المسألـة الصوفيــة بين الشـــاطبي وابن خلـــدون
صفحة 1 من اصل 1
المسألـة الصوفيــة بين الشـــاطبي وابن خلـــدون
المسألـة الصوفيــة بين الشـــاطبي وابن خلـــدون
المسألة الصوفية بين الشاطبي وابن خلدون: دراسة في الأسس الشرعية والتاريخية للظاهرة الصوفية
أولا: مقدمات تأسيسية
مقدمة أولى:
لا يسعف فهم الظاهرة الصوفية الاستغراق التأملي المجرد عن الأنظار العلمية للعلماء السابقين الذين عاشوا تجلياتها الاجتماعية والواقعية أو تواصلوا مع حيثياتها العلمية إلى جانب المتصوفة الذين أسسوا لمبادئها الكبرى و تمثلوا قواعدها العرفانية، لذلك يلزم لفقه أبعاد المعرفة الصوفية الإنصات إلى كلام العلماء السابقين الذين تناولوها إما دراسة من جانب تاريخي أو عالجوا مسائلها على نحو شرعي أو من جوانب أخرى لا تقل أهمية، هذه الورقة اختاري الرؤية للمسألة الصوفية من جانبي التاريخ والفقه في قراءة أبعادها الكلية والجزئية.
مقدمة ثانية:
يتأسس النظر من مقاربة عرفانية بين الشاطبي وابن خلدون في فقه التصوف على قيمة الرجلين في مرحلتهما من جهة، وبعد نظرهما في مثل هذه القضايا والمسائل التي عاصرتهما بعض إشكالاتها من جهة ثانية، فالرجلين من كبار النظار اللذين أنجبتهما حضارة المسلمين ليس في زمانهم فحسب، بل عبر مستقبل الأزمان إلى يومنا، فهما من القلائل الذين فقهوا حقيقة العلوم وتطور سياقاتها وفلسفة مقاصدها، كما يدركان أبعاد الظواهر الدينية والاجتماعية الطارئة والواردة بصورة عميقة. إضافة إلى ذلك، فإن النظر العلمي المعاصر يصعب عليه فقه تلك الإشكالات العلمية كفقه التصوف دون استصحاب تلك الأنظار المدونة في مصنفاتهم على قلتها وضعف مناسباتها.
مقدمة ثالثة:
تكتمل الرؤية المعرفية لحقيقة التصوف بين النظر الأصولي الشرعي والنظر التاريخي، من حيث عناية الشاطبي بالتصوف في مظان منتشرة من تصانيفه وإشكالاته المرسولة على الوجه الشرعي والأصولي من جهة، التحقيق ومن حيث اختصاص ابن خلدون بشقه التاريخي والاجتماعي في البيان والتحليل في فقه الطريقة من جهة التعليل، إلا أن موضوع التصوف يحتاج لبيان حقيقته ومذهبيته على وجه الصحة والجوهر، برصد ذلك التطور التاريخي الذي مر به، ليتمكن الفقيه الأصولي من فقه قضاياه الشرعية وبدايات نشأته، والتحول الذي مال إليه، وسوف نلمس أبعاد هذا الاختلاف التكاملي في زوايا الاهتمام بين طيات هذه المكتوبة.
مقدمة رابعة:
يثير سؤال الشاطبي المشكل[1] وجواب ابن خلدون الشافي في مسألة من أدق المسائل في التصوف وأخطرها، أسئلة كثيرة متناسلة، بعضها لصيق بطبيعة الإشكال وصورة الجواب معرفيا وثقافيا، وبعضها الآخر مرتبط بعلاقة الشاطبي وابن خلدون المبهمة الملفوفة في لغز إما ذو بعد تاريخي أو معرفي أو شخصاني:
أول هذه الأسئلة: لماذا نذر ابن خلدون نفسه للجواب عن الرسالة؟ ولماذا لم يذكر السائل في مطلع الجواب "الشفاء"؟ .
ثانيها: لماذا كلف نفسه الجواب رغم أن عددا من العلماء المؤهلين لذلك قد أجابوا وأفادوا وأجادوا كابن عباد النفري وابن القباب ...
ثالثها: كل العلماء المجيبين عن السؤال ذكروا أبو إسحاق سائلا مستفتيا بالاسم إلا ابن خلدون لم يذكره لا في الشفاء ولا في المقدمة؟
رابعها: هل ما أجاب به ابن خلدون يقوم على استدلالات شرعية أم كان مقلدا في الشفاء؟
ثانيا: مفهوم التصوف عند الشاطبي وابن خلدون
رغم أن الشاطبي لم يفرد التصوف بتصنيف خاص وإن أبدى رغبته ونيته في تأليف دليل في التصوف حيث قال: "وفي غرضي إن فسح الله في المدة وأعانني بفضله ويسر لي الأسباب أن ألخص في طريقة القوم أنموذجا يستدل به على صحتها وجريانها على الطريقة المثلى"[2].
رغم ذلك، فإنه ذكر تعريفات مفصلة وجامعة للفظ التصوف في كتابه الاعتصام، حيث قال "وحاصل ما يرجع فيه لفظ التصوف عندهم معنيان، أحدهما: التخلق بكل خلق سني والتجرد عن كل خلق دني، والآخر: أنه الفناء عن نفسه والبقاء لربه"[3] والتعريفين حدين مركزين مانعين للتصوف، فالأول تعريف بالتجلي من الأوصاف في نفس الإنسان، باعتباره تمثل للخلق الرفيع من جانب المتعين، أي بحسب التمثل في مواقع الوجود، ومن جانب العدم أي بحسب الكف عن كل ما يقرب من خلق يودي بتجليات الخلق الرفيع، والثاني انعكاس صوري لذلك التمثل العملي في عالم الكمال والنهاية، من حيث التضحية في سبيل الخالق قربا إليه وبعدا عن النفس، ويبقى في نهاية المعنى أنهما يرجعان "في التحقيق إلى معنى واحد إلا أن أحدهما يصلح التعبير به عن البداية، والآخر يصلح التعبير به عن النهاية وكلاهما اتصاف، إلا أن الأول لا يلزمه الحال والثاني يلزمه الحال وقد يعبر فيهما بلفظ آخر"[4] وذلك هو منتهى التصوف وحقيقته، فالأول تصريف للأعمال التكليفية المنوطة بالمسلم بما يحقق تخلقه، والثاني مرآة عاكسة لحقيقة التكاليف من حيث جمالها وكمالها، يقول الشاطبي" فيكون الأول عملا تكليفيا والثاني نتيجته ويكون الأول اتصاف الظاهر والثاني اتصاف الباطن، ومجموعهما هو التصوف"[5].
أما ابن خلدون فعكس الشاطبي فقد ألف كتابا في الموضوع، سيأتي الكلام في أصله، الأمر الذي دفعه إلى تخصيصه بالتعريف والبيان، فبعد أن تحدث عن أصل كلمة التصوف والمنازع المفهومية التي اختلف فيها خلص إلى المفهوم الاصطلاحي الآتي فقال:"التصوف رعاية حسن الأدب مع الله في الأعمال الباطنة والظاهرة بالوقوف عند حدوده، مقدما الاهتمام بأفعال القلوب، مراقبا خفاياها، حريصا بذلك على النجاة."[6]
ولا يوجد فرق كبير بين تعريفي الشاطبي وابن خلدون وبين ما عرف به الغزالي التصوف في الإحياء[7] وإن سماه بتسمية موافقة، فقال "علم المكاشفة: هو علم الباطن وذلك غاية العلوم، فقد قال بعض العارفين: من لم يكن له نصيب من هذا العلم أخاف عليه سوء الخاتمة، وأدنى نصيب منه التصديق به والتسليم لأهله"[8] .
ويرى ابن خلدون أن علم التصوف قد طرأ عليه تغير عبر تقادم الزمن مع التحولات الاجتماعية، وتطور العلوم عبر مراحل تاريخية من مجال تداولي تعبدي اجتماعي، إلى رسوم علمية لها ضوابطها وأسسها، يقول: " وصار علم التصرف في الملة علما مدونا بعد أن كانت الطريقة عبادة فقط، وكانت أحكامها إنما تتلقى من صدور الرجال كما وقع في سائر العلوم التي دونت بالكتاب من التفسير والحديث والفقه والأصول وغير ذلك، ثم إن هذه المجاهدة والخلوة والذكر يتبعها عالما كشف حجاب الحس والاطلاع على عوالم من أمر الله، ليس لصاحب الحس إدراك شيء منها، والروح من تلك العوالم، وسبب هذا الكشف أن الروح إذا رجع عن الحس الظاهر إلى الباطن ضعفت أحوال الحس وقويت أحوال الروح وغلب سلطانه وتجدد نشوه وأعان على ذلك الذكر، فإنه كالغذاء لتنمية الروح ولا يزال في نموه وتزيد إلى أن يصير بعد أن كان علما "[9].
لكن ما ينبغي التأشير عليه في مفهوم التصوف عند الشاطبي وابن خلدون، هو ذلك الاختلاف الدقيق بين الرجلين في المقصود، فأبو إسحاق يعتبر التصوف تمثل تكليفي بالقصد الأصلي وتخلق اتصافي بالقصد التبعي فالتخلق بالخلال والتزكية تتويج ضروري للتصريف الظاهر للأحكام، أما ابن خلدون فيرى بالمقابل أن التصوف نظر إلى أفعال القلوب الباطنة بالقصد الأول والاهتمام الأولى مع الانقطاع على العبادة خلوة وانفرادا، قبل النظر في أعمال الجوارح الظاهرة .
ويقول ابن خلدون مؤكدا اتجاهه هذا أن أصل التصوف: " العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة"[10]. بل إن ابن خلدون في بيانه للتطور التاريخي لقصة التصوف يؤكد تصريحا أن فقه الشريعة على نوعين:
"الأول: فقه الظاهر: وهو معرفة الأحكام المتعلقة بأفعال الجوارح... وهذا هو المسمى بالفقه في المشهور وحامله الفقيه، وهم أهل الفتيا وحراسة الدين.
النوع الثاني: فقه الباطن ومعرفة الأحكام المتعلقة بأفعال القلوب، وما يخص المكلف في نفسه من أفعال الجوارح في عبادته وتناوله لضرورياته، ويسمى هذا فقه القلوب وفقه الباطن وفقه الورع، وعلم الآخرة والتصوف"[11]. فيظهر إذا أن ابن خلدون يجعل التصوف شقا خاصا مستقلا من حيث المعنى عن الفقه الخاص بالظاهر. عكس الشاطبي الذي اعتبر التصوف مزيجا بين الأمرين.
ثالثا: حقيقة المتصوفة عند الشاطبي وابن خلدون
عادة الجهابذة من الأصوليين تحقيق النظر في المسائل والتصرفات الصادرة عن المكلفين، وخاصة ما لها علاقة بأصول الأدلة من كتاب وسنة، ولعل ما أثارته مسألة التصوف والمتصوفة من إشكالات علمية وشرعية عبر تاريخ الفقه منذ نشأته مثال على ذلك، ولم يفت أبو إسحاق أن يحقق في ذلك، فهو يعتبر أن أهل التصوف في مبتدأِ سنتهم وتصرفاتهم الأصلية لا تخرج عن أصول الكتاب والسنة، بل هو عن الابتداع في الدين أبعد، وعن الإحداث في صفو الشريعة أرهب، وما القائل بغير ذلك لا يعقل حقيقتهم ولا يدرك مقاصدهم فيقول: "لأن كثيرا من الجهال يعتقدون[12] فيهم أنهم متساهلون في الاتباع، وأن اختراع العبادات والتزام ما لم يأت في الشرع التزامه مما يقولون به، ويعملون عليه، وحاشاهم من ذلك أن يعتقدوه أو يقولوا به فأول شيء بنوا عليه طريقتهم اتباع السنة واجتناب ما خالفها"[13].
لذلك، فإن المتصوفة إنما ظهر مذهبهم بقصد حفظ وحماية السنة من تسرب البدع والمحدثات إلى التعبدات بين الناس، وكذا تمييزا لسلوكهم عن تصرفات المبتدعين وعدم مخالطتهم، وقد أورد الغزالي مقولة لحد العارفين بالتصوف يؤكد هذه الحقيقة بقوله: "..وقال آخر من كان فيه خصلتان لم يفتح له بشيء من هذا العلم، بدعة، أو كبر وقيل: من كان محبا للدنيا أو مصرا على هوى لم يتحقق به وقد يتحقق بسائر العلوم، وأقل عقوبة من ينكره أنه لا يذوق منه شيئا"[14]، وهذا ما يزعمه حافظ مذهبهم أبو القاسم القشيري حسب أبي إسحاق إذ يقول: "حتى زعم مذكرهم وحافظ مأخذهم وعمود نحلتهم أبو القاسم القشيري إنهم إنما اختصوا باسم التصوف انفرادا به عن أهل البدع، فذكر أن المسلمين بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يتسم أفاضلهم في عصرهم باسم علم سوى الصحبة، إذ لا فضيلة فوقها، ثم سمى من يليهم التابعين، ورأوا هذا الاسم أشرف الأسماء، ثم قيل لمن بعدهم أتباع التابعين، ثم اختلف الناس وتباينت المراتب فقيل لخواص الناس ممن له شدة عناية في الدين الزهاد والعباد"[15].
ولبيان موقفه من حقيقة التصوف استند في ذلك على آراء المتصوفة المؤسسين في معنى التصوف، من ذلك إيراده لقول أبي القاسم النصراباذي" أصل التصوف ملازمة الكتاب والسنة وترك البدع والأهواء وتعظيم حرمات المشايخ ورؤية أعذار الخلق والمداومة على الأوراد وترك ارتكاب الرخص والتأويلات"[16]. كما كانت عناية الشاطبي بالتحقق في مرامي المتصوفة، وقياس مقاماتها باتباع السنة، أو ابتداع محدثات خارجة عنها سببا في تعرضه بإنكار المتصوفة عليه صنيعه، واتهامه بمعاداتهم حيث قال في مقدمة الاعتصام: "وتارة نسبت إلى معاداة أولياء الله، وسبب ذلك أني عاديت بعض الفقراء المبتدعين المخالفين للسنة المنتصبين بزعمهم لهداية الخلق، وتكلمت للجمهور على جملة من أحوال هؤلاء الذين نسبوا أنفسهم إلى الصوفية ولم يتشبهوا بهم"[17].
أما ابن خلدون فلأن منزعه تاريخي اجتماعي فقد ركز على الأبعاد الخلقية العامة عند المتصوفة في بيان حقيقتهم، دون تركيز النظر إلى أبعد حد في مدى التوافق أو التخالف مع التصرفات الشرعية، فاعتبر أن طريقتهم قائمة على المحاسبة الذاتية والصعود في سلم المجاهدات، حتى منتهى المقام الخاص لديهم حيث تجري ألفاظ مخصوصة لديهم ومعاني متعينة عندهم يقول: "ظهر أن أصل طريقتهم كلها محاسبة النفس على الأفعال والتروك والكلام في هذه الأذواق والمواجد التي يحصل عن المجاهدات، ثم تستقر للمريد مقاما يترقى منها إلى غيرها، ثم لهم مع ذلك آداب مخصوصة بهم واصطلاحات في ألفاظ تدور بينهم "[18].
بل، إن ابن خلدون يرى أن للمتصوفة محمية ذوقية خاصة بهم، لا يسعف اصطلاحاتها ومعانيها غيرهم فقه لسانهم أو الكلام في مضامينها: "فلهذا اختص هؤلاء بهذا النوع العلم الذي ليس لواحد غيرهم من أهل الشريعة الكلام فيه"[19].
رابعا: مقاصد التصوف عند الشاطبي وابن خلدون
إن أصول ظهور المتصوفة ومذهبهم يروم تحقيق الغايات والمقاصد التي من أجلها قام التصوف وتأسس ابتداء، ولا يمكن في الإجمال خروج تلك المقاصد عن كليات الشريعة العظمى المرتبطة بحقيقة التوحيد والعبودية والتزكية، وقد نبه كل من الشاطبي وابن خلدون على ثلة من تلك المقاصد في حديثهما عن مفهوم التصوف ومتعلقاته، ويمكن تصنيفها إلى قسمين:
1ـ مقاصد أصلية:
أـ حماية السنة.
وهو مقصد يتراءى مند بداية ظهور التصوف وأهله، حيث ظهرت هذه الطائفة دفاعا عن سنة السلف الصالح ودرءا للبدع البادية في التفشي، لأن "أول شيء بنوا عليه طريقتهم اتباع السنة واجتناب ما خالفها"[20] ثم "إن الصوفية الذين نسبت إليهم الطريقة مجمعون على تعظيم الشريعة مقيمون على متابعة السنة غير مخلين بشيء من آدابها، أبعد الناس عن البدع وأهلها، ولذلك لا نجد منهم من ينتسب إلى الفرق الضالة"[21]وحينما يذكر الشاطبي أو ابن خلدون هذا المقصد فهما يربطانه بجانب الوجود أي الحفاظ على تمثل السنة في مواقع الوجود البشري وبجانب العدم أي محاربة البدع ومواجهة المبتدعين، يقول ابن خلدون: "ثم طرقت آفة البدع في المعتقدات، وتداعى العباد وإلى هذا معتزلي ورافضي وخارجي لا ينفعه صلاح أعماله الظاهرة ولا الباطنة، مع فساد المعتقد الذي هو رأس الأمر. فانفرد خواص السنة المحافظون على أعمال القلوب، المقتدون بالسلف الصالح في أعمالهم الباطنة والظاهرة، وسموا بالصوفية"[22].
وذلك ما أكد عليه عبد الكريم القشيري 465هـ أحد أقطاب الصوفية حين تحدث عن ظهور التصوف "...ثم اختلف الناس وتباينت المراتب، فقيل لخواص الناس ممن لهم عناية شديدة بأمر الدين الزهاد والعباد، ثم ظهرت البدع، وحصل التداعي بين الفرق، فكل فريق ادعوا أن فيهم زهادا فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفاسهم مع الله تعالى، الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوف، واشتهر هذا الاسم لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة"[23].
ويرى الشاطبي أن المقصد الذي بنيت لأجله طريقة التصوف، قد غفل عنه المتأخرون من الصوفية فسقطوا فيما حاول متقدموهم التنبيه عليه والتحذير منه، "وإنه إنما داخلتها المفاسد وتطرقت إليها البدع من جهة قوم تأخرت أزمانهم عن عهد ذلك السلف الصالح وادعوا الدخول فيها من غير سلوك شرعي ولا فهم لمقاصد أهلها "[24]فكانت طريقتهم عرضة للقدح من جهة البعض، حتى اتهموهم بالتهاون في اتباع السنة وحمايتها من البدع و المحدثات، يقول أبو إسحاق "وتقولوا عليهم ما لم يقولوا به حتى صارت ـ أي طريقة التصوف ـ في هذا الزمان الأخير كأنها شريعة أخرى غير ما أتى بها محمد (صلى الله عليه وسلم) وأعظم من ذلك أنهم يتساهلون في اتباع السنة ويرون اختراع العبادات طريقا للتعبد صحيحا وطريقة القوم بريئة من هذا الخباط بحمد الله"[25].
ب ـ الجمع بين الظاهر والباطن.
إن من المقاصد الأصلية للتصوف هو الجمع بين فقه الظاهر والباطن؛ أي أعمال التكليف الظاهرة وأعمال القلوب الباطنة حتى تستوي النفس الإنسانية على سوق العبادة الكاملة، وقد أشار إلى ذلك الشاطبي في تعريفه[26]للتصوف حيث جمع بينهما، ونفس الأمر بالنسبة لابن خلدون، وإن منح أفضلية القصد الصوفي للشق الباطني يقول"وكثرت العناية بالنوع الأول الذي هو الفقه لعموم البلوى واحتياج السلطان والكافة لمنصب الفتيا، فكثر ناقلوه في كل عصر، وتعددت فيه الموضوعات ـ وبقي النوع الآخر الذي هو الأهم على كل أحد في نفسه، قليلا مهجورا، وربما خشي بعض علمائه لأجل ذلك... وذهاب أهله فيجهل حكم الله في أفعال القلوب، وحركات البواطن التي هي أهم على المكلف واقرب على النجاة، فكتبوا في ذلك مصنفات هي أمهات الإفادة"[27]، وإلى هذا المعنى أشار ابن إسحاق الكلاباذي بقوله: "والأخلاق تكون في الظاهر والباطن، فما عم الجميع وصف بالكمال، ما لم يعم الجميع وصف بالضعف"[28].
2ـ المقاصد التبعية:
إلى جانب المقاصد الأصلية المذكورة للتصوف تستتبعها مقاصد أخرى تبعية، وحقيقة التبع في هذه المقاصد لا يعني عدم اعتبارها الأكيد في التقصيد من التصوف، بل إنما بحسب الترتيب الأولى في أسس ظهور التصوف التي ذكرها الشاطبي وابن خلدون، وأول هذه المقاصد:
أ: الترقية والتزكية.
يقصد الصوفية بطريقتهم في التعبد والتوحيد السمو بالنفس إلى أعلى مراتبها العلية وتزكيتها بمداومة العبادة، بل إن الصوفية أهل التحقيق منهم وخاصة المتقدمين آثروا الاحتياط في الترخص رغبة منهم في رقيهم في سلوكهم، يقول أبو إسحاق الشاطبي: "ومن الفوائد في هذه الطريقة الاحتياط في اجتناب الرخص والحذر من الدخول فيه فإنه موضع التباس، وفيه تنشأ خدع الشيطان، ومحاولات النفس والذهاب في اتباع الهوى على غير مهيع، ولأجل هذا أوصى شيوخ الصوفية تلامذتهم بترك اتباع الرخص جملة، وجعلوا أصولهم الأخذ بعزائم العلم، وهو أصل صحيح مليح، مما أظهروا من فوائدهم رحمهم الله، وإنما يرتكب من الرخص ما كان مقطوعا به، أو صار شرعا مطلوبا كالتعبدات، أو كان ابتدائيا كالمساقاة والقرض..."[29].
وفي ذلك يقول الغزالي: "ثم إني لما فرغت من العلوم، أقبلت بهمتي على طريق الصوفية، وعلمت أن طريقتهم إنما تتم بعلم وعمل، وكانت علومهم قطع عقبات النفس، والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة، حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى وتحليته بذكر الله"[30].
ب: رعاية حسن الأدب مع الله.
من المقاصد التبعية للتصوف رعاية حسن الأدب مع الله، والتخلق بأخلاق المراقب لقدرته وجلاله، ويقرن ابن خلدون بين حقيقة التصوف وهذا المقصد بقوله: "التصوف رعاية حسن الأدب مع الله في الأعمال الباطنة والظاهرة بالوقوف عند حدوده، مقدما الاهتمام بأفعال القلوب، مراقبا خفاياها، حريصا بذلك على النجاة."[31].
ج: محاسبة النفس.
وهذا مقصد أسمى أيضا من مقاصد الصوفية وعلى مثله بني التصوف في بداية أمره، يقول ابن خلدون: "ظهر أن أصل طريقتهم كلها محاسبة النفس على الأفعال والتروك والكلام في هذه الأذواق والمواجد التي يحصل عن المجاهدات، ثم تستقر للمريد مقاما يترقى منها إلى غيرها ثم لهم مع ذلك آداب مخصوصة بهم واصطلاحات في ألفاظ تدور بينهم "[32].
خامسا:التصوف بين المتقدمين والمتأخرين
إن التصوف عند الإمام الشاطبي كما سبق مسلك أصيل في إحياء السنة والتشبت بسلوكها، بل إن التصوف امتداد تعبدي لطريقة أهل السنة ومن جاءوا بعد الصحابة رضوان الله عليهم، إلا أن تقادم الزمن على سلوك الناس وتأخر زمانهم عن عهد السلف نأى بهم عن معهودهم وسننهم فحادوا عن الطريقة المثلى في التعبد والتصوف، فالتصوف في بدايته بني على أصول صحيحة واتباع سليم، وذلك مسلك المتقدمين منهم، غير أن المتأخرين أفسدوه بإدخال ما ليس منه ولا أصل له، وسبب ذلك كله جهلهم بحقيقة التصوف وغفلتهم عن مقاصد القوم في ذلك السلوك، يقول الشاطبي: "وإنه إنما داخلتها المفاسد وتطرقت اليها البدع من جهة قوم تأخرت أزمانهم عن عهد ذلك السلف الصالح، وادعوا الدخول فيها من غير سلوك شرعي ولا فهم لمقاصد أهلها، وتقولوا عليهم ما لم يقولوا به؛ حتى صارت في هذا الزمان الأخير كأنها شريعة أخرى غير ما أتى بها محمد (صلى الله عليه وسلم) وأعظم من ذلك أنهم يتساهلون في اتباع السنة، ويرون اختراع العبادات طريقا للتعبد صحيحا وطريقة القوم بريئة من هذا الخباط بحمد الله"[33]
ومن آفات المتصوفة المتأخرين اتباع معهود الرجال بدل معهود السنة ورجال السلف وحكم الحق، وذلك ما لم يقل به أهل التصوف في حقيقة طريقتهم وأصول مذهبهم، يقول أبو إسحاق منكرا عليهم صنيعهم "ولكن هؤلاء الرجال النابتة لا يفعلون ذلك فصاروا متبعين الرجال من حيث هم رجال لا من حيث هم راجحون بالحاكم الحق وهو خلاف ما عليه السلف الصالح وما عليه المتصوفة أيضا"، وليستدل على حسن رأيه وصحة مذهبه نقل قول أحد أئمتهم يفند به مزاعم أفعالهم وأقوالهم فقال: "قال إمامهم سهل بن عبد الله التستري مذهبنا مبنى على ثلاثة أصول الاقتداء بالنبي (صلى الله عليه وسلم) في الأخلاق والأفعال والأكل من الحلال وإخلاص النية في جميع الأعمال، ولم يثبت في طريقهم اتباع الرجال على انحراف، وحاشاهم من ذلك بل اتباع الرجال شأن أهل الضلال"[34].
إلا أن ابن خلدون كان منزعه في هذه المسألة تاريخيا إخباريا أكثر منه مذهبيا أو فقهيا، حيث عمل على سرد طريقة التصوف منذ نشأتها وذكر التحولات التي طرأت عليها منبها إلى التغييرات السلوكية في فقه التصوف وطرقه بين المتقدمين والمتأخرين، فبعد أن كان التصوف مبني على الإتباع والاقتداء كما يقول "وسلف المتصوفة من أهل الرسالة أعلام الملة الذين أشرنا إليهم من قبل لم يكن لهم حرص على كشف الحجاب ولا هذا النوع من الإدراك إنما همهم الاتباع والاقتداء ما استطاعوا، ومن عرض له شيء من ذلك أعرض عنه ولم يحفل به، بل يقدرون منه ويرون أنه من العوالق والمحن"، وبعد ذلك مال متأخرو المتصوفة إلى الاهتمام بقضايا الكشف والعوالم الموغلة في الروحانيات يقول: "ثم إن قوما من المتأخرين انصرفت عنايتهم إلى الكشف عن الحجاب والمدارك التي وراء ذلك، واختلفت طرق الرياضة عنهم في ذلك باختلاف تعليمهم في إماتة القوى الحسية وتغذية الروح العاقل بالذكر حتى يحصل للنفس إدراكها الذي لها من ذواتها بتمام نشوتها وتغذيتها فإذا حصل ذلك زعموا أن الوجود قد انحصر في مداركهم حينئذ وأنهم كشفوا ذوات الوجود وتصوروا حقائقها كلها في العرش إلى الطش"[35].
إن إيغال فريق المتأخرين من الصوفية في العوالم والكشف والوجدانيات المبهمة جعل غيرهم من منتسبي طرقهم يعجزون عن إدراك لغتهم الروحية، وفقه مداركهم الذوقية حسب الحضرمي، يقول: "ولما عني المتأخرون بهذا النوع من الكشف تكلموا في حقائق الموجودات العلوية والسفلية وحقائق الملك والروح والعرش والكرسي وأمثال ذلك، وقصرت مدارك من لم يشاركهم في طريقهم عن فهم أذواقهم وموجوداتهم" بل إن ذلك خلق خلافا بين أهل الفقه والفتيا في نظرهم الشرعي لتلك التصرفات والمعتقدات الغريبة عليهم، مما جعل "أهل الفتيا بين منكر عليهم ومسلم لهم، وليس البرهان والدليل بنافع في هذا الطريق ردا وقبولا إذ هو من قبيل الوجدانيات، وربما قصد بعض المصنفين بيان مذهبهم في كشف الوجود وترتيب حقائقه، فأتى بالأغمض فالأغمض بالنسبة إلى أهل النظر والاصطلاحات والعلوم"[36] .
يتفق الشاطبي وابن خلدون على صحة منزع الصوفية المتقدمين الذي أسسوا لطريقة التصوف مؤكدين على سلامة مذهبهم من حيث الابتداء، لكن المتأخرين منهم لم يحفظوا مسلكهم ولم يتبعوا طريقهم الأول فخرجوا بذلك عن سبيلهم مرتبطين بأشخاصهم دون الحق الذي جرى على لسانهم ومسلكهم، غير أن ابن خلدون يلتمس لبعض المتأخرين العذر في منازعهم الغريبة محتجا بأن لهم رسوما لا تنبغي لغيرهم، وهذا ما لا يوافق عليه الشاطبي المؤكد على ضرورة الالتزام بما جاء في السنة وما اثر عن الصحابة.
وأصبح فقه التصوف عند المتأخرين علما وجزءا من باقي علوم الشريعة التي تداولها العلماء بمراتبها وخصوصياتها المعرفية والثقافية، يقول ابن خلدون: "وصار علم الشريعة على صنفين صنف مخصوص بالفقهاء وأهل الفتيا، وهي الأحكام العامة في العبادات والعادات والمعاملات، وصنف مخصوص بالقوم في القيام بهذه المجاهدة ومحاسبة النفس عليها والكلام في الأذواق والمواجد العارضة في طريقها، وكيفية الترقي منها من ذوق إلى ذوق وشرح الاصطلاحات التي تدور بينهم في ذلك"[37]، كما طال التصوف تلك النقلة الجذرية التي طالت باقي العلوم التي بدأت تمثلا يسري في المجال التداولي الاجتماعي، ثم استقلت علوما ضابطة بتلك المجالات بتأسيس لقواعدها على نحو مرسوم ومكتوب، يعود إليها طالبها عند الاقتضاء، "فلما كتبت العلوم ودونت وألف الفقهاء في الفقه وأصوله والكلام والتفسير وغير ذلك كتب رجال من أهل هذه الطريقة في طريقهم فمنهم من كتب في الورع ومحاسبة النفس على الإقتداء في الأخذ والترك كما فعله القشيري في كتاب الرسالة والسهروردي في كتاب عوارف المعارف وأمثالهم وجمع الغزالي رحمه الله بين الأمرين في كتاب الإحياء فدون فيه أحكام الورع والاقتداء ثم بين آداب القوم وسننهم وشرح اصطلاحاتهم في عباراتهم"[38].
سادسا: التصوف في الميزان الشرعي بين الشاطبي وابن خلدون.
نظر الشاطبي إلى التصوف والمتصوفة نظرة شرعية بالغة الدقة أكثر من ابن خلدون، ويرجع ذلك بالأساس إلى منزع أبي إسحاق الشرعي وتقويمه التصرفات والأفعال وفق أصول الأدلة، خصوصًا في كتابه الاعتصام الذي يوحي بدلالة اتباع الكتاب والسنة ووزن الأحكام بميزانها ووفق دلالاتها، أما ابن خلدون فكما سلف الذكر فقد كان ميله تاريخيا سرديا لتطور فقه التصوف كباقي العلوم التي أفردها بفصول خاصة.
لا يستثني الشاطبي أية فئة أو فرقة من الفرق في تقييمها شرعيا ووزنها بميزان الشريعة، حتى لو كانت فرقة المتصوفة الذي حازوا خصوصا لم يحوزه غيرهم، أو أوتوا أمورا ومواقف لم تأت لعامتهم، "فكذلك أهل التصوف لا بد في الاقتداء بالصوفي من عرض أقواله وأفعاله على حاكم يحكم عليها، هل هي من جملة ما يتخذ دينا أم لا؟ والحاكم هو الشرع، وأقوال العالم تعرض على الشرع أيضا، وأقل ذلك في الصوفي أن نسأله عن تلك الأعمال إن كان عالما بالفقه كالجنيد وغيره رحمهم الله؟"[39].
ولأن السنة حجة على جميع الخلق من الأمة، فهي المرجع والأساس في تقويم آراء المتصوفة وأعمالهم التي خلفت خلافا ونزاعا بين العلماء، يقول الشاطبي: "كل ما عمل به المتصوفة المعتبرون في هذا الشأن لا يخلو إما أن يكون مما ثبت له أصل في الشريعة أم لا، فإن كان له أصل فهم خلقاء به كما أن السلف من الصحابة والتابعين خلقاء بذلك، وإن لم يكن له أصل في الشريعة فلا عمل عليه لأن السنة حجة على جميع الأمة"[40].
إن هذا المنهج الذي اعتمده الشاطبي في بيان مذهب المتصوفة هو من صلب منهج رجالهم المؤسسين للتصوف والداعين له، فكيف لا يمكن العودة إلى أصل طريقتهم في تصحيحها وتقويمها، لأن الأدلة تنهض حجة على كل من انتسب لهذا الدين، ولا يشفع في ذلك مسلكه ولا طريقته، "بل نعرض ما جاء عن الأئمة على الكتاب والسنة فما قبلاه قبلناه، وما لم يقبلاه تركناه، ولا علينا إذا قام لنا الدليل على اتباع الشرع ولم يقم لنا دليل على اتباع أقوال الصوفية وأعمالهم، إلا بعد عرضها، وبذلك وصى شيوخهم"[41]، أما ما يدعيه بعضهم من الصوفية من أذواق ومواجيد ومشاهدات وغيرها من الفهوم، فالفيصل في ذلك العرض على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لمعرفة المقبول من المردود" وإن كان ما جاء به صاحب الوجد والذوق من الأحوال والعلوم والفهوم فليعرض على الكتاب والسنة فإن قبلاه صح وإلا لم يصح فكذلك ما رسموه من الأعمال وأوجه المجاهدات وأنواع الالتزامات "[42].
في حين فصل ابن خلدون في الموقف الشرعي من تصوف المتصوفة خصوصا المتأخرين منهم الذين يتفق مع أبي إسحاق أنهم غالوا في مسالكهم، وحادوا بها عن طريق الصوفية ونهجهم، كما أخذ على الفقهاء طريقة ردهم عليهم دون التمييز بين مواقفهم ومسالكهم، يقول "ثم إن كثيرا من الفقهاء وأهل الفتيا انتدبوا للرد على هؤلاء المتأخرين في هذه المقالات وأمثالها وشملوا بالنكير وستر ما وقع لهم في الطريقة والحق أن كلامهم معهم فيه تفصيل "[43] .
ولا بد من التفريق بين مواضع أربعة حتى يكتمل النظر في آلات التصوف حسب ابن خلدون، وهذه المواضع هي؛ أحدها: الكلام على المجاهدات وما يحصل من الأذواق والمواجد ومحاسبة النفس على الأعمال لتحصل تلك الأذواق التي تصير مقاما ويترقى منه إلى غيره كما قلناه، وثانيها: الكلام في الكشف والحقيقة المدركة من عالم الغيب؛ مثل الصفات الربانية والعرش والكرسي والملائكة والوحي والنبوة والروح وحقائق كل موجود غائب أو شاهد، وتركيب الأكوان في صدورها عن موجودها بكونها كما مر، وثالثها: التصرفات في العوالم والأكوان بأنواع الكرامات، ورابعها: ألفاظ موهمة الظاهر صدرت من الكثير من أئمة القوم يعبرون عنها في اصطلاحهم بالشطحات تستشكل ظواهرها فمنكر ومحسن ومتأول"[44].
أما الأول: والمتعلق بموضوع المجاهدات والمقامات فهو يجري على محمل الصحة عندهم، ولا يجد فيه ابن خلدون أي حرج شرعي بقوله: "فأما الكلام في المجاهدات والمقامات وما يحصل من الأذواق والمواجد في نتائجها ونجاسة النفس على التقصير في أسبابها؛ فأمر لا مدفع فيه لأحد وأذواقهم فيه صحيحة، والتحقيق بها هو عين السعادة".
وأما الثاني: وهو باب الكرامات فهو الآخر غير منكر عليهم، وإن رأى بعض العلماء أمثال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني أنه طريق غير صحيح في الشرع، يقول ابن خلدون: " وأما الكلام في كرامات القوم وإخبارهم بالمغيبات وتصرفهم في الكائنات فأمر صحيح غير منكر وإن مال بعض العلماء إلى إنكارها فليس ذلك من الحق".
ومبلغ حجة ابن خلدون في سلامة رأيه من موقفهم حالة ورود مثل ذلك على عهد الصحابة فلا شيء يمنع قياس ذلك على مقامات الصوفية في هذا الباب يقول عليه رحمة الله "مع أن الوجود شاهد بوقوع الكثير من هذه الكرامات وإنكارها نوع مكابرة، وقد وقع للصحابة أكابر السلف كثير من ذلك وهو معلوم مشهور".
والثالث: وهو الخاص بحالات الكشف والحقائق الروحية فإن للمتصوفة لغة في ذلك لم يعط مفاتيحها حسب رأي ابن خلدون إلا لخاصتهم ولمن هم في مقاماتها، وذلك مظنة تجنب الحديث فيها لأنها من المتشابه غير الواضح في معانيه "وأما الكلام في الكشف وإعطاء حقائق العلويات وترتيب صدور الكائنات فأكثر كلامهم فيه نوع من المتشابه، لما أنه وجداني عندهم وفاقد الوجدان بمعزل عن أذواقهم فيه، واللغات لا تعطي له دولة على مرادهم منه؛ لأنها لم توضع للمتعارف، وأكثره من المحسوسات فينبغي أن لا تتعرض لكلامهم في ذلك وتتركه فيما تركناه من المتشابه[45].
والرابع: وهو ما يسميه المتصوفة بالشطحات وهو مثار انتقاد الفقهاء لهم، لكن ابن خلدون يلتمس للصوفية عذرهم في ذلك بحجة أنهم في حالة غيبة ليسوا مناط خطاب في مثل تلك الأحوال، يقول ابن خلدون: "وأما الألفاظ الموهمة التي يعبرون عنها بالشطحات ويؤاخذهم بها أهل الشرع فاعلم أن الإنصاف في شأن القوم أنهم أهل غيبة عن الحس والواردات تملكهم حتى ينطقوا عنها بما لا يقصدونه، وصاحب الغيبة غير مخاطب والمجنون معذور فمن علم منهم فضله وإقتداؤه حمل على القصد الجميل "[46].
سابعا: في إشكال حاجة السالك إلى الشيخ.
1ـ بين سؤال الشاطبي وجواب ابن خلدون:
يبدو أن الإمام الشاطبي مستوعبا لمذهب المتصوفة وطريقة التصوف من حيث أسسه ومقاصده وحالاته ومدى ارتباطه بأصول السنة والشريعة، ويتجلى ذلك في مواضع متفرقة من تصانيفه، لكن مسألة لجأ فيها إلى التوقف قبل إبداء رأيه فيها، ريثما يرده الدليل أو الحجة، رغم حصول مناظرات علمية حولها بين نظار الأندلس، وهي مسألة حاجة السالك المريد إلى الشيخ المربي في التزام طريقة المتصوفة، ولم يكن له بد سوى اللجوء إلى من هو أعلم منه بالمسألة، وذلك سبيل العلماء النظار الذين يبحثون عن العلم رغم مبلغ علمهم ودرجة فقهم، وهو العالم النظار الذي شهد له القاصي والداني والمتقدم والمتأخر، فقرر البحث عن تحرير شافي لها بمراسلة علماء القرويين بفاس معقل العلم والفقه حينئذ، ومن جميل الأقدار وألطف المناسبات أن تقع الرسالة بين يدي ابن خلدون.
لكن رسالة سؤال الشاطبي لم تصل ابن خلدون (808) وحده بل وصلت إلى كل من ابن القباب (778هـ) والشيخ النفري (792هـ) والحسن اليوسي (1102هـ) وربما غيرهم بالنظر إلى وجود علماء كبار بجامع القرويين بفاس.
ومبعث الغرابة في قصة سؤال الرسالة والأجوبة المتعددة عنها، أن كل المجيبين والمفتين والمجتهدين في إشكالها ذكروا اسم السائل، رافعين من شأنه مقدرين لعلمه معترفين بقصر نظرهم في المسألة لجدتها عليهم إلا ابن خلدون لم يشر إلى أبي اسحاق بكلمة، إما تصريحا باديا أو تلميحا ضمنيا، ولم يذكر أن الإشكال صعب بل قرر الجواب عنها. وقبل أن نفحص جواب ابن خلدون نقف عند مستهل جواب كل من العلماء المجيبين الآخرين على الرسالة، لبيان الفرق بينهما في مطالع الأجوبة.
أما جواب ابن القباب فقد أجاب بالصيغة الآتية فبعد الحمدلة والتصلية قال: "وبعد يا أخي حفظ الله ودك وأدام بمنه جدك، فقد وصلني مكتوبكم متضمنا ما جرى عندكم من المناظرة في شأن سلوك طرق الصوفية من غير شيخ، وما احتج به الفريقان من ذلك، وطلبتم مني آخر ذلك كله أن أكتب لكم بما هو الحق عندي في ذلك، مفصلا على فصول المناظرة المذكورة ملخصا آخر ليرجع جميعكم إلى ما ارسمه في ذلك كله، وأكدتم الطلب بالسؤال بالله تعالى، ولا يخفى عليكم ما في السؤال بالله، وأنّى لمثلي بمعرفة الحق في ذلك، وأنا من هذا العلم خلي الذهن فارغ اليدين لا علم عندي بمصطلحات القوم…"[47].
أما مستهل جواب أبي عبد الله النفري فقال فيه بعد الحمدلة والتصلية: "من محمد ابن عباد لطف الله به إلى أبي إسحاق إبراهيم الشاطبي وصل الله حفظه وأجزل من خير الدارين حظه، بمنه وكرمه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد فقد بلغني كتابكم وتعرفت منه ما طلبتم والذي أعلمكم به قبل كل شيء أني لست بأهل للأخذ في مثل ذلك ولا أستحسنه في نفسي لوجوه، أحدهما: أني أعلم قصور باعي في فن التصوف من قبل أني لم أخذ فيه مع من له ذوق وتحقق فيه من أهله..."[48].
أما ابن خلدون فقد كان تمهيد جوابه خاليا من ذكر اسم الشاطبي أو من استصعاب للمسألة، بل سمى رسالته شفاء السائل وكأنه موقن بالحل الكافي والشافي للإشكال، يقول في صدر الشفاء بعد البسملة والتصلية والحمدلة: "أما بعد فقد وقفني بعض الإخوان أبقاهم الله على تقييد وصل من عدوة الأندلس وطن الرباط والجهاد، ومأوى الصالحين والزهاد والفقهاء والعباد يخاطب بعض الأعلام من أهل مدينة فاس؛ حيث الملك يزأر وبحار العلم والدين تزخر، وثواب الله يعد لأنصار دينه وخلافته ويذخر، طالبا كشف الغطاء في طريق الصوفية أهل التحقيق في التوحيد الذوقي والمعرفة الوجدانية، هل يصح سلوكه والوصول به إلى المعرفة الذوقية ورفع الحجاب عن العالم الروحاني تعلما من الكتب الموضوعة لأهله واقتداء بأقوالهم الشارحة لكيفيته، فتكفي في ذلك مشافهة الرسوم، ومطالعة العلوم، والاعتماد على كتب الهداية الوافية بشروط النهاية والبداية، كالإحياء والرعاية، أم لا بد من شيخ يبين دلائله، ويحذر غوائله، ويميز للمريد عند اشتباه الواردات والأحوال مسائله، فيتنزل منزلة الطبيب للمرضى والإمام العدل للأمة الفوضى؟"[49].
هنا ما يزال السؤال المحير يستصحبنا في هذه الدراسة كباقي الدراسات "المقارباتية" الأخرى[50] ، ما السر في عدم ذكر اسم الشاطبي ولو بالتلميح من قبل ابن خلدون إذ لم نلمس له أثرا سواء في كتابة المقدمة أو في تعريفه أو عبره أو محصله أو في شفائه...، ذلك سؤال أشكل علينا بقدر ما أشكل على الشاطبي سؤال حاجة السالك المريد إلى الشيخ المربي هل ضرورية أم لا؟
لكن رغم كل ذلك يبقى لابن خلدون أثره البارز، وجوابه المنم عن باعه الطويل في فقه التصوف وموسوعيته العلمية التي لم تتحقق لكثير من أهل الاختصاص في العلوم الإسلامية.
وسوف نركز في هذه المقاربة على جواب ابن خلدون فقط كما تعهد بذلك عنوانها، دون الأجوبة الأخرى إلى حين تتسع فسحة زمن ويجد شرط مناسبة لذلك.
2ـ تحرير ابن خلدون للمسألة
ينظر ابن خلدون لمسألة الحاجة إلى الشيخ المربي عند المريد السالك على تفصيل وتفريق بين أنواع من مقامات التصوف، فالتصوف في أصله وابتدائه مجاهدة نفس، وتختلف هذه المجاهدة من مقام إلى آخر فهناك مجاهدة التقوى ومجاهدة الاستقامة وأخرى مجاهدة الكشف، وكل مقام لا تستوي فيه الحاجة إلى الشيخ المربي، لذلك فإنه من خلال قراءة البيان الخلدوني في الشفاء على وجه التحديد يبدو مقصد الشيخ المربي ضروريا حالة وحاجيا تارة وكماليا تارة أخري، فكيف ذلك.
أولا: مجاهدة التقوى
يعتبر ابن خلدون مقام المجاهدة التقوى من باب الفروض العينية الواجب الالتزام من بها قبل المكلف بحث لا مناص له منها، وهي بمثابة معرفة أحكام الله تعالى وحدوده المرسومة، وتلك المجاهدة لا يشترط فيها ضرورة الاقتداء بالشيخ وأخذ مبادئها منه، يقول رحمه الله: "أما مجاهدة التقوى التي هي الورع، فلا يضطر فيها على الشيخ، إنما يكفي فيها معرفة أحكام الله وحدوده، أخذت من كتاب أم لقنت من معلم، أو تدورست من أستاذ، وذلك لما بينا أن هذه المجاهدة هي فرض عين على المكلف، كيف يضيع فرض العين الواجب على الفور، ويهمل حق التكليف لانتظار الشيخ الذي لا مزيد عنده على ما أودعه العلماء بطون كتبهم وصفحات تواليفهم، ناقلين ذلك عن الكتاب والسنة معلنين بالمآخذ والأصول؟"
فطلب الشيخ المربي في هذا المقام من المجاهدة لا يرتفع إلى مرتبة الحاجة بله مرتبة الضروري، فهو من باب الكماليات التي يتم سدها باللجوء إلى الكتب على وجه التبع والقصد التبعي، "نعم يكون لصاحب المجاهدة كمال بالاقتداء بشيخ معلم يبين له الحق في صور لأفعال لقنا بالعيان وهو من شروط الكمال في كل تعلم لأن مستنده الحس"[51]
ثانيا: مجاهدة الاستقامة
يرتقي افتقار المريد للشيخ المربي في مجاهدة الاستقامة إلى درجة الحاجة دون استدعاء ضرورة ملحة، لأنها تقوم على أساس التحلي بأخلاق القرآن وسلوك الأنبياء عليهم السلام، والمريد تتعذر مع مجاهداته في هذه المنزلة معرفة علل النفس وتقلبات قلبه وإدراك الدواء المناسب، فهو في حاجة إلى من يدله ويرشده، وإن كان ذلك ليس من باب الفروض العينية حسب ابن خلدون يقول رحمه الله: "وأما مجاهدة الاستقامة التي هي التخلق بالقرآن وبخلق الأنبياء فمحتاجة بعض الشيء إلى الشيخ المعلم لعسر الاطلاع على خلق النفس وخفاء تلونات القلب، وصعوبة علاجها ومعاناتها، مع أنها ليست بفرض عين في حق المكلفين، لذلك فالمريد يطلب من البحث عن الشيخ المرشد في هذا الباب على وجه التأكيد "فإذن يتأكد طلب الشيخ في حق صاحب هذه المجاهدة، والاقتداء فيها بسالكها المطلع على عللها، ولا ينتهي ذلك إلى حد الوجوب والاضطرار، إذ مأخذها كلها الكتاب والسنة، والاصطلاحات المتعارفة"[52]
مجاهدة الكشف:
والمقام الأخير مجاهدة الكشف والمشاهدة؛ حيث يحتاج فيها السالك إلى الكشف عن الحقائق الروحانية برفع الحجاب عنها فهي تتطلب من باب الضرورة الاستعانة بالشيخ لأنه الوحيد يدرك مفاتيح تلك المغاليق الوجدانية يقول ابن خلدون "وأما مجاهدة الكشف والمشاهدة التي مطلوبها رفع الحجاب والاطلاع على العالم الروحاني وملكوت السماوات والأرض، فإنها مفتقرة إلى المعلم المربي، وهو الذي يعبر عنه بالشيخ، افتقار وجوب واضطرار لا يسع غيره ولا يمكن في الغالب حصولها دونه"[53].
كما أن هذا المقام لا يمكن للسالك بلوغ أسراره وإدراك حقائقه عن سبيل تعلم العلوم الكسبية والصناعية أنه مباين لها في الصورة والمقصد والسبيل، فلا وجود لأسرارها في الكتب ولا عند المعلمين الكسبيين، بل توجد في وجدانيات الشيخ الذي مرت به تلك الإلهامات المخصوصة، "والحق أنه لا بد للسالك من الشيخ، ولا يفضي به النقل وحده إلى مطلوبه، لا من أجل التفاوت بين التحصيلين كما ذكر، بل من أجل أن مدارك هذه الطريقة ليست من قبيل المتعارف من العلوم الكسبية والصنائع، وإنما هي مدارك وجدانية إلهامية خارجة عن الاختيار في الغالب، ناشئة عن الأعمال على هيئات مخصوصة، فلا يدرك تمييزها بالمعارف الكسبية التي تحتاج إلى الشيخ الذي يميزها بالعيان والشفاه ويعلم هيئات الأعمال التي تنشأ عنها خصوصيات أحوالها"[54] .
3ـ رؤية الشاطبي للمسألة
رغم قوة عارضة الشاطبي يتواضع متسائلا ومستفتيا في مسألة من أشكل المسائل لكن ابن خلدون وصلته الرسالة بعد أن وقفه بعض إخوانه حسبما قال، ونلفاه قد اقتحم على المسألة باب الاجتهاد والفتوى، هل لأن الشاطبي هو السائل أم ماذا؟.
لقد عقد الشاطبي في مسألة حاجة المكلف للشيخ فصلا[55] أسهب في بيان ذلك من جهة العلوم كلها، وعلى سبيل التعميم، بما في ذلك حاجة التلميذ السالك للشيخ المربي، فكان متحريا النظر في المسألة من جانب التحقق في الأفعال الصادرة عن الشيخ ومعرفتها بالحق وملامستها للشريعة كما أكد على ضرورة التثبت في التقليد حتى لا يزيغ المكلف والتلميذ.
والذي يبدو أن تأليفه لكتاب الاعتصام يترجح لدينا أنه كان بعد توصله بجواب علماء فاس في المسألة لأننا نجده يميل إلى التزام الشيخ في مثل هذه الأمور، فكيف به يتساءل عن مسألة ويقرر رأيه فيها، ويظهر أنه قد اطمأن إلى رأي ابن القباب متجاوزا رأي النفري. كما ارتاح لجواب ابن خلدون متحفظا في جزء منه.
يقسم الشاطبي التصوف الى قسمين كبيرين:
تصوف الظاهر: وقد مر عليه الحديث في مفهوم التصوف عند الشاطبي، وهو ما سماه ابن خلدون في تحريره للمسألة بمقام مجاهدة التقوى والورع، وجعله الشاطبي بمنزلة العمل التكليفي.
تصوف الباطن: وهو الصفحة المقابلة لورقة التصوف حسب الشاطبي فهو نتيجة التصوف الظاهر، لذلك فقد فصل فيه تفصيلا لأنه يتضمن ما يمكن أن يثير صلب إشكال مراسلته لعلماء القرويين بفاس.
و هذا النوع من التصوف بالنسبة له أربعة أضرب كل واحد منها له خصوصيته الشرعية قبولا أو رفضا.
1ـ تصوف حال[56]
وهذا المقام مقام تصوف حال يتناسب مع ما اصطلح عليه ابن خلدون بمجاهدة الاستقامة، لأن الحاجة فيه إلى الشيخ المربي لا تكون من باب الضرورة، بل على سبيل الحاجة إليه حال طروء عارض عند السالك فيلجأ إلى الشيخ بقصد إصلاح حاله بما يليق به من الوظائف والأذكار الشرعية، يقول الشاطبي بأن هذا الضرب "يرجع إلى العوارض الطارئة على السالكين إذا دخل عليهم نور التوحيد الوجداني، فيتكلم فيها بحسب الوقت والحال وما يحتاج إليه في النازلة الخاصة رجوعا إلى الشيخ المربى، وما ببين له في تحقيق مناطها بفراسته الصادقة في السالك بحسبه، وبحسب العارض فيداويه بما يليق به من الوظائف الشرعية والأذكار الشرعية، أو بإصلاح مقصده إن عرض فيه العارض" كما أن هذا الاحتياج إلى الشيخ يكون في حالات الإخلال بأصول التكليف الشرعية لأنه " قلما يطرأ العامل بل العارض إلا عند الإخلال ببعض الأصول الشرعية التي بنى عليها في بدايته فقد قالوا إنما حرموا الوصول بتضييعهم الأصول"[57]، ويبدو من خلال كلام الشاطبي هذا أنه قد استفاد من أجوبة علماء القرويين بفاس الذين أجابوه عن مسألته حول الحاجة إلى الشيخ، فهو هنا يؤكد على إمكانية الرجوع إلى الشيخ المربي حالة الاحتياج لبلوغ القصد السليم من التعبدات الشرعية في هذا المقام .
2ـ تصوف كرامة
أما هذا النوع أي تصوف كرامة وما يتبعانه من تصوف روح وتصوف فناء؛ فيمكن إجمالها في ضرب مجاهدة الكشف التي صنفها ابن خلدون في الصنف الثالث من أنواع المجاهدات، غير أن الشاطبي فصل فيها تفصيلا بقصد تحري الرؤية الشرعية فيها، وهذا المقام يلج به السالك النظر في منازل أهل الكرامات الصحيحة وما ارتبط بها من حقائق خارقة أو دون ذلك، إلا أن ذلك المقام فيه مما يندرج ضمن وساوس الشيطان والنفس وما شاكل ذلك، وللتحري في صحة الأمر لا بد من الرجوع إلى أصول الشريعة وقياس ذلك عليها، ولا يعد الشاطبي هذا النوع بدعة في الشريعة، يقول الشاطبي: "والثاني: يرجع إلى النظر في الكرامات وخوارق العادات وما يتعلق بها مما هو خارق في الحقيقة أو غير خارق، وما هو منها يرجع إلى أمر نفسى أو شيطاني أو ما أشبه ذلك من أحكامها؛ فهذا النظر ليس ببدعة كما أنه ليس ببدعة النظر في المعجزات وشروطها، والفرق بين النبي والمتنبي وهو من علم الأصول فحكمه حكمه"[58].
3ـ تصوف روح:
وهو ما يؤول إلى التحقيق في عوالم الأرواح المتوارية عن الأنظار وعن مدركات النفوس كالملائكة والشياطين ..، وهذا المقام لا يوجد له أصل في الشريعة، وينظر أبو إسحاق إلى هذا الضرب بكونه: "ما يرجع إلى النظر في مدركات النفوس من العالم الغائب وأحكام التجريد النفسي، والعلوم المتعلقة بعالم الأرواح وذوات الملائكة والشياطين والنفوس الإنسانية والحيوانية، وما أشبه ذلك، وهو بلا شك بدعة مذمومة إن وقع النظر فيه،" ولا يليق الاهتمام به أو طلب التخلق به أو التربية عليه أو حتى الخوض فيه؛ لأنه يخالف مقاصد التصوف التي تنتهي عند التخلق بكل خلق سني والتجرد عن كل خلق دني، بل ويضادها على وجه الكلية واعتبر الشاطبي أن "الكلام عليه بقصد جعله علما ينظر فيه، وفنا يشتغل بتحصيله بتعلم أو رياضة فإنه لم يعهد مثله في السلف الصالح، وهو في الحقيقة نظر فلسفي إنما يشتغل باستجلابه، والرياضة لاستفادته أهل الفلسفة الخارجون عن السنة المعدودون في الفرق الضالة، فلا يكون الكلام فيه مباحا فضلا عن أن يكون مندوبا إليه"[59].
ولعل أبلغ فقرة تؤكد استفادة الشاطبي من أجوبة علماء فاس، تلك التي أوردها ب
المسألة الصوفية بين الشاطبي وابن خلدون: دراسة في الأسس الشرعية والتاريخية للظاهرة الصوفية
أولا: مقدمات تأسيسية
مقدمة أولى:
لا يسعف فهم الظاهرة الصوفية الاستغراق التأملي المجرد عن الأنظار العلمية للعلماء السابقين الذين عاشوا تجلياتها الاجتماعية والواقعية أو تواصلوا مع حيثياتها العلمية إلى جانب المتصوفة الذين أسسوا لمبادئها الكبرى و تمثلوا قواعدها العرفانية، لذلك يلزم لفقه أبعاد المعرفة الصوفية الإنصات إلى كلام العلماء السابقين الذين تناولوها إما دراسة من جانب تاريخي أو عالجوا مسائلها على نحو شرعي أو من جوانب أخرى لا تقل أهمية، هذه الورقة اختاري الرؤية للمسألة الصوفية من جانبي التاريخ والفقه في قراءة أبعادها الكلية والجزئية.
مقدمة ثانية:
يتأسس النظر من مقاربة عرفانية بين الشاطبي وابن خلدون في فقه التصوف على قيمة الرجلين في مرحلتهما من جهة، وبعد نظرهما في مثل هذه القضايا والمسائل التي عاصرتهما بعض إشكالاتها من جهة ثانية، فالرجلين من كبار النظار اللذين أنجبتهما حضارة المسلمين ليس في زمانهم فحسب، بل عبر مستقبل الأزمان إلى يومنا، فهما من القلائل الذين فقهوا حقيقة العلوم وتطور سياقاتها وفلسفة مقاصدها، كما يدركان أبعاد الظواهر الدينية والاجتماعية الطارئة والواردة بصورة عميقة. إضافة إلى ذلك، فإن النظر العلمي المعاصر يصعب عليه فقه تلك الإشكالات العلمية كفقه التصوف دون استصحاب تلك الأنظار المدونة في مصنفاتهم على قلتها وضعف مناسباتها.
مقدمة ثالثة:
تكتمل الرؤية المعرفية لحقيقة التصوف بين النظر الأصولي الشرعي والنظر التاريخي، من حيث عناية الشاطبي بالتصوف في مظان منتشرة من تصانيفه وإشكالاته المرسولة على الوجه الشرعي والأصولي من جهة، التحقيق ومن حيث اختصاص ابن خلدون بشقه التاريخي والاجتماعي في البيان والتحليل في فقه الطريقة من جهة التعليل، إلا أن موضوع التصوف يحتاج لبيان حقيقته ومذهبيته على وجه الصحة والجوهر، برصد ذلك التطور التاريخي الذي مر به، ليتمكن الفقيه الأصولي من فقه قضاياه الشرعية وبدايات نشأته، والتحول الذي مال إليه، وسوف نلمس أبعاد هذا الاختلاف التكاملي في زوايا الاهتمام بين طيات هذه المكتوبة.
مقدمة رابعة:
يثير سؤال الشاطبي المشكل[1] وجواب ابن خلدون الشافي في مسألة من أدق المسائل في التصوف وأخطرها، أسئلة كثيرة متناسلة، بعضها لصيق بطبيعة الإشكال وصورة الجواب معرفيا وثقافيا، وبعضها الآخر مرتبط بعلاقة الشاطبي وابن خلدون المبهمة الملفوفة في لغز إما ذو بعد تاريخي أو معرفي أو شخصاني:
أول هذه الأسئلة: لماذا نذر ابن خلدون نفسه للجواب عن الرسالة؟ ولماذا لم يذكر السائل في مطلع الجواب "الشفاء"؟ .
ثانيها: لماذا كلف نفسه الجواب رغم أن عددا من العلماء المؤهلين لذلك قد أجابوا وأفادوا وأجادوا كابن عباد النفري وابن القباب ...
ثالثها: كل العلماء المجيبين عن السؤال ذكروا أبو إسحاق سائلا مستفتيا بالاسم إلا ابن خلدون لم يذكره لا في الشفاء ولا في المقدمة؟
رابعها: هل ما أجاب به ابن خلدون يقوم على استدلالات شرعية أم كان مقلدا في الشفاء؟
ثانيا: مفهوم التصوف عند الشاطبي وابن خلدون
رغم أن الشاطبي لم يفرد التصوف بتصنيف خاص وإن أبدى رغبته ونيته في تأليف دليل في التصوف حيث قال: "وفي غرضي إن فسح الله في المدة وأعانني بفضله ويسر لي الأسباب أن ألخص في طريقة القوم أنموذجا يستدل به على صحتها وجريانها على الطريقة المثلى"[2].
رغم ذلك، فإنه ذكر تعريفات مفصلة وجامعة للفظ التصوف في كتابه الاعتصام، حيث قال "وحاصل ما يرجع فيه لفظ التصوف عندهم معنيان، أحدهما: التخلق بكل خلق سني والتجرد عن كل خلق دني، والآخر: أنه الفناء عن نفسه والبقاء لربه"[3] والتعريفين حدين مركزين مانعين للتصوف، فالأول تعريف بالتجلي من الأوصاف في نفس الإنسان، باعتباره تمثل للخلق الرفيع من جانب المتعين، أي بحسب التمثل في مواقع الوجود، ومن جانب العدم أي بحسب الكف عن كل ما يقرب من خلق يودي بتجليات الخلق الرفيع، والثاني انعكاس صوري لذلك التمثل العملي في عالم الكمال والنهاية، من حيث التضحية في سبيل الخالق قربا إليه وبعدا عن النفس، ويبقى في نهاية المعنى أنهما يرجعان "في التحقيق إلى معنى واحد إلا أن أحدهما يصلح التعبير به عن البداية، والآخر يصلح التعبير به عن النهاية وكلاهما اتصاف، إلا أن الأول لا يلزمه الحال والثاني يلزمه الحال وقد يعبر فيهما بلفظ آخر"[4] وذلك هو منتهى التصوف وحقيقته، فالأول تصريف للأعمال التكليفية المنوطة بالمسلم بما يحقق تخلقه، والثاني مرآة عاكسة لحقيقة التكاليف من حيث جمالها وكمالها، يقول الشاطبي" فيكون الأول عملا تكليفيا والثاني نتيجته ويكون الأول اتصاف الظاهر والثاني اتصاف الباطن، ومجموعهما هو التصوف"[5].
أما ابن خلدون فعكس الشاطبي فقد ألف كتابا في الموضوع، سيأتي الكلام في أصله، الأمر الذي دفعه إلى تخصيصه بالتعريف والبيان، فبعد أن تحدث عن أصل كلمة التصوف والمنازع المفهومية التي اختلف فيها خلص إلى المفهوم الاصطلاحي الآتي فقال:"التصوف رعاية حسن الأدب مع الله في الأعمال الباطنة والظاهرة بالوقوف عند حدوده، مقدما الاهتمام بأفعال القلوب، مراقبا خفاياها، حريصا بذلك على النجاة."[6]
ولا يوجد فرق كبير بين تعريفي الشاطبي وابن خلدون وبين ما عرف به الغزالي التصوف في الإحياء[7] وإن سماه بتسمية موافقة، فقال "علم المكاشفة: هو علم الباطن وذلك غاية العلوم، فقد قال بعض العارفين: من لم يكن له نصيب من هذا العلم أخاف عليه سوء الخاتمة، وأدنى نصيب منه التصديق به والتسليم لأهله"[8] .
ويرى ابن خلدون أن علم التصوف قد طرأ عليه تغير عبر تقادم الزمن مع التحولات الاجتماعية، وتطور العلوم عبر مراحل تاريخية من مجال تداولي تعبدي اجتماعي، إلى رسوم علمية لها ضوابطها وأسسها، يقول: " وصار علم التصرف في الملة علما مدونا بعد أن كانت الطريقة عبادة فقط، وكانت أحكامها إنما تتلقى من صدور الرجال كما وقع في سائر العلوم التي دونت بالكتاب من التفسير والحديث والفقه والأصول وغير ذلك، ثم إن هذه المجاهدة والخلوة والذكر يتبعها عالما كشف حجاب الحس والاطلاع على عوالم من أمر الله، ليس لصاحب الحس إدراك شيء منها، والروح من تلك العوالم، وسبب هذا الكشف أن الروح إذا رجع عن الحس الظاهر إلى الباطن ضعفت أحوال الحس وقويت أحوال الروح وغلب سلطانه وتجدد نشوه وأعان على ذلك الذكر، فإنه كالغذاء لتنمية الروح ولا يزال في نموه وتزيد إلى أن يصير بعد أن كان علما "[9].
لكن ما ينبغي التأشير عليه في مفهوم التصوف عند الشاطبي وابن خلدون، هو ذلك الاختلاف الدقيق بين الرجلين في المقصود، فأبو إسحاق يعتبر التصوف تمثل تكليفي بالقصد الأصلي وتخلق اتصافي بالقصد التبعي فالتخلق بالخلال والتزكية تتويج ضروري للتصريف الظاهر للأحكام، أما ابن خلدون فيرى بالمقابل أن التصوف نظر إلى أفعال القلوب الباطنة بالقصد الأول والاهتمام الأولى مع الانقطاع على العبادة خلوة وانفرادا، قبل النظر في أعمال الجوارح الظاهرة .
ويقول ابن خلدون مؤكدا اتجاهه هذا أن أصل التصوف: " العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة"[10]. بل إن ابن خلدون في بيانه للتطور التاريخي لقصة التصوف يؤكد تصريحا أن فقه الشريعة على نوعين:
"الأول: فقه الظاهر: وهو معرفة الأحكام المتعلقة بأفعال الجوارح... وهذا هو المسمى بالفقه في المشهور وحامله الفقيه، وهم أهل الفتيا وحراسة الدين.
النوع الثاني: فقه الباطن ومعرفة الأحكام المتعلقة بأفعال القلوب، وما يخص المكلف في نفسه من أفعال الجوارح في عبادته وتناوله لضرورياته، ويسمى هذا فقه القلوب وفقه الباطن وفقه الورع، وعلم الآخرة والتصوف"[11]. فيظهر إذا أن ابن خلدون يجعل التصوف شقا خاصا مستقلا من حيث المعنى عن الفقه الخاص بالظاهر. عكس الشاطبي الذي اعتبر التصوف مزيجا بين الأمرين.
ثالثا: حقيقة المتصوفة عند الشاطبي وابن خلدون
عادة الجهابذة من الأصوليين تحقيق النظر في المسائل والتصرفات الصادرة عن المكلفين، وخاصة ما لها علاقة بأصول الأدلة من كتاب وسنة، ولعل ما أثارته مسألة التصوف والمتصوفة من إشكالات علمية وشرعية عبر تاريخ الفقه منذ نشأته مثال على ذلك، ولم يفت أبو إسحاق أن يحقق في ذلك، فهو يعتبر أن أهل التصوف في مبتدأِ سنتهم وتصرفاتهم الأصلية لا تخرج عن أصول الكتاب والسنة، بل هو عن الابتداع في الدين أبعد، وعن الإحداث في صفو الشريعة أرهب، وما القائل بغير ذلك لا يعقل حقيقتهم ولا يدرك مقاصدهم فيقول: "لأن كثيرا من الجهال يعتقدون[12] فيهم أنهم متساهلون في الاتباع، وأن اختراع العبادات والتزام ما لم يأت في الشرع التزامه مما يقولون به، ويعملون عليه، وحاشاهم من ذلك أن يعتقدوه أو يقولوا به فأول شيء بنوا عليه طريقتهم اتباع السنة واجتناب ما خالفها"[13].
لذلك، فإن المتصوفة إنما ظهر مذهبهم بقصد حفظ وحماية السنة من تسرب البدع والمحدثات إلى التعبدات بين الناس، وكذا تمييزا لسلوكهم عن تصرفات المبتدعين وعدم مخالطتهم، وقد أورد الغزالي مقولة لحد العارفين بالتصوف يؤكد هذه الحقيقة بقوله: "..وقال آخر من كان فيه خصلتان لم يفتح له بشيء من هذا العلم، بدعة، أو كبر وقيل: من كان محبا للدنيا أو مصرا على هوى لم يتحقق به وقد يتحقق بسائر العلوم، وأقل عقوبة من ينكره أنه لا يذوق منه شيئا"[14]، وهذا ما يزعمه حافظ مذهبهم أبو القاسم القشيري حسب أبي إسحاق إذ يقول: "حتى زعم مذكرهم وحافظ مأخذهم وعمود نحلتهم أبو القاسم القشيري إنهم إنما اختصوا باسم التصوف انفرادا به عن أهل البدع، فذكر أن المسلمين بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يتسم أفاضلهم في عصرهم باسم علم سوى الصحبة، إذ لا فضيلة فوقها، ثم سمى من يليهم التابعين، ورأوا هذا الاسم أشرف الأسماء، ثم قيل لمن بعدهم أتباع التابعين، ثم اختلف الناس وتباينت المراتب فقيل لخواص الناس ممن له شدة عناية في الدين الزهاد والعباد"[15].
ولبيان موقفه من حقيقة التصوف استند في ذلك على آراء المتصوفة المؤسسين في معنى التصوف، من ذلك إيراده لقول أبي القاسم النصراباذي" أصل التصوف ملازمة الكتاب والسنة وترك البدع والأهواء وتعظيم حرمات المشايخ ورؤية أعذار الخلق والمداومة على الأوراد وترك ارتكاب الرخص والتأويلات"[16]. كما كانت عناية الشاطبي بالتحقق في مرامي المتصوفة، وقياس مقاماتها باتباع السنة، أو ابتداع محدثات خارجة عنها سببا في تعرضه بإنكار المتصوفة عليه صنيعه، واتهامه بمعاداتهم حيث قال في مقدمة الاعتصام: "وتارة نسبت إلى معاداة أولياء الله، وسبب ذلك أني عاديت بعض الفقراء المبتدعين المخالفين للسنة المنتصبين بزعمهم لهداية الخلق، وتكلمت للجمهور على جملة من أحوال هؤلاء الذين نسبوا أنفسهم إلى الصوفية ولم يتشبهوا بهم"[17].
أما ابن خلدون فلأن منزعه تاريخي اجتماعي فقد ركز على الأبعاد الخلقية العامة عند المتصوفة في بيان حقيقتهم، دون تركيز النظر إلى أبعد حد في مدى التوافق أو التخالف مع التصرفات الشرعية، فاعتبر أن طريقتهم قائمة على المحاسبة الذاتية والصعود في سلم المجاهدات، حتى منتهى المقام الخاص لديهم حيث تجري ألفاظ مخصوصة لديهم ومعاني متعينة عندهم يقول: "ظهر أن أصل طريقتهم كلها محاسبة النفس على الأفعال والتروك والكلام في هذه الأذواق والمواجد التي يحصل عن المجاهدات، ثم تستقر للمريد مقاما يترقى منها إلى غيرها، ثم لهم مع ذلك آداب مخصوصة بهم واصطلاحات في ألفاظ تدور بينهم "[18].
بل، إن ابن خلدون يرى أن للمتصوفة محمية ذوقية خاصة بهم، لا يسعف اصطلاحاتها ومعانيها غيرهم فقه لسانهم أو الكلام في مضامينها: "فلهذا اختص هؤلاء بهذا النوع العلم الذي ليس لواحد غيرهم من أهل الشريعة الكلام فيه"[19].
رابعا: مقاصد التصوف عند الشاطبي وابن خلدون
إن أصول ظهور المتصوفة ومذهبهم يروم تحقيق الغايات والمقاصد التي من أجلها قام التصوف وتأسس ابتداء، ولا يمكن في الإجمال خروج تلك المقاصد عن كليات الشريعة العظمى المرتبطة بحقيقة التوحيد والعبودية والتزكية، وقد نبه كل من الشاطبي وابن خلدون على ثلة من تلك المقاصد في حديثهما عن مفهوم التصوف ومتعلقاته، ويمكن تصنيفها إلى قسمين:
1ـ مقاصد أصلية:
أـ حماية السنة.
وهو مقصد يتراءى مند بداية ظهور التصوف وأهله، حيث ظهرت هذه الطائفة دفاعا عن سنة السلف الصالح ودرءا للبدع البادية في التفشي، لأن "أول شيء بنوا عليه طريقتهم اتباع السنة واجتناب ما خالفها"[20] ثم "إن الصوفية الذين نسبت إليهم الطريقة مجمعون على تعظيم الشريعة مقيمون على متابعة السنة غير مخلين بشيء من آدابها، أبعد الناس عن البدع وأهلها، ولذلك لا نجد منهم من ينتسب إلى الفرق الضالة"[21]وحينما يذكر الشاطبي أو ابن خلدون هذا المقصد فهما يربطانه بجانب الوجود أي الحفاظ على تمثل السنة في مواقع الوجود البشري وبجانب العدم أي محاربة البدع ومواجهة المبتدعين، يقول ابن خلدون: "ثم طرقت آفة البدع في المعتقدات، وتداعى العباد وإلى هذا معتزلي ورافضي وخارجي لا ينفعه صلاح أعماله الظاهرة ولا الباطنة، مع فساد المعتقد الذي هو رأس الأمر. فانفرد خواص السنة المحافظون على أعمال القلوب، المقتدون بالسلف الصالح في أعمالهم الباطنة والظاهرة، وسموا بالصوفية"[22].
وذلك ما أكد عليه عبد الكريم القشيري 465هـ أحد أقطاب الصوفية حين تحدث عن ظهور التصوف "...ثم اختلف الناس وتباينت المراتب، فقيل لخواص الناس ممن لهم عناية شديدة بأمر الدين الزهاد والعباد، ثم ظهرت البدع، وحصل التداعي بين الفرق، فكل فريق ادعوا أن فيهم زهادا فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفاسهم مع الله تعالى، الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوف، واشتهر هذا الاسم لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة"[23].
ويرى الشاطبي أن المقصد الذي بنيت لأجله طريقة التصوف، قد غفل عنه المتأخرون من الصوفية فسقطوا فيما حاول متقدموهم التنبيه عليه والتحذير منه، "وإنه إنما داخلتها المفاسد وتطرقت إليها البدع من جهة قوم تأخرت أزمانهم عن عهد ذلك السلف الصالح وادعوا الدخول فيها من غير سلوك شرعي ولا فهم لمقاصد أهلها "[24]فكانت طريقتهم عرضة للقدح من جهة البعض، حتى اتهموهم بالتهاون في اتباع السنة وحمايتها من البدع و المحدثات، يقول أبو إسحاق "وتقولوا عليهم ما لم يقولوا به حتى صارت ـ أي طريقة التصوف ـ في هذا الزمان الأخير كأنها شريعة أخرى غير ما أتى بها محمد (صلى الله عليه وسلم) وأعظم من ذلك أنهم يتساهلون في اتباع السنة ويرون اختراع العبادات طريقا للتعبد صحيحا وطريقة القوم بريئة من هذا الخباط بحمد الله"[25].
ب ـ الجمع بين الظاهر والباطن.
إن من المقاصد الأصلية للتصوف هو الجمع بين فقه الظاهر والباطن؛ أي أعمال التكليف الظاهرة وأعمال القلوب الباطنة حتى تستوي النفس الإنسانية على سوق العبادة الكاملة، وقد أشار إلى ذلك الشاطبي في تعريفه[26]للتصوف حيث جمع بينهما، ونفس الأمر بالنسبة لابن خلدون، وإن منح أفضلية القصد الصوفي للشق الباطني يقول"وكثرت العناية بالنوع الأول الذي هو الفقه لعموم البلوى واحتياج السلطان والكافة لمنصب الفتيا، فكثر ناقلوه في كل عصر، وتعددت فيه الموضوعات ـ وبقي النوع الآخر الذي هو الأهم على كل أحد في نفسه، قليلا مهجورا، وربما خشي بعض علمائه لأجل ذلك... وذهاب أهله فيجهل حكم الله في أفعال القلوب، وحركات البواطن التي هي أهم على المكلف واقرب على النجاة، فكتبوا في ذلك مصنفات هي أمهات الإفادة"[27]، وإلى هذا المعنى أشار ابن إسحاق الكلاباذي بقوله: "والأخلاق تكون في الظاهر والباطن، فما عم الجميع وصف بالكمال، ما لم يعم الجميع وصف بالضعف"[28].
2ـ المقاصد التبعية:
إلى جانب المقاصد الأصلية المذكورة للتصوف تستتبعها مقاصد أخرى تبعية، وحقيقة التبع في هذه المقاصد لا يعني عدم اعتبارها الأكيد في التقصيد من التصوف، بل إنما بحسب الترتيب الأولى في أسس ظهور التصوف التي ذكرها الشاطبي وابن خلدون، وأول هذه المقاصد:
أ: الترقية والتزكية.
يقصد الصوفية بطريقتهم في التعبد والتوحيد السمو بالنفس إلى أعلى مراتبها العلية وتزكيتها بمداومة العبادة، بل إن الصوفية أهل التحقيق منهم وخاصة المتقدمين آثروا الاحتياط في الترخص رغبة منهم في رقيهم في سلوكهم، يقول أبو إسحاق الشاطبي: "ومن الفوائد في هذه الطريقة الاحتياط في اجتناب الرخص والحذر من الدخول فيه فإنه موضع التباس، وفيه تنشأ خدع الشيطان، ومحاولات النفس والذهاب في اتباع الهوى على غير مهيع، ولأجل هذا أوصى شيوخ الصوفية تلامذتهم بترك اتباع الرخص جملة، وجعلوا أصولهم الأخذ بعزائم العلم، وهو أصل صحيح مليح، مما أظهروا من فوائدهم رحمهم الله، وإنما يرتكب من الرخص ما كان مقطوعا به، أو صار شرعا مطلوبا كالتعبدات، أو كان ابتدائيا كالمساقاة والقرض..."[29].
وفي ذلك يقول الغزالي: "ثم إني لما فرغت من العلوم، أقبلت بهمتي على طريق الصوفية، وعلمت أن طريقتهم إنما تتم بعلم وعمل، وكانت علومهم قطع عقبات النفس، والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة، حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى وتحليته بذكر الله"[30].
ب: رعاية حسن الأدب مع الله.
من المقاصد التبعية للتصوف رعاية حسن الأدب مع الله، والتخلق بأخلاق المراقب لقدرته وجلاله، ويقرن ابن خلدون بين حقيقة التصوف وهذا المقصد بقوله: "التصوف رعاية حسن الأدب مع الله في الأعمال الباطنة والظاهرة بالوقوف عند حدوده، مقدما الاهتمام بأفعال القلوب، مراقبا خفاياها، حريصا بذلك على النجاة."[31].
ج: محاسبة النفس.
وهذا مقصد أسمى أيضا من مقاصد الصوفية وعلى مثله بني التصوف في بداية أمره، يقول ابن خلدون: "ظهر أن أصل طريقتهم كلها محاسبة النفس على الأفعال والتروك والكلام في هذه الأذواق والمواجد التي يحصل عن المجاهدات، ثم تستقر للمريد مقاما يترقى منها إلى غيرها ثم لهم مع ذلك آداب مخصوصة بهم واصطلاحات في ألفاظ تدور بينهم "[32].
خامسا:التصوف بين المتقدمين والمتأخرين
إن التصوف عند الإمام الشاطبي كما سبق مسلك أصيل في إحياء السنة والتشبت بسلوكها، بل إن التصوف امتداد تعبدي لطريقة أهل السنة ومن جاءوا بعد الصحابة رضوان الله عليهم، إلا أن تقادم الزمن على سلوك الناس وتأخر زمانهم عن عهد السلف نأى بهم عن معهودهم وسننهم فحادوا عن الطريقة المثلى في التعبد والتصوف، فالتصوف في بدايته بني على أصول صحيحة واتباع سليم، وذلك مسلك المتقدمين منهم، غير أن المتأخرين أفسدوه بإدخال ما ليس منه ولا أصل له، وسبب ذلك كله جهلهم بحقيقة التصوف وغفلتهم عن مقاصد القوم في ذلك السلوك، يقول الشاطبي: "وإنه إنما داخلتها المفاسد وتطرقت اليها البدع من جهة قوم تأخرت أزمانهم عن عهد ذلك السلف الصالح، وادعوا الدخول فيها من غير سلوك شرعي ولا فهم لمقاصد أهلها، وتقولوا عليهم ما لم يقولوا به؛ حتى صارت في هذا الزمان الأخير كأنها شريعة أخرى غير ما أتى بها محمد (صلى الله عليه وسلم) وأعظم من ذلك أنهم يتساهلون في اتباع السنة، ويرون اختراع العبادات طريقا للتعبد صحيحا وطريقة القوم بريئة من هذا الخباط بحمد الله"[33]
ومن آفات المتصوفة المتأخرين اتباع معهود الرجال بدل معهود السنة ورجال السلف وحكم الحق، وذلك ما لم يقل به أهل التصوف في حقيقة طريقتهم وأصول مذهبهم، يقول أبو إسحاق منكرا عليهم صنيعهم "ولكن هؤلاء الرجال النابتة لا يفعلون ذلك فصاروا متبعين الرجال من حيث هم رجال لا من حيث هم راجحون بالحاكم الحق وهو خلاف ما عليه السلف الصالح وما عليه المتصوفة أيضا"، وليستدل على حسن رأيه وصحة مذهبه نقل قول أحد أئمتهم يفند به مزاعم أفعالهم وأقوالهم فقال: "قال إمامهم سهل بن عبد الله التستري مذهبنا مبنى على ثلاثة أصول الاقتداء بالنبي (صلى الله عليه وسلم) في الأخلاق والأفعال والأكل من الحلال وإخلاص النية في جميع الأعمال، ولم يثبت في طريقهم اتباع الرجال على انحراف، وحاشاهم من ذلك بل اتباع الرجال شأن أهل الضلال"[34].
إلا أن ابن خلدون كان منزعه في هذه المسألة تاريخيا إخباريا أكثر منه مذهبيا أو فقهيا، حيث عمل على سرد طريقة التصوف منذ نشأتها وذكر التحولات التي طرأت عليها منبها إلى التغييرات السلوكية في فقه التصوف وطرقه بين المتقدمين والمتأخرين، فبعد أن كان التصوف مبني على الإتباع والاقتداء كما يقول "وسلف المتصوفة من أهل الرسالة أعلام الملة الذين أشرنا إليهم من قبل لم يكن لهم حرص على كشف الحجاب ولا هذا النوع من الإدراك إنما همهم الاتباع والاقتداء ما استطاعوا، ومن عرض له شيء من ذلك أعرض عنه ولم يحفل به، بل يقدرون منه ويرون أنه من العوالق والمحن"، وبعد ذلك مال متأخرو المتصوفة إلى الاهتمام بقضايا الكشف والعوالم الموغلة في الروحانيات يقول: "ثم إن قوما من المتأخرين انصرفت عنايتهم إلى الكشف عن الحجاب والمدارك التي وراء ذلك، واختلفت طرق الرياضة عنهم في ذلك باختلاف تعليمهم في إماتة القوى الحسية وتغذية الروح العاقل بالذكر حتى يحصل للنفس إدراكها الذي لها من ذواتها بتمام نشوتها وتغذيتها فإذا حصل ذلك زعموا أن الوجود قد انحصر في مداركهم حينئذ وأنهم كشفوا ذوات الوجود وتصوروا حقائقها كلها في العرش إلى الطش"[35].
إن إيغال فريق المتأخرين من الصوفية في العوالم والكشف والوجدانيات المبهمة جعل غيرهم من منتسبي طرقهم يعجزون عن إدراك لغتهم الروحية، وفقه مداركهم الذوقية حسب الحضرمي، يقول: "ولما عني المتأخرون بهذا النوع من الكشف تكلموا في حقائق الموجودات العلوية والسفلية وحقائق الملك والروح والعرش والكرسي وأمثال ذلك، وقصرت مدارك من لم يشاركهم في طريقهم عن فهم أذواقهم وموجوداتهم" بل إن ذلك خلق خلافا بين أهل الفقه والفتيا في نظرهم الشرعي لتلك التصرفات والمعتقدات الغريبة عليهم، مما جعل "أهل الفتيا بين منكر عليهم ومسلم لهم، وليس البرهان والدليل بنافع في هذا الطريق ردا وقبولا إذ هو من قبيل الوجدانيات، وربما قصد بعض المصنفين بيان مذهبهم في كشف الوجود وترتيب حقائقه، فأتى بالأغمض فالأغمض بالنسبة إلى أهل النظر والاصطلاحات والعلوم"[36] .
يتفق الشاطبي وابن خلدون على صحة منزع الصوفية المتقدمين الذي أسسوا لطريقة التصوف مؤكدين على سلامة مذهبهم من حيث الابتداء، لكن المتأخرين منهم لم يحفظوا مسلكهم ولم يتبعوا طريقهم الأول فخرجوا بذلك عن سبيلهم مرتبطين بأشخاصهم دون الحق الذي جرى على لسانهم ومسلكهم، غير أن ابن خلدون يلتمس لبعض المتأخرين العذر في منازعهم الغريبة محتجا بأن لهم رسوما لا تنبغي لغيرهم، وهذا ما لا يوافق عليه الشاطبي المؤكد على ضرورة الالتزام بما جاء في السنة وما اثر عن الصحابة.
وأصبح فقه التصوف عند المتأخرين علما وجزءا من باقي علوم الشريعة التي تداولها العلماء بمراتبها وخصوصياتها المعرفية والثقافية، يقول ابن خلدون: "وصار علم الشريعة على صنفين صنف مخصوص بالفقهاء وأهل الفتيا، وهي الأحكام العامة في العبادات والعادات والمعاملات، وصنف مخصوص بالقوم في القيام بهذه المجاهدة ومحاسبة النفس عليها والكلام في الأذواق والمواجد العارضة في طريقها، وكيفية الترقي منها من ذوق إلى ذوق وشرح الاصطلاحات التي تدور بينهم في ذلك"[37]، كما طال التصوف تلك النقلة الجذرية التي طالت باقي العلوم التي بدأت تمثلا يسري في المجال التداولي الاجتماعي، ثم استقلت علوما ضابطة بتلك المجالات بتأسيس لقواعدها على نحو مرسوم ومكتوب، يعود إليها طالبها عند الاقتضاء، "فلما كتبت العلوم ودونت وألف الفقهاء في الفقه وأصوله والكلام والتفسير وغير ذلك كتب رجال من أهل هذه الطريقة في طريقهم فمنهم من كتب في الورع ومحاسبة النفس على الإقتداء في الأخذ والترك كما فعله القشيري في كتاب الرسالة والسهروردي في كتاب عوارف المعارف وأمثالهم وجمع الغزالي رحمه الله بين الأمرين في كتاب الإحياء فدون فيه أحكام الورع والاقتداء ثم بين آداب القوم وسننهم وشرح اصطلاحاتهم في عباراتهم"[38].
سادسا: التصوف في الميزان الشرعي بين الشاطبي وابن خلدون.
نظر الشاطبي إلى التصوف والمتصوفة نظرة شرعية بالغة الدقة أكثر من ابن خلدون، ويرجع ذلك بالأساس إلى منزع أبي إسحاق الشرعي وتقويمه التصرفات والأفعال وفق أصول الأدلة، خصوصًا في كتابه الاعتصام الذي يوحي بدلالة اتباع الكتاب والسنة ووزن الأحكام بميزانها ووفق دلالاتها، أما ابن خلدون فكما سلف الذكر فقد كان ميله تاريخيا سرديا لتطور فقه التصوف كباقي العلوم التي أفردها بفصول خاصة.
لا يستثني الشاطبي أية فئة أو فرقة من الفرق في تقييمها شرعيا ووزنها بميزان الشريعة، حتى لو كانت فرقة المتصوفة الذي حازوا خصوصا لم يحوزه غيرهم، أو أوتوا أمورا ومواقف لم تأت لعامتهم، "فكذلك أهل التصوف لا بد في الاقتداء بالصوفي من عرض أقواله وأفعاله على حاكم يحكم عليها، هل هي من جملة ما يتخذ دينا أم لا؟ والحاكم هو الشرع، وأقوال العالم تعرض على الشرع أيضا، وأقل ذلك في الصوفي أن نسأله عن تلك الأعمال إن كان عالما بالفقه كالجنيد وغيره رحمهم الله؟"[39].
ولأن السنة حجة على جميع الخلق من الأمة، فهي المرجع والأساس في تقويم آراء المتصوفة وأعمالهم التي خلفت خلافا ونزاعا بين العلماء، يقول الشاطبي: "كل ما عمل به المتصوفة المعتبرون في هذا الشأن لا يخلو إما أن يكون مما ثبت له أصل في الشريعة أم لا، فإن كان له أصل فهم خلقاء به كما أن السلف من الصحابة والتابعين خلقاء بذلك، وإن لم يكن له أصل في الشريعة فلا عمل عليه لأن السنة حجة على جميع الأمة"[40].
إن هذا المنهج الذي اعتمده الشاطبي في بيان مذهب المتصوفة هو من صلب منهج رجالهم المؤسسين للتصوف والداعين له، فكيف لا يمكن العودة إلى أصل طريقتهم في تصحيحها وتقويمها، لأن الأدلة تنهض حجة على كل من انتسب لهذا الدين، ولا يشفع في ذلك مسلكه ولا طريقته، "بل نعرض ما جاء عن الأئمة على الكتاب والسنة فما قبلاه قبلناه، وما لم يقبلاه تركناه، ولا علينا إذا قام لنا الدليل على اتباع الشرع ولم يقم لنا دليل على اتباع أقوال الصوفية وأعمالهم، إلا بعد عرضها، وبذلك وصى شيوخهم"[41]، أما ما يدعيه بعضهم من الصوفية من أذواق ومواجيد ومشاهدات وغيرها من الفهوم، فالفيصل في ذلك العرض على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لمعرفة المقبول من المردود" وإن كان ما جاء به صاحب الوجد والذوق من الأحوال والعلوم والفهوم فليعرض على الكتاب والسنة فإن قبلاه صح وإلا لم يصح فكذلك ما رسموه من الأعمال وأوجه المجاهدات وأنواع الالتزامات "[42].
في حين فصل ابن خلدون في الموقف الشرعي من تصوف المتصوفة خصوصا المتأخرين منهم الذين يتفق مع أبي إسحاق أنهم غالوا في مسالكهم، وحادوا بها عن طريق الصوفية ونهجهم، كما أخذ على الفقهاء طريقة ردهم عليهم دون التمييز بين مواقفهم ومسالكهم، يقول "ثم إن كثيرا من الفقهاء وأهل الفتيا انتدبوا للرد على هؤلاء المتأخرين في هذه المقالات وأمثالها وشملوا بالنكير وستر ما وقع لهم في الطريقة والحق أن كلامهم معهم فيه تفصيل "[43] .
ولا بد من التفريق بين مواضع أربعة حتى يكتمل النظر في آلات التصوف حسب ابن خلدون، وهذه المواضع هي؛ أحدها: الكلام على المجاهدات وما يحصل من الأذواق والمواجد ومحاسبة النفس على الأعمال لتحصل تلك الأذواق التي تصير مقاما ويترقى منه إلى غيره كما قلناه، وثانيها: الكلام في الكشف والحقيقة المدركة من عالم الغيب؛ مثل الصفات الربانية والعرش والكرسي والملائكة والوحي والنبوة والروح وحقائق كل موجود غائب أو شاهد، وتركيب الأكوان في صدورها عن موجودها بكونها كما مر، وثالثها: التصرفات في العوالم والأكوان بأنواع الكرامات، ورابعها: ألفاظ موهمة الظاهر صدرت من الكثير من أئمة القوم يعبرون عنها في اصطلاحهم بالشطحات تستشكل ظواهرها فمنكر ومحسن ومتأول"[44].
أما الأول: والمتعلق بموضوع المجاهدات والمقامات فهو يجري على محمل الصحة عندهم، ولا يجد فيه ابن خلدون أي حرج شرعي بقوله: "فأما الكلام في المجاهدات والمقامات وما يحصل من الأذواق والمواجد في نتائجها ونجاسة النفس على التقصير في أسبابها؛ فأمر لا مدفع فيه لأحد وأذواقهم فيه صحيحة، والتحقيق بها هو عين السعادة".
وأما الثاني: وهو باب الكرامات فهو الآخر غير منكر عليهم، وإن رأى بعض العلماء أمثال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني أنه طريق غير صحيح في الشرع، يقول ابن خلدون: " وأما الكلام في كرامات القوم وإخبارهم بالمغيبات وتصرفهم في الكائنات فأمر صحيح غير منكر وإن مال بعض العلماء إلى إنكارها فليس ذلك من الحق".
ومبلغ حجة ابن خلدون في سلامة رأيه من موقفهم حالة ورود مثل ذلك على عهد الصحابة فلا شيء يمنع قياس ذلك على مقامات الصوفية في هذا الباب يقول عليه رحمة الله "مع أن الوجود شاهد بوقوع الكثير من هذه الكرامات وإنكارها نوع مكابرة، وقد وقع للصحابة أكابر السلف كثير من ذلك وهو معلوم مشهور".
والثالث: وهو الخاص بحالات الكشف والحقائق الروحية فإن للمتصوفة لغة في ذلك لم يعط مفاتيحها حسب رأي ابن خلدون إلا لخاصتهم ولمن هم في مقاماتها، وذلك مظنة تجنب الحديث فيها لأنها من المتشابه غير الواضح في معانيه "وأما الكلام في الكشف وإعطاء حقائق العلويات وترتيب صدور الكائنات فأكثر كلامهم فيه نوع من المتشابه، لما أنه وجداني عندهم وفاقد الوجدان بمعزل عن أذواقهم فيه، واللغات لا تعطي له دولة على مرادهم منه؛ لأنها لم توضع للمتعارف، وأكثره من المحسوسات فينبغي أن لا تتعرض لكلامهم في ذلك وتتركه فيما تركناه من المتشابه[45].
والرابع: وهو ما يسميه المتصوفة بالشطحات وهو مثار انتقاد الفقهاء لهم، لكن ابن خلدون يلتمس للصوفية عذرهم في ذلك بحجة أنهم في حالة غيبة ليسوا مناط خطاب في مثل تلك الأحوال، يقول ابن خلدون: "وأما الألفاظ الموهمة التي يعبرون عنها بالشطحات ويؤاخذهم بها أهل الشرع فاعلم أن الإنصاف في شأن القوم أنهم أهل غيبة عن الحس والواردات تملكهم حتى ينطقوا عنها بما لا يقصدونه، وصاحب الغيبة غير مخاطب والمجنون معذور فمن علم منهم فضله وإقتداؤه حمل على القصد الجميل "[46].
سابعا: في إشكال حاجة السالك إلى الشيخ.
1ـ بين سؤال الشاطبي وجواب ابن خلدون:
يبدو أن الإمام الشاطبي مستوعبا لمذهب المتصوفة وطريقة التصوف من حيث أسسه ومقاصده وحالاته ومدى ارتباطه بأصول السنة والشريعة، ويتجلى ذلك في مواضع متفرقة من تصانيفه، لكن مسألة لجأ فيها إلى التوقف قبل إبداء رأيه فيها، ريثما يرده الدليل أو الحجة، رغم حصول مناظرات علمية حولها بين نظار الأندلس، وهي مسألة حاجة السالك المريد إلى الشيخ المربي في التزام طريقة المتصوفة، ولم يكن له بد سوى اللجوء إلى من هو أعلم منه بالمسألة، وذلك سبيل العلماء النظار الذين يبحثون عن العلم رغم مبلغ علمهم ودرجة فقهم، وهو العالم النظار الذي شهد له القاصي والداني والمتقدم والمتأخر، فقرر البحث عن تحرير شافي لها بمراسلة علماء القرويين بفاس معقل العلم والفقه حينئذ، ومن جميل الأقدار وألطف المناسبات أن تقع الرسالة بين يدي ابن خلدون.
لكن رسالة سؤال الشاطبي لم تصل ابن خلدون (808) وحده بل وصلت إلى كل من ابن القباب (778هـ) والشيخ النفري (792هـ) والحسن اليوسي (1102هـ) وربما غيرهم بالنظر إلى وجود علماء كبار بجامع القرويين بفاس.
ومبعث الغرابة في قصة سؤال الرسالة والأجوبة المتعددة عنها، أن كل المجيبين والمفتين والمجتهدين في إشكالها ذكروا اسم السائل، رافعين من شأنه مقدرين لعلمه معترفين بقصر نظرهم في المسألة لجدتها عليهم إلا ابن خلدون لم يشر إلى أبي اسحاق بكلمة، إما تصريحا باديا أو تلميحا ضمنيا، ولم يذكر أن الإشكال صعب بل قرر الجواب عنها. وقبل أن نفحص جواب ابن خلدون نقف عند مستهل جواب كل من العلماء المجيبين الآخرين على الرسالة، لبيان الفرق بينهما في مطالع الأجوبة.
أما جواب ابن القباب فقد أجاب بالصيغة الآتية فبعد الحمدلة والتصلية قال: "وبعد يا أخي حفظ الله ودك وأدام بمنه جدك، فقد وصلني مكتوبكم متضمنا ما جرى عندكم من المناظرة في شأن سلوك طرق الصوفية من غير شيخ، وما احتج به الفريقان من ذلك، وطلبتم مني آخر ذلك كله أن أكتب لكم بما هو الحق عندي في ذلك، مفصلا على فصول المناظرة المذكورة ملخصا آخر ليرجع جميعكم إلى ما ارسمه في ذلك كله، وأكدتم الطلب بالسؤال بالله تعالى، ولا يخفى عليكم ما في السؤال بالله، وأنّى لمثلي بمعرفة الحق في ذلك، وأنا من هذا العلم خلي الذهن فارغ اليدين لا علم عندي بمصطلحات القوم…"[47].
أما مستهل جواب أبي عبد الله النفري فقال فيه بعد الحمدلة والتصلية: "من محمد ابن عباد لطف الله به إلى أبي إسحاق إبراهيم الشاطبي وصل الله حفظه وأجزل من خير الدارين حظه، بمنه وكرمه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد فقد بلغني كتابكم وتعرفت منه ما طلبتم والذي أعلمكم به قبل كل شيء أني لست بأهل للأخذ في مثل ذلك ولا أستحسنه في نفسي لوجوه، أحدهما: أني أعلم قصور باعي في فن التصوف من قبل أني لم أخذ فيه مع من له ذوق وتحقق فيه من أهله..."[48].
أما ابن خلدون فقد كان تمهيد جوابه خاليا من ذكر اسم الشاطبي أو من استصعاب للمسألة، بل سمى رسالته شفاء السائل وكأنه موقن بالحل الكافي والشافي للإشكال، يقول في صدر الشفاء بعد البسملة والتصلية والحمدلة: "أما بعد فقد وقفني بعض الإخوان أبقاهم الله على تقييد وصل من عدوة الأندلس وطن الرباط والجهاد، ومأوى الصالحين والزهاد والفقهاء والعباد يخاطب بعض الأعلام من أهل مدينة فاس؛ حيث الملك يزأر وبحار العلم والدين تزخر، وثواب الله يعد لأنصار دينه وخلافته ويذخر، طالبا كشف الغطاء في طريق الصوفية أهل التحقيق في التوحيد الذوقي والمعرفة الوجدانية، هل يصح سلوكه والوصول به إلى المعرفة الذوقية ورفع الحجاب عن العالم الروحاني تعلما من الكتب الموضوعة لأهله واقتداء بأقوالهم الشارحة لكيفيته، فتكفي في ذلك مشافهة الرسوم، ومطالعة العلوم، والاعتماد على كتب الهداية الوافية بشروط النهاية والبداية، كالإحياء والرعاية، أم لا بد من شيخ يبين دلائله، ويحذر غوائله، ويميز للمريد عند اشتباه الواردات والأحوال مسائله، فيتنزل منزلة الطبيب للمرضى والإمام العدل للأمة الفوضى؟"[49].
هنا ما يزال السؤال المحير يستصحبنا في هذه الدراسة كباقي الدراسات "المقارباتية" الأخرى[50] ، ما السر في عدم ذكر اسم الشاطبي ولو بالتلميح من قبل ابن خلدون إذ لم نلمس له أثرا سواء في كتابة المقدمة أو في تعريفه أو عبره أو محصله أو في شفائه...، ذلك سؤال أشكل علينا بقدر ما أشكل على الشاطبي سؤال حاجة السالك المريد إلى الشيخ المربي هل ضرورية أم لا؟
لكن رغم كل ذلك يبقى لابن خلدون أثره البارز، وجوابه المنم عن باعه الطويل في فقه التصوف وموسوعيته العلمية التي لم تتحقق لكثير من أهل الاختصاص في العلوم الإسلامية.
وسوف نركز في هذه المقاربة على جواب ابن خلدون فقط كما تعهد بذلك عنوانها، دون الأجوبة الأخرى إلى حين تتسع فسحة زمن ويجد شرط مناسبة لذلك.
2ـ تحرير ابن خلدون للمسألة
ينظر ابن خلدون لمسألة الحاجة إلى الشيخ المربي عند المريد السالك على تفصيل وتفريق بين أنواع من مقامات التصوف، فالتصوف في أصله وابتدائه مجاهدة نفس، وتختلف هذه المجاهدة من مقام إلى آخر فهناك مجاهدة التقوى ومجاهدة الاستقامة وأخرى مجاهدة الكشف، وكل مقام لا تستوي فيه الحاجة إلى الشيخ المربي، لذلك فإنه من خلال قراءة البيان الخلدوني في الشفاء على وجه التحديد يبدو مقصد الشيخ المربي ضروريا حالة وحاجيا تارة وكماليا تارة أخري، فكيف ذلك.
أولا: مجاهدة التقوى
يعتبر ابن خلدون مقام المجاهدة التقوى من باب الفروض العينية الواجب الالتزام من بها قبل المكلف بحث لا مناص له منها، وهي بمثابة معرفة أحكام الله تعالى وحدوده المرسومة، وتلك المجاهدة لا يشترط فيها ضرورة الاقتداء بالشيخ وأخذ مبادئها منه، يقول رحمه الله: "أما مجاهدة التقوى التي هي الورع، فلا يضطر فيها على الشيخ، إنما يكفي فيها معرفة أحكام الله وحدوده، أخذت من كتاب أم لقنت من معلم، أو تدورست من أستاذ، وذلك لما بينا أن هذه المجاهدة هي فرض عين على المكلف، كيف يضيع فرض العين الواجب على الفور، ويهمل حق التكليف لانتظار الشيخ الذي لا مزيد عنده على ما أودعه العلماء بطون كتبهم وصفحات تواليفهم، ناقلين ذلك عن الكتاب والسنة معلنين بالمآخذ والأصول؟"
فطلب الشيخ المربي في هذا المقام من المجاهدة لا يرتفع إلى مرتبة الحاجة بله مرتبة الضروري، فهو من باب الكماليات التي يتم سدها باللجوء إلى الكتب على وجه التبع والقصد التبعي، "نعم يكون لصاحب المجاهدة كمال بالاقتداء بشيخ معلم يبين له الحق في صور لأفعال لقنا بالعيان وهو من شروط الكمال في كل تعلم لأن مستنده الحس"[51]
ثانيا: مجاهدة الاستقامة
يرتقي افتقار المريد للشيخ المربي في مجاهدة الاستقامة إلى درجة الحاجة دون استدعاء ضرورة ملحة، لأنها تقوم على أساس التحلي بأخلاق القرآن وسلوك الأنبياء عليهم السلام، والمريد تتعذر مع مجاهداته في هذه المنزلة معرفة علل النفس وتقلبات قلبه وإدراك الدواء المناسب، فهو في حاجة إلى من يدله ويرشده، وإن كان ذلك ليس من باب الفروض العينية حسب ابن خلدون يقول رحمه الله: "وأما مجاهدة الاستقامة التي هي التخلق بالقرآن وبخلق الأنبياء فمحتاجة بعض الشيء إلى الشيخ المعلم لعسر الاطلاع على خلق النفس وخفاء تلونات القلب، وصعوبة علاجها ومعاناتها، مع أنها ليست بفرض عين في حق المكلفين، لذلك فالمريد يطلب من البحث عن الشيخ المرشد في هذا الباب على وجه التأكيد "فإذن يتأكد طلب الشيخ في حق صاحب هذه المجاهدة، والاقتداء فيها بسالكها المطلع على عللها، ولا ينتهي ذلك إلى حد الوجوب والاضطرار، إذ مأخذها كلها الكتاب والسنة، والاصطلاحات المتعارفة"[52]
مجاهدة الكشف:
والمقام الأخير مجاهدة الكشف والمشاهدة؛ حيث يحتاج فيها السالك إلى الكشف عن الحقائق الروحانية برفع الحجاب عنها فهي تتطلب من باب الضرورة الاستعانة بالشيخ لأنه الوحيد يدرك مفاتيح تلك المغاليق الوجدانية يقول ابن خلدون "وأما مجاهدة الكشف والمشاهدة التي مطلوبها رفع الحجاب والاطلاع على العالم الروحاني وملكوت السماوات والأرض، فإنها مفتقرة إلى المعلم المربي، وهو الذي يعبر عنه بالشيخ، افتقار وجوب واضطرار لا يسع غيره ولا يمكن في الغالب حصولها دونه"[53].
كما أن هذا المقام لا يمكن للسالك بلوغ أسراره وإدراك حقائقه عن سبيل تعلم العلوم الكسبية والصناعية أنه مباين لها في الصورة والمقصد والسبيل، فلا وجود لأسرارها في الكتب ولا عند المعلمين الكسبيين، بل توجد في وجدانيات الشيخ الذي مرت به تلك الإلهامات المخصوصة، "والحق أنه لا بد للسالك من الشيخ، ولا يفضي به النقل وحده إلى مطلوبه، لا من أجل التفاوت بين التحصيلين كما ذكر، بل من أجل أن مدارك هذه الطريقة ليست من قبيل المتعارف من العلوم الكسبية والصنائع، وإنما هي مدارك وجدانية إلهامية خارجة عن الاختيار في الغالب، ناشئة عن الأعمال على هيئات مخصوصة، فلا يدرك تمييزها بالمعارف الكسبية التي تحتاج إلى الشيخ الذي يميزها بالعيان والشفاه ويعلم هيئات الأعمال التي تنشأ عنها خصوصيات أحوالها"[54] .
3ـ رؤية الشاطبي للمسألة
رغم قوة عارضة الشاطبي يتواضع متسائلا ومستفتيا في مسألة من أشكل المسائل لكن ابن خلدون وصلته الرسالة بعد أن وقفه بعض إخوانه حسبما قال، ونلفاه قد اقتحم على المسألة باب الاجتهاد والفتوى، هل لأن الشاطبي هو السائل أم ماذا؟.
لقد عقد الشاطبي في مسألة حاجة المكلف للشيخ فصلا[55] أسهب في بيان ذلك من جهة العلوم كلها، وعلى سبيل التعميم، بما في ذلك حاجة التلميذ السالك للشيخ المربي، فكان متحريا النظر في المسألة من جانب التحقق في الأفعال الصادرة عن الشيخ ومعرفتها بالحق وملامستها للشريعة كما أكد على ضرورة التثبت في التقليد حتى لا يزيغ المكلف والتلميذ.
والذي يبدو أن تأليفه لكتاب الاعتصام يترجح لدينا أنه كان بعد توصله بجواب علماء فاس في المسألة لأننا نجده يميل إلى التزام الشيخ في مثل هذه الأمور، فكيف به يتساءل عن مسألة ويقرر رأيه فيها، ويظهر أنه قد اطمأن إلى رأي ابن القباب متجاوزا رأي النفري. كما ارتاح لجواب ابن خلدون متحفظا في جزء منه.
يقسم الشاطبي التصوف الى قسمين كبيرين:
تصوف الظاهر: وقد مر عليه الحديث في مفهوم التصوف عند الشاطبي، وهو ما سماه ابن خلدون في تحريره للمسألة بمقام مجاهدة التقوى والورع، وجعله الشاطبي بمنزلة العمل التكليفي.
تصوف الباطن: وهو الصفحة المقابلة لورقة التصوف حسب الشاطبي فهو نتيجة التصوف الظاهر، لذلك فقد فصل فيه تفصيلا لأنه يتضمن ما يمكن أن يثير صلب إشكال مراسلته لعلماء القرويين بفاس.
و هذا النوع من التصوف بالنسبة له أربعة أضرب كل واحد منها له خصوصيته الشرعية قبولا أو رفضا.
1ـ تصوف حال[56]
وهذا المقام مقام تصوف حال يتناسب مع ما اصطلح عليه ابن خلدون بمجاهدة الاستقامة، لأن الحاجة فيه إلى الشيخ المربي لا تكون من باب الضرورة، بل على سبيل الحاجة إليه حال طروء عارض عند السالك فيلجأ إلى الشيخ بقصد إصلاح حاله بما يليق به من الوظائف والأذكار الشرعية، يقول الشاطبي بأن هذا الضرب "يرجع إلى العوارض الطارئة على السالكين إذا دخل عليهم نور التوحيد الوجداني، فيتكلم فيها بحسب الوقت والحال وما يحتاج إليه في النازلة الخاصة رجوعا إلى الشيخ المربى، وما ببين له في تحقيق مناطها بفراسته الصادقة في السالك بحسبه، وبحسب العارض فيداويه بما يليق به من الوظائف الشرعية والأذكار الشرعية، أو بإصلاح مقصده إن عرض فيه العارض" كما أن هذا الاحتياج إلى الشيخ يكون في حالات الإخلال بأصول التكليف الشرعية لأنه " قلما يطرأ العامل بل العارض إلا عند الإخلال ببعض الأصول الشرعية التي بنى عليها في بدايته فقد قالوا إنما حرموا الوصول بتضييعهم الأصول"[57]، ويبدو من خلال كلام الشاطبي هذا أنه قد استفاد من أجوبة علماء القرويين بفاس الذين أجابوه عن مسألته حول الحاجة إلى الشيخ، فهو هنا يؤكد على إمكانية الرجوع إلى الشيخ المربي حالة الاحتياج لبلوغ القصد السليم من التعبدات الشرعية في هذا المقام .
2ـ تصوف كرامة
أما هذا النوع أي تصوف كرامة وما يتبعانه من تصوف روح وتصوف فناء؛ فيمكن إجمالها في ضرب مجاهدة الكشف التي صنفها ابن خلدون في الصنف الثالث من أنواع المجاهدات، غير أن الشاطبي فصل فيها تفصيلا بقصد تحري الرؤية الشرعية فيها، وهذا المقام يلج به السالك النظر في منازل أهل الكرامات الصحيحة وما ارتبط بها من حقائق خارقة أو دون ذلك، إلا أن ذلك المقام فيه مما يندرج ضمن وساوس الشيطان والنفس وما شاكل ذلك، وللتحري في صحة الأمر لا بد من الرجوع إلى أصول الشريعة وقياس ذلك عليها، ولا يعد الشاطبي هذا النوع بدعة في الشريعة، يقول الشاطبي: "والثاني: يرجع إلى النظر في الكرامات وخوارق العادات وما يتعلق بها مما هو خارق في الحقيقة أو غير خارق، وما هو منها يرجع إلى أمر نفسى أو شيطاني أو ما أشبه ذلك من أحكامها؛ فهذا النظر ليس ببدعة كما أنه ليس ببدعة النظر في المعجزات وشروطها، والفرق بين النبي والمتنبي وهو من علم الأصول فحكمه حكمه"[58].
3ـ تصوف روح:
وهو ما يؤول إلى التحقيق في عوالم الأرواح المتوارية عن الأنظار وعن مدركات النفوس كالملائكة والشياطين ..، وهذا المقام لا يوجد له أصل في الشريعة، وينظر أبو إسحاق إلى هذا الضرب بكونه: "ما يرجع إلى النظر في مدركات النفوس من العالم الغائب وأحكام التجريد النفسي، والعلوم المتعلقة بعالم الأرواح وذوات الملائكة والشياطين والنفوس الإنسانية والحيوانية، وما أشبه ذلك، وهو بلا شك بدعة مذمومة إن وقع النظر فيه،" ولا يليق الاهتمام به أو طلب التخلق به أو التربية عليه أو حتى الخوض فيه؛ لأنه يخالف مقاصد التصوف التي تنتهي عند التخلق بكل خلق سني والتجرد عن كل خلق دني، بل ويضادها على وجه الكلية واعتبر الشاطبي أن "الكلام عليه بقصد جعله علما ينظر فيه، وفنا يشتغل بتحصيله بتعلم أو رياضة فإنه لم يعهد مثله في السلف الصالح، وهو في الحقيقة نظر فلسفي إنما يشتغل باستجلابه، والرياضة لاستفادته أهل الفلسفة الخارجون عن السنة المعدودون في الفرق الضالة، فلا يكون الكلام فيه مباحا فضلا عن أن يكون مندوبا إليه"[59].
ولعل أبلغ فقرة تؤكد استفادة الشاطبي من أجوبة علماء فاس، تلك التي أوردها ب
أحمد نصيب-
- عدد المساهمات : 9959
العمر : 66
المكان : أم المدائن قفصة
المهنه : طالب علم
الهوايه : المطالعة فحسب
نقاط تحت التجربة : 24479
تاريخ التسجيل : 05/08/2007
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى