومة لاعتدائها على حكم من أحكام الله، فكان له ما أراد
وكان في ذهن الشيخ حين ولي المنصب الكبير وسائل لبعث النهضة في مؤسسة الأزهر، وبرامج للإصلاح، لكنه لم يتمكن من ذلك، ولم تساعده صحته على مغالبة العقبات، فلم يلبث أن قدم استقالته لخلافه مع عبد الناصر بسبب إلغائه المحاكم الشرعية وإدماجها في القضاء الأهلي، وكان من رأيه أن العكس هو الصحيح، فيجب إدماج القضاء الأهلي في القضاء الشرعي؛ وكانت استقالته في (7 يناير 1954)، ويذكر له في أثناء توليه مشيخة الأزهر قولته: "إن الأزهر أمانة قي عنقي أسلمها حين أسلمها موفورة كاملة، وإذا لم يتأت أن يحصل للأزهر مزيد من الازدهار على يدي، فلا أقل من أن لا يحصل له نقص" وكان كثيرا ما يردد: "يكفيني كوب لبن وكسرة خبز وعلى الدنيا بعدها العفاء
معركة التحرير مستمرّة
إنّ تعدد مسؤوليات الشيخ وأعباءه التي تنوء بها العصبة لم تصرفة عن قضايا بلده الرازح تحت نير الاحتلال البغيض فأسس سنة 1924 "جمعية تعاون جاليات شمال إفريقيا" إلى جانب نخبة من الجزائريين والمغاربة والليبيين، وفي سنة: 1944 أسس صحبة مجموعة من أبناء المغرب العربي ما عرف بـ"جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية" التي رأسها الأمير عبد الكريم الخطابي
ولمزيد التعريف بالقضيّة التونسية في الشرق أصدر سنة 1948 كتابا يحمل عنوان: "تونس 67 عاما تحت الاحتلال الفرنساوي"، جاء فيه: "وحيث أن التونسيين قد حرموا في بلادهم من الحريات الأوّلية حريات التفكير والنشر والقول والاجتماع والتجول حتّى أن الخمس وستين سنة التي مرّت على الحماية قضى منها التونسيّون أكثر من عشرين سنة تحت الحكم العسكري العرفي والباقي تحت رقابة البوليس"
وأبرز فيه إيمانه العميق بالتعليم كرافعة لنهضة الأمم حيث أراده لكل التونسيين مسويا في ذلك بين الجنسين فعرض لحالة التعليم تحت الاحتلال مدعّما قوله بالأرقام:
"عدد البنين والبنات الذين هم في سن الدراسة من التونسيين 973700، عدد البنين والبنات الذين يزاولون الدراسة في مختلف الفصول والأقسام 71921، وبإجراء عملية بسيطة يتّضح أنّ الباقي وهو 901779 هو عدد أبنائنا وبناتنا الذين لا يجدون مدرسة يأوون إليها فهم يجوبون الشوارع ضحية الجهل يتلقون دروس الإجرام وانحطاط الأخلاق ليصبحوا بعد ذلك سوسا ينخر جسم هذا المجتمع الذي يحاربه الاستعمار بالفقر والجهل وكفى بها معاول للهدم والتحطيم..."
وكشف فيه عن تعلّقه بأسباب التقدّم والاستنارة فقال متحدّثا عما فعله الاستعمار بالشعب التونسي:
"...كما اغتصبت منه موارد الثروة وأقفلت في وجهه سبل الحضارة والرقيّ ومنعته من الاستنارة بنور العلم والمدنيّة..."
ثم واصل مبرزا إيمانه بالرأي العام الدولي الذي بدأ يتشكل غداة الحرب العالمية الثانية معتقدا في وجود منصفين وأصحاب ضمائر وإنسانيين عبر كل الأمم موجها إليهم النداء قائلا:
"إنّنا نضع هذه الحقائق أمام العالم المتمدّن عسى أن ينتبه ضميره ويشعر بمسؤوليّته خصوصا الدول التي قطعت على نفسها وعودا بذلك وقالت عن الحرب الأولى والثانية إنّها حرب الحريّة والدفاع عن حقوق الإنسان..."
مؤلّفاته
لم يخلف الشيخ رحمه الله تعالى وراءه من حطام الدنيا شيئًا، لكنه ترك ذكرى طيبة، وسيرة حسنة في ميادين السياسة والجهاد والقدوة الحسنة، وترك كنوزًا من الفكر شاهدة على عقله المبدع وجهده الدؤوب، تنوعت بتنوع اهتماماته العلميّة، بين القرآن وعلومه، و الفقه وأصوله، والحديث وعلومه، والدعوة والإصلاح والتربية، والمقاصد، واللغة، والأدب، والتاريخ والتراجم...، سلاحه في كلّ ذلك بيانه الساحر، وقلمه السيّال الذي قلّما يوجد له نظير في العصور المتأخرة، بل إنه يضارع أرباب البيان الأوائل
ومن هذه المؤلفات:
1 ـ آداب الحرب في الإسلام
2 ـ أديان العرب قبل الإسلام
3 ـ أسرار التّنزيل.
4 ـ بلاغة القرآن
5 ـ تراجم الرّجال
6 ـ تعليقات على كتاب الموافقات للشّاطبي
7ـ تونس وجامع الزّيتونة
8 ـ تونس 67 عاما تحت الاحتلال الفرنساوي 1881- 1948
9 ـ الحرّيّة في الإسلام
10 ـ حياة ابن خلدون ومثل من فلسفته الاجتماعية
11ـ "خواطر الحياة": ديوان شعر جمعه بعض محبّيه
12 ـ الخيال في الشّعر العربي
13ـ دراسات في الشّريعة الإسلاميّة
14 ـ دراسات في العربيّة وتاريخها
15 ـ دراسات في اللغة
16 ـ الدعوة إلى الإصلاح
17 ـ الرّحلات
18 ـ رسائل الإصلاح: وهي في ثلاثة أجزاء، أبرز فيها منهجه في الدعوة الإسلامية ووسائل النهوض بالعالم الإسلامي.
19 ـ الشريعة الإسلامية صالحة لكلّ زمان ومكان
20 ـ القاديانية والبهائية
21- محمّد رسول الله وخاتم النبيين
22 - نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم
23- نقض كتاب الشّعر الجاهلي
24- هدى ونور
مع عدّة بحوث ومقالات نشرت في "السّعادة العظمى" و"الأزهر" و"نور الإسلام" و" لواء الإسلام" و"الهداية الإسلامية"...
وإليك بعض ما قاله الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي رحمه الله في بيان رأيه في كتب ستة قرأها للشيخ الخضر، وهي: تونس وجامعة الزيتونة، وبلاغة القرآن، ورسائل الإصلاح، والشريعة صالحة لكل زمان ومكان، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، والخيال في الشعر الجاهلي.
قال الشيخ عبد الرزاق رحمه الله:
(( بيان عن هذه الكتب جملة في أمور مشتركة بينها:
أ - تشترك هذه الكتب الستة في قوة الأسلوب، وعلوه، مع سلاسة العبارة، ووضوحها، وسمو المعاني، ودقتها، وإصابة الهدف من قرب بلا تكلف فيها، ولا غموض، ولا حشو، ولا تكرار
ب - تشترك في الدلالة على سعة علم المؤلف، وتضلعه في العلوم العربية، والاجتماعية، والدينية، واستقصائه في بحثه، وفي نقاشه لآراء مخالفيه، وأدلتهم، واعتداله في حكمه، وفتاويه
ج - يتمثل فيها نزاهة قلم المؤلف، وحسن أدبه، ونبل أخلاقه
لكن لم يمنعه ذلك أن ينقد الملحدين، ومَنْ انحرفَ به هواه عن الجادة، والصراط المستقيم نقداً لاذعاً لا يخرج به عن الإنصاف، ولا يتجاوز حد الأدب في المناقشة؛ رعاية لحق مخالفيه، وصيانة لعلمه ولسانه عما يشينه، وسيراً مع الكتاب والسنة وآدابهما في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة؛ فلا جهل، ولا سفاهة، إنما يقابل سيئة خصمه وسبَّه بالحسنة، وغض الطرف عنها
د - ويتمثل فيها الصدع بالحق، والكفاح عنه بحسن البيان، وقوة الحجة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، لا يخشى في ذلك لَومة لائم، عماده في ذلك كتاب الله، وسنة رسوله، ودليل العقل، وشاهد الحس، والواقع مع ذكر الشواهد من اللغة، والقضايا التي جرت في العالم
وفاته رحمه الله
وبعد استقالته من مشيخة الأزهر استمر الشيخ إلى أواخر حياته يلقي المحاضرات ويمد المجلات والصحف بمقالاته ودراساته الـقـيمة، بالرغم مما اعتراه من كبر السن والحاجة إلى الراحة وهذا ليس غريباً عمن عرفنا مشوار حياته المليء بالجد والجهاد والاجتهاد
قال رحمه الله في مرضه:
أطلّ عليّ الموت من خلل الضنا * فآنست وجه الموت غير كئيب
ولو جسّ أحشائي لخلت بنانه * وإن هال أقواما بنان طبيب
فلا كان من عيش أرى فيه أمّتي * تساس بكفي غاشم وغريب
ولبى نداء ربه في مساء الأحد (13 من رجب 1377هـ الموافق لـ 3 من فبراير 1958م)، فشيَّعه العلماء وعارِفُو فضله ونضاله في مشهد مهيب ودفن بجوار صديقه أحمد تيمور باشا بوصية منه، ونعاه العلامة محمد علي النجار بقوله: "إن الشيخ اجتمع فيه من الفضائل ما لم يجتمع في غيره إلاّ في النّدْرَى، فقد كان عالما ضليعا بأحوال المجتمع ومراميه، لا يشذ عنه مقاصد الناس ومعاقد شؤونهم، حفيظا على العروبة والدين، يردّ ما يوجه إليهما وما يصدر من الأفكار منابذًا لهما، قوي الحجة، حسن الجدال، عف اللسان والقلم …".
فلا تنس أيّها القارئ الكريم شيخنا من دعواتك في سجودك، عسى أن ينفعك الله بذلك وينفعه، فقد كان حريصا على أن يعلّمنا أنّ الدعاء للميت خير من تأبينه فقال كأروع ما يقال في هذا المعنى:
تـسائلني هل في صحابك شاعرٌ * إذا مـت قـال الشعر وهو حزينُ
فـقلت لـها: لا همَّ لي بعد موتتي * سوى أن أرى أخراي كيف تكون
وما الشعر بالمغني فتيلاً عن امرئ * يـلاقي جـزاءًا والـجزاءُ مُهين
وإن أحظ بالرُّحمى فماليَ من هوىً * سـواها وأهـواء النفوسِ شجون
فَـخَلِّ فـعولنْ فـاعلاتنْ تقال في * أنـاس لـهم فـوق التراب شؤون
وإن شـئت تـأبيني فدعوةُ ساجدٍ * لـها بـين أحـناءِ الضلوع حنينُ
رحمه الله رحمة واسعة وجزاه عن الإسلام خير الجزاء
-----------------------------
مصادر البحث :
* أنور الجندي : الفكر والثقافة المعاصرة في شمال إفريقيا – الدار القومية للطباعة والنشر – القاهرة – (1385هـ= 1965م).
* علي عبد العظيم: مشيخة الأزهر منذ إنشائها حتى الآن – مطبوعات مجمع البحوث الإسلامية – القاهرة – (1399 هـ= 1979م).
* محمد رجب البيومي: النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين – دار القلم – دمشق - (1415 هـ= 1995م).
* محمد مهدي علام: المجمعيون في خمسين عاما – مطبوعات مجمع اللغة العربية – القاهرة - (1406هـ= 1986م)
* محمد علي النجار: كلمة في تأبين الشيخ محمد الخضر حسين – محاضر جلسات مجمع اللغة العربية - الجزء الحادي والعشرون.
