الكنز الثمين من معاني إياك نعبد و إياك نستعين
صفحة 1 من اصل 1
الكنز الثمين من معاني إياك نعبد و إياك نستعين
الكنز الثمين من معاني إياك نعبد و إياك نستعين
وصية الشيخ ابن باديس رحمه الله تعالى :
‘’اعلموا - جعلكم الله من وعاة العلم، ورزقكم حلاوة الإدراك والفهم، وجمَّلكم بعزَّة الاتِّباع، وجنَّبكم ذِلّة الابتداع - أنَّ الواجب على كلِّ مسلم في كلِّ زمان ومكان، أن يعتقد - عقدا يتشرَّبه قلبه، وتسكن له نفسه، وينشرح له صدره، ويلهج به لسانه، وتنبني عليه أعماله - أنَّ دين الله تعالى - من عقائد الإيمان وقواعد الإسلام وطرائق الإحسان - إنّما هو في القرآن والسنّة الثابتة الصحيحة وعمل السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، وأنّ كلَّ ما خرج عن هذه الأصول، ولم يحظَ لديها بالقبول - قولا كان أو عملا أو عقدا أو حالا - فإنّه باطل من أصله، مردود على صاحبه، كائنا من كان، في كلِّ زمان ومكان.
هذه نصيحتي لكم ووصيَّتي أفضيت بها إليكم، فاحفظوها واعملوا بها، تهتدوا وترشدوا - إن شاء الله تعالى -؛ فقد تضافرت عليها الأدلة من الكتاب والسنّة وأقوال أساطين الملة من علماء الأمصار،وأئمة الأقطار، وشيوخ الزهد الأخيار، وهي - لعمر الحقّ - لا يَقبلها إلا أهل الدِّين والإيمان، ولا يردُّها إلا أهل الزيغ والبهتان([1]) ‘’
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أنْ لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيْبًا﴾ [النساء: 1].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70-71].
أمَّا بعد: فإنَّ أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.([2])
أما بعد :
فإن أولى ما يتنافس فيه المتنافسون ، و أحرى ما يتسابق في ميدان سباقه المتسابقون : ما يكفل للعبد الحياة الهنيئة في دينه و دنياه ، و ذلكم هو العلم النافع و العمل الصالح ، اللذان لا سعادة للعبد إلا بهما ، و لا فوز و لا نجاة في الآخرة إلا بإقامتهما على الوجه الصحيح ، و لما كان العلم و العمل قرينين ، و على طريق واحد لا يفترقان ، كان أشرف العلوم على الإطلاق : علم التوحيد الذي هو حق الله على عبيده([3]) ، فالتوحيد أصل الأصول و به جاءت الرسل و إليه دعت ،فما من نبي أو رسول إلا و حذر قومه من الشرك ، و ما من عالم أتى إلا و حذر مما حذر منه الأنبياء عليهم الصلاة السلام ، فأول خطوة يبدأ بها الداعية إلى الله هو التوحيد و نبذ الشرك ، و لنضرب مثلا بعلماء الجزائر الأجلاء أمثال الشيخ ابن باديس رحمه و الشيخ البشير الإبراهيمي و الشيخ مبارك الميلي و أبو يعلى الزواوي و العربي التبسي و الطيب العقبي الملقب بـ (سيفُ السنّة وعَلَمُ الموحّدين)([4]) و (داعيةُ الإصلاح وخطيب المصلحين)([5]) ، فقد كانوا شوكة في حلوق أهل الزيغ و حاربوا الشرك بأنواعه و دعوا إلى التوحيد و لم يخافوا في الله لومة لائم ، فالدَّعوة إلى التَّوحيد هو الغرض الذي أُنشئت الجمعيّة من أجلهووجَّهت معظم نشاطها إليه، ومنتهى غايتها إذا وصلت إليه؛ ولذلك يقول الإبراهيمي: ''إنّ الحدَّ الأخير الذي يحدِّده التاريخ لهذه الجمعيّة هو اليوم الذي يصبح فيه المسلمون كلُّهم بهذا الوطن ولا مرجع لهم في التماس الهداية إلا كتاب الله وسنّة رسوله، ولا سلطان على أرواحهم إلا الله الحيُّ القيُّوم، ولا مصرِّف لجوارحهم وإرادتهم إلا الإيمان الصحيح تنشأ عنه الأعمال الصحيحة فتُثمر آثاراً صحيحة... يوم يصبح المسلمون متساوين في العبوديّة لله، لا يعبدون غيره ولا يدعون سواه ولا يُسلمون وجوههم إلا إليه، ولا يتَّخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله''([6]) ، وقال الطيِّب العقبي: ''هذا، وإنّ دعوتنا الإصلاحيّة قبل كلِّ شيء وبعده هي دعوة دينيّة محضة ... وهي تتلخَّص في كلمتين: أن لا نعبد إلا الله وحده، وأن لا تكونعبادتُنا له إلا بما شرعه وجاء من عنده'' ([7]) ، و يقول العلامة الإمامالفقيه صاحب الفكر الثاقب الشيخ ابن باديس رحمه الله تعالى : ''وبعدُ، فإنَّنا اخترنا الخطَّة الدِّينيّة على غيرها عن علم وبصيرة وتمسُّكا بما هو مناسب لفطرتنا وتربيتنا من النُّصح والإرشاد وبثِّ الخير، والثَّبات على وجهٍ واحدٍ، والسير في خط مستقيم... ولو أردنا أن ندخل الميدان السياسيّ لَدخلناه جهراً، ولَضربنا فيه المثل بما عُرف عنَّا من ثباتنا وتضحيتنا، ولَقُدْنا الأمَّة كلَّها للمطالبة بحقوقها، ولكان أسهلَ شيء علينا أن نسير بها على ما نرسمه لها، وأن نبلُغ من نفوسها إلى أقصى غايات التَّأثير عليها؛ فإنّ ممَّا نعلمه ولا يخفى على غيرنا أنّ القائد الذي يقول للأمَّة: إنَّك مظلومة في حقوقك وإنَّني أريد إيصالك إليها؛ يجد منها ما لا يجده من يقول لها: إنَّك ضالَّة عن أصول دِينك وإنَّني أريد هدايتك، فذلك تلبِّيه كلُّها، وهذا يقاومه معظمُها أو شطرُها، وهذا كلُّه نعلمه؛ ولكنَّنا اخترنا ما اخترنا لِما ذكرنا وبيَّنَّا، وإنَّنا – فيما اخترناه – بإذن الله لماضون وعليه متوكلون''([8]).
هذه هي الطريقة التي اختارتها الجمعية ، الطريق التي سار عليها الأنبياء في كل عصر و مصر .
و لقد أخبر القرآن عنهم – أي الأنبياء عليهم السلام- في مواضع كثيرة منها قوله تعالى : }وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ {[ النحل : 36].
و قال تعالى : }وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ {[ الأنبياء : 25].
و قال تعالى : }إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ{ [ الأنبياء : 92].
و قال عزوجل : }يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ{[المؤمنون : 51- 52].
قال ابن كثير رحمه الله تعالى : قال مجاهد و سعيد بن جبير و قتادة و عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى : }وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً{ يقول : '' دينكم واحد '' ([9]).
و في معنى الآيتين من السنة ، قوله صلى الله عليه و سلم : '' أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا و الآخرة ، و الأنبياء أخوة لعلاَّت ([10]) أمهاتهم شتى و دينهم واحد''([11]).
و قال تعالى عن أولي العزم من الرسل عليهم الصلاة و السلام :}شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ{[ الشورى : 13].
تلك هي دعوة الأنبياء جميعا و على رأسهم ألوا العزم([12]) منهم الأنبياء الذين يبلغ تعدادهم أربعة و عشرين ألفا و مائة ألف ([13]) يسيرون في دعوتهم في منهج واحد ، و ينطلقون من منطلق واحد و هو التوحيد ، أعظم القضايا و المبادئ التي حملوها إلى الإنسانية جميعا في جميع أجيالهم و مختلف بيئاتهم و بلدانهم و أزمانهم .
مما يدل أن هذا هو الطريق الوحيد الذي يجب أن يسلك في دعوة الناس([14]) إلى الله ، و سنة من سننه التي رسمها لأنبيائه و أتباعه الصادقين ، لا يجوز تبديلها و لا العدول عنها'' ([15] ) .
و لهذا فقد أردت أن أقدم لك أخي المسلم هذا البحث المتواضع في بيان أهمية التوحيد ذلك بذكر ما جاء في تفسير آية من آيات القرآن ، و هي الآية الخامسة من سورة الفاتحة }إياك نعبد وإياك و إياك نستعين{ لأن الفاتحة تعد أعظم سورة في التوحيد ، و هي أم الكتاب ، و القرآن كله يدور عليها ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عز وجل: '' إني قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين. قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: الرحمن الرحيم. قال الله: أثنى علي عبدي. فإذا قال: مالك يوم الدين. قال: مجدني عبدي. وقال مرة: فوض إلي عبدي. وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين. قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل'' .([16]) ، يعني من العبد العبادة ، و من الله سبحانه العون .([17])
و سميت هذه السورة([18]) '' فاتحة الكتاب لكون القرآن افتتح بها ، إذ هي أول ما يكتبه الكاتب من المصحف ، و أول ما يتلوه التالي من الكتاب العزيز ، و هي ليست أول ما نزل من القرآن ، قيل : هي مكية ، و قيل : مدنية ، و تسمى فاتحة الكتاب ، و تسمى أم الكتاب ، و السبع المثاني ، و سورة الحمد ، و سورة الصلاة ، و الواقية ، و قد ورد في فضلها أحاديث ، منها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : '' الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني ، و القرآن العظيم الذي أوتيته '' ([19])
و هذه السورة شأنها عظيم فقد قال الرسول صلى الله عليه و سلم في شأنها: '' لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ''. ([20])
وهذا الحديث من أعظم فضائل الفاتحة، ومما استدل به الجمهور على وجوبها بعينها في كل ركعة من ركعات الصلاة.
قال ابن القيم رحمه الله : اعلم أن هذه السورة اشتملت على أمهات المطالب العالية أتم اشتمال ، و تضمنتها أكمل تضمن .
فاشتملت على التعريف بالمعبود – تبارك و تعالى – بثلاثة أسماء ، مرجع الأسماء الحسنى و الصفات العليا إليها ، و مدارها عليها .
و هي : '' الله ، و الرب ، و الرحمن '' و بنيت السورة على ''الإلهية '' ، و '' الربوبية '' ، و '' الرحمة '' .
فـ}إِيَّاكَ نَعْبُدُ{ : مبنى على الإلهية . و }إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ{ : على الربوبية .([21])
و عليه فإني أسأل الله تبارك و تعالى أن يجعلنا ممن يحققون معنى }إياك نعبد وإياك و إياك نستعين{ كما اسأله عزوجل أن يجعلنا من دعاة التوحيد ([22] )، و أسأله عزوجل أن يعينني على نفسي، هذه النفس الجاهلة الظالمة ، كما أسأله تعالى أن يوفقني لهذا العمل و أن يجعله لوجهه الكريم ، و لا يجعله لأحد من خلقه أجمعين ، و الحمد لله رب العالمين.
أولا تعريف العبادة :
لغة يقال عبدت الرجل : ذللته حتى عمل عمل العبيد ([23] )، وسمي العبد عبدا لذلته و انقياده ([24]) و العرب تقول : طريق معبّد أي: مذلّل([25]) للسّير عليه.([26])
وقال القرطبي رحمه الله تعالى : '' و نعبد معناه : نطيع ، و العبادة : الطاعة و التذلل '' ([27]) ، و قال ابن القيم : و التعبد : التذلل و الخضوع ([28])
شرعا : عرّفها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بقوله:
" هي اسم جامع لما يحبّه الله تعالى من الأعمال والأقوال الباطنة و الظّاهرة ([29])" ، و هي '' غاية الحب ، بغاية الذل و الخضوع ''([30]) ، و قال ابن كثير رحمه الله : '' عبارة عما يجمع كمال المحبة و الخضوع و الخوف.([31]).
قال الشيخ عبد العزيز الراجحي حفظه الله :''و بعبارة أخرى العبادة : هي امتثال أوامر الله ، و اجتناب نواهيه ، فهي أداء الواجبات ، و ترك المحرمات ، أداء الواجبات التي أوجبها الله قولا أو فعلا ، باطنا و ظاهرا ، و ترك المحرمات التي حرمها الله قولا أو فعلا ، باطنا أو ظاهرا.''([32]).
ثانيا : تعريف الإستعانة :
الِاسْتِعَانَةُ مَصْدَرُ اسْتَعَانَ , وَهِيَ : طَلَبُ الْعَوْنِ , يُقَالُ : اسْتَعَنْته وَاسْتَعَنْت بِهِ فَأَعَانَنِي وَالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ .
وفي الاصطلاح كما قال شيخ الإسلام : الاستعانة: طلب العون ، و المستعان هو الذي يستعان به على المطلوب ([33]) ، و هي تجمع أصلين : ( الثقة بالله ، و الإعتماد عليه )([34]).
وهناك قاعدة في اللغة وهي: أن زيادة السين والتاء في الاسم تكون للطلب، فنقول: الاستعانة: طلب العون من الرب الجليل، لدفع الضر أو جلب المنفعة أو تثبيت الدين، فالكل ينزل تحته. والفرق بين التعريف اللغوي والتعريف الشرعي: أن التعريف في الشرع أخص من التعريف في اللغة، إذ التعريف في الشرع طلب العون فقط من الله([35])، وهذه فيها إشعار بأن الطلب من غير الله شرك.
فضل سورة الفاتحة :
عن أبي سعيد المعلي قال([36]) : '' كنت أصلي فدعاني رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم أجبه ، قلت : يا رسول الله إني كنت أصلي ، قال : ألم يقل الله سبحانه و تعالى :}يا أيها الذين ءامنوا استجيبوا لله و للرسول إذا دعاكم {[الأنفال : 24] . ثم قال : ألا أعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج؟ فأخذ بيدي ، فلما أراد أن يخرج ، قلت : يا رسول الله إنك قلت : أعلمنك أعظم سورة في القرآن ؟ قال : }الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ{ هي السبع المثاني و القرآن العظيم الذي أوتيته ''([37]).
وأخرج الترمذي([38]) من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم خرج على أبي بن كعب فقال أتحب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها قال نعم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله كيف تقرأ في صلاتك قال أقرأ بأم القرآن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها وإنها سبع من المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته قال الترمذي حديث حسن صحيح وأخرجه ابن خزيمة([39]) وابن حبان([40]) في صحيحهما وأخرجه الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم ([41]).
فقوله : '' أعظم سورة في القرآن '' هذا تصريح منه صلى الله عليه وسلم بأنها أعظم سورة في القرآن فلا ينبغي بعد هذا أن يقال سورة كذا مثل الفاتحة في العظم استدلالا بما ورد في بعض السور من عظم الثواب لتاليها فإن الثواب شيء آخر وقد يكون هذا العظم المنصوص عليه لهذه السورة مستلزما لعظم أجرهاوأنه أعظم من الأجور المنصوص عليها في غيرها من السور.([42])
و قوله : '' هي السبع المثاني والقرآن العظيم '' هذا يدل على أن المراد في الآية هي هذه السورة وروى عن ابن عباس وسعيد بن جبير أن السبع المثاني هي البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس وروى غير ذلك من الأقوال.([43])
و عن معقل ابن يسار رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : '' اعملوا بالقرآن أحلوا حلاله وحرموا حرامه واقتدوا به ولا تكفروا بشيء منه وما تشابه عليكم فردوه إلى الله وإلى أولي العلم من بعدي كما يخبروكم وآمنوا بالتوراة والإنجيل والزبور وما أوتى النبيون من ربهم وليسعكم القرآن وما فيه من البيان فإنه أول شافع مشفع وماحل مصدق وإني أعطيت سورة البقرة من الذكر الأول وأعطيت طه والطواسين والحواميم من ألواح موسى وأعطيت فاتحة الكتاب من تحت العرش '' ([44]).
قلت : '' وفي الحديث دليل على شرف هذه السورة لكونه صلى الله عليه وسلم أعطيها من تحت العرش وهذه مزية لم توجد في غيرها''([45])، فما أعظمك من سورة.
و عن أنس رضي الله عنه قال: '' كان النبي صلى الله عليه وسلم في مسير فنزل ونزل رجل إلى جانبه قال: فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : '' ألا أخبركم بأفضل القرآن ؟ '' قال : بلى فقال : }الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ{([46]).
و عن جابر([47]) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : '' ألا أخبركم بأخير سورة في القرآن؟ قلت : بلى يا رسول الله قال: اقرأ : }الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ{''([48]).
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : '' بينا جبريل قاعدا عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضا من فوقه فرفع رأسه فقال هذا ملك نزل الأرض لم ينزل قط فسلم فقال أبشر بنورين أتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته''([49]).
[فقوله:'' نقيضا'' بالنون والقاف والضاد المعجمة وهو الصوت.
وقوله : '' لم ينزل قط '' هذا يدل على انه نزل بالفاتحة وخواتيم سورة البقرة ملك غير جبريل ، وقيل : إن جبريل نزل قبل هذا الملك معلما ومخبرا بنزول الملك ، فهو مشارك له في إنزالها ، وقال القرطبي : إن جبريل نزل بها أولا بمكة ثم أنزل هذا الملك ثانيا بثوابها.
وقوله :'' بنورين'' قد فسرهما بقوله فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة.
أما قوله :'' إلا أعطيته '' أي أعطيت ثوابه أو أعطاه الله ثواب ما اشتمل عليه من الدعاء كما في خواتيم سورة البقرة فإنها دعاء وهكذا الفاتحة فأنها ثناء ودعاء كما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : '' قال الله سبحانه وتعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل...''([50]) الحديث]([51]).
بعض فوائد هذه الآية :
أولا : فيها تقديم حق الله على حق العباد مع حسن الأدب :
فـ }إِيَّاكَ([52]) نَعْبُدُ{ تعني إفراد العبادة لله وحده و هذا حق من حقوق الله عزوجل و لا يحق لغيره أبدا ، أما }إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ{ فالإستعانة لا تكون إلا بالله جل جلاله و هي حق من حقوق العباد و جاءت مؤخرة عن العبادة لأن حق الله أهم من حق العباد([53]) ، و هذا '' من باب تقديم الغايات على الوسائل ، إذ (العبادة) غاية العباد التي خلقوا لها ، و (الاستعانة) وسيلة([54]) إليها''([55]) ، قال العلامة السعدي رحمه الله : '' وتقديم العبادة على الإستعانة من باب تقديم العام على الخاص،واهتماماً بتقديم حق الله تعالى على حق عباده ''.([56]) ، ''و شأن العرب تقديم الأهم ، يذكر أن أعرابيا سب آخر ، فأعرض المسبوب عنه ، فقال له الساب : إياك أعني ، فقال له الآخر : و عنك أعرض ، فقدما الأهم .([57]) ، و '' ذكر الاستعانة بعد العبادة مع دخولها فيها ، لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى ، فإنه إن لم يعنه الله ، لم يحصل له ما يريده من فعل الأوامر و اجتناب النواهي.''([58])
و من أسرار تقديم العبادة على الاستعانة أن '' { إياك نعبد } متعلق بألوهيته و اسمه (الله) و {إياك نستعين} متعلق بربوبيته و اسمه (الرب) فقدم { إياك نعبد } على {إياك نستعين} كما قدم اسم (الله) على (الرب) في أول السورة.''([59])
'' و لآن { إياك نعبد }له ، و {إياك نستعين} به ، و ما له مقدم على ما به ، لأن ما له متعلق بمحبته و رضاه ، و ما به متعلق بمشيئته .
و ما تعلق بمحبته أكمل مما تعلق بمجرد مشيئته ، فإن الكون كله متعلق بمشيئته ، و الملائكة و الشياطين و المؤمنون و الكفار ، و الطاعات و المعاصي ، و المتعلق بمحبته : طاعاتهم و إيمانهم ، فالكفار أهل مشيئة ، و المؤمنون أهل محبته ، و لهذا لا يستقر في النار شيء لله أبدا ، و كل ما فيها فإنه به تعالى و بمشيئته.
فهذه الأسرار يتبين بها حكمة تقديم { إياك نعبد } على {إياك نستعين}([60]).
و قال ابن القيم : '' و أما تقديم المعبود و المستعان على الفعلين، ففيه : أدبهم مع الله بتقديم اسمه على فعلهم'' ([61])
ثانيا : فيها تحقيق لتوحيد الألوهية و توحيد الربوبية:
تعريف التوحيد :
التوحيد في اللغة:
مصدر : '' وحَّد، يوحِّد، توحيدًا''أي: جعله واحدًا، ومادَّة (وحَّد) تدور على انفراد الشيء بذاته أو صفاته أو أفعاله، والتوحيد على وزن (تفعيل) تعني الوحدة والانفراد والتفرُّد، والمقصود من التفعيل هو للنسبة لا للجعل، فمعنى: (وحَّدتُ الله تعالى): نَسَبْتُه إلى الوحدانيةلا جعلتُه واحدًا، لأنَّ وحدانيته صفةٌ ذاتيَّةٌ له لا بجعل جاعلٍ، والتشديد فيه للمبالغة أي: بالغتُ في وصفه بذلك.([62])
أمَّا التوحيد -في الشرع-:
فهو الإيمان بأنَّ الله تعالى متفرِّدٌ بصفات العظمة والكمال والجلال والجمال، والاعترافُ بتوحُّده بها، والاعتقاد أنه لا شريك له فيها، وإفراده وحده بالعبادة([63])، قال السفاريني -رحمه الله- في تعريفه للتوحيد بالمعنى الشرعي: ''هو إفراد المعبود بالعبادة مع اعتقاد وحدته ذاتًا وصفاتٍ وأفعالاً، فلا تقبل ذاته الانقسامَ بوجهٍ، ولا تشبه صفاته الصفاتِ ولا تنفكُّ عن الذات، ولا يدخل أفعالَه الاشتراك''([64])
بيان ما هو توحيد الألوهية و توحيد الربوبية :
أولا : توحيد الربوبية :
'' و هو إفراد الله سبحانه و تعالى في أمور ثلاثة ، في الخلق ، و الملك ، و التدبير.
الخلق :
دليل ذلك قوله تعالى : {ألا له الخلق و الأمر} [ الأعراف : 54] ووجه الدلالة من الآية :أنه قدم فيها الخبر الذي من حقه التأخير ، و القاعدة البلاغية : أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر ، ثم تأمل افتتاح هذه الآية بـ (ألا) الدالة على التنبيه و التوكيد :{ألا له الخلق و الأمر} ، لا لغيره ، فالخلق هذا هو ، و الأمر هو التدبير .
أما الملك :
فدليله مثل قوله تعالى : {و لله ملك السموات و الأرض} [ الجاثية : 27]، فإن هذا يدل على انفراده سبحانه و تعالى بالملك ، و وجه الدلالة من هذه الآية كما سبق تقديم ما حقه التأخير ...
إذا ، فالرب عزوجل منفرد بالخلق و الملك و التدبير .
فإن قلت : كيف تجمع بين ما قررت و بين إثبات الخلق لغير الله ، مثل قوله تعالى : {فتبارك اللهُ أحسنُ الخالقين }[المؤمنون :14] و مثل قوله صلى الله عليه و سلم في المصورين : ''يقال لهم : أحيوا ما خلقتهم " ([65]) ، و مثل قوله تعالى في الحديث القدسي : '' من أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ''([66]) ، فكيف تجمع بين قولك : أن الله منفرد بالخلق ، و بين هذه النصوص؟!
فالجواب أن يقول : إن الخلق هو الإيجاد ، و هذا خاص بالله تعالى ([67])، أما تحويل الأشياء من صورة إلى أخرى ، فإنه ليس بخلق حقيقة ، و إن سمي خلقا باعتبار التكوين ، لكنه في الواقع ليس بخلق تام ، فمثلا : هذا النجار صنع من الخشب بابا فيقال : خلق بابا ، لكن مادة هذه الصناعة التي خلقها هو الله عزوجل ، لا يستطيع الناس مهما بلغوا في القدرة أن يخلقوا عود أراك أبدا ، و لا أن يخلقوا ذرة ، و لا أن يخلقوا ذبابا .''([68]).
ثانيا : توحيد الألوهية:
'' و هو إفراد الله عزوجل بالعبادة ، بألا تكون عبدا لغير الله ، لا تعبد لا ملكا و لا نبيا ولا وليا و لا شيخا و لا أما و لا أبا ، لا تعبد إلا الله وحده ، فتفرد الله عزوجل وحده بالتأله و التعبد ، و لهذا يسمى توحيد الألوهية ، و يسمى توحيد العبادة ، باعتبار إضافته إلى الله هو توحيد ألوهية ، و باعتبار إضافته إلى العابد هو توحيد عبادة'' ([69])
قلت : و في هذه الآية {إياك نعبد و إياك نستعين} تحقيق لهذين النوعين من التوحيد ، فـ : {إياك نعبد} تحقيق لتوحيد الألوهية ، و: {إياك نستعين} تحقيق لتوحيد الربوبية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : '' ... و ذلك أن العبد بل كل حي بل و كل مخلوق سوى الله هو فقير محتاج إلى جلب ما ينفعه ، و دفع ما يضره ، و المنفعة للحي هي من جنس النعيم و اللذة ، و المضرة هي من جنس الألم و العذاب ، فلا بد له من أمرين :
أحدهما : هو المطلوب المقصود المحبوب الذي ينتفع و يتلذ به .
و الثاني : هو المعين الموصل المحصل لذلك المقصود و المانع من دفع المكروه ، و هذان هما الشيئان المنفصلان الفاعل و الغاية فهنا أربعة أشياء :
أحدها : أمر هو محبوب مطلوب الوجود.
و الثاني : أمر مكروه مبغض مطلوب العدم.
و الثالث : الوسيلة إلى حصول المطلوب المحبوب.
و الرابع : الوسيلة إلى دفع المكروