في دلالة العمل
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
في دلالة العمل
إن التفكير في العمل يتنزل مثل كل القضايا الفلسفية في سجلات مختلفة باختلاف الظروف التاريخية لتطور الفكر الفلسفي و لكن أيضا باختلاف الظروف التاريخية للعمل ذاته. وما ساد من تصورات حول العمل في الفكر القديم لم يكن من التفكير الاقتصادي في شيء، فالعمل في الفلسفة القدمة كان يدخل في باب الخدمة، كخدمة العبد للسيد في الفلسفات اليونانية. وظهور مفهوم العمل في شكله الحديث يتزامن وظهور السوق الذي يحيل على تبادل المجهود وشراء قوة العمل وتبادل الخيرات والخدمات ووجود أسعار وأجور و فضاءات محدّدة للعمل والبيع والشراء، والمبادلات والقوانين والبضائع والأفراد والمواصلات والجماعات والدول كتعبير عن مصالح مجموعات بل أن الدولة تحظر في السوق كمكون للسوق وراعية لوجوده وتنافسيته وايديولوجيته، لتجعل الناس يعتقدون في السوق وفي قوانينه.
وهكذا صار العمل بضاعة بفضل السوق وكلما ازدادت الفردانية يصير السوق هو الرابط بين الفرد والجماعة وبذلك يتحوّل السوق إلى مجال للتنشئة الاقتصادية والاجتماعية. كيف يتحدّد، إذن، العمل في ظل اقتصاد السوق؟ وما علاقته بإنسانية الإنسان؟ ثم كيف يتحول مفهوم العمل من نشاط مؤسس لإنسانية الإنسان إلى نشاط نفعي قد يسلب الإنسان إنسانيته؟
يتحدّد الإنسان في العديد من السجلات الأنتروبولوجية بما هو حيوان صانع للآلات. وصُنع الآلة يعني أن الإنسان لم يعد حيوانا، بما أنه إذا كانت لبعض الحيوانات أدوات فإنها لا تصنعها وحتى إذا وجدنا بعض التصرفات المشابهة لدى بعض الحيوانات لتصرفات الإنسان، كما هو الشأن بالنسبة للقندس، فإن استعمال هذه الأدوات يقتصر على مجرّد استعمال ألأداتي، وإذا كانت العصا التي يستعملها قرد المخبر يمكن أن تستخدم بطريقة مزدوجة فإنه ولا حيوان قادر على إنشاء محيط تقني أي نسق من الآلات المختلفة ذوات الأفعال المختلفة، حتى وإن كان عددها قليلا نسبيا.
هذا يعني أن صنع الآلات يمثل أحد الخاصيات التي تميز الإنسان، لذلك لا بد من استبعاد الإسقاطات الأنترومورفية على سلوك الحيوانات. وكحيوان صانع للأدوات يعمل الإنسان. «الإنسان يعمل» هي إذن معادلة لتمييز الإنسان، لكن قد يعترض بعضهم على ذلك باعتبار وجود ما يسميه "فولتير" ببهائم الجمع Les Bêtes de sommes إذ قد يعني ذلك أن الإنسان يمكن أن يكون بهيمة جمع أي يمكن أن يعمل كالحيوان. القدرة على صنع الآلات تميز الإنسان عن الحيوان ويبدو أن العمل قد يجعل منه بهيمة جمع. ولكن يجب أن نلاحظ أن فولتير يتحدث عن بهيمة لا عن حيوان فالبهيمة هي حيوان أهلي والحيوان الأهلي هو حيوان فقد بريته وتوحشه وبالتالي فخره ليصبح عبدا لسيده. وفي هذا المعنى العمل كالبهيمة هو أيضا العمل كالإنسان بما أنه لا يعمل إلا الحيوان المستعبد أي الحيوان الأقل درجة من الحيوان. وهكذا يبدو أن تمييز النبيل للإنسان كعامل قد يعين تدنيا انثروبومورفيا، والحيوان الصانع للآلة قد يصبح مرادفا للعبد.
يبدو، إذن، أن العمل، كنشاط، يثوى داخله تناقضا، وهذا التناقض ينتج ربما عن تباين زوايا النظر إذ نستطيع القول بأن عنصر العبودية يرجع إلى العبد سواء كان ثائرا أم لا، وإلى السيد سواء كان واعيا بذلك أم لا. ومهما يكن الأمر فإن العمل يبدو ضروريا بالنسبة للإنسان، ورغم كون العمل ضروري فإن الحياة دون عمل تبدو جديرة بأن نتمناها، فنحن نتمثل دائما حياة آدم في الجنة كحياة محبّذة، فآدم لا يعمل بما أنه لم يكن في حاجة إلى إيجاد الغذاء إذ يتغذى مما يجده في عدن. ولكن الكتابة الدينية المسيحية تبين عكس ذلك إذ تقول لنا: "إن الرب الخالق أخذ آدم ووضعه في جنات عدن حتى يزرعها ويحصدها" وهذا يعني أن العمل ليس لعنة ناتجة عن الخطأ الأوّل، ليس العقاب المسلط على آدم الذي لم يحترم القواعد الربانية فيعرق في الأرض حتى يحصل على الخبز، بل إن هذا يعني حسب الأسطورة الإنجيلية نفسها أن العمل متماد مع الوجود الإنساني، لكن العمل لا العمل الشاق.
وإذا ما تركنا الأسطورة وبحثنا في الأطوبيا هذا النوع من الكتابة الأدبية الذي دشنه توماس مور Thomas More، والذي لا يوافق التقليد الأفلاطوني بما أن التقليد الأفلاطوني يعتبر العمل خاصية العبد وأن الإنسان الحرّ ليس في حاجة للعمل، ذلك أن كلّ الناس عند مور و حتى عند "كانبانلا" Campanella في «مدينة الشمس» يعملون ويجب ربما أن نكون من الآلهة أو نكون مقادين من طرف الآلهة حتى لا نعمل.
العمل، إذن، ليس عقابا من السماء أو شيئا مضافا اصطناعيا على الطبيعة الإنسانية، بل هو ضرورة نستطيع أن ننظمها بطرق مختلفة كما تفعل الأوطوبيات لكن لا نستطيع حذفها، فعلى خلاف كلّ الحيوانات يكون للعمل معنى وضرورة بالنسبة للإنسان. ولا حيوان في حاجة للعمل ليعيش وليحافظ على بقائه فكلّ الحيوانات تعيش على الطبيعة إذ هي كلّها مدينة للطبيعة في عطائها أو في جدبها في ما هو ضروري لبقائها. وعلى عكس ذلك يقيم الإنسان علاقة مخالفة مع الطبيعة، ولا يمكن له أن يكتفي بانتظار هدية من الطبيعة لتؤمن له ظروف عيشه فالإنسان ذاته مطالب بإنتاج العناصر الضرورية لضمان بقائه بالعمل. وهذا يعني أن الإنسان قبل يستهلك ما تقدمه له الطبيعة عليه أن يشكله نظرا لكون الإنسان له حاجات كثيرة ومتنوعة ولا يستطيع أن يعيش بطريقة سلبية في حضن الطبيعة إذ عليه تحويل هذه الطبيعة واستغلالها لمصلحته وفي كلمة عليه أن يعمل. لكن هل أن الطبيعة لم تكن عادلة مع الإنسان إذ هي أجبرته على العمل؟
حيال هذه الضرورة الحياتية التي تفرض على الإنسان العمل حتى يحافظ على بقائه، كثير هم الشعراء والمفكرين، وخاصة القدامى منهم، الذين اعتبروا أن السماء أو الآلهة أو الطبيعة ذاتها لم تكن عادلة مع الإنسان بأن أجبرته على إنتاج ما يحتاجه لنفسه عوض أن تهدي له دون شقاء كل الوسائل الضرورية لرغد عيشه. وأفلاطون عندما يثير أسطورة برومثيوس (اله النار) يشير إلى نوع من اللاعدالة الالاهية بما أن الآلهة لم تنصف الإنسان عندما أجبرته على العمل. غير أن كانط يذهب عكس ذلك إذ يرى أنه من العبث لوم الطبيعة والآلهة لأن الطبيعة البشرية ذاتها تقتضي اهتمامات حتى وإن كانت مفروضة عليها، وأنه إذا كانت الطبيعة سخية مع الإنسان ومكنته من أن يعيش في بطالة تامة فإنها لن تضر فقط بالمصير النهائي للإنسان، بل أكثر من ذلك إن ضرورة الاهتمام أي حاجة الإنسان لأن يكون له هدف يسعى إلى تحقيقه ليست ناتجة عن أسباب اقتصادية واجتماعية فالعمل له أيضا دور نفسي بما أن البطالة تحكم على الإنسان بالانغلاق على ذاته وعلى أن يعيش لبطنه كما يقال عادة. والإنسان الذي ليس له اهتمام طوال الوقت ينتهي إلى أن يصبح مهووسا بشخصه وينتهي ضرورة إلى الانهيار العصبي والكآبة لذلك يجب أن تسير حياة الإنسان بطريقة متواترة بين العمل والراحة التي ليس لها من معنى إلا بالنسبة للعمل فالراحة دون عمل ليست إلا علامة الحياة العاشبة التي لا تليق بالإنسان ولا تتماشى مع طبيعته. ذلك هو معنى قول كانط :« وإننل لنخطئ بنفس القدر إن تخيلنا أنه لو بقي آدم وحواء في الجنة، لما كان لهما فعل سوى الجلوسمعا و إنشاد أغان رعوية و تأمل جمال الطبيعة. فلو تحقق ذلك لعذبهما القلق’ و عذب أيضا أناسا آخرين في وضع مماثل.»
لكن يبقى المشكل مطروحا فإذا كان العمل ضرورة حياتية وجودية بالنسبة للإنسان فلماذا نحلم بحياة بدون عمل؟
إن هذا المشكل يرتكز في الحقيقة على انزلاق في المعنى مولد للبس فنخن لا نقابل العمل بغيابه بل بأوقات الفراغ ونجد عند اللاتينيين زوجا أكثر دقة للتعبير عن هذا التقابل فاللاتينيون يسمون أوتيوم Otium أي وقت الفراغ (Loisirs) الوقت الذي لا ينشغلون فيه بالـنيقوسيوم negotium أي الأعمال الحقوقية والسياسية بالأساس. فلا يتعلق الأمر، إذن، بفراغ بمعنى الاسترخاء غير النافع اجتماعيا ولا يتعلق الأمر باللعب بما أن اللعب ممتع في حدّ ذاته واللعب للأطفال أما لعب الكبار فله هدف آخر مثلما بين ذلك كانط. وقت الفراغ هو وقت العمل النافع اجتماعيا أو فرديا ولا يختلف عن النيقوسيوم إلا بكونه عمل غير ملزم. أن يكون لنا وقت فراغ لا يعني أن لا نعمل شيئا بل يعني أن نعمل ما نريد لأن لنا الوقت للقيام به. فالعمل هو إذن ضرورة ولكن ضرورة تغير من طبيعيتها فأما أن يكون ملزما وإما أن يكون غير ملزم أي عمل في أوقات الفراغ.
يجب على الإنسان أن يعمل إذن، ولكن ورغم كون العمل ضرورة بالنسبة للإنسان فإنه ليس فطريا عنده، فالطفل لا يعرف منذ ولادته أن عليه أن يعمل و أن العمل سيصبح ضروريا بالنسبة إليه والطفل يعرف الأكل والشرب والحركة بطبيعته ولكن العمل وضرورة العمل ليحافظ على بقائه هي أشياء لا يتعلمها إلا بالتربية. وهذه مفارقة يحيل إليها كانط، فكون العمل ضروري بالنسبة للإنسان لا يعني أنه قادر على العمل بطبيعته بل هو يتعلم كون العمل ضروري، ولا يعلم ذلك بالفطرة فالإنسان ليس له ميل طبيعي للعمل والطفل الذي نتركه لذاته لا يقرر العمل من ذاته. إنه، قطعا، سيتفطن إلى كون العمل ضروري عندما يستحيل عليه تلبية حاجياته بطريقة أخرى غير العمل ولكنه لا يستطيع أن يعمل لأن العمل أو بالأحرى القدرة على القيام بعمل أو، إن شئنا التدقيق، بشغل هو شيء مكتسب وليس فطريا فينا لذلك فإن معنى العمل وفكرة ضرورته وظروف مارسته هي أشياء نعلمها للأطفال تدريجيا.
ولكن إذا كان العمل ضروري بالنسبة للإنسان كيف نقر أنه لا يرجع للغريزة الطبيعة وأنه علينا أن نتعلم ضرورته منذ الطفولة؟ ألا يتضمن هذا الإقرار تناقضا؟
إن الأمر لا يتعلق بتناقض، ذلك أن العمل عند الإنسان لا يتأسس على طبيعته الحيوانية، فلكي نعمل يجب أن نفكّر ونفكّر قبل العمل وأثناءه، ثم إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي ينتج لنفسه ضرورة لا تأسس فقط على قوانين الطبيعة، بل تتأسس على الحياة الاجتماعية والقهر الذي تفرضه، وهذا التجاوز للمستوى الحيواني أين تسود الضرورة العمياء يؤسس ضرورات جديدة كضرورة العمل وضرورة تعلّمه. وهذه الضرورات الجديدة تمثل في نفس الوقت شرط حرية الإنسان وتضعه بشكل كلي فوق العالم الحيواني بما أن الإنسان يرسم إنسانيته ويضمن انتماءه إلى النوع الإنساني بفضل العمل مثلما ذهب إلى ذلك ماركس.
والعمل بالنسبة لماركس هو قبل كلّ شيء ظاهرة توحّد الإنسان بالطبيعة. ظاهرة يتمكن الإنسان بواسطتها من تنظيم ومراقبة تبادل المادة الذي يقيمه مع الطبيعة. فهو يفعل أمام المادة الطبيعية كقوة طبيعية، إذ يضع قواه الطبيعية التي تنتمي إلى جسده في حركة ليقتطع مادة الطبيعة في شغل قابل للاستعمال في حياته الخاصة. وبفعله في الطبيعة، عند تشكيله للطبيعة، يشكل الإنسان طبيعته الخاصة وهذا يعني أن العمل بالنسبة لماركس يمكن الإنسان من تملك الطبيعة في شكل صالح للإنسان. ويتحدّد العمل في هذا المستوى كتشكيل في المعنى الحرفي للكلمة، فالإنسان من طبيعته أن يغير شكل المواد الطبيعية وأن يغير طبيعته الخاصة التي تتشكل بتشكيله للطبيعة. ولكي يتجاوز الصور الغرائزية والحيوانية المحضة للعمل يقيم ماركس مقارنة بين الإنسان والحيوان بالطريقة التي تبرز أن العمل خاصية إنسانية، يقول ماركس في "رأس المال": "إن العنكبوت يقوم بعمليات مشابهة لتلك التي يقوم بها النساج. والنحلة تلقن درسا لعدّة مهندسين في بنائها لخلايا الشهد. ولكن ما يمز للوهلة الأولى، وما يؤسس أفضلية أكثر المهندسين رداءة على أحسن نحلة، هو كون المهندس يبني الخلايا في رأسه قبل أن يبنيها في الشهد".
وهذه المقارنة تبرز عنصرا أساسيا، فالإنسان يعمل ليعيش ولكن العمل ليس فقط ممكنا بتمثل هذه الغاية المفروضة من قبل طبيعة غير قابلة للتمثل مباشرة من طرف الإنسان، ولكن بقدرة الإنسان على التمثل المثالي للنتيجة قبل تحقيقها. فالأمر يتعلق إذن، بغائية مخالفة للغائية الخارجية البسيطة كتلك التي ترتبط بحاجة السكن كعلة غائية للبناء، لأنها تتأسس على القدرة على إنتاج صور لا تتبع فقط محيط المواد الطبيعية عند تشكيلها بل تضيف شيئا ما للطبيعة لأن هذه الصور محققة من قبل إرادة مطابقة لغاية خاصة هي غاية البناء. وهكذا فإن الإنسان يعوّض الطبيعة موضوع تبادلاته الأولى بمحيط ينتسب إليه وحده هو المحيط التقني. ذلك أن العمل عند ماركس، باعتباره العلاقة التي يقيمها الإنسان كمنتج مع الطبيعة، يشمل ثلاث عناصر:
* النشاط الشخصي للإنسان أو العمل في معناه الصرف بما هو تشكيل.
* الموضوع الذي يفعل فيه العمل.
* الوسيلة التي يستعملها في فعله هذا.
ويؤكّد ماركس على أهمية الوسائل إذ هي التي تنتج اختلاف الأشكال المتنوعة لمسار العمل بما أنها تحدّد درجة فعالية النشاط الإنساني، وبالتالي إنتاجية العمل. وهكذا فإن "ما يميز فترة اقتصادية على أخرى ليس ما نصنعه بقدر ما هو طريقة الصنع، أي وسائل العمل التي تصنع بها"، وهو ما مكن ماركس من ضبط تطور تاريخ الإنسانية وفق اختلاف وسائل الإنتاج، بحيث يرتكز اهتمام ماركس على الصراع الدائم بين من يملك وسائل الإنتاج ومن لا يملكها ولذلك كان الاقتصاد في نظره المحدّد الوجود للأنظمة القيمية والدينية والتنظيمية للمجتمع.
ومن هذا المنطلق الاقتصادي يرى جون باتيست ساي Jean-Baptiste Say أن العمل هو قبل كل شيء فعل منتج، نشاط مبدع للنفع. و المنفعة تتحد بإشباع حاجيات البشر، و هكذا يكون إبداع المنفعة مرادف لإبداع للثروة، لا من جهة كون العمل يضيف مادة جديدة في الطبيعة يبدع أشياء، و إنما من جهة كونه يكتفي بتشكيل ما هو موجود بعد ويحوله في شكل نافع أو أن يرفع في درجة نفعه. وبما أن النفع هو أساس القيمة التي للمنتوج، فإن القيمة في حد ذاتها تمثل ثروة، و يكون العمل نشاطا منتجا للثروات. مع ساي نتحول إذن، من تحديد العمل كقيمة في حد ذاته إلى العمل المنتج للقيمة المتمثلة في النفع و بالتالي الثروة. وما يميز ساي على ريكاردو هو كون ريكاردو يعتبر أن القيمة الإستعمالية لمنتوج ما لا تحدد ثمنه من جهة كون المنتوج أنتج بالضرورة لإشباع حاجة ما، فالنفع جوهري في كل منتوج ومع ذلك لا يحدد قيمته التبادلية مع ريكاردو. و ساي بهذه الإضافة ينزل المنتوج و بالتالي العمل في السوق.
ذلك أن السوق يعني في الأصل المكان الذي تقام فيه التبادلات، و لكن التطور التجاري ثم بعد ذلك التطور الصناعي في الأزمنة الحديثة وسع مجال التبادلات وانواع البضائع المتبادلة، و أدى إلى تحولات اجتماعية متناسبة مع حرية تنقل الأشخاص والخيرات و ظهور الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج لنصل لمنظومة اقتصاد السوق الذي يمثلها النظام الرأسمالي و يصبح العمل ذاته بضاعة في السوق، سوق الشغل. و سوق الشغل في عبارات مبسطة هو تجارة يسعى من خلالها العامل إلى بيع جهد عمله بأغلى سعر ممكن و في المقابل يسعى من خلالها المشغل للحصول عليه بأبخس سعر ممكن. و ميثاليا لا تدخل القيمة الإنسانية للعامل في عملية التبادل هذه، و إنما يتعلق الأمر فقط بسعر السوق للعامل، أي قدرته الإنتاجية ذهنية كانت أم يدوية. و لكن فعليا قد لا تكون عملية التبادل هذه سوى استعباد ناتج عن مديونية العامل و ضرورة بيع جهده ليحافظ على بقائه أو في بعض الأحيان يقبل العامل تلقائيا بهذه العبودية في مقابر أجر خيالي بالنسبة إليه و لفترة مؤقتة. و مهما كانت النظريات الإقتصادية في هذا المجال فإن ما يعنينا من وجهة نظر فلسفية هو الربط الذي قد يبدو لنا غريبا بعض الشيء بين العمل الذي ينظر إليه العامل باعتباره لعنة، هذه البضاعة التي تباع و تشترى في الأسواق و العدالة الاجتماعية عند المنظرين الإقتصاديين و حتى عند الفلاسفة البراقماتيين. فكيف يمكن أن نتحدث عن العمل كأساس للحرية الواقعية و العدالة في حين أن العمل المأجور يتأسس على المرؤوسية و الإمتثال؟
وهكذا صار العمل بضاعة بفضل السوق وكلما ازدادت الفردانية يصير السوق هو الرابط بين الفرد والجماعة وبذلك يتحوّل السوق إلى مجال للتنشئة الاقتصادية والاجتماعية. كيف يتحدّد، إذن، العمل في ظل اقتصاد السوق؟ وما علاقته بإنسانية الإنسان؟ ثم كيف يتحول مفهوم العمل من نشاط مؤسس لإنسانية الإنسان إلى نشاط نفعي قد يسلب الإنسان إنسانيته؟
يتحدّد الإنسان في العديد من السجلات الأنتروبولوجية بما هو حيوان صانع للآلات. وصُنع الآلة يعني أن الإنسان لم يعد حيوانا، بما أنه إذا كانت لبعض الحيوانات أدوات فإنها لا تصنعها وحتى إذا وجدنا بعض التصرفات المشابهة لدى بعض الحيوانات لتصرفات الإنسان، كما هو الشأن بالنسبة للقندس، فإن استعمال هذه الأدوات يقتصر على مجرّد استعمال ألأداتي، وإذا كانت العصا التي يستعملها قرد المخبر يمكن أن تستخدم بطريقة مزدوجة فإنه ولا حيوان قادر على إنشاء محيط تقني أي نسق من الآلات المختلفة ذوات الأفعال المختلفة، حتى وإن كان عددها قليلا نسبيا.