* محمد عبد المنعم خفاجى – "الأزهر في ألف عام" – عالم الكتب – ببيروت –1988 م
* محمد عمارة – "معركة الإسلام وأصول الحكم" – دار الشروق – القاهرة – 1989م
بعض الروابط التي جمعت منها مادة الدراسة:
1- الخضر حسين: يكفيني كوب لبن وكسرة خبز- أحمد تمام
http://www.islamonline.net/Arabic/history/1422/03/article16.SHTML
2- الشيخ محمد الخضر حسين - أحمد عبد العزيز أبو عامر
http://www.islamweb.net/ver2/archive/readArt.php?id=10389
3- بعض ملامح الحسّ التحرّري لدى العلاّمة محمد الخضر بن الحسين.1876/ 1958- خالد العقبي
http://www.tunisnews.net/25jan08a.htm
4- محمد الخضر حسين..المجاهد بالقلم
http://www.ikhwanonline.com/Article.asp?ArtID=1306&SecID=456
5- الشيخ العلامة محمد الخضر حسين
http://www.toislam.net/files.asp?order=3&num=1058&per=1050&kkk
6 - الصداقة عند الشيخ محمد الخضر حسين
http://www.toislam.net/files.asp?order=3&num=1059&per=1050&kkk=
بسم الله الرحمان الرحيم
الإمام الأكبر
نال الشيخ عضوية جماعة كبار العلماء برسالته القيمة "القياس في اللغة العربية" سنة (1950)، ثم لم يلبث أن وقع عليه الاختيار شيخا للجامع الأزهر في (16 سبتمبر 1952)، وكان الاختيار مفاجئًا له فلم يكن يتوقعه أو ينتظره بعدما كبر في السن وضعفت صحته، لكن مشيئة الله أبت إلاّ أن تكرم أحد المناضلين في ميادين الإصلاح، حيث اعتلى أكبر منصب ديني في العالم الإسلامي
تـولـى مـشـيـخـة الأزهـر وفـي ذهـنـه رسالة طالما تمنى قيام الأزهر بها، وتحمل هذا العبء بصبر وجد، وفي عهده أرسل وعاظ من الأزهر إلى السودان ولاسيما جنوبه، وعمل على اتصال الأزهر بالمجتمع وكان يـصـدر رأي الإسـلام في المواقـف الحاسـمـة
كتب أحمد عبد العزيز أبو عامر:
ولا أزال أذكر ما قصه علينا أستاذ أزهري كان آنذاك طالباً في أصول الدين إبان رئاسة الشيخ للأزهر، حين دعا أحد أعضاء مجلس الثورة إلى مساواة الجنسين في الميراث، ولما علم الشيخ بذلك اتصل بهم وأنذرهم إن لم يتراجعوا عن ما قيل فإنه سيلبس كفنه ويستنفر الشعب لزلزلة الحكومة لاعتدائها على حكم من أحكام الله، فكان له ما أراد
وكان في ذهن الشيخ حين ولي المنصب الكبير وسائل لبعث النهضة في مؤسسة الأزهر، وبرامج للإصلاح، لكنه لم يتمكن من ذلك، ولم تساعده صحته على مغالبة العقبات، فلم يلبث أن قدم استقالته لخلافه مع عبد الناصر بسبب إلغائه المحاكم الشرعية وإدماجها في القضاء الأهلي، وكان من رأيه أن العكس هو الصحيح، فيجب إدماج القضاء الأهلي في القضاء الشرعي؛ وكانت استقالته في (7 يناير 1954)، ويذكر له في أثناء توليه مشيخة الأزهر قولته: "إن الأزهر أمانة قي عنقي أسلمها حين أسلمها موفورة كاملة، وإذا لم يتأت أن يحصل للأزهر مزيد من الازدهار على يدي، فلا أقل من أن لا يحصل له نقص" وكان كثيرا ما يردد: "يكفيني كوب لبن وكسرة خبز وعلى الدنيا بعدها العفاء
معركة التحرير مستمرّة
إنّ تعدد مسؤوليات الشيخ وأعباءه التي تنوء بها العصبة لم تصرفة عن قضايا بلده الرازح تحت نير الاحتلال البغيض فأسس سنة 1924 "جمعية تعاون جاليات شمال إفريقيا" إلى جانب نخبة من الجزائريين والمغاربة والليبيين، وفي سنة: 1944 أسس صحبة مجموعة من أبناء المغرب العربي ما عرف بـ"جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية" التي رأسها الأمير عبد الكريم الخطابي
ولمزيد التعريف بالقضيّة التونسية في الشرق أصدر سنة 1948 كتابا يحمل عنوان: "تونس 67 عاما تحت الاحتلال الفرنساوي"، جاء فيه: "وحيث أن التونسيين قد حرموا في بلادهم من الحريات الأوّلية حريات التفكير والنشر والقول والاجتماع والتجول حتّى أن الخمس وستين سنة التي مرّت على الحماية قضى منها التونسيّون أكثر من عشرين سنة تحت الحكم العسكري العرفي والباقي تحت رقابة البوليس"
وأبرز فيه إيمانه العميق بالتعليم كرافعة لنهضة الأمم حيث أراده لكل التونسيين مسويا في ذلك بين الجنسين فعرض لحالة التعليم تحت الاحتلال مدعّما قوله بالأرقام:
"عدد البنين والبنات الذين هم في سن الدراسة من التونسيين 973700، عدد البنين والبنات الذين يزاولون الدراسة في مختلف الفصول والأقسام 71921، وبإجراء عملية بسيطة يتّضح أنّ الباقي وهو 901779 هو عدد أبنائنا وبناتنا الذين لا يجدون مدرسة يأوون إليها فهم يجوبون الشوارع ضحية الجهل يتلقون دروس الإجرام وانحطاط الأخلاق ليصبحوا بعد ذلك سوسا ينخر جسم هذا المجتمع الذي يحاربه الاستعمار بالفقر والجهل وكفى بها معاول للهدم والتحطيم..."
وكشف فيه عن تعلّقه بأسباب التقدّم والاستنارة فقال متحدّثا عما فعله الاستعمار بالشعب التونسي:
"...كما اغتصبت منه موارد الثروة وأقفلت في وجهه سبل الحضارة والرقيّ ومنعته من الاستنارة بنور العلم والمدنيّة..."
ثم واصل مبرزا إيمانه بالرأي العام الدولي الذي بدأ يتشكل غداة الحرب العالمية الثانية معتقدا في وجود منصفين وأصحاب ضمائر وإنسانيين عبر كل الأمم موجها إليهم النداء قائلا:
"إنّنا نضع هذه الحقائق أمام العالم المتمدّن عسى أن ينتبه ضميره ويشعر بمسؤوليّته خصوصا الدول التي قطعت على نفسها وعودا بذلك وقالت عن الحرب الأولى والثانية إنّها حرب الحريّة والدفاع عن حقوق الإنسان..."
مؤلّفاته
لم يخلف الشيخ رحمه الله تعالى وراءه من حطام الدنيا شيئًا، لكنه ترك ذكرى طيبة، وسيرة حسنة في ميادين السياسة والجهاد والقدوة الحسنة، وترك كنوزًا من الفكر شاهدة على عقله المبدع وجهده الدؤوب، تنوعت بتنوع اهتماماته العلميّة، بين القرآن وعلومه، و الفقه وأصوله، والحديث وعلومه، والدعوة والإصلاح والتربية، والمقاصد، واللغة، والأدب، والتاريخ والتراجم...، سلاحه في كلّ ذلك بيانه الساحر، وقلمه السيّال الذي قلّما يوجد له نظير في العصور المتأخرة، بل إنه يضارع أرباب البيان الأوائل
ومن هذه المؤلفات:
1 ـ آداب الحرب في الإسلام
2 ـ أديان العرب قبل الإسلام
3 ـ أسرار التّنزيل.
4 ـ بلاغة القرآن
5 ـ تراجم الرّجال
6 ـ تعليقات على كتاب الموافقات للشّاطبي
7ـ تونس وجامع الزّيتونة
8 ـ تونس 67 عاما تحت الاحتلال الفرنساوي 1881- 1948
9 ـ الحرّيّة في الإسلام
10 ـ حياة ابن خلدون ومثل من فلسفته الاجتماعية
11ـ "خواطر الحياة": ديوان شعر جمعه بعض محبّيه
12 ـ الخيال في الشّعر العربي
13ـ دراسات في الشّريعة الإسلاميّة
14 ـ دراسات في العربيّة وتاريخها
15 ـ دراسات في اللغة
16 ـ الدعوة إلى الإصلاح
17 ـ الرّحلات
18 ـ رسائل الإصلاح: وهي في ثلاثة أجزاء، أبرز فيها منهجه في الدعوة الإسلامية ووسائل النهوض بالعالم الإسلامي.
19 ـ الشريعة الإسلامية صالحة لكلّ زمان ومكان
20 ـ القاديانية والبهائية
21- محمّد رسول الله وخاتم النبيين
22 - نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم
23- نقض كتاب الشّعر الجاهلي
24- هدى ونور
مع عدّة بحوث ومقالات نشرت في "السّعادة العظمى" و"الأزهر" و"نور الإسلام" و" لواء الإسلام" و"الهداية الإسلامية"...
وإليك بعض ما قاله الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي رحمه الله في بيان رأيه في كتب ستة قرأها للشيخ الخضر، وهي: تونس وجامعة الزيتونة، وبلاغة القرآن، ورسائل الإصلاح، والشريعة صالحة لكل زمان ومكان، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، والخيال في الشعر الجاهلي.
قال الشيخ عبد الرزاق رحمه الله:
(( بيان عن هذه الكتب جملة في أمور مشتركة بينها:
أ - تشترك هذه الكتب الستة في قوة الأسلوب، وعلوه، مع سلاسة العبارة، ووضوحها، وسمو المعاني، ودقتها، وإصابة الهدف من قرب بلا تكلف فيها، ولا غموض، ولا حشو، ولا تكرار
ب - تشترك في الدلالة على سعة علم المؤلف، وتضلعه في العلوم العربية، والاجتماعية، والدينية، واستقصائه في بحثه، وفي نقاشه لآراء مخالفيه، وأدلتهم، واعتداله في حكمه، وفتاويه
ج - يتمثل فيها نزاهة قلم المؤلف، وحسن أدبه، ونبل أخلاقه
لكن لم يمنعه ذلك أن ينقد الملحدين، ومَنْ انحرفَ به هواه عن الجادة، والصراط المستقيم نقداً لاذعاً لا يخرج به عن الإنصاف، ولا يتجاوز حد الأدب في المناقشة؛ رعاية لحق مخالفيه، وصيانة لعلمه ولسانه عما يشينه، وسيراً مع الكتاب والسنة وآدابهما في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة؛ فلا جهل، ولا سفاهة، إنما يقابل سيئة خصمه وسبَّه بالحسنة، وغض الطرف عنها
د - ويتمثل فيها الصدع بالحق، والكفاح عنه بحسن البيان، وقوة الحجة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، لا يخشى في ذلك لَومة لائم، عماده في ذلك كتاب الله، وسنة رسوله، ودليل العقل، وشاهد الحس، والواقع مع ذكر الشواهد من اللغة، والقضايا التي جرت في العالم
وفاته رحمه الله
وبعد استقالته من مشيخة الأزهر استمر الشيخ إلى أواخر حياته يلقي المحاضرات ويمد المجلات والصحف بمقالاته ودراساته الـقـيمة، بالرغم مما اعتراه من كبر السن والحاجة إلى الراحة وهذا ليس غريباً عمن عرفنا مشوار حياته المليء بالجد والجهاد والاجتهاد
قال رحمه الله في مرضه:
أطلّ عليّ الموت من خلل الضنا * فآنست وجه الموت غير كئيب
ولو جسّ أحشائي لخلت بنانه * وإن هال أقواما بنان طبيب
فلا كان من عيش أرى فيه أمّتي * تساس بكفي غاشم وغريب
ولبى نداء ربه في مساء الأحد (13 من رجب 1377هـ الموافق لـ 3 من فبراير 1958م)، فشيَّعه العلماء وعارِفُو فضله ونضاله في مشهد مهيب ودفن بجوار صديقه أحمد تيمور باشا بوصية منه، ونعاه العلامة محمد علي النجار بقوله: "إن الشيخ اجتمع فيه من الفضائل ما لم يجتمع في غيره إلاّ في النّدْرَى، فقد كان عالما ضليعا بأحوال المجتمع ومراميه، لا يشذ عنه مقاصد الناس ومعاقد شؤونهم، حفيظا على العروبة والدين، يردّ ما يوجه إليهما وما يصدر من الأفكار منابذًا لهما، قوي الحجة، حسن الجدال، عف اللسان والقلم …".
فلا تنس أيّها القارئ الكريم شيخنا من دعواتك في سجودك، عسى أن ينفعك الله بذلك وينفعه، فقد كان حريصا على أن يعلّمنا أنّ الدعاء للميت خير من تأبينه فقال كأروع ما يقال في هذا المعنى:
تـسائلني هل في صحابك شاعرٌ * إذا مـت قـال الشعر وهو حزينُ
فـقلت لـها: لا همَّ لي بعد موتتي * سوى أن أرى أخراي كيف تكون
وما الشعر بالمغني فتيلاً عن امرئ * يـلاقي جـزاءًا والـجزاءُ مُهين
وإن أحظ بالرُّحمى فماليَ من هوىً * سـواها وأهـواء النفوسِ شجون
فَـخَلِّ فـعولنْ فـاعلاتنْ تقال في * أنـاس لـهم فـوق التراب شؤون
وإن شـئت تـأبيني فدعوةُ ساجدٍ * لـها بـين أحـناءِ الضلوع حنينُ
رحمه الله رحمة واسعة وجزاه عن الإسلام خير الجزاء
-----------------------------
مصادر البحث :
* أنور الجندي : الفكر والثقافة المعاصرة في شمال إفريقيا – الدار القومية للطباعة والنشر – القاهرة – (1385هـ= 1965م).
* علي عبد العظيم: مشيخة الأزهر منذ إنشائها حتى الآن – مطبوعات مجمع البحوث الإسلامية – القاهرة – (1399 هـ= 1979م).
* محمد رجب البيومي: النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين – دار القلم – دمشق - (1415 هـ= 1995م).
* محمد مهدي علام: المجمعيون في خمسين عاما – مطبوعات مجمع اللغة العربية – القاهرة - (1406هـ= 1986م)
* محمد علي النجار: كلمة في تأبين الشيخ محمد الخضر حسين – محاضر جلسات مجمع اللغة العربية - الجزء الحادي والعشرون.
* محمد عبد المنعم خفاجى – "الأزهر في ألف عام" – عالم الكتب – ببيروت –1988 م
* محمد عمارة – "معركة الإسلام وأصول الحكم" – دار الشروق – القاهرة – 1989م
بعض الروابط التي جمعت منها مادة الدراسة:
1- الخضر حسين: يكفيني كوب لبن وكسرة خبز- أحمد تمام
http://www.islamonline.net/Arabic/history/1422/03/article16.SHTML
2- الشيخ محمد الخضر حسين - أحمد عبد العزيز أبو عامر
http://www.islamweb.net/ver2/archive/readArt.php?id=10389
3- بعض ملامح الحسّ التحرّري لدى العلاّمة محمد الخضر بن الحسين.1876/ 1958- خالد العقبي
http://www.tunisnews.net/25jan08a.htm
4- محمد الخضر حسين..المجاهد بالقلم
http://www.ikhwanonline.com/Article.asp?ArtID=1306&SecID=456
5- الشيخ العلامة محمد الخضر حسين
http://www.toislam.net/files.asp?order=3&num=1058&per=1050&kkk
6 - الصداقة عند الشيخ محمد الخضر حسين
http://www.toislam.net/files.asp?order=3&num=1059&per=1050&kkk=
أحمد نصيب-
- عدد المساهمات : 9959
العمر : 66
المكان : أم المدائن قفصة
المهنه : طالب علم
الهوايه : المطالعة فحسب
نقاط تحت التجربة : 24437
تاريخ التسجيل : 05/08/2007
رد: الـود والإخـاء بيـن الإماميـن
بسم الله الرحمان الرحيم
إحيـاء ذكـرى الشيخ العلامـة محمد الخضـر حسيـن رحمـه اللـه تعالـى
"بحٌر(من العلم) لا ساحل له"
كان إماماً من أئمة العربية في العصور المتأخرة، وفذاً من أفذاذ علماء الإسلام كما قال عنه العلامة محمد الطاهر بن عاشور - رحمهما الله
المولد والنشأة العلميّة
وُلد "محمد الخضر الحسين" في مدينة نفطة بجنوبي تونس في(26 رجب 1293هـ= 16 أغسطس 1876م)، ونشأ في أسرة كريمة تعتز بعراقة النسب وكرم الأصل
حفظ القرآن الكريم، وتعلم مبادىء القراءة والكتابة، وألمّ بشيء من الأدب والعلوم العربية والشرعية. وقد ذكر أن والدته قد لقنته مع إخوانه (الكفراوي) في النحو و(السفطي) في الفقه المالكي
انتقل وهو في الثانية عشرة من عمره سنة (1888) إلى تونس العاصمة، والتحق بعد عامين بجامع الزيتونة، أرقى المعاهد الدينية وأعظمها شأناً في المغرب، حيث تُقرأ علوم الدين من تفسير، وحديث، وفقه، ونحو، وصرف
كان من أبرز شيوخه الذين اتصل بهم وتتلمذ لهم: عمر بن الشيخ، ومحمد النجار وكانا يدرّسان تفسير القرآن الكريم، والشيخ سالم بوحاجب وكان يدرس صحيح البخاري، وقد تأثر به الخضر الحسين وبطريقته في التدريس
وفي الزيتونة تقدم الطالب النابغة في تحصيل العلم، وظهرت أمارات نبوغه في العلوم العربية والشرعية
تخرَّج سنة (1903) حاصلاً على الشهادة العالمية في العلوم الدينية والعربية، وأصبح بذلك من علماء الزيتونة
جهاده وجهوده العلمية
ليس من السهل الفصل بين جهود الشيخ العلاّمة رحمه الله في الدعوة والإصلاح، وجهاده لتحرير وطنه ورفعة أمته مواجها مؤامرات قوى الاحتلال من وجه، وعاملا على إحياء قيم الحرية والتحرر في النفوس من وجه آخر فـ"إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ"
في تونس
في العام الذي تخرَّج فيه أنشأ الشيخ مجلة "السعادة العظمى" و هي أوّل مجلّة تصدر بتونس باللغة العربية؛ لتَنْشر محاسن الإسلام، وتفضح أساليب الاحتلال الذي حاول أن يطمس نور الشريعة عن عيون المسلمين، ولم يدخر جهدا لتشويه اللغة العربية، ورميِها بالجمود والتخلُّف؛ لينصرف الناس عن قرآنهم المجيد وأحاديث نبيِّهم الكريم صلى الله عليه وسلم
وقد لقيت "السعادة العظمى" صدى واسعا في مختلف الأوساط ، وكان من أبرز من شجعه و نوه بمشروعه الشيخ سالم بوحاجب ، وكان أستاذه محمد النجار من بين المحررين بالمجلة، وكان من بين محرريها أيضا الشيخ العلامة محمد الطاهر بن عاشور والشيخ محمد النخلي وهؤلاء يعتبرون من رواد حركة الإصلاح والاجتهاد في تونس
إلى جانب التدريس والخطابة بالجامع الكبير بمدينة "بنزرت" تولَّى قضاءها في سنة (1905)، غير أنه ما لبث أن ترك وظيفة القضاء المرموقه سنة (1908) لأن ميدان القضاء حال بينه وبين الدّعوة إلى الإصلاح والجهاد
عاد إلى تونس العاصمة، وعمل مدرسًا بالمدرسة الصادقية، وهي المدرسه الثانوية الوحيدة بتونس يومئذ، وفي العام التالي تطوع للتدريس بجامع الزيتونة، ثم أُحيلت إليه مهمة تنظيم خزائن الكتب الخاصة بهذه الجامعة العريقة، وتمَّ تعيينه رسميًا مدرسًا بها
وكان في أثناء ذلك يقوم بالخطابة في المنتديات الثقافية، داعيًا إلى إحياء قيَم الحرية والتحرُّر، وبثِّ الروح الإسلامية في النفوس، والعناية بالنشء وتعليمه
لما قامت الحرب الإيطالية الطرابلسية سنة (1911)، وزحفت الجيوش الغازية، واحتلت طرابلس وبني غازي وقف الخضر بقلمه ولسانه في مجلته "السعادة العظمى" يستنفر الأمة، ويستنهض الدولة العثمانية؛ لاستخلاص الحق من مغتصبيه، وأشعلت مقالات الشيخ الحماس في النفوس، ونبَّهت الغافلين من الأمة، وشعر المستعمر الفرنسي بخطورة ما يقوم به الشيخ المجاهد، فاتَّهمه ببثِّ روح العداء للغرب، وبدأ يضيّق عليه، ممّا دفع به إلى طلب حياته الفكرية والعملية في خارج تونس ، خصوصاً وأنه من أنصار (الجامعة الإسلامية) الذين يؤمنون بخدمة الإسلام خدمة لا تضيق بها حدود الأوطان
كالغيث أينما حلّ نفع
قـام الشيخ بـعـدة سـفـرات متوالية بادئاً بالجزائر عام (1909) لإلقاء المحاضرات والدروس فلقي ترحيباً من علمائها ، وكانت هذه الرحلة بداية جديدة شرع بعدها في إعداد نفسه وأفكاره الإصلاحية
بين الشام والآستانة
وفي عام (1911) لمّا وجهت إليه تهمة بث العداء للغرب ، ولاسيما فرنسا يمم الشيخ وجهه صوب الشرق ، وزار كثيراً من بلدانه ، وزار خاله في الآستانة ولعل هذه الرحلة لاكتشاف أي محل منها يلقي فيه عصا الترحال
في الآستانة لـقـي وزيـر الحربية (أنور باشا) فاختاره محررًا عربيًا بالوزارة فعرف دخيلة الدولة، فأصيب بخيبة أمل للواقع المؤلم الذي لمسه ورآه رؤيا العين، فنجد روحه الكبيرة تتمزق وهي ترى دولة الخلافة تحتضر وقال في قصيدة (بكاء على مجد ضائع
أدمـى فـؤادي أن أرى الـ * أقـلام تـرسـف في قـيـود
وأرى سيــاسـة أمتي * في قبضة الخصم العـنـيد
ثم بعثه إلى برلين في مهمة رسمية، فقضى بها تسعة أشهر، أتقن فيها اللغة الألمانية والتقى هناك بزعماء الحركات الإسلامية من أمثال: عبد العزيز جاويش، وعبد الحميد سعيد، وأحمد فؤاد. وقد نقل لنا من رحلته هذه نماذج طيبة مما يحسن اقتباسه ، لما فيه من الحث على العلم والجد والسمو نجدها مفرقة في كتبه: (الهداية الإسلامية) و(دراسات في الشريعة الإسلامية)
عاد إلى العاصمة العثمانية، واستقر بها فترة قصيرة لم ترقه الحياة فيها، فعاد إلى دمشق
وفي أثناء إقامته تعرَّض لنقمة الطاغية "أحمد جمال باشا" حاكم الشام، فاعتقل سنة
(1915)، وحوكم أمام مجلس عسكري بالإعدام ولكن وقعت تبرئته وإطلاقه بعد أن لبث في السجن سنة وأربعة أشهر، وبعد الإفراج عنه عاد إلى إستانبول، وما كاد يستقر بها حتى أوفده أنور باشا مرة أخرى إلى ألمانيا سنة (1916
ثم عاد إلى إستانبول، ومنها إلى دمشق ، وتولى التدريس بثلاثة معاهد هي : (المدرسة السلطانية - المدرسة العسكرية - المدرسة العثمانية
وعن هذه المرحلة حدّث تلميذه علاّمة الشّام الشّيخ محمّد بهجة البيطار رحمه الله تعالى فقال
(( أستاذنا الجليل الشّيخ محمّد الخضر حسين، عَلَمٌ من أعلام الإسلام هاجر إلى دمشق في عهد علامتي الشّام المرحومين: جدّي عبد الرّزّاق البيطار، وأستاذي الشّيخ جمال الدّين القاسمي فاغتبطا بلقائه، واغتبط بلقائهما، وكنّا نلقاه، ونزوره معهما ونحضر مجالسه عندهما، فَأُحْكِمَتْ بيننا روابط الصّحبة والألفة والودّ من ذلك العهد
ولمّا توفّي شيخنا القاسمي تغمّده المولى برضوانه أوائل سنة 1332 هـ لم نجد نحن معشر تلاميذه مَنْ نقرأ عليه أحبّ إلينا ولا آثر عندنا من الأستاذ الخضر لما هو متّصف به من الرّسوخ في العلم، والتّواضع في الخلق، واللّطف في الحديث، والرّقّة في الطّبع، والإخلاص في المحبّة، والبرّ بالإخوان والإحسان إلى النّاس، فكان مصداق قول الشّاعر
كأنّك من كل الطّباع مركبٌ * فأنت إلى كلِّ النفوس محبَّبُ
وأخذنا من ذلك الحين نقتطف ثمار العلوم والآداب من تلكم الرّوضة الأُنُف، ونرتشف كؤوس الأخلاق من سلسبيل الهدى والتّقوى، ولم يكن طلاّب المدارس العالية في دمشق بأقلّ رغبة في دروسه، وإجلالا لمقامه، وإعجاباً بأخلاقه من إخوانهم طلاّب العلوم الشّرعيّة، بل كانوا كلّهم مغتبطين في هذه المحبّة والصّحبة، مجتمعين حول هذا البدر المنير
وقد قرأنا عليه في المعقول والمنقول، والفروع والأصول، طائفة من أفضل ما صنف في موضوعه، وهي لعمر الحقّ دالة على حسن اختياره، وسلامة ذوقه، وقوّة علمه، وشدّة حرصه على النّهوض بطلاّبه، وإعدادهم للنّهوض بأمّته
وقد كنت نظمت أبياتاً جمعت فيها بين ذكر هذه الكتب، ووصف دروس الأستاذ، وجعلتها ذكرى لنفسي ولمن شاركوني في الطّلب والتّحصيل، عند أستاذنا الجليل، فقلت
يـا سائلي عَنْ درسِ * بِّالفضْل مولانا الإمام
ابـن الـحسين التونسيِّ * مـحمدالـخضر الهمام
سَلْ عنهُ مُسْتصفى الأصـ* ول لليث معترك الزحام
أعـني الـغزالي الحكيـ * م رئـيس أعـلام الكلام
وكـذاك فـي فن الخلا * فبـداية الـعالي المقام
أعـني ابن رشد من غدا * بـطل الـفلاسفة العظام
وكـذا صحيح أبي حسيـ * ن مـسلم حَـبْر الأنـام
وكـذلك الـمغني إلـى * شـيخ النحاة ابن الهشام
وكـذا كـتاب أبي يزيـ * د ابـن المبرّد في الختام
تـلك الدروسكما الشمو * س تـنير أفلاك الظلام
يـدني إلـيك بـها حقا * ئـق كـل علم بانسجام
فـتكون مـنك دقائق الـ* معنى على طرف الثمام
فـالحقعـوضنا بـه * مـن شـيخنا شيخ الشآم
فـعـليه مـا ذرّ الـغزا * لـة رحمة الملك السلام
أبقى الله - تعالى - أستاذنا الخضر الجليل للدين والعلم والأدب ركناً ركيناً، وحصناً حصيناً.)).. انتهى
إلى القاهرة
كانت السلطات الفرنسية بتونس قد صادرت أملاكه في 20 جوان 1917م، وحكمت عليه بالإعدام بتهمة التحريض على مقاومة فرنسا أثناء رحلتيه إلى ألمانيا .. ووجد الشيخ نفسه عرضة من جديد لملاحقة السلطات الفرنسية في سوريا عقب معركة ميسلون سنة (1920)، فلجأ إلى مصر
نزل محمد الخضر الحسين القاهرة سنة (1920)، واشتغل بالبحث وكتابة المقالات، ثم عمل محررًا بالقسم الأدبي بدار الكتب المصرية، واتصل بأعلام النهضة الإسلامية في مصر، وتوثَّقت صلته بزعماء الفكر الإسلامي من أمثال "أحمد تيمور" و"محب الدين الخطيب" و"عبد الوهاب النجَّار" و"محمد رشيد رضا"، الذين عرفوا قدر الرجل ومنزلته العلمية، وفي أثناء ذلك حصل على الجنسية المصرية ، وتقدَّم لامتحان شهادة العالمية بالأزهر، وعقدت له لجنة الامتحان برئاسة العلامة عبد المجيد اللبان مع نخبة من علماء الأزهر الأفذاذ، وأبدى الطالب الشيخ من رسوخ القدم ما أدهش الممتحنين، وكانت اللجنة كلما تعمَّقت في الأسئلة وجدت من الطالب عمقًا في الإجابة وغزارة في العلم، وقوة في الحجة ، وبلغ من إعجاب رئيس اللجنة بالطالب العالم أن قال: "هذا بحٌر لا ساحل له، فكيف نقف معه في حِجاج
منحته اللجنة شهادة العالمية الأزهرية، وبها أصبح من كبار الأساتذة في كلية (أصول الدين والتخصص) لاثنتي عشرة سنة
معاركه الفكرية
وفي هذه المرحلة من حياة الشيخ امتحنت الحياة الفكرية بفتنة ضارية أثارها كتابا: "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق و"في الشعر الجاهلي" لطه حسين، وكان الشيخ محمد الخضر حسين واحدًا ممن خاضوا هذه المعركة بالحجة القوية والاستدلال الواضح والعلم الغزير
أما الكتاب الأول فقد ظهر في سنة (1926) وأثار ضجة كبيرة وانبرت الأقلام بين هجوم عليه ودفاع عنه، وقد صدم الكتاب الرأي العام المسلم حين زعم أن الإسلام ليس دين حكم، وأنكر وجوب قيام الخلافة الإسلامية، ونفى وجود دليل عليها من الكتاب والسنة، وكانت الصدمة الثانية أن يكون مؤلف هذا الكتاب عالمًا من علماء الأزهر
وقد نهض الشيخ محمد الخضر حسين لتفنيد دعاوى الكتاب فأصدر كتابه: "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم" سنة (1926) تتبع فيه أبواب كتاب علي عبد الرازق، فكان يبدأ بتلخيص الباب، ثم يورد الفقرة التي تعبّر عن الفكرة موضوع النقد فيفندها، ونقد استخدام المؤلف للمصادر، وكشف أنه يقتطع الجمل من سياقها، فتؤدي المعنى الذي يقصده هو لا المعنى الذي يريده المؤلف
وقد كشف الخضر الحسين في هذا الكتاب عن علم غزير وإحاطة متمكنة بأصول الفقه وقواعد الحجاج وبصيرة نافذة بالتشريع الإسلامي، ومعرفة واسعة بالتاريخ الإسلامي ورجاله وحوادثه
وأمَّا الكتاب الآخر فقد ظهر سنة (1927)، وأحدث ضجة هائلة، حيث جاهر مؤلفه الدكتور طه حسين بالاحتقار والتشكيك في كل قديم دُوِّن في صحف الأدب، وزعم أن كل ما يُعد شعرًا جاهليًا إنما هو مختلق ومنحول، ولم يكتف بهذه الفرية فجاهر بالهجوم على المقدسات الدينية حيث قال: "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل وللقرآن أن يحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، ولكن هذا لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي…"، وقد انبرت أقلام غيورة لتفنيد ما جاء في كتاب الشعر الجاهلي من أمثال الرافعي، والغمراوي، ومحمد فريد وجدي، وألَّف الشيخ محمد الخضر حسين كتابا شافيا في الرد على طه حسين وكتابه بعنوان: "نقض كتاب في الشعر الجاهلي" فنَّد ما جاء فيه، وأقام الأدلة على أصالة الشعر الجاهلي وكشف عن مجافاة طه حسين للحق، لم يكن الشيخ في ردّه متطفلا أو متهافتا ولكنه ردّ من موقع العالم العارف المتضلّع في اللغة و الآداب العربيّة فضلا عن تمتعه بملكة الشعر حفظا و إنتاجا
جهوده الإصلاحية في القاهرة
- سنة (1928) اشترك الشيخ مع جماعة من الغيورين على الإسلام منهم: أحمد تيمور , وعبد العزيز جاويش , ومحمد أحمد الغمراوي , وعبد الوهاب النجار , وحسن البنا، وصالح حرب .. وغيرهم في إنشاء جمعية الشبان المسلمين، ووضع لائحتها الأولى مع صديقه محب الدين الخطيب، وأسندت رئاستها للدكتور عبد الحميد سعيد، وقامت الجمعية بنشر مبادئ الإسلام والدفاع عن قيمه الخالصة، ومحاربة الإلحاد العلمي، فكانت منارة إصلاح ورسالة توجيه وإرشاد
- وفي السنة نفسها أنشأ "جمعية الهداية الإسلامية" وكان نشاطها علميا أكثر منه اجتماعيا، وضمَّت عددا من شيوخ الأزهر وشبابه وطائفة من المثقفين، وكوَّن بها مكتبة كبيرة كانت مكتبته الخاصة نواة لها، وكان هدف الجمعية القيام بما يرشد إليه الدين الحنيف من علم نافع وأدب رفيع مع السعي للتعارف بين المسلمين ونشر حقائق الإسـلام ومـقـاومـة مـفـتـريات خصومه، وصدر عنها مجلة باسمها هي لسان حالها، كانت بستانا للروائع من التفسير والتشريع واللغة والتاريخ
- تولى رئاسة تحرير مجلة نور الإسلام – الأزهر الآن – التي أصدرها الأزهر في (1931)، ودامت رئاسته لها ثلاثة أعوام
- تولى رئاسة تحرير مجلة لواء الإسلام سنة (1946)، وتحمل إلى هذه الأعباء التدريس بكلية أصول الدين، فالتف حوله الطلاب، وأفادوا من علمه الغزير وثقافته الواسعة
- عندما أنشئ مجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة (1932) كان من الرعيل الأول الذين اختيروا لعضويته ضمن عشرين عالمًا وأديبًا من كبار رجال العلم في مصر والعالم العربي وأوروبا ، كما اختير عضوا بالمجمع العلمي العربي بدمشق، وأثرى مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة ببحوثه القيمة عن صحة الاستشهاد بالحديث النبوي، والمجاز والنقل وأثرهما في حياة اللغة العربية، وطرق وضع المصطلحات الطبية وتوحيدها في البلاد العربية
إحيـاء ذكـرى الشيخ العلامـة محمد الخضـر حسيـن رحمـه اللـه تعالـى
"بحٌر(من العلم) لا ساحل له"
كان إماماً من أئمة العربية في العصور المتأخرة، وفذاً من أفذاذ علماء الإسلام كما قال عنه العلامة محمد الطاهر بن عاشور - رحمهما الله
المولد والنشأة العلميّة
وُلد "محمد الخضر الحسين" في مدينة نفطة بجنوبي تونس في(26 رجب 1293هـ= 16 أغسطس 1876م)، ونشأ في أسرة كريمة تعتز بعراقة النسب وكرم الأصل
حفظ القرآن الكريم، وتعلم مبادىء القراءة والكتابة، وألمّ بشيء من الأدب والعلوم العربية والشرعية. وقد ذكر أن والدته قد لقنته مع إخوانه (الكفراوي) في النحو و(السفطي) في الفقه المالكي
انتقل وهو في الثانية عشرة من عمره سنة (1888) إلى تونس العاصمة، والتحق بعد عامين بجامع الزيتونة، أرقى المعاهد الدينية وأعظمها شأناً في المغرب، حيث تُقرأ علوم الدين من تفسير، وحديث، وفقه، ونحو، وصرف
كان من أبرز شيوخه الذين اتصل بهم وتتلمذ لهم: عمر بن الشيخ، ومحمد النجار وكانا يدرّسان تفسير القرآن الكريم، والشيخ سالم بوحاجب وكان يدرس صحيح البخاري، وقد تأثر به الخضر الحسين وبطريقته في التدريس
وفي الزيتونة تقدم الطالب النابغة في تحصيل العلم، وظهرت أمارات نبوغه في العلوم العربية والشرعية
تخرَّج سنة (1903) حاصلاً على الشهادة العالمية في العلوم الدينية والعربية، وأصبح بذلك من علماء الزيتونة
جهاده وجهوده العلمية
ليس من السهل الفصل بين جهود الشيخ العلاّمة رحمه الله في الدعوة والإصلاح، وجهاده لتحرير وطنه ورفعة أمته مواجها مؤامرات قوى الاحتلال من وجه، وعاملا على إحياء قيم الحرية والتحرر في النفوس من وجه آخر فـ"إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ"
في تونس
في العام الذي تخرَّج فيه أنشأ الشيخ مجلة "السعادة العظمى" و هي أوّل مجلّة تصدر بتونس باللغة العربية؛ لتَنْشر محاسن الإسلام، وتفضح أساليب الاحتلال الذي حاول أن يطمس نور الشريعة عن عيون المسلمين، ولم يدخر جهدا لتشويه اللغة العربية، ورميِها بالجمود والتخلُّف؛ لينصرف الناس عن قرآنهم المجيد وأحاديث نبيِّهم الكريم صلى الله عليه وسلم
وقد لقيت "السعادة العظمى" صدى واسعا في مختلف الأوساط ، وكان من أبرز من شجعه و نوه بمشروعه الشيخ سالم بوحاجب ، وكان أستاذه محمد النجار من بين المحررين بالمجلة، وكان من بين محرريها أيضا الشيخ العلامة محمد الطاهر بن عاشور والشيخ محمد النخلي وهؤلاء يعتبرون من رواد حركة الإصلاح والاجتهاد في تونس
إلى جانب التدريس والخطابة بالجامع الكبير بمدينة "بنزرت" تولَّى قضاءها في سنة (1905)، غير أنه ما لبث أن ترك وظيفة القضاء المرموقه سنة (1908) لأن ميدان القضاء حال بينه وبين الدّعوة إلى الإصلاح والجهاد
عاد إلى تونس العاصمة، وعمل مدرسًا بالمدرسة الصادقية، وهي المدرسه الثانوية الوحيدة بتونس يومئذ، وفي العام التالي تطوع للتدريس بجامع الزيتونة، ثم أُحيلت إليه مهمة تنظيم خزائن الكتب الخاصة بهذه الجامعة العريقة، وتمَّ تعيينه رسميًا مدرسًا بها
وكان في أثناء ذلك يقوم بالخطابة في المنتديات الثقافية، داعيًا إلى إحياء قيَم الحرية والتحرُّر، وبثِّ الروح الإسلامية في النفوس، والعناية بالنشء وتعليمه
لما قامت الحرب الإيطالية الطرابلسية سنة (1911)، وزحفت الجيوش الغازية، واحتلت طرابلس وبني غازي وقف الخضر بقلمه ولسانه في مجلته "السعادة العظمى" يستنفر الأمة، ويستنهض الدولة العثمانية؛ لاستخلاص الحق من مغتصبيه، وأشعلت مقالات الشيخ الحماس في النفوس، ونبَّهت الغافلين من الأمة، وشعر المستعمر الفرنسي بخطورة ما يقوم به الشيخ المجاهد، فاتَّهمه ببثِّ روح العداء للغرب، وبدأ يضيّق عليه، ممّا دفع به إلى طلب حياته الفكرية والعملية في خارج تونس ، خصوصاً وأنه من أنصار (الجامعة الإسلامية) الذين يؤمنون بخدمة الإسلام خدمة لا تضيق بها حدود الأوطان
كالغيث أينما حلّ نفع
قـام الشيخ بـعـدة سـفـرات متوالية بادئاً بالجزائر عام (1909) لإلقاء المحاضرات والدروس فلقي ترحيباً من علمائها ، وكانت هذه الرحلة بداية جديدة شرع بعدها في إعداد نفسه وأفكاره الإصلاحية
بين الشام والآستانة
وفي عام (1911) لمّا وجهت إليه تهمة بث العداء للغرب ، ولاسيما فرنسا يمم الشيخ وجهه صوب الشرق ، وزار كثيراً من بلدانه ، وزار خاله في الآستانة ولعل هذه الرحلة لاكتشاف أي محل منها يلقي فيه عصا الترحال
في الآستانة لـقـي وزيـر الحربية (أنور باشا) فاختاره محررًا عربيًا بالوزارة فعرف دخيلة الدولة، فأصيب بخيبة أمل للواقع المؤلم الذي لمسه ورآه رؤيا العين، فنجد روحه الكبيرة تتمزق وهي ترى دولة الخلافة تحتضر وقال في قصيدة (بكاء على مجد ضائع
أدمـى فـؤادي أن أرى الـ * أقـلام تـرسـف في قـيـود
وأرى سيــاسـة أمتي * في قبضة الخصم العـنـيد
ثم بعثه إلى برلين في مهمة رسمية، فقضى بها تسعة أشهر، أتقن فيها اللغة الألمانية والتقى هناك بزعماء الحركات الإسلامية من أمثال: عبد العزيز جاويش، وعبد الحميد سعيد، وأحمد فؤاد. وقد نقل لنا من رحلته هذه نماذج طيبة مما يحسن اقتباسه ، لما فيه من الحث على العلم والجد والسمو نجدها مفرقة في كتبه: (الهداية الإسلامية) و(دراسات في الشريعة الإسلامية)
عاد إلى العاصمة العثمانية، واستقر بها فترة قصيرة لم ترقه الحياة فيها، فعاد إلى دمشق
وفي أثناء إقامته تعرَّض لنقمة الطاغية "أحمد جمال باشا" حاكم الشام، فاعتقل سنة
(1915)، وحوكم أمام مجلس عسكري بالإعدام ولكن وقعت تبرئته وإطلاقه بعد أن لبث في السجن سنة وأربعة أشهر، وبعد الإفراج عنه عاد إلى إستانبول، وما كاد يستقر بها حتى أوفده أنور باشا مرة أخرى إلى ألمانيا سنة (1916
ثم عاد إلى إستانبول، ومنها إلى دمشق ، وتولى التدريس بثلاثة معاهد هي : (المدرسة السلطانية - المدرسة العسكرية - المدرسة العثمانية
وعن هذه المرحلة حدّث تلميذه علاّمة الشّام الشّيخ محمّد بهجة البيطار رحمه الله تعالى فقال
(( أستاذنا الجليل الشّيخ محمّد الخضر حسين، عَلَمٌ من أعلام الإسلام هاجر إلى دمشق في عهد علامتي الشّام المرحومين: جدّي عبد الرّزّاق البيطار، وأستاذي الشّيخ جمال الدّين القاسمي فاغتبطا بلقائه، واغتبط بلقائهما، وكنّا نلقاه، ونزوره معهما ونحضر مجالسه عندهما، فَأُحْكِمَتْ بيننا روابط الصّحبة والألفة والودّ من ذلك العهد
ولمّا توفّي شيخنا القاسمي تغمّده المولى برضوانه أوائل سنة 1332 هـ لم نجد نحن معشر تلاميذه مَنْ نقرأ عليه أحبّ إلينا ولا آثر عندنا من الأستاذ الخضر لما هو متّصف به من الرّسوخ في العلم، والتّواضع في الخلق، واللّطف في الحديث، والرّقّة في الطّبع، والإخلاص في المحبّة، والبرّ بالإخوان والإحسان إلى النّاس، فكان مصداق قول الشّاعر
كأنّك من كل الطّباع مركبٌ * فأنت إلى كلِّ النفوس محبَّبُ
وأخذنا من ذلك الحين نقتطف ثمار العلوم والآداب من تلكم الرّوضة الأُنُف، ونرتشف كؤوس الأخلاق من سلسبيل الهدى والتّقوى، ولم يكن طلاّب المدارس العالية في دمشق بأقلّ رغبة في دروسه، وإجلالا لمقامه، وإعجاباً بأخلاقه من إخوانهم طلاّب العلوم الشّرعيّة، بل كانوا كلّهم مغتبطين في هذه المحبّة والصّحبة، مجتمعين حول هذا البدر المنير
وقد قرأنا عليه في المعقول والمنقول، والفروع والأصول، طائفة من أفضل ما صنف في موضوعه، وهي لعمر الحقّ دالة على حسن اختياره، وسلامة ذوقه، وقوّة علمه، وشدّة حرصه على النّهوض بطلاّبه، وإعدادهم للنّهوض بأمّته
وقد كنت نظمت أبياتاً جمعت فيها بين ذكر هذه الكتب، ووصف دروس الأستاذ، وجعلتها ذكرى لنفسي ولمن شاركوني في الطّلب والتّحصيل، عند أستاذنا الجليل، فقلت
يـا سائلي عَنْ درسِ * بِّالفضْل مولانا الإمام
ابـن الـحسين التونسيِّ * مـحمدالـخضر الهمام
سَلْ عنهُ مُسْتصفى الأصـ* ول لليث معترك الزحام
أعـني الـغزالي الحكيـ * م رئـيس أعـلام الكلام
وكـذاك فـي فن الخلا * فبـداية الـعالي المقام
أعـني ابن رشد من غدا * بـطل الـفلاسفة العظام
وكـذا صحيح أبي حسيـ * ن مـسلم حَـبْر الأنـام
وكـذلك الـمغني إلـى * شـيخ النحاة ابن الهشام
وكـذا كـتاب أبي يزيـ * د ابـن المبرّد في الختام
تـلك الدروسكما الشمو * س تـنير أفلاك الظلام
يـدني إلـيك بـها حقا * ئـق كـل علم بانسجام
فـتكون مـنك دقائق الـ* معنى على طرف الثمام
فـالحقعـوضنا بـه * مـن شـيخنا شيخ الشآم
فـعـليه مـا ذرّ الـغزا * لـة رحمة الملك السلام
أبقى الله - تعالى - أستاذنا الخضر الجليل للدين والعلم والأدب ركناً ركيناً، وحصناً حصيناً.)).. انتهى
إلى القاهرة
كانت السلطات الفرنسية بتونس قد صادرت أملاكه في 20 جوان 1917م، وحكمت عليه بالإعدام بتهمة التحريض على مقاومة فرنسا أثناء رحلتيه إلى ألمانيا .. ووجد الشيخ نفسه عرضة من جديد لملاحقة السلطات الفرنسية في سوريا عقب معركة ميسلون سنة (1920)، فلجأ إلى مصر
نزل محمد الخضر الحسين القاهرة سنة (1920)، واشتغل بالبحث وكتابة المقالات، ثم عمل محررًا بالقسم الأدبي بدار الكتب المصرية، واتصل بأعلام النهضة الإسلامية في مصر، وتوثَّقت صلته بزعماء الفكر الإسلامي من أمثال "أحمد تيمور" و"محب الدين الخطيب" و"عبد الوهاب النجَّار" و"محمد رشيد رضا"، الذين عرفوا قدر الرجل ومنزلته العلمية، وفي أثناء ذلك حصل على الجنسية المصرية ، وتقدَّم لامتحان شهادة العالمية بالأزهر، وعقدت له لجنة الامتحان برئاسة العلامة عبد المجيد اللبان مع نخبة من علماء الأزهر الأفذاذ، وأبدى الطالب الشيخ من رسوخ القدم ما أدهش الممتحنين، وكانت اللجنة كلما تعمَّقت في الأسئلة وجدت من الطالب عمقًا في الإجابة وغزارة في العلم، وقوة في الحجة ، وبلغ من إعجاب رئيس اللجنة بالطالب العالم أن قال: "هذا بحٌر لا ساحل له، فكيف نقف معه في حِجاج
منحته اللجنة شهادة العالمية الأزهرية، وبها أصبح من كبار الأساتذة في كلية (أصول الدين والتخصص) لاثنتي عشرة سنة
معاركه الفكرية
وفي هذه المرحلة من حياة الشيخ امتحنت الحياة الفكرية بفتنة ضارية أثارها كتابا: "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق و"في الشعر الجاهلي" لطه حسين، وكان الشيخ محمد الخضر حسين واحدًا ممن خاضوا هذه المعركة بالحجة القوية والاستدلال الواضح والعلم الغزير
أما الكتاب الأول فقد ظهر في سنة (1926) وأثار ضجة كبيرة وانبرت الأقلام بين هجوم عليه ودفاع عنه، وقد صدم الكتاب الرأي العام المسلم حين زعم أن الإسلام ليس دين حكم، وأنكر وجوب قيام الخلافة الإسلامية، ونفى وجود دليل عليها من الكتاب والسنة، وكانت الصدمة الثانية أن يكون مؤلف هذا الكتاب عالمًا من علماء الأزهر
وقد نهض الشيخ محمد الخضر حسين لتفنيد دعاوى الكتاب فأصدر كتابه: "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم" سنة (1926) تتبع فيه أبواب كتاب علي عبد الرازق، فكان يبدأ بتلخيص الباب، ثم يورد الفقرة التي تعبّر عن الفكرة موضوع النقد فيفندها، ونقد استخدام المؤلف للمصادر، وكشف أنه يقتطع الجمل من سياقها، فتؤدي المعنى الذي يقصده هو لا المعنى الذي يريده المؤلف
وقد كشف الخضر الحسين في هذا الكتاب عن علم غزير وإحاطة متمكنة بأصول الفقه وقواعد الحجاج وبصيرة نافذة بالتشريع الإسلامي، ومعرفة واسعة بالتاريخ الإسلامي ورجاله وحوادثه
وأمَّا الكتاب الآخر فقد ظهر سنة (1927)، وأحدث ضجة هائلة، حيث جاهر مؤلفه الدكتور طه حسين بالاحتقار والتشكيك في كل قديم دُوِّن في صحف الأدب، وزعم أن كل ما يُعد شعرًا جاهليًا إنما هو مختلق ومنحول، ولم يكتف بهذه الفرية فجاهر بالهجوم على المقدسات الدينية حيث قال: "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل وللقرآن أن يحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، ولكن هذا لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي…"، وقد انبرت أقلام غيورة لتفنيد ما جاء في كتاب الشعر الجاهلي من أمثال الرافعي، والغمراوي، ومحمد فريد وجدي، وألَّف الشيخ محمد الخضر حسين كتابا شافيا في الرد على طه حسين وكتابه بعنوان: "نقض كتاب في الشعر الجاهلي" فنَّد ما جاء فيه، وأقام الأدلة على أصالة الشعر الجاهلي وكشف عن مجافاة طه حسين للحق، لم يكن الشيخ في ردّه متطفلا أو متهافتا ولكنه ردّ من موقع العالم العارف المتضلّع في اللغة و الآداب العربيّة فضلا عن تمتعه بملكة الشعر حفظا و إنتاجا
جهوده الإصلاحية في القاهرة
- سنة (1928) اشترك الشيخ مع جماعة من الغيورين على الإسلام منهم: أحمد تيمور , وعبد العزيز جاويش , ومحمد أحمد الغمراوي , وعبد الوهاب النجار , وحسن البنا، وصالح حرب .. وغيرهم في إنشاء جمعية الشبان المسلمين، ووضع لائحتها الأولى مع صديقه محب الدين الخطيب، وأسندت رئاستها للدكتور عبد الحميد سعيد، وقامت الجمعية بنشر مبادئ الإسلام والدفاع عن قيمه الخالصة، ومحاربة الإلحاد العلمي، فكانت منارة إصلاح ورسالة توجيه وإرشاد
- وفي السنة نفسها أنشأ "جمعية الهداية الإسلامية" وكان نشاطها علميا أكثر منه اجتماعيا، وضمَّت عددا من شيوخ الأزهر وشبابه وطائفة من المثقفين، وكوَّن بها مكتبة كبيرة كانت مكتبته الخاصة نواة لها، وكان هدف الجمعية القيام بما يرشد إليه الدين الحنيف من علم نافع وأدب رفيع مع السعي للتعارف بين المسلمين ونشر حقائق الإسـلام ومـقـاومـة مـفـتـريات خصومه، وصدر عنها مجلة باسمها هي لسان حالها، كانت بستانا للروائع من التفسير والتشريع واللغة والتاريخ
- تولى رئاسة تحرير مجلة نور الإسلام – الأزهر الآن – التي أصدرها الأزهر في (1931)، ودامت رئاسته لها ثلاثة أعوام
- تولى رئاسة تحرير مجلة لواء الإسلام سنة (1946)، وتحمل إلى هذه الأعباء التدريس بكلية أصول الدين، فالتف حوله الطلاب، وأفادوا من علمه الغزير وثقافته الواسعة
- عندما أنشئ مجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة (1932) كان من الرعيل الأول الذين اختيروا لعضويته ضمن عشرين عالمًا وأديبًا من كبار رجال العلم في مصر والعالم العربي وأوروبا ، كما اختير عضوا بالمجمع العلمي العربي بدمشق، وأثرى مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة ببحوثه القيمة عن صحة الاستشهاد بالحديث النبوي، والمجاز والنقل وأثرهما في حياة اللغة العربية، وطرق وضع المصطلحات الطبية وتوحيدها في البلاد العربية
أحمد نصيب-
- عدد المساهمات : 9959
العمر : 66
المكان : أم المدائن قفصة
المهنه : طالب علم
الهوايه : المطالعة فحسب
نقاط تحت التجربة : 24437
تاريخ التسجيل : 05/08/2007
رد: الـود والإخـاء بيـن الإماميـن
[size=21]كان
جامع الزيتونة مصنعا لرجال أفذاذ قادوا حياة شعوبهم قبل أن يقودوا حياتهم،
في وقت اضطربت فيه معالم الحياة، فكانوا منارات للهدى وعلامات لطريق
السداد. و"محمد الطاهر بن عاشور" هو أحد أعلام هذا الجامع، ومن عظمائهم
المجددين. حياته المديدة التي زادت على 90 عامًا كانت جهادًا في طلب
العلم، وجهادا في كسر وتحطيم أطواق الجمود والتقليد التي قيدت العقل
المسلم عن التفاعل مع القرآن الكريم والحياة المعاصرة.
أحدثت آراؤه
نهضة في علوم الشريعة والتفسير والتربية والتعليم والإصلاح، وكان لها
أثرها البالغ في استمرار "الزيتونة" في العطاء والريادة.
وإذا
كان من عادة الشرق عدم احتفاظه بكنوزه، فهو غالبا ما ينسى عمالقته ورواده
الذين كانوا ملء السمع والبصر، ويتطلع إلى أفكار مستوردة وتجارب سابقة
التجهيز، وينسى مصلحيه ومجدديه، ونبت بيئته وغرس مبادئه!!
لم يلق
الطاهر تمام حقه من الاهتمام به وباجتهاداته وأفكاره الإصلاحية؛ وربما رجع
ذلك لأن اجتهاداته تحارب الجمود العقلي والتقليد من ناحية، وتصطدم
بالاستبداد من ناحية أخرى، كما أن أفكاره تسعى للنهوض والتقدم وفق منهج
عقلي إسلامي، ولعل هذا يبين لنا سبب نسيان الشرق في هذه الفترة لرواده
وعمالقته!!
لماذا غاب المجددون عن حياتنا الثقافية والفكرية؟
من هو؟
ولد
محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور، الشهير بالطاهر بن عاشور،
بتونس في (1296هـ = 1879م) في أسرة علمية عريقة تمتد أصولها إلى بلاد
الأندلس. وقد استقرت هذه الأسرة في تونس بعد حملات التنصير ومحاكم التفتيش
التي تعرض لها مسلمو الأندلس.
وقد نبغ من هذه الأسرة عدد من العلماء
الذين تعلموا بجامع الزيتونة، تلك المؤسسة العلمية الدينية العريقة التي
كانت منارة للعلم والهداية في الشمال الأفريقي، كان منهم محمد الطاهر بن
عاشور، وابنه الذي مات في حياته: الفاضل بن عاشور.
وجاء مولد
الطاهر في عصر يموج بالدعوات الإصلاحية التجديدية التي تريد الخروج بالدين
وعلومه من حيز الجمود والتقليد إلى التجديد والإصلاح، والخروج بالوطن من
مستنقع التخلف والاستعمار إلى ساحة التقدم والحرية والاستقلال، فكانت
لأفكار جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا صداها المدوي في
تونس وفي جامعها العريق، حتى إن رجال الزيتونة بدءوا بإصلاح جامعهم من
الناحية التعليمية قبل الجامع الأزهر، مما أثار إعجاب الإمام محمد عبده
الذي قال: "إن مسلمي الزيتونة سبقونا إلى إصلاح التعليم، حتى كان ما يجرون
عليه في جامع الزيتونة خيرًا مما عليه أهل الأزهر".
وأثمرت جهود
التجديد والإصلاح في تونس التي قامت في الأساس على الاهتمام بالتعليم
وتطويره عن إنشاء مدرستين كان لهما أكبر الأثر في النهضة الفكرية في تونس،
وهما: المدرسة الصادقية التي أنشأها الوزير النابهة خير الدين التونسي سنة
(1291هـ = 1874م) والتي احتوت على منهج متطور امتزجت فيه العلوم العربية
باللغات الأجنبية، إضافة إلى تعليم الرياضيات والطبيعة والعلوم
الاجتماعية. وقد أقيمت هذه المدرسة على أن تكون تعضيدًا وتكميلاً للزيتونة.
أما المدرسة الأخرى فهي المدرسة الخلدونية التي تأسست سنة (1314هـ =
1896م) والتي كانت مدرسة علمية تهتم بتكميل ما يحتاج إليه دارسو العلوم
الإسلامية من علوم لم تدرج في برامجهم التعليمية، أو أدرجت ولكن لم يهتم
بها وبمزاولتها فآلت إلى الإهمال.
وتواكبت هذه النهضة الإصلاحية
التعليمية مع دعوات مقاومة الاستعمار الفرنسي، فكانت أطروحات تلك الحقبة
من التاريخ ذات صبغة إصلاحية تجديدة شاملة تنطلق من الدين نحو إصلاح الوطن
والمجتمع، وهو ما انعكس على تفكير ومنهج رواد الإصلاح في تلك الفترة التي
تدعمت بتأسيس الصحافة، وصدور المجلات والصحف التي خلقت مناخًا ثقافيًا
وفكريًا كبيرًا ينبض بالحياة والوعي والرغبة في التحرر والتقدم.
حفظ الطاهر القرآن الكريم، وتعلم اللغة الفرنسية، والتحق بجامع الزيتونة
سنة (1310هـ = 1892م) وهو في الـ14 من عمره، فدرس علوم الزيتونة ونبغ
فيها، وأظهر همة عالية في التحصيل، وساعده على ذلك ذكاؤه النادر والبيئة
العلمية الدينية التي نشأ فيها، وشيوخه العظام في الزيتونة الذين كان لهم
باع كبير في النهضة العلمية والفكرية في تونس، وملك هاجس الإصلاح نفوسهم
وعقولهم فبثوا هذه الروح الخلاقة التجديدية في نفس الطاهر، وكان منهجهم أن
الإسلام دين فكر وحضارة وعلم ومدنية.
سفير الدعوة..
تخرج الطاهر في الزيتونة عام (1317هـ = 1896م)، والتحق بسلك التدريس في
هذا الجامع العريق، ولم تمض إلا سنوات قليلة حتى عين مدرسًا من الطبقة
الأولى بعد اجتياز اختبارها سنة (1324هـ = 1903م).
وكان الطاهر
قد اختير للتدريس في المدرسة الصادقية سنة (1321هـ = 1900م)، وكان لهذه
التجربة المبكرة في التدريس بين الزيتونة -ذات المنهج التقليدي- والصادقية
-ذات التعليم العصري المتطور- أثرها في حياته، إذ فتحت وعيه على ضرورة ردم
الهوة بين تيارين فكريين ما زالا في طور التكوين، ويقبلان أن يكونا خطوط
انقسام ثقافي وفكري في المجتمع التونسي، وهما: تيار الأصالة الممثل في
الزيتونة، وتيار المعاصرة الممثل في الصادقية، ودون آراءه هذه في كتابه
النفيس "أليس الصبح بقريب؟" من خلال الرؤية الحضارية التاريخية الشاملة
التي تدرك التحولات العميقة التي يمر بها المجتمع الإسلامي والعالمي.
وفي سنة (1321 هـ = 1903 م) قام الإمام محمد عبده مفتي الديار المصرية
بزيارته الثانية لتونس التي كانت حدثا ثقافيا دينيا كبيرا في الأوساط
التونسية، والتقاه في تلك الزيارة الطاهر بن عاشور فتوطدت العلاقة بينهما،
وسماه محمد عبده بـ "سفير الدعوة" في جامع الزيتونة؛ إذ وجدت بين الشيخين
صفات مشتركة، أبرزها ميلهما إلى الإصلاح التربوي والاجتماعي الذي صاغ ابن
عاشور أهم ملامحه بعد ذلك في كتابه "أصول النظام الاجتماعي في الإسلام".
وقد توطدت العلاقة بينه وبين رشيد رضا، وكتب ابن عاشور في مجلة المنار.
آراء.. ومناصب
عين الطاهر بن عاشور نائبا أول لدى النظارة العلمية بجامع الزيتونة سنة
(1325 هـ = 1907م)؛ فبدأ في تطبيق رؤيته الإصلاحية العلمية والتربوية،
وأدخل بعض الإصلاحاتعلى
الناحية التعليمية، وحرر لائحة في إصلاح التعليم وعرضها على الحكومة فنفذت
بعض ما فيها، وسعى إلى إحياء بعض العلوم العربية؛ فأكثر من دروس الصرف في
مراحل التعليم وكذلك دروس أدب اللغة، ودرس بنفسه شرح ديوان الحماسة لأبي
تمام.
وأدرك صاحبنا أن الإصلاح التعليمي يجب أن ينصرف بطاقته القصوى
نحو إصلاح العلوم ذاتها؛ على اعتبار أن المعلم مهما بلغ به الجمود فلا
يمكنه أن يحول بين الأفهام ومافي التآليف فإن الحق سلطان!!
ورأى أن تغيير نظام الحياة في أي من أنحاء العالم يتطلب تبدل الأفكار
والقيم العقلية، ويستدعي تغيير أساليب التعليم. وقد سعى الطاهر إلى إيجاد
تعليم ابتدائي إسلامي في المدن الكبيرة في تونس على غرار ما يفعل الأزهر
في مصر، ولكنه قوبل بعراقيل كبيرة.
أما سبب الخلل والفساد اللذين
أصابا التعليم الإسلامي فترجع في نظره إلى فساد المعلم، وفساد التآليف،
وفساد النظام العام؛ وأعطى أولوية لإصلاح العلوم والتآليف.
اختير
ابن عاشور في لجنة إصلاح التعليم الأولى بالزيتونة في (صفر 1328 هـ =
1910م)، وكذلك في لجنة الإصلاح الثانية (1342 هـ = 1924م)، ثم اختير شيخا
لجامع الزيتونة في (1351 هـ = 1932م)، كما كان شيخ الإسلام المالكي؛ فكان
أول شيوخ الزيتونة الذين جمعوا بين هذين المنصبين، ولكنه لم يلبث أن
استقال من المشيخة بعد سنة ونصف بسبب العراقيل التي وضعت أمام خططه لإصلاح
الزيتونة، وبسبب اصطدامه ببعض الشيوخ عندما عزم على إصلاح التعليم في
الزيتونة.
أعيد تعينه شيخا لجامع الزيتونة سنة (1364 هـ =
1945م)، وفي هذه المرة أدخل إصلاحات كبيرة في نظام التعليم الزيتوني؛
فارتفع عدد الطلاب الزيتونيين، وزادت عدد المعاهد التعليمية.
وشملت عناية الطاهر بن عاشور إصلاح الكتب الدراسية وأساليب التدريس ومعاهد
التعليم؛ فاستبدل كثيرا من الكتب القديمة التي كانت تدرس وصبغ عليها
الزمان صبغة القداسة بدون مبرر، واهتم بعلوم الطبيعة والرياضيات، كما راعى
في المرحلة التعليمية العالية التبحر في أقسام التخصص، وبدأ التفكير في
إدخال الوسائل التعليمية المتنوعة.
وحرص على أن يصطبغ التعليم
الزيتوني بالصبغة الشرعية والعربية، حيث يدرس الطالب الزيتوني الكتب التي
تنمي الملكات العلمية وتمكنه من الغوص في المعاني؛ لذلك دعا إلى التقليل
من الإلقاء والتلقين، وإلى الإكثار من التطبيق؛ لتنمية ملكة الفهم التي
يستطيع من خلالها الطالب أن يعتمد على نفسه في تحصيل العلم.
ولدى استقلال تونس أسندت إليه رئاسة الجامعة الزيتونية سنة (1374 هـ = 1956م).
التحرير والتنوير..
كان الطاهر بن عاشور عالما مصلحا مجددا، لا يستطيع الباحث في شخصيته وعلمه
أن يقف على جانب واحد فقط، إلا أن القضية الجامعة في حياته وعلمه ومؤلفاته
هي التجديد والإصلاح من خلال الإسلام وليس بعيدا عنه، ومن ثم جاءت آراؤه
وكتاباته ثورة على التقليد والجمود وثورة على التسيب والضياع الفكري
والحضاري.
يعد الطاهر بن عاشور من كبار مفسري القرآن الكريم في
العصر الحديث، ولقد احتوى تفسيره "التحرير والتنوير" على خلاصة آرائه
الاجتهادية والتجديدية؛ إذ استمر في هذا التفسير ما يقرب من 50 عاما،
وأشار في بدايته إلى أن منهجه هو أن يقف موقف الحكم بين طوائف المفسرين،
تارة لها وأخرى عليها؛ "فالاقتصار على الحديث المعاد في التفسير هو تعطيل
لفيض القرآن الكريم الذي ما له من نفاد"، ووصف تفسيره بأنه "احتوى أحسن ما
في التفاسير، وأن فيه أحسن مما في التفاسير".
وتفسير التحرير
والتنوير في حقيقته تفسير بلاغي، اهتم فيه بدقائق البلاغة في كل آية من
آياته، وأورد فيه بعض الحقائق العلمية ولكن باعتدال ودون توسع أو إغراق في
تفريعاتها ومسائلها.
وقد نقد ابن عاشور كثيرا من التفاسير
والمفسرين، ونقد فهم الناس للتفسير، ورأى أن أحد أسباب تأخر علم التفسير
هو الولع بالتوقف عند النقل حتى وإن كان ضعيفا أو فيه كذب، وكذلك اتقاء
الرأي ولو كان صوابا حقيقيا، وقال: "لأنهم توهموا أن ما خالف النقل عن
السابقين إخراج للقرآن عما أراد الله به"؛ فأصبحت كتب التفسير عالة على
كلام الأقدمين، ولا همّ للمفسر إلا جمع الأقوال، وبهذه النظرة أصبح
التفسير "تسجيلا يقيَّد به فهم القرآن ويضيَّق به معناه".
ولعل
نظرة التجديد الإصلاحية في التفسير تتفق مع المدرسة الإصلاحية التي كان من
روادها الإمام محمد عبده الذي رأى أن أفضل مفسر للقرآن الكريم هو الزمن،
وهو ما يشير إلى معان تجديدية، ويتيح للأفهام والعقول المتعاقبة الغوص في
معاني القرآن. وكان لتفاعل الطاهر بن عاشور الإيجابي مع القرآن الكريم
أثره البالغ في عقل الشيخ الذي اتسعت آفاقه فأدرك مقاصد الكتاب الحكيم
وألم بأهدافه وأغراضه، مما كان سببا في فهمه لمقاصد الشريعة الإسلامية
التي وضع فيها أهم كتبه بعد التحرير والتنوير وهو كتاب "مقاصد الشريعة".
مقاصد الشريعة..
كان الطاهر بن عاشور فقيها مجددا، يرفض ما يردده بعض أدعياء الفقه من أن
باب الاجتهاد قد أغلق في أعقاب القرن الخامس الهجري، ولا سبيل لفتحه مرة
ثانية، وكان يرى أن ارتهان المسلمين لهذه النظرة الجامدة المقلدة سيصيبهم
بالتكاسل وسيعطل إعمال العقل لإيجاد الحلول لقضاياهم التي تجد في حياتهم.
وإذا كان علم أصول الفقه هو المنهج الضابط لعملية الاجتهاد في فهم نصوص
القرآن الكريم واستنباط الأحكام منه فإن الاختلال في هذا العلم هو السبب
في تخلي العلماء عن الاجتهاد. ورأى أن هذا الاختلال يرجع إلى توسيع العلم
بإدخال ما لا يحتاج إليه المجتهد، وأن قواعد الأصول دونت بعد أن دون
الفقه، لذلك كان هناك بعض التعارض بين القواعد والفروع في الفقه، كذلك
الغفلة عن مقاصد الشريعة؛ إذ لم يدون منها إلا القليل، وكان الأولى أن
تكون الأصل الأول للأصول لأن بها يرتفع خلاف كبير.
ويعتبر كتاب "مقاصد الشريعة" من أفضل ما كتب في هذا الفن وضوحا في الفكر ودقة في التعبير وسلامة في المنهج واستقصاء للموضوع.
محنة التجنيس..
لم يكن الطاهر بن عاشور بعيدا عن سهام الاستعمار والحاقدين عليه
والمخالفين لمنهجه الإصلاحي التجديدي، فتعرض الشيخ لمحنة قاسية استمرت 3
عقود عرفت بمحنة التجنيس، وملخصها أن الاستعمار الفرنسي أصدر قانونا في
(شوال 1328 هـ = 1910م) عرف بقانون التجنيس، يتيح لمن يرغب من التونسيين
التجنس بالجنسية الفرنسية؛ فتصدى الوطنيون التونسيون لهذا القانون ومنعوا
المتجنسين من الدفن في المقابر الإسلامية؛ مما أربك الفرنسيين فلجأت
السلطات الفرنسية إلى الحيلة لاستصدار فتوى تضمن للمتجنسين التوبة من خلال
صيغة سؤال عامة لا تتعلق بالحالة التونسية توجه إلى المجلس الشرعي.
وكان الطاهر يتولى في ذلك الوقت سنة (1352 هـ = 1933م) رئاسة المجلس
الشرعي لعلماء المالكية فأفتى المجلس صراحة بأنه يتعين على المتجنس عند
حضوره لدى القاضي أن ينطق بالشهادتين ويتخلى في نفس الوقت عن جنسيته التي
اعتنقها، لكن الاستعمار حجب هذه الفتوى، وبدأت حملة لتلويث سمعة هذا
العالم الجليل، وتكررت هذه الحملة الآثمة عدة مرات على الشيخ، وهو صابر
محتسب.
صدق الله وكذب بورقيبة..
ومن المواقف المشهورة
للطاهر بن عاشور رفضه القاطع استصدار فتوى تبيح الفطر في رمضان، وكان ذلك
عام (1381 هـ = 1961م) عندما دعا "الحبيبُ بورقيبة" الرئيسُ التونسي
السابق العمالَ إلى الفطر في رمضان بدعوى زيادة الإنتاج، وطلب من الشيخ أن
يفتي في الإذاعة بما يوافق هذا، لكن الشيخ صرح في الإذاعة بما يريده الله
تعالى، بعد أن قرأ آية الصيام، وقال بعدها : "صدق الله وكذب بورقيبة"،
فخمد هذا التطاول المقيت وهذه الدعوة الباطلة بفضل مقولة ابن عاشور.
وفاته:
وقد توفي الطاهر بن عاشور في (13 رجب 1393 هـ = 12 أغسطس 1973م) بعد حياة
حافلة بالعلم والإصلاح والتجديد على مستوى تونس والعالم الإسلامي.
جامع الزيتونة مصنعا لرجال أفذاذ قادوا حياة شعوبهم قبل أن يقودوا حياتهم،
في وقت اضطربت فيه معالم الحياة، فكانوا منارات للهدى وعلامات لطريق
السداد. و"محمد الطاهر بن عاشور" هو أحد أعلام هذا الجامع، ومن عظمائهم
المجددين. حياته المديدة التي زادت على 90 عامًا كانت جهادًا في طلب
العلم، وجهادا في كسر وتحطيم أطواق الجمود والتقليد التي قيدت العقل
المسلم عن التفاعل مع القرآن الكريم والحياة المعاصرة.
أحدثت آراؤه
نهضة في علوم الشريعة والتفسير والتربية والتعليم والإصلاح، وكان لها
أثرها البالغ في استمرار "الزيتونة" في العطاء والريادة.
وإذا
كان من عادة الشرق عدم احتفاظه بكنوزه، فهو غالبا ما ينسى عمالقته ورواده
الذين كانوا ملء السمع والبصر، ويتطلع إلى أفكار مستوردة وتجارب سابقة
التجهيز، وينسى مصلحيه ومجدديه، ونبت بيئته وغرس مبادئه!!
لم يلق
الطاهر تمام حقه من الاهتمام به وباجتهاداته وأفكاره الإصلاحية؛ وربما رجع
ذلك لأن اجتهاداته تحارب الجمود العقلي والتقليد من ناحية، وتصطدم
بالاستبداد من ناحية أخرى، كما أن أفكاره تسعى للنهوض والتقدم وفق منهج
عقلي إسلامي، ولعل هذا يبين لنا سبب نسيان الشرق في هذه الفترة لرواده
وعمالقته!!
لماذا غاب المجددون عن حياتنا الثقافية والفكرية؟
من هو؟
ولد
محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور، الشهير بالطاهر بن عاشور،
بتونس في (1296هـ = 1879م) في أسرة علمية عريقة تمتد أصولها إلى بلاد
الأندلس. وقد استقرت هذه الأسرة في تونس بعد حملات التنصير ومحاكم التفتيش
التي تعرض لها مسلمو الأندلس.
وقد نبغ من هذه الأسرة عدد من العلماء
الذين تعلموا بجامع الزيتونة، تلك المؤسسة العلمية الدينية العريقة التي
كانت منارة للعلم والهداية في الشمال الأفريقي، كان منهم محمد الطاهر بن
عاشور، وابنه الذي مات في حياته: الفاضل بن عاشور.
وجاء مولد
الطاهر في عصر يموج بالدعوات الإصلاحية التجديدية التي تريد الخروج بالدين
وعلومه من حيز الجمود والتقليد إلى التجديد والإصلاح، والخروج بالوطن من
مستنقع التخلف والاستعمار إلى ساحة التقدم والحرية والاستقلال، فكانت
لأفكار جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا صداها المدوي في
تونس وفي جامعها العريق، حتى إن رجال الزيتونة بدءوا بإصلاح جامعهم من
الناحية التعليمية قبل الجامع الأزهر، مما أثار إعجاب الإمام محمد عبده
الذي قال: "إن مسلمي الزيتونة سبقونا إلى إصلاح التعليم، حتى كان ما يجرون
عليه في جامع الزيتونة خيرًا مما عليه أهل الأزهر".
وأثمرت جهود
التجديد والإصلاح في تونس التي قامت في الأساس على الاهتمام بالتعليم
وتطويره عن إنشاء مدرستين كان لهما أكبر الأثر في النهضة الفكرية في تونس،
وهما: المدرسة الصادقية التي أنشأها الوزير النابهة خير الدين التونسي سنة
(1291هـ = 1874م) والتي احتوت على منهج متطور امتزجت فيه العلوم العربية
باللغات الأجنبية، إضافة إلى تعليم الرياضيات والطبيعة والعلوم
الاجتماعية. وقد أقيمت هذه المدرسة على أن تكون تعضيدًا وتكميلاً للزيتونة.
أما المدرسة الأخرى فهي المدرسة الخلدونية التي تأسست سنة (1314هـ =
1896م) والتي كانت مدرسة علمية تهتم بتكميل ما يحتاج إليه دارسو العلوم
الإسلامية من علوم لم تدرج في برامجهم التعليمية، أو أدرجت ولكن لم يهتم
بها وبمزاولتها فآلت إلى الإهمال.
وتواكبت هذه النهضة الإصلاحية
التعليمية مع دعوات مقاومة الاستعمار الفرنسي، فكانت أطروحات تلك الحقبة
من التاريخ ذات صبغة إصلاحية تجديدة شاملة تنطلق من الدين نحو إصلاح الوطن
والمجتمع، وهو ما انعكس على تفكير ومنهج رواد الإصلاح في تلك الفترة التي
تدعمت بتأسيس الصحافة، وصدور المجلات والصحف التي خلقت مناخًا ثقافيًا
وفكريًا كبيرًا ينبض بالحياة والوعي والرغبة في التحرر والتقدم.
حفظ الطاهر القرآن الكريم، وتعلم اللغة الفرنسية، والتحق بجامع الزيتونة
سنة (1310هـ = 1892م) وهو في الـ14 من عمره، فدرس علوم الزيتونة ونبغ
فيها، وأظهر همة عالية في التحصيل، وساعده على ذلك ذكاؤه النادر والبيئة
العلمية الدينية التي نشأ فيها، وشيوخه العظام في الزيتونة الذين كان لهم
باع كبير في النهضة العلمية والفكرية في تونس، وملك هاجس الإصلاح نفوسهم
وعقولهم فبثوا هذه الروح الخلاقة التجديدية في نفس الطاهر، وكان منهجهم أن
الإسلام دين فكر وحضارة وعلم ومدنية.
سفير الدعوة..
تخرج الطاهر في الزيتونة عام (1317هـ = 1896م)، والتحق بسلك التدريس في
هذا الجامع العريق، ولم تمض إلا سنوات قليلة حتى عين مدرسًا من الطبقة
الأولى بعد اجتياز اختبارها سنة (1324هـ = 1903م).
وكان الطاهر
قد اختير للتدريس في المدرسة الصادقية سنة (1321هـ = 1900م)، وكان لهذه
التجربة المبكرة في التدريس بين الزيتونة -ذات المنهج التقليدي- والصادقية
-ذات التعليم العصري المتطور- أثرها في حياته، إذ فتحت وعيه على ضرورة ردم
الهوة بين تيارين فكريين ما زالا في طور التكوين، ويقبلان أن يكونا خطوط
انقسام ثقافي وفكري في المجتمع التونسي، وهما: تيار الأصالة الممثل في
الزيتونة، وتيار المعاصرة الممثل في الصادقية، ودون آراءه هذه في كتابه
النفيس "أليس الصبح بقريب؟" من خلال الرؤية الحضارية التاريخية الشاملة
التي تدرك التحولات العميقة التي يمر بها المجتمع الإسلامي والعالمي.
وفي سنة (1321 هـ = 1903 م) قام الإمام محمد عبده مفتي الديار المصرية
بزيارته الثانية لتونس التي كانت حدثا ثقافيا دينيا كبيرا في الأوساط
التونسية، والتقاه في تلك الزيارة الطاهر بن عاشور فتوطدت العلاقة بينهما،
وسماه محمد عبده بـ "سفير الدعوة" في جامع الزيتونة؛ إذ وجدت بين الشيخين
صفات مشتركة، أبرزها ميلهما إلى الإصلاح التربوي والاجتماعي الذي صاغ ابن
عاشور أهم ملامحه بعد ذلك في كتابه "أصول النظام الاجتماعي في الإسلام".
وقد توطدت العلاقة بينه وبين رشيد رضا، وكتب ابن عاشور في مجلة المنار.
آراء.. ومناصب
عين الطاهر بن عاشور نائبا أول لدى النظارة العلمية بجامع الزيتونة سنة
(1325 هـ = 1907م)؛ فبدأ في تطبيق رؤيته الإصلاحية العلمية والتربوية،
وأدخل بعض الإصلاحاتعلى
الناحية التعليمية، وحرر لائحة في إصلاح التعليم وعرضها على الحكومة فنفذت
بعض ما فيها، وسعى إلى إحياء بعض العلوم العربية؛ فأكثر من دروس الصرف في
مراحل التعليم وكذلك دروس أدب اللغة، ودرس بنفسه شرح ديوان الحماسة لأبي
تمام.
وأدرك صاحبنا أن الإصلاح التعليمي يجب أن ينصرف بطاقته القصوى
نحو إصلاح العلوم ذاتها؛ على اعتبار أن المعلم مهما بلغ به الجمود فلا
يمكنه أن يحول بين الأفهام ومافي التآليف فإن الحق سلطان!!
ورأى أن تغيير نظام الحياة في أي من أنحاء العالم يتطلب تبدل الأفكار
والقيم العقلية، ويستدعي تغيير أساليب التعليم. وقد سعى الطاهر إلى إيجاد
تعليم ابتدائي إسلامي في المدن الكبيرة في تونس على غرار ما يفعل الأزهر
في مصر، ولكنه قوبل بعراقيل كبيرة.
أما سبب الخلل والفساد اللذين
أصابا التعليم الإسلامي فترجع في نظره إلى فساد المعلم، وفساد التآليف،
وفساد النظام العام؛ وأعطى أولوية لإصلاح العلوم والتآليف.
اختير
ابن عاشور في لجنة إصلاح التعليم الأولى بالزيتونة في (صفر 1328 هـ =
1910م)، وكذلك في لجنة الإصلاح الثانية (1342 هـ = 1924م)، ثم اختير شيخا
لجامع الزيتونة في (1351 هـ = 1932م)، كما كان شيخ الإسلام المالكي؛ فكان
أول شيوخ الزيتونة الذين جمعوا بين هذين المنصبين، ولكنه لم يلبث أن
استقال من المشيخة بعد سنة ونصف بسبب العراقيل التي وضعت أمام خططه لإصلاح
الزيتونة، وبسبب اصطدامه ببعض الشيوخ عندما عزم على إصلاح التعليم في
الزيتونة.
أعيد تعينه شيخا لجامع الزيتونة سنة (1364 هـ =
1945م)، وفي هذه المرة أدخل إصلاحات كبيرة في نظام التعليم الزيتوني؛
فارتفع عدد الطلاب الزيتونيين، وزادت عدد المعاهد التعليمية.
وشملت عناية الطاهر بن عاشور إصلاح الكتب الدراسية وأساليب التدريس ومعاهد
التعليم؛ فاستبدل كثيرا من الكتب القديمة التي كانت تدرس وصبغ عليها
الزمان صبغة القداسة بدون مبرر، واهتم بعلوم الطبيعة والرياضيات، كما راعى
في المرحلة التعليمية العالية التبحر في أقسام التخصص، وبدأ التفكير في
إدخال الوسائل التعليمية المتنوعة.
وحرص على أن يصطبغ التعليم
الزيتوني بالصبغة الشرعية والعربية، حيث يدرس الطالب الزيتوني الكتب التي
تنمي الملكات العلمية وتمكنه من الغوص في المعاني؛ لذلك دعا إلى التقليل
من الإلقاء والتلقين، وإلى الإكثار من التطبيق؛ لتنمية ملكة الفهم التي
يستطيع من خلالها الطالب أن يعتمد على نفسه في تحصيل العلم.
ولدى استقلال تونس أسندت إليه رئاسة الجامعة الزيتونية سنة (1374 هـ = 1956م).
التحرير والتنوير..
كان الطاهر بن عاشور عالما مصلحا مجددا، لا يستطيع الباحث في شخصيته وعلمه
أن يقف على جانب واحد فقط، إلا أن القضية الجامعة في حياته وعلمه ومؤلفاته
هي التجديد والإصلاح من خلال الإسلام وليس بعيدا عنه، ومن ثم جاءت آراؤه
وكتاباته ثورة على التقليد والجمود وثورة على التسيب والضياع الفكري
والحضاري.
يعد الطاهر بن عاشور من كبار مفسري القرآن الكريم في
العصر الحديث، ولقد احتوى تفسيره "التحرير والتنوير" على خلاصة آرائه
الاجتهادية والتجديدية؛ إذ استمر في هذا التفسير ما يقرب من 50 عاما،
وأشار في بدايته إلى أن منهجه هو أن يقف موقف الحكم بين طوائف المفسرين،
تارة لها وأخرى عليها؛ "فالاقتصار على الحديث المعاد في التفسير هو تعطيل
لفيض القرآن الكريم الذي ما له من نفاد"، ووصف تفسيره بأنه "احتوى أحسن ما
في التفاسير، وأن فيه أحسن مما في التفاسير".
وتفسير التحرير
والتنوير في حقيقته تفسير بلاغي، اهتم فيه بدقائق البلاغة في كل آية من
آياته، وأورد فيه بعض الحقائق العلمية ولكن باعتدال ودون توسع أو إغراق في
تفريعاتها ومسائلها.
وقد نقد ابن عاشور كثيرا من التفاسير
والمفسرين، ونقد فهم الناس للتفسير، ورأى أن أحد أسباب تأخر علم التفسير
هو الولع بالتوقف عند النقل حتى وإن كان ضعيفا أو فيه كذب، وكذلك اتقاء
الرأي ولو كان صوابا حقيقيا، وقال: "لأنهم توهموا أن ما خالف النقل عن
السابقين إخراج للقرآن عما أراد الله به"؛ فأصبحت كتب التفسير عالة على
كلام الأقدمين، ولا همّ للمفسر إلا جمع الأقوال، وبهذه النظرة أصبح
التفسير "تسجيلا يقيَّد به فهم القرآن ويضيَّق به معناه".
ولعل
نظرة التجديد الإصلاحية في التفسير تتفق مع المدرسة الإصلاحية التي كان من
روادها الإمام محمد عبده الذي رأى أن أفضل مفسر للقرآن الكريم هو الزمن،
وهو ما يشير إلى معان تجديدية، ويتيح للأفهام والعقول المتعاقبة الغوص في
معاني القرآن. وكان لتفاعل الطاهر بن عاشور الإيجابي مع القرآن الكريم
أثره البالغ في عقل الشيخ الذي اتسعت آفاقه فأدرك مقاصد الكتاب الحكيم
وألم بأهدافه وأغراضه، مما كان سببا في فهمه لمقاصد الشريعة الإسلامية
التي وضع فيها أهم كتبه بعد التحرير والتنوير وهو كتاب "مقاصد الشريعة".
مقاصد الشريعة..
كان الطاهر بن عاشور فقيها مجددا، يرفض ما يردده بعض أدعياء الفقه من أن
باب الاجتهاد قد أغلق في أعقاب القرن الخامس الهجري، ولا سبيل لفتحه مرة
ثانية، وكان يرى أن ارتهان المسلمين لهذه النظرة الجامدة المقلدة سيصيبهم
بالتكاسل وسيعطل إعمال العقل لإيجاد الحلول لقضاياهم التي تجد في حياتهم.
وإذا كان علم أصول الفقه هو المنهج الضابط لعملية الاجتهاد في فهم نصوص
القرآن الكريم واستنباط الأحكام منه فإن الاختلال في هذا العلم هو السبب
في تخلي العلماء عن الاجتهاد. ورأى أن هذا الاختلال يرجع إلى توسيع العلم
بإدخال ما لا يحتاج إليه المجتهد، وأن قواعد الأصول دونت بعد أن دون
الفقه، لذلك كان هناك بعض التعارض بين القواعد والفروع في الفقه، كذلك
الغفلة عن مقاصد الشريعة؛ إذ لم يدون منها إلا القليل، وكان الأولى أن
تكون الأصل الأول للأصول لأن بها يرتفع خلاف كبير.
ويعتبر كتاب "مقاصد الشريعة" من أفضل ما كتب في هذا الفن وضوحا في الفكر ودقة في التعبير وسلامة في المنهج واستقصاء للموضوع.
محنة التجنيس..
لم يكن الطاهر بن عاشور بعيدا عن سهام الاستعمار والحاقدين عليه
والمخالفين لمنهجه الإصلاحي التجديدي، فتعرض الشيخ لمحنة قاسية استمرت 3
عقود عرفت بمحنة التجنيس، وملخصها أن الاستعمار الفرنسي أصدر قانونا في
(شوال 1328 هـ = 1910م) عرف بقانون التجنيس، يتيح لمن يرغب من التونسيين
التجنس بالجنسية الفرنسية؛ فتصدى الوطنيون التونسيون لهذا القانون ومنعوا
المتجنسين من الدفن في المقابر الإسلامية؛ مما أربك الفرنسيين فلجأت
السلطات الفرنسية إلى الحيلة لاستصدار فتوى تضمن للمتجنسين التوبة من خلال
صيغة سؤال عامة لا تتعلق بالحالة التونسية توجه إلى المجلس الشرعي.
وكان الطاهر يتولى في ذلك الوقت سنة (1352 هـ = 1933م) رئاسة المجلس
الشرعي لعلماء المالكية فأفتى المجلس صراحة بأنه يتعين على المتجنس عند
حضوره لدى القاضي أن ينطق بالشهادتين ويتخلى في نفس الوقت عن جنسيته التي
اعتنقها، لكن الاستعمار حجب هذه الفتوى، وبدأت حملة لتلويث سمعة هذا
العالم الجليل، وتكررت هذه الحملة الآثمة عدة مرات على الشيخ، وهو صابر
محتسب.
صدق الله وكذب بورقيبة..
ومن المواقف المشهورة
للطاهر بن عاشور رفضه القاطع استصدار فتوى تبيح الفطر في رمضان، وكان ذلك
عام (1381 هـ = 1961م) عندما دعا "الحبيبُ بورقيبة" الرئيسُ التونسي
السابق العمالَ إلى الفطر في رمضان بدعوى زيادة الإنتاج، وطلب من الشيخ أن
يفتي في الإذاعة بما يوافق هذا، لكن الشيخ صرح في الإذاعة بما يريده الله
تعالى، بعد أن قرأ آية الصيام، وقال بعدها : "صدق الله وكذب بورقيبة"،
فخمد هذا التطاول المقيت وهذه الدعوة الباطلة بفضل مقولة ابن عاشور.
وفاته:
وقد توفي الطاهر بن عاشور في (13 رجب 1393 هـ = 12 أغسطس 1973م) بعد حياة
حافلة بالعلم والإصلاح والتجديد على مستوى تونس والعالم الإسلامي.
abouimed-
- عدد المساهمات : 2452
العمر : 60
المكان : القصرين
المهنه : ولد القصرين و يرفض الذل
الهوايه : الحرية ضاهر و باطن
نقاط تحت التجربة : 15118
تاريخ التسجيل : 28/01/2010
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى