احداث قفصة 1980

ضحية من ضحايا احداث قفصة الدموية
عند الساعة الثانية صباحا، من يوم الاحد، الموافق للسابع والعشرين من شهر يناير، عام 1980م، استيقظ اهالي مدينة قفصة، على اصوات القنابل والصواريخ والرصاص. فقد اقتحم ستون مسلحا، مراكز الشرطة والحرس الوطني وثكنات الجيش ومقار الامن في قفصة، المدينة التي تبعد مائة كيلومتر تقريبا عن الحدود الجزائرية. واستولت المجموعة المسلحة، على اسلحة وذخيرة اخرى، لاتمام مهمتهم في المدينة. وكان المهاجمون يحثون الاهالي على الانضمام الى الثورة، ويعلنون ،عبر مكبرات الصوت، عن قيام الثورة الشعبية المسلحة، التي يفترض انها ستنطلق من قفصة، وتنتشر في ارجاء تونس، لاسقاط نظام الرئيس ابو رقيبة. وذلك بعد ان ينضم الشعب التونسي بكامله، الى هذه الانتفاضة المسلحة.

يعتبر عز الدين الشريف، هو القائد السياسي لهذه العملية. وهو من سكان مدينة قفصة، واحد المشتركين في انقلاب سابق، ضد النظام التونسي في عام 1962م. وقد سجن على خلفية تلك المحاولة، لمدة عشرة سنوات. سافر بعد خروجه من السجن الى ليبيا، فاحتضنه مكتب الاتصال الخارجي في ليبيا. والذي كان يجب ان يسمى "مكتب الارهاب الخارجي"، بدلا من الاتصال الخارجي. وقد بدأ الاعداد لعملية قفصة، بعد وصول عز الدين الشريف، الى ليبيا في عام 1978م تقريبا. اما القائد الميداني، او العسكري للعملية، فهو المدعو أحمد المرغني، وكان ينتمي الى الجبهة القومية للقوى التقدمية التونسية. وهو من مدينة جرجيس بتونس، وقد ولد في عام 1941م، وهاجر الى ليبيا للعمل في 1971م. وهناك بدأ، دفعه النظام الليبي وشجعه على التفكير والاعداد والتخطيط لعملية قفصة.

احمد المرغني القائد العسكري للمجموعة
وبالاضافة الى المرغني، اشترك في قيادة العملية كل من: بالقاسم كريمي، حسين نصر العبيدي، عبد الرازق نصيب، العربي الورغمي، نور الدين الدريدي، محمد صالح المرزوقي، وقد وزعوا بينهم المهام المدنية والعسكرية، فبعضهم لمهاجمة مركز الشرطة، والبعض الاخلر لمهاجمة الحرس الوطني، والبعض الاخر لمهاجمة مراكز الامن، وثكنات الجيش.

ينتمي اغلب المشتركون الى الجبهة القومية التقدمية. كما كان اغلبهم من الشباب، غير المتزوجين، والذين تتراوح اعمارهم من العشرين الى الثلاثين عاما. وهم جميعا من العمال واصحاب المهن والاعمال اليدوية والفلاحة، من الذين هاجروا الى ليبيا من اجل لقمة العيش، فاستغل النظام حاجتهم، وجندهم لخدمة اهداف عبثية لا طائل ولا فائدة فيها للشعبين الليبي والتونسي.

سقط الكثير من القتلى، من المدنيين والعسكريين، اثناء الصدامات الدموية المسلحة. كما يروى ان المجموعة المسلحة، قد قامت بقتل العديد من المدنيين، وخاصة من الذين رفضوا الانضمام اليهم، او رفضوا الانصياع الى اوامرهم. واسروا، فوق ذلك، المئات من المدنيين والعسكريين، وحجزوا الجميع، في احد المعاهد في المدينة. كما استولت المجموعة ايضا على حافلة ركاب، كانت قادمة من الجزائر، ومتجهة الى طرابلس ليبيا، وحجزوا ركابها كرهائن. ناهيك عن الرعب، الذي اصاب سكان المدينة، من النساء والرجال والاطفال.

تحركت القوات المسلحة التونسية، وحاصرت المنطقة، والمبنى الذي تحصن به المهاجمون، وحررت الاسرى، وقتلت اغلب المسلحين. واستطاع بعض المسلحين، بالاضافة الى قائد العملية، الهرب. واستمرت حالة التوتر في المدينة، حتى الساعة الرابعة مساء، تقريبا، من نفس اليوم.

ليبيا تصدر الارهاب الى تونس: بعض من المشتركين في احداث قفصة بعد القبض عليهم.
وتم لعدة ايام، تمشيط المدينة، بحثا عن الاسلحة وعن الهاربين. وتم بالفعل القبض على اغلب من بقى من المجموعة على قيد الحياة، بما فيهم احمد المرغني، الذي كان يحاول الهرب الى ليبيا، في صباح نفس اليوم. وعثر ايضا، على جميع الاسلحة التي تم الاستيلاء عليها من المعسكرات التونسية، وكذلك الاسلحة التي تم تهريبها من ليبيا. اما عز الدين الشريف، القائد السياسي للعملية، فقد سلم نفسه للحكومة التونسية، بعد فشل العملية. وربما تم اعدامه.

وتم لعدة ايام، تمشيط المدينة، بحثا عن الاسلحة وعن الهاربين. وتم بالفعل القبض على اغلب من بقى
كانت قفصة مدينة تمثل مركز المقاومة النقابية والعمالية. وكانت تنشر فيها البطالة اكثر من غيرها من المدن، ولقفصة تاريخ نضالي طويل، فقد كانت محطة لتهريب الاسلحة الى الثوار الجزائريين، اثناء حرب التحرير الجزائرية، ضد الاستعمار الفرنسي. كما كانت مركزا لاغلب حركات المقاومة المدنية التونسية، ضد الاستعمار الفرنسي، وضد النظام التونسي ايضا، وذلك اثناء فترة حكم الرئيس بورقيبة. وكانت، تمثل، بشكل او باخر، بؤرة الاضطرابات ضد السلطات. لذلك تم اختيارها من قبل المخططين لهذه العملية، على اعتبار ان شرارة الثورة المسلحة، اذا انطلقت من قفصة، المناضلة، فانها حتما ستنتشر بسرعة وسهولة، في ارجاء تونس. هكذا صور النظام الليبي، الامر للمجموعة، التي تم تدريبها وتمويلها، من قبل النظام الليبي، او بصورة ادق، من قبل مكتب الارهاب الخارجي.

لابد ايضا، من الاشارة الى امر اخر، فقد جاء على لسان الذين تم القبض عليهم، ان النظام الليبي، قد وعد المجموعة المسلحة، ان الجيش الليبي، وخاصة المشاة والطيران، سيقوم، بمجرد اطلاق الرصاص في شوارع قفصة، وانطلاقة الانتفاضة المسلحة، بالتدخل فورا، لدعم الانتفاضة، وتثبيت الحكم للثوار، ثم الانسحاب بعد ذلك. وبالطبع لم ولن يحدث اي من هذه الوعود.

ازدادت حدة التوتر بين ليبيا وتونس بعد احداث قفصة، وشنت الاذاعة التونسية، حربا اعلامية منظمة مدروسة مركزة، في شكل برامج موجهة، اغضبت النظام الليبي، غضبا شديدا، فقد وصل تاثيرها الى كل بيت في ليبيا، الى درجة اصبح معها الليبيون ينتظرون هذه البرامج الموجهة، يوميا، وبفارغ الصبر. واذكر ان الاذاعة التونسية، قد اتخذت من قصيدة "قم فانهض يا عمر المختار"، لاحمد اللغماني، مقدمة يومية، لبرامجها الموجهة.

فكان الناس في ليبيا، اذا سمعوا البيت الاول من القصيدة، والذي يقول "قم فانظر يا عمر المختارعبث الثورية والثوار"، تجمعوا حول المذياع، شيبا ونساء وشبابا، حتى ينتهي البرنامج. واستمر نشر هذه البرامج الموجهة، ونشر هذه القصيدة، حتى هدأت الحالة بين النظامين.

تقول ابيات القصيدة:

لازلت اذكر الاعلان المفاجيء عن الوحدة بين ليبيا وتونس. فقد استمعت، كغيري من الشعب الليبي، في الثاني عشر من يناير، من عام 1974م، عن اعلان الوحدة بين ليبيا وتونس، وانضواء البلدين تحت مسمى جديد، هو "الجمهورية العربية الاسلامية". وقد تم الاتفاق على هذه الوحدة، بين الرئيس التونسي، الحبيب ابورقيبة، ومعمر، في جزيرة جربة. لذلك عُرف هذا الاتفاق، المؤقت والارتجالي والمتسرع، باتفاق جربة. وعند مراجعة المشروع، الذي ولد ميتا، قررت تونس الغاء الاتفاق، نهائيا، حتى بعد التوقيع عليه، من قبل بورقيبة، وحتى بعد اعلان الوحدة في الاذاعة المسموعة الليبية. وقد تم الغاء الاتفاق، بعد مشاورات قانونية واجرائية ودستورية (في تونس بالطبع). كما اعترض العديد من اهم المفكرين والسياسيين، على هذا المشروع، من بينهم، بل ربما، من اهمهم على الاطلاق، الوزير الاول (رئيس الوزراء) السيد الهادي نويرة.

الرئيس التونسي السابق الحبيب ابو رقيبة.

لكن الصفعة التي لم ولن ينساها معمر، فهي الدرس العلني الذي القاه الرئيس ابو رقيبة، على شاشات التلفزيون، وبحضور معمر. فقد شاهد العالم، الرئيس بورقيبة، على الهواء، يلقي الدروس على معمر، عن الوحدة والتريث والخبرة والتحدي والوطنية واصول السياسة والتخطيط، وغير ذلك من الدروس، في كل شيء تقريبا. وقد اوردنا رابط اليوتوب، مع مراجع هذا المقال (المرجع رقم ، لمن اراد الاطلاع، صوت وصورة، على الرئيس بورقيبة، وهو يحاضر على معمر علنا، على خلفية، اعلان الوحدة بين ليبيا وجربة.

ويالطبع ادى الغاء هذا الاتفاق، ايضا، وخاصة بعد ان تم التوقيع عليه، واعلانه من الاذاعة الليبية، بالاضافة الى الدرس العلني المذكور، ادت كل هذه الامور، وغيرها، الى توتر شديد في العلاقات الليبية التونسية. وربما ولدت ارهاصات احداث قفصة، نتيجة لهذه الاحداث. ولابد من التنويه، الى ان الغاء الاتفاق، والدرس العلني القاسي، وما جرى، بعد ذلك، من وقائع واحداث، بين ليبيا وتونس، هي جميعها، امور، لا تبرر على الاطلاق، اهدار نقطة دم واحدة.

واظن ان احداث قفصة، هي عبث بارواح البشر، وعملية اراد ان ينتقم بها معمر من النظام التونسي، على خلفية الغاء الاتفاقية، وما تبعها من تداعيات. فهي، مرة اخرى، عملية انتقامية عبثية، استخدم فيها معمر ومكتب الارهاب الخارجي، امكانيات البلدين من مال وبشر ومعدات وسلاح، في زيادة الام هذه الامة. واستغل فيها النظام الليبي، فقر المهاجرين، من التونسيين، الذين جاءوا الى ليبيا، من اجل لقمة العيش. وبدلا من ان يوفر لهم المدارس والاعمال وفرص اخرى نحو حياة افضل، رمى بهم في معسكرات للتدريب على القتل والقتال. ولو كان معمر صادقا، في الرغبة في الوحدة بين البلدين، لما اذى انسانا عربيا واحدا. ولا يعني هذا ان النظام التونسي، لم يكن يعاني في ذلك الوقت، من مشاكل سياسية واقتصادية، ولكن معالجة هذه المشاكل لا يمكن ان تتم بالارهاب. كما ان الوحدة لا يمكن ان تتم بالارتجال، ومن اجل كسب مواقف شخصية تاريخية، تستخدم فيها الام ومعاناة وطموح الشعوب في الدعاية والاعلان لشخص معمر. وقد دفعني لكتابة هذا المقال، دعوة معمر الى فتح ابواب العمل امام الاخوة من تونس. فالله يكون في عونهم، وفي عون الشعب الليبي. والله المستعان على امره.

د. فتحي الفاضلي