هذا يعني أن صنع الآلات يمثل أحد الخاصيات التي تميز الإنسان، لذلك لا بد من استبعاد الإسقاطات الأنترومورفية على سلوك الحيوانات. وكحيوان صانع للأدوات يعمل الإنسان. «الإنسان يعمل» هي إذن معادلة لتمييز الإنسان، لكن قد يعترض بعضهم على ذلك باعتبار وجود ما يسميه "فولتير" ببهائم الجمع Les Bêtes de sommes إذ قد يعني ذلك أن الإنسان يمكن أن يكون بهيمة جمع أي يمكن أن يعمل كالحيوان. القدرة على صنع الآلات تميز الإنسان عن الحيوان ويبدو أن العمل قد يجعل منه بهيمة جمع. ولكن يجب أن نلاحظ أن فولتير يتحدث عن بهيمة لا عن حيوان فالبهيمة هي حيوان أهلي والحيوان الأهلي هو حيوان فقد بريته وتوحشه وبالتالي فخره ليصبح عبدا لسيده. وفي هذا المعنى العمل كالبهيمة هو أيضا العمل كالإنسان بما أنه لا يعمل إلا الحيوان المستعبد أي الحيوان الأقل درجة من الحيوان. وهكذا يبدو أن تمييز النبيل للإنسان كعامل قد يعين تدنيا انثروبومورفيا، والحيوان الصانع للآلة قد يصبح مرادفا للعبد.
يبدو، إذن، أن العمل، كنشاط، يثوى داخله تناقضا، وهذا التناقض ينتج ربما عن تباين زوايا النظر إذ نستطيع القول بأن عنصر العبودية يرجع إلى العبد سواء كان ثائرا أم لا، وإلى السيد سواء كان واعيا بذلك أم لا. ومهما يكن الأمر فإن العمل يبدو ضروريا بالنسبة للإنسان، ورغم كون العمل ضروري فإن الحياة دون عمل تبدو جديرة بأن نتمناها، فنحن نتمثل دائما حياة آدم في الجنة كحياة محبّذة، فآدم لا يعمل بما أنه لم يكن في حاجة إلى إيجاد الغذاء إذ يتغذى مما يجده في عدن. ولكن الكتابة الدينية المسيحية تبين عكس ذلك إذ تقول لنا: "إن الرب الخالق أخذ آدم ووضعه في جنات عدن حتى يزرعها ويحصدها" وهذا يعني أن العمل ليس لعنة ناتجة عن الخطأ الأوّل، ليس العقاب المسلط على آدم الذي لم يحترم القواعد الربانية فيعرق في الأرض حتى يحصل على الخبز، بل إن هذا يعني حسب الأسطورة الإنجيلية نفسها أن العمل متماد مع الوجود الإنساني، لكن العمل لا العمل الشاق.
وإذا ما تركنا الأسطورة وبحثنا في الأطوبيا هذا النوع من الكتابة الأدبية الذي دشنه توماس مور Thomas More، والذي لا يوافق التقليد الأفلاطوني بما أن التقليد الأفلاطوني يعتبر العمل خاصية العبد وأن الإنسان الحرّ ليس في حاجة للعمل، ذلك أن كلّ الناس عند مور و حتى عند "كانبانلا" Campanella في «مدينة الشمس» يعملون ويجب ربما أن نكون من الآلهة أو نكون مقادين من طرف الآلهة حتى لا نعمل.
العمل، إذن، ليس عقابا من السماء أو شيئا مضافا اصطناعيا على الطبيعة الإنسانية، بل هو ضرورة نستطيع أن ننظمها بطرق مختلفة كما تفعل الأوطوبيات لكن لا نستطيع حذفها، فعلى خلاف كلّ الحيوانات يكون للعمل معنى وضرورة بالنسبة للإنسان. ولا حيوان في حاجة للعمل ليعيش وليحافظ على بقائه فكلّ الحيوانات تعيش على الطبيعة إذ هي كلّها مدينة للطبيعة في عطائها أو في جدبها في ما هو ضروري لبقائها. وعلى عكس ذلك يقيم الإنسان علاقة مخالفة مع الطبيعة، ولا يمكن له أن يكتفي بانتظار هدية من الطبيعة لتؤمن له ظروف عيشه فالإنسان ذاته مطالب بإنتاج العناصر الضرورية لضمان بقائه بالعمل. وهذا يعني أن الإنسان قبل يستهلك ما تقدمه له الطبيعة عليه أن يشكله نظرا لكون الإنسان له حاجات كثيرة ومتنوعة ولا يستطيع أن يعيش بطريقة سلبية في حضن الطبيعة إذ عليه تحويل هذه الطبيعة واستغلالها لمصلحته وفي كلمة عليه أن يعمل. لكن هل أن الطبيعة لم تكن عادلة مع الإنسان إذ هي أجبرته على العمل؟
حيال هذه الضرورة الحياتية التي تفرض على الإنسان العمل حتى يحافظ على بقائه، كثير هم الشعراء والمفكرين، وخاصة القدامى منهم، الذين اعتبروا أن السماء أو الآلهة أو الطبيعة ذاتها لم تكن عادلة مع الإنسان بأن أجبرته على إنتاج ما يحتاجه لنفسه عوض أن تهدي له دون شقاء كل الوسائل الضرورية لرغد عيشه. وأفلاطون عندما يثير أسطورة برومثيوس (اله النار) يشير إلى نوع من اللاعدالة الالاهية بما أن الآلهة لم تنصف الإنسان عندما أجبرته على العمل. غير أن كانط يذهب عكس ذلك إذ يرى أنه من العبث لوم الطبيعة والآلهة لأن الطبيعة البشرية ذاتها تقتضي اهتمامات حتى وإن كانت مفروضة عليها، وأنه إذا كانت الطبيعة سخية مع الإنسان ومكنته من أن يعيش في بطالة تامة فإنها لن تضر فقط بالمصير النهائي للإنسان، بل أكثر من ذلك إن ضرورة الاهتمام أي حاجة الإنسان لأن يكون له هدف يسعى إلى تحقيقه ليست ناتجة عن أسباب اقتصادية واجتماعية فالعمل له أيضا دور نفسي بما أن البطالة تحكم على الإنسان بالانغلاق على ذاته وعلى أن يعيش لبطنه كما يقال عادة. والإنسان الذي ليس له اهتمام طوال الوقت ينتهي إلى أن يصبح مهووسا بشخصه وينتهي ضرورة إلى الانهيار العصبي والكآبة لذلك يجب أن تسير حياة الإنسان بطريقة متواترة بين العمل والراحة التي ليس لها من معنى إلا بالنسبة للعمل فالراحة دون عمل ليست إلا علامة الحياة العاشبة التي لا تليق بالإنسان ولا تتماشى مع طبيعته. ذلك هو معنى قول كانط :« وإننل لنخطئ بنفس القدر إن تخيلنا أنه لو بقي آدم وحواء في الجنة، لما كان لهما فعل سوى الجلوسمعا و إنشاد أغان رعوية و تأمل جمال الطبيعة. فلو تحقق ذلك لعذبهما القلق’ و عذب أيضا أناسا آخرين في وضع مماثل.»
لكن يبقى المشكل مطروحا فإذا كان العمل ضرورة حياتية وجودية بالنسبة للإنسان فلماذا نحلم بحياة بدون عمل؟
إن هذا المشكل يرتكز في الحقيقة على انزلاق في المعنى مولد للبس فنخن لا نقابل العمل بغيابه بل بأوقات الفراغ ونجد عند اللاتينيين زوجا أكثر دقة للتعبير عن هذا التقابل فاللاتينيون يسمون أوتيوم Otium أي وقت الفراغ (Loisirs) الوقت الذي لا ينشغلون فيه بالـنيقوسيوم negotium أي الأعمال الحقوقية والسياسية بالأساس. فلا يتعلق الأمر، إذن، بفراغ بمعنى الاسترخاء غير النافع اجتماعيا ولا يتعلق الأمر باللعب بما أن اللعب ممتع في حدّ ذاته واللعب للأطفال أما لعب الكبار فله هدف آخر مثلما بين ذلك كانط. وقت الفراغ هو وقت العمل النافع اجتماعيا أو فرديا ولا يختلف عن النيقوسيوم إلا بكونه عمل غير ملزم. أن يكون لنا وقت فراغ لا يعني أن لا نعمل شيئا بل يعني أن نعمل ما نريد لأن لنا الوقت للقيام به. فالعمل هو إذن ضرورة ولكن ضرورة تغير من طبيعيتها فأما أن يكون ملزما وإما أن يكون غير ملزم أي عمل في أوقات الفراغ.
يجب على الإنسان أن يعمل إذن، ولكن ورغم كون العمل ضرورة بالنسبة للإنسان فإنه ليس فطريا عنده، فالطفل لا يعرف منذ ولادته أن عليه أن يعمل و أن العمل سيصبح ضروريا بالنسبة إليه والطفل يعرف الأكل والشرب والحركة بطبيعته ولكن العمل وضرورة العمل ليحافظ على بقائه هي أشياء لا يتعلمها إلا بالتربية. وهذه مفارقة يحيل إليها كانط، فكون العمل ضروري بالنسبة للإنسان لا يعني أنه قادر على العمل بطبيعته بل هو يتعلم كون العمل ضروري، ولا يعلم ذلك بالفطرة فالإنسان ليس له ميل طبيعي للعمل والطفل الذي نتركه لذاته لا يقرر العمل من ذاته. إنه، قطعا، سيتفطن إلى كون العمل ضروري عندما يستحيل عليه تلبية حاجياته بطريقة أخرى غير العمل ولكنه لا يستطيع أن يعمل لأن العمل أو بالأحرى القدرة على القيام بعمل أو، إن شئنا التدقيق، بشغل هو شيء مكتسب وليس فطريا فينا لذلك فإن معنى العمل وفكرة ضرورته وظروف مارسته هي أشياء نعلمها للأطفال تدريجيا.
ولكن إذا كان العمل ضروري بالنسبة للإنسان كيف نقر أنه لا يرجع للغريزة الطبيعة وأنه علينا أن نتعلم ضرورته منذ الطفولة؟ ألا يتضمن هذا الإقرار تناقضا؟
إن الأمر لا يتعلق بتناقض، ذلك أن العمل عند الإنسان لا يتأسس على طبيعته الحيوانية، فلكي نعمل يجب أن نفكّر ونفكّر قبل العمل وأثناءه، ثم إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي ينتج لنفسه ضرورة لا تأسس فقط على قوانين الطبيعة، بل تتأسس على الحياة الاجتماعية والقهر الذي تفرضه، وهذا التجاوز للمستوى الحيواني أين تسود الضرورة العمياء يؤسس ضرورات جديدة كضرورة العمل وضرورة تعلّمه. وهذه الضرورات الجديدة تمثل في نفس الوقت شرط حرية الإنسان وتضعه بشكل كلي فوق العالم الحيواني بما أن الإنسان يرسم إنسانيته ويضمن انتماءه إلى النوع الإنساني بفضل العمل مثلما ذهب إلى ذلك ماركس.
والعمل بالنسبة لماركس هو قبل كلّ شيء ظاهرة توحّد الإنسان بالطبيعة. ظاهرة يتمكن الإنسان بواسطتها من تنظيم ومراقبة تبادل المادة الذي يقيمه مع الطبيعة. فهو يفعل أمام المادة الطبيعية كقوة طبيعية، إذ يضع قواه الطبيعية التي تنتمي إلى جسده في حركة ليقتطع مادة الطبيعة في شغل قابل للاستعمال في حياته الخاصة. وبفعله في الطبيعة، عند تشكيله للطبيعة، يشكل الإنسان طبيعته الخاصة وهذا يعني أن العمل بالنسبة لماركس يمكن الإنسان من تملك الطبيعة في شكل صالح للإنسان. ويتحدّد العمل في هذا المستوى كتشكيل في المعنى الحرفي للكلمة، فالإنسان من طبيعته أن يغير شكل المواد الطبيعية وأن يغير طبيعته الخاصة التي تتشكل بتشكيله للطبيعة. ولكي يتجاوز الصور الغرائزية والحيوانية المحضة للعمل يقيم ماركس مقارنة بين الإنسان والحيوان بالطريقة التي تبرز أن العمل خاصية إنسانية، يقول ماركس في "رأس المال": "إن العنكبوت يقوم بعمليات مشابهة لتلك التي يقوم بها النساج. والنحلة تلقن درسا لعدّة مهندسين في بنائها لخلايا الشهد. ولكن ما يمز للوهلة الأولى، وما يؤسس أفضلية أكثر المهندسين رداءة على أحسن نحلة، هو كون المهندس يبني الخلايا في رأسه قبل أن يبنيها في الشهد".
وهذه المقارنة تبرز عنصرا أساسيا، فالإنسان يعمل ليعيش ولكن العمل ليس فقط ممكنا بتمثل هذه الغاية المفروضة من قبل طبيعة غير قابلة للتمثل مباشرة من طرف الإنسان، ولكن بقدرة الإنسان على التمثل المثالي للنتيجة قبل تحقيقها. فالأمر يتعلق إذن، بغائية مخالفة للغائية الخارجية البسيطة كتلك التي ترتبط بحاجة السكن كعلة غائية للبناء، لأنها تتأسس على القدرة على إنتاج صور لا تتبع فقط محيط المواد الطبيعية عند تشكيلها بل تضيف شيئا ما للطبيعة لأن هذه الصور محققة من قبل إرادة مطابقة لغاية خاصة هي غاية البناء. وهكذا فإن الإنسان يعوّض الطبيعة موضوع تبادلاته الأولى بمحيط ينتسب إليه وحده هو المحيط التقني. ذلك أن العمل عند ماركس، باعتباره العلاقة التي يقيمها الإنسان كمنتج مع الطبيعة، يشمل ثلاث عناصر:
* النشاط الشخصي للإنسان أو العمل في معناه الصرف بما هو تشكيل.
* الموضوع الذي يفعل فيه العمل.
* الوسيلة التي يستعملها في فعله هذا.
ويؤكّد ماركس على أهمية الوسائل إذ هي التي تنتج اختلاف الأشكال المتنوعة لمسار العمل بما أنها تحدّد درجة فعالية النشاط الإنساني، وبالتالي إنتاجية العمل. وهكذا فإن "ما يميز فترة اقتصادية على أخرى ليس ما نصنعه بقدر ما هو طريقة الصنع، أي وسائل العمل التي تصنع بها"، وهو ما مكن ماركس من ضبط تطور تاريخ الإنسانية وفق اختلاف وسائل الإنتاج، بحيث يرتكز اهتمام ماركس على الصراع الدائم بين من يملك وسائل الإنتاج ومن لا يملكها ولذلك كان الاقتصاد في نظره المحدّد الوجود للأنظمة القيمية والدينية والتنظيمية للمجتمع.
ومن هذا المنطلق الاقتصادي يرى جون باتيست ساي Jean-Baptiste Say أن العمل هو قبل كل شيء فعل منتج، نشاط مبدع للنفع. و المنفعة تتحد بإشباع حاجيات البشر، و هكذا يكون إبداع المنفعة مرادف لإبداع للثروة، لا من جهة كون العمل يضيف مادة جديدة في الطبيعة يبدع أشياء، و إنما من جهة كونه يكتفي بتشكيل ما هو موجود بعد ويحوله في شكل نافع أو أن يرفع في درجة نفعه. وبما أن النفع هو أساس القيمة التي للمنتوج، فإن القيمة في حد ذاتها تمثل ثروة، و يكون العمل نشاطا منتجا للثروات. مع ساي نتحول إذن، من تحديد العمل كقيمة في حد ذاته إلى العمل المنتج للقيمة المتمثلة في النفع و بالتالي الثروة. وما يميز ساي على ريكاردو هو كون ريكاردو يعتبر أن القيمة الإستعمالية لمنتوج ما لا تحدد ثمنه من جهة كون المنتوج أنتج بالضرورة لإشباع حاجة ما، فالنفع جوهري في كل منتوج ومع ذلك لا يحدد قيمته التبادلية مع ريكاردو. و ساي بهذه الإضافة ينزل المنتوج و بالتالي العمل في السوق.
ذلك أن السوق يعني في الأصل المكان الذي تقام فيه التبادلات، و لكن التطور التجاري ثم بعد ذلك التطور الصناعي في الأزمنة الحديثة وسع مجال التبادلات وانواع البضائع المتبادلة، و أدى إلى تحولات اجتماعية متناسبة مع حرية تنقل الأشخاص والخيرات و ظهور الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج لنصل لمنظومة اقتصاد السوق الذي يمثلها النظام الرأسمالي و يصبح العمل ذاته بضاعة في السوق، سوق الشغل. و سوق الشغل في عبارات مبسطة هو تجارة يسعى من خلالها العامل إلى بيع جهد عمله بأغلى سعر ممكن و في المقابل يسعى من خلالها المشغل للحصول عليه بأبخس سعر ممكن. و ميثاليا لا تدخل القيمة الإنسانية للعامل في عملية التبادل هذه، و إنما يتعلق الأمر فقط بسعر السوق للعامل، أي قدرته الإنتاجية ذهنية كانت أم يدوية. و لكن فعليا قد لا تكون عملية التبادل هذه سوى استعباد ناتج عن مديونية العامل و ضرورة بيع جهده ليحافظ على بقائه أو في بعض الأحيان يقبل العامل تلقائيا بهذه العبودية في مقابر أجر خيالي بالنسبة إليه و لفترة مؤقتة. و مهما كانت النظريات الإقتصادية في هذا المجال فإن ما يعنينا من وجهة نظر فلسفية هو الربط الذي قد يبدو لنا غريبا بعض الشيء بين العمل الذي ينظر إليه العامل باعتباره لعنة، هذه البضاعة التي تباع و تشترى في الأسواق و العدالة الاجتماعية عند المنظرين الإقتصاديين و حتى عند الفلاسفة البراقماتيين. فكيف يمكن أن نتحدث عن العمل كأساس للحرية الواقعية و العدالة في حين أن العمل المأجور يتأسس على المرؤوسية و الإمتثال؟
ريان-
- عدد المساهمات : 1804
العمر : 33
المكان : المظيلة
المهنه : المعهد العالي للرياضة و التربية البدنية بقفصة
الهوايه : الابحار على النت
نقاط تحت التجربة : 12409
تاريخ التسجيل : 27/02/2008
رد: في دلالة العمل
*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*الكلمة الطيبة كشجرة طيبة*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*
... كن كالنخيل عن الأحقاد مرتفعا * يرمى بصخر فيلقي أطيب الثمر ...
أنين الصمت-
- عدد المساهمات : 1248
العمر : 39
المكان : الجبال الصلدة
المهنه : بطالة مؤقتة
الهوايه : الصمت
نقاط تحت التجربة : 12307
تاريخ التسجيل : 26/12/2008
مواضيع مماثلة
» قوانين مكتب العمل و نظام العمل وزارة الموارد البشرية
» دلالة بعض الاشارات
» هل جمال صوت المراة دلالة على جمالها شكلا
» اعرف كل شئ عن دلالة رؤية الملائكة في المنام للحامل ودلالة الاعتداء على الملائكة في المنام
» تقسيم العمل
» دلالة بعض الاشارات
» هل جمال صوت المراة دلالة على جمالها شكلا
» اعرف كل شئ عن دلالة رؤية الملائكة في المنام للحامل ودلالة الاعتداء على الملائكة في المنام
» تقسيم العمل
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى