من تأدب صار مؤهلا للكمال
صفحة 1 من اصل 1
من تأدب صار مؤهلا للكمال
الأدب ثلاثة أنواع : أدب مع الله سبحانه . وأدب مع رسوله صلى الله عليه وسلم وشرعه . وأدب مع خلقه .
فالأدب مع الله ثلاثة أنواع :
أحدها : صيانة معاملته أن يشوبها بنقيصة .
الثاني : صيانة قلبه أن يلتفت إلى غيره .
الثالث : صيانة إرادته أن تتعلق بما يمقتك عليه .
قال أبو علي الدقاق : العبد يصل بطاعة الله إلى الجنة ، ويصل بأدبه في طاعته إلى الله .
وقال : رأيت من أراد أن يمد يده في الصلاة إلى أنفه فقبض على يده .
وقال ابن عطاء : الأدب الوقوف مع المستحسنات . فقيل له : وما معناه ؟ فقال : أن تعامله سبحانه بالأدب سرا وعلنا . ثم أنشد :
إذا نطقت جاءت بكل ملاحة وإن سكتت جاءت بكل مليح
وقال أبو علي : من صاحب الملوك بغير أدب أسلمه الجهل إلى القتل .
وقال يحيى بن معاذ : إذا ترك العارف أدبه مع معروفه ، فقد هلك مع الهالكين .
وقال أبو علي : ترك الأدب يوجب الطرد . فمن أساء الأدب على البساط رد إلى الباب . ومن أساء الأدب على الباب رد إلى سياسة الدواب .
وقال يحيى بن معاذ : من تأدب بأدب الله صار من أهل محبة الله .
وقال ابن مبارك : نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم .
وسئل الحسن البصري رحمه الله عن أنفع الأدب ؟ فقال : التفقه في الدين . والزهد في الدنيا ، والمعرفة بما لله عليك .
وقال سهل : القوم استعانوا بالله على مراد الله . وصبروا لله على آداب الله .
[ ص: 357 ] وقال ابن المبارك : طلبنا الأدب حين فاتنا المؤدبون .
وقال : الأدب للعارف كالتوبة للمستأنف .
وقال أبو حفص - لما قال له الجنيد : لقد أدبت أصحابك أدب السلاطين - فقال : حسن الأدب في الظاهر عنوان حسن الأدب في الباطن . فالأدب مع الله حسن الصحبة معه ، وبإيقاع الحركات الظاهرة والباطنة على مقتضى التعظيم والإجلال والحياء . كحال مجالس الملوك ومصاحبهم .
وقال أبو نصر السراج : الناس في الأدب على ثلاث طبقات .
أما أهل الدنيا : فأكبر آدابهم : في الفصاحة والبلاغة . وحفظ العلوم ، وأسمار الملوك ، وأشعار العرب .
وأما أهل الدين : فأكبر آدابهم : في طهارة القلوب ، ومراعاة الأسرار ، والوفاء بالعهود ، وحفظ الوقت ، وقلة الالتفات إلى الخواطر ، وحسن الأدب ، في مواقف الطلب ، وأوقات الحضور ، ومقامات القرب .
وقال سهل : من قهر نفسه بالأدب فهو يعبد الله بالإخلاص .
وقال عبد الله بن المبارك : قد أكثر الناس القول في الأدب ونحن نقول : إنه معرفة النفس ورعوناتها ، وتجنب تلك الرعونات .
وقال الشبلي : الانبساط بالقول مع الحق ترك الأدب .
وقال بعضهم : الحق سبحانه يقول : من ألزمته القيام مع أسمائي وصفاتي ألزمته الأدب ومن كشفت له عن حقيقة ذاتي ألزمته العطب فاختر الأدب أو العطب .
ويشهد لهذا : أنه سبحانه لما كشف للجبل عن ذاته ساخ الجبل وتدكدك ولم يثبت على عظمة الذات .
[ ص: 358 ] وقال أبو عثمان : إذا صحت المحبة تأكدت على المحب ملازمة الأدب .
وقال النوري رحمه الله : من لم يتأدب للوقت فوقته مقت .
وقال ذو النون : إذا خرج المريد عن استعمال الأدب : فإنه يرجع من حيث جاء .
وتأمل أحوال الرسل صلوات الله وسلامه عليهم مع الله ، وخطابهم وسؤالهم . كيف تجدها كلها مشحونة بالأدب قائمة به ؟
قال المسيح عليه السلام إن كنت قلته فقد علمته ولم يقل : لم أقله . وفرق بين الجوابين في حقيقة الأدب . ثم أحال الأمر على علمه سبحانه بالحال وسره . فقال : تعلم ما في نفسي ثم برأ نفسه عن علمه بغيب ربه وما يختص به سبحانه ، فقال ولا أعلم ما في نفسك ثم أثنى على ربه . ووصفه بتفرده بعلم الغيوب كلها . فقال إنك أنت علام الغيوب ثم نفى أن يكون قال لهم غير ما أمره ربه به - وهو محض التوحيد - فقال : ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم ثم أخبر عن شهادته عليهم مدة مقامه فيهم . وأنه بعد وفاته لا اطلاع له عليهم ، وأن الله عز وجل وحده هو المنفرد بعد الوفاة بالاطلاع عليهم . فقال : وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم . ثم وصفه بأن شهادته سبحانه فوق كل شهادة وأعم . فقال : وأنت على كل شيء شهيد ثم قال : إن تعذبهم فإنهم عبادك وهذا من أبلغ الأدب مع الله في مثل هذا المقام . أي شأن السيد رحمة عبيده والإحسان إليهم . وهؤلاء عبيدك ليسوا عبيدا لغيرك . فإذا عذبتهم - مع كونهم عبيدك - فلولا أنهم عبيد سوء من أبخس العبيد ، وأعتاهم على سيدهم ، وأعصاهم له - لم تعذبهم . لأن قربة العبودية تستدعي إحسان السيد إلى عبده ورحمته . فلماذا يعذب أرحم الراحمين ، وأجود الأجودين ، وأعظم المحسنين إحسانا عبيده ؟ لولا فرط عتوهم ، وإباؤهم عن طاعته ، وكمال استحقاقهم للعذاب .
وقد تقدم قوله : إنك أنت علام الغيوب أي هم عبادك . وأنت أعلم بسرهم وعلانيتهم . فإذا عذبتهم : عذبتهم على علم منك بما تعذبهم عليه . فهم عبادك وأنت أعلم بما جنوه واكتسبوه . فليس في هذا استعطاف لهم ، كما يظنه الجهال . ولا تفويض إلى محض المشيئة والملك المجرد عن الحكمة ، كما تظنه القدرية . وإنما هو إقرار واعتراف وثناء عليه سبحانه بحكمته وعدله ، وكمال علمه بحالهم ، واستحقاقهم للعذاب .
ثم قال : وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ولم يقل : الغفور الرحيم [ ص: 359 ] وهذا من أبلغ الأدب مع الله تعالى . فإنه قاله في وقت غضب الرب عليهم ، والأمر بهم إلى النار . فليس هو مقام استعطاف ولا شفاعة . بل مقام براءة منهم . فلو قال : فإنك أنت الغفور الرحيم لأشعر باستعطافه ربه على أعدائه الذين قد اشتد غضبه عليهم . فالمقام مقام موافقة للرب في غضبه على من غضب الرب عليهم . فعدل عن ذكر الصفتين اللتين يسأل بهما عطفه ورحمته ومغفرته إلى ذكر العزة والحكمة ، المتضمنتين لكمال القدرة وكمال العلم .
والمعنى : إن غفرت لهم فمغفرتك تكون عن كمال القدرة والعلم . ليست عن عجز عن الانتقام منهم ، ولا عن خفاء عليك بمقدار جرائمهم ، وهذا لأن العبد قد يغفر لغيره لعجزه عن الانتقام منه . ولجهله بمقدار إساءته إليه . والكمال : هو مغفرة القادر العالم . وهو العزيز الحكيم . وكان ذكر هاتين الصفتين في هذا المقام عين الأدب في الخطاب .
وفي بعض الآثار حملة العرش أربعة : اثنان يقولان : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك . لك الحمد على حلمك بعد علمك . واثنان يقولان : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك . لك الحمد على عفوك بعد قدرتك . ولهذا يقترن كل من هاتين الصفتين بالأخرى . كقوله : والله عليم حليم وقوله : فإن الله كان عفوا قديرا .
وكذلك قول إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم : الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين ولم يقل : وإذا أمرضني . حفظا للأدب مع الله .
وكذلك قول الخضر عليه السلام في السفينة فأردت أن أعيبها . ولم يقل : فأراد ربك أن أعيبها . وقال في الغلامين : فأراد ربك أن يبلغا أشدهما .
وكذلك قول مؤمني الجن : وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض ولم يقولوا : أراده بهم . ثم قالوا : أم أراد بهم ربهم رشدا .
وألطف من هذا قول موسى عليه السلام رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ولم يقل : أطعمني .
[ ص: 360 ] وقول آدم عليه السلام ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ولم يقل : رب قدرت علي وقضيت علي .
وقول أيوب عليه السلام . مسني الضر وأنت أرحم الراحمين . ولم يقل : فعافني واشفني .
وقول يوسف لأبيه وإخوته : هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن ولم يقل : أخرجني من الجب ، حفظا للأدب مع إخوته . وتفتيا عليهم : أن لا يخجلهم بما جرى في الجب . وقال وجاء بكم من البدو ولم يقل : رفع عنكم جهد الجوع والحاجة . أدبا معهم . وأضاف ما جرى إلى السبب . ولم يضفه إلى المباشر الذي هو أقرب إليه منه . فقال : من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي فأعطى الفتوة والكرم والأدب حقه . ولهذا لم يكن كمال هذا الخلق إلا للرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم .
ومن هذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل : أن يستر عورته ، وإن كان خاليا لا يراه أحد ، أدبا مع الله ، على حسب القرب منه ، وتعظيمه وإجلاله ، وشدة الحياء منه ، ومعرفة وقاره .
وقال بعضهم : الزم الأدب ظاهرا وباطنا . فما أساء أحد الأدب في الظاهر إلا عوقب ظاهرا . وما أساء أحد الأدب باطنا إلا عوقب باطنا .
وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله : من تهاون بالأدب عوقب بحرمان السنن . ومن تهاون بالسنن . عوقب بحرمان الفرائض . ومن تهاون بالفرائض عوقب بحرمان المعرفة .
وقيل : الأدب في العمل علامة قبول العمل .
[ ص: 361 ] وحقيقة الأدب استعمال الخلق الجميل . ولهذا كان الأدب : استخراج ما في الطبيعة من الكمال من القوة إلى الفعل .
فإن الله سبحانه هيأ الإنسان لقبول الكمال بما أعطاه من الأهلية والاستعداد ، التي جعلها فيه كامنة كالنار في الزناد . فألهمه ومكنه ، وعرفه وأرشده . وأرسل إليه رسله . وأنزل إليه كتبه لاستخراج تلك القوة التي أهله بها لكماله إلى الفعل . قال الله تعالى : ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها . فعبر عن خلق النفس بالتسوية للدلالة على الاعتدال والتمام . ثم أخبر عن قبولها للفجور والتقوى . وأن ذلك نالها منه امتحانا واختبارا . ثم خص بالفلاح من زكاها فنماها وعلاها . ورفعها بآدابه التي أدب بها رسله وأنبياءه وأولياءه . وهي التقوى . ثم حكم بالشقاء على من دساها فأخفاها وحقرها . وصغرها وقمعها بالفجور . والله سبحانه وتعالى أعلم .
فالأدب مع الله ثلاثة أنواع :
أحدها : صيانة معاملته أن يشوبها بنقيصة .
الثاني : صيانة قلبه أن يلتفت إلى غيره .
الثالث : صيانة إرادته أن تتعلق بما يمقتك عليه .
قال أبو علي الدقاق : العبد يصل بطاعة الله إلى الجنة ، ويصل بأدبه في طاعته إلى الله .
وقال : رأيت من أراد أن يمد يده في الصلاة إلى أنفه فقبض على يده .
وقال ابن عطاء : الأدب الوقوف مع المستحسنات . فقيل له : وما معناه ؟ فقال : أن تعامله سبحانه بالأدب سرا وعلنا . ثم أنشد :
إذا نطقت جاءت بكل ملاحة وإن سكتت جاءت بكل مليح
وقال أبو علي : من صاحب الملوك بغير أدب أسلمه الجهل إلى القتل .
وقال يحيى بن معاذ : إذا ترك العارف أدبه مع معروفه ، فقد هلك مع الهالكين .
وقال أبو علي : ترك الأدب يوجب الطرد . فمن أساء الأدب على البساط رد إلى الباب . ومن أساء الأدب على الباب رد إلى سياسة الدواب .
وقال يحيى بن معاذ : من تأدب بأدب الله صار من أهل محبة الله .
وقال ابن مبارك : نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم .
وسئل الحسن البصري رحمه الله عن أنفع الأدب ؟ فقال : التفقه في الدين . والزهد في الدنيا ، والمعرفة بما لله عليك .
وقال سهل : القوم استعانوا بالله على مراد الله . وصبروا لله على آداب الله .
[ ص: 357 ] وقال ابن المبارك : طلبنا الأدب حين فاتنا المؤدبون .
وقال : الأدب للعارف كالتوبة للمستأنف .
وقال أبو حفص - لما قال له الجنيد : لقد أدبت أصحابك أدب السلاطين - فقال : حسن الأدب في الظاهر عنوان حسن الأدب في الباطن . فالأدب مع الله حسن الصحبة معه ، وبإيقاع الحركات الظاهرة والباطنة على مقتضى التعظيم والإجلال والحياء . كحال مجالس الملوك ومصاحبهم .
وقال أبو نصر السراج : الناس في الأدب على ثلاث طبقات .
أما أهل الدنيا : فأكبر آدابهم : في الفصاحة والبلاغة . وحفظ العلوم ، وأسمار الملوك ، وأشعار العرب .
وأما أهل الدين : فأكبر آدابهم : في طهارة القلوب ، ومراعاة الأسرار ، والوفاء بالعهود ، وحفظ الوقت ، وقلة الالتفات إلى الخواطر ، وحسن الأدب ، في مواقف الطلب ، وأوقات الحضور ، ومقامات القرب .
وقال سهل : من قهر نفسه بالأدب فهو يعبد الله بالإخلاص .
وقال عبد الله بن المبارك : قد أكثر الناس القول في الأدب ونحن نقول : إنه معرفة النفس ورعوناتها ، وتجنب تلك الرعونات .
وقال الشبلي : الانبساط بالقول مع الحق ترك الأدب .
وقال بعضهم : الحق سبحانه يقول : من ألزمته القيام مع أسمائي وصفاتي ألزمته الأدب ومن كشفت له عن حقيقة ذاتي ألزمته العطب فاختر الأدب أو العطب .
ويشهد لهذا : أنه سبحانه لما كشف للجبل عن ذاته ساخ الجبل وتدكدك ولم يثبت على عظمة الذات .
[ ص: 358 ] وقال أبو عثمان : إذا صحت المحبة تأكدت على المحب ملازمة الأدب .
وقال النوري رحمه الله : من لم يتأدب للوقت فوقته مقت .
وقال ذو النون : إذا خرج المريد عن استعمال الأدب : فإنه يرجع من حيث جاء .
وتأمل أحوال الرسل صلوات الله وسلامه عليهم مع الله ، وخطابهم وسؤالهم . كيف تجدها كلها مشحونة بالأدب قائمة به ؟
قال المسيح عليه السلام إن كنت قلته فقد علمته ولم يقل : لم أقله . وفرق بين الجوابين في حقيقة الأدب . ثم أحال الأمر على علمه سبحانه بالحال وسره . فقال : تعلم ما في نفسي ثم برأ نفسه عن علمه بغيب ربه وما يختص به سبحانه ، فقال ولا أعلم ما في نفسك ثم أثنى على ربه . ووصفه بتفرده بعلم الغيوب كلها . فقال إنك أنت علام الغيوب ثم نفى أن يكون قال لهم غير ما أمره ربه به - وهو محض التوحيد - فقال : ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم ثم أخبر عن شهادته عليهم مدة مقامه فيهم . وأنه بعد وفاته لا اطلاع له عليهم ، وأن الله عز وجل وحده هو المنفرد بعد الوفاة بالاطلاع عليهم . فقال : وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم . ثم وصفه بأن شهادته سبحانه فوق كل شهادة وأعم . فقال : وأنت على كل شيء شهيد ثم قال : إن تعذبهم فإنهم عبادك وهذا من أبلغ الأدب مع الله في مثل هذا المقام . أي شأن السيد رحمة عبيده والإحسان إليهم . وهؤلاء عبيدك ليسوا عبيدا لغيرك . فإذا عذبتهم - مع كونهم عبيدك - فلولا أنهم عبيد سوء من أبخس العبيد ، وأعتاهم على سيدهم ، وأعصاهم له - لم تعذبهم . لأن قربة العبودية تستدعي إحسان السيد إلى عبده ورحمته . فلماذا يعذب أرحم الراحمين ، وأجود الأجودين ، وأعظم المحسنين إحسانا عبيده ؟ لولا فرط عتوهم ، وإباؤهم عن طاعته ، وكمال استحقاقهم للعذاب .
وقد تقدم قوله : إنك أنت علام الغيوب أي هم عبادك . وأنت أعلم بسرهم وعلانيتهم . فإذا عذبتهم : عذبتهم على علم منك بما تعذبهم عليه . فهم عبادك وأنت أعلم بما جنوه واكتسبوه . فليس في هذا استعطاف لهم ، كما يظنه الجهال . ولا تفويض إلى محض المشيئة والملك المجرد عن الحكمة ، كما تظنه القدرية . وإنما هو إقرار واعتراف وثناء عليه سبحانه بحكمته وعدله ، وكمال علمه بحالهم ، واستحقاقهم للعذاب .
ثم قال : وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ولم يقل : الغفور الرحيم [ ص: 359 ] وهذا من أبلغ الأدب مع الله تعالى . فإنه قاله في وقت غضب الرب عليهم ، والأمر بهم إلى النار . فليس هو مقام استعطاف ولا شفاعة . بل مقام براءة منهم . فلو قال : فإنك أنت الغفور الرحيم لأشعر باستعطافه ربه على أعدائه الذين قد اشتد غضبه عليهم . فالمقام مقام موافقة للرب في غضبه على من غضب الرب عليهم . فعدل عن ذكر الصفتين اللتين يسأل بهما عطفه ورحمته ومغفرته إلى ذكر العزة والحكمة ، المتضمنتين لكمال القدرة وكمال العلم .
والمعنى : إن غفرت لهم فمغفرتك تكون عن كمال القدرة والعلم . ليست عن عجز عن الانتقام منهم ، ولا عن خفاء عليك بمقدار جرائمهم ، وهذا لأن العبد قد يغفر لغيره لعجزه عن الانتقام منه . ولجهله بمقدار إساءته إليه . والكمال : هو مغفرة القادر العالم . وهو العزيز الحكيم . وكان ذكر هاتين الصفتين في هذا المقام عين الأدب في الخطاب .
وفي بعض الآثار حملة العرش أربعة : اثنان يقولان : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك . لك الحمد على حلمك بعد علمك . واثنان يقولان : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك . لك الحمد على عفوك بعد قدرتك . ولهذا يقترن كل من هاتين الصفتين بالأخرى . كقوله : والله عليم حليم وقوله : فإن الله كان عفوا قديرا .
وكذلك قول إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم : الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين ولم يقل : وإذا أمرضني . حفظا للأدب مع الله .
وكذلك قول الخضر عليه السلام في السفينة فأردت أن أعيبها . ولم يقل : فأراد ربك أن أعيبها . وقال في الغلامين : فأراد ربك أن يبلغا أشدهما .
وكذلك قول مؤمني الجن : وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض ولم يقولوا : أراده بهم . ثم قالوا : أم أراد بهم ربهم رشدا .
وألطف من هذا قول موسى عليه السلام رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ولم يقل : أطعمني .
[ ص: 360 ] وقول آدم عليه السلام ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ولم يقل : رب قدرت علي وقضيت علي .
وقول أيوب عليه السلام . مسني الضر وأنت أرحم الراحمين . ولم يقل : فعافني واشفني .
وقول يوسف لأبيه وإخوته : هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن ولم يقل : أخرجني من الجب ، حفظا للأدب مع إخوته . وتفتيا عليهم : أن لا يخجلهم بما جرى في الجب . وقال وجاء بكم من البدو ولم يقل : رفع عنكم جهد الجوع والحاجة . أدبا معهم . وأضاف ما جرى إلى السبب . ولم يضفه إلى المباشر الذي هو أقرب إليه منه . فقال : من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي فأعطى الفتوة والكرم والأدب حقه . ولهذا لم يكن كمال هذا الخلق إلا للرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم .
ومن هذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل : أن يستر عورته ، وإن كان خاليا لا يراه أحد ، أدبا مع الله ، على حسب القرب منه ، وتعظيمه وإجلاله ، وشدة الحياء منه ، ومعرفة وقاره .
وقال بعضهم : الزم الأدب ظاهرا وباطنا . فما أساء أحد الأدب في الظاهر إلا عوقب ظاهرا . وما أساء أحد الأدب باطنا إلا عوقب باطنا .
وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله : من تهاون بالأدب عوقب بحرمان السنن . ومن تهاون بالسنن . عوقب بحرمان الفرائض . ومن تهاون بالفرائض عوقب بحرمان المعرفة .
وقيل : الأدب في العمل علامة قبول العمل .
[ ص: 361 ] وحقيقة الأدب استعمال الخلق الجميل . ولهذا كان الأدب : استخراج ما في الطبيعة من الكمال من القوة إلى الفعل .
فإن الله سبحانه هيأ الإنسان لقبول الكمال بما أعطاه من الأهلية والاستعداد ، التي جعلها فيه كامنة كالنار في الزناد . فألهمه ومكنه ، وعرفه وأرشده . وأرسل إليه رسله . وأنزل إليه كتبه لاستخراج تلك القوة التي أهله بها لكماله إلى الفعل . قال الله تعالى : ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها . فعبر عن خلق النفس بالتسوية للدلالة على الاعتدال والتمام . ثم أخبر عن قبولها للفجور والتقوى . وأن ذلك نالها منه امتحانا واختبارا . ثم خص بالفلاح من زكاها فنماها وعلاها . ورفعها بآدابه التي أدب بها رسله وأنبياءه وأولياءه . وهي التقوى . ثم حكم بالشقاء على من دساها فأخفاها وحقرها . وصغرها وقمعها بالفجور . والله سبحانه وتعالى أعلم .
*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*الكلمة الطيبة كشجرة طيبة*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*
"هذا مذهب كلّه جد فلا تخلطوه بشيء من الهزل"
إسماعيل- مشرف
- عدد المساهمات : 2980
العمر : 53
نقاط تحت التجربة : 16470
تاريخ التسجيل : 17/04/2008
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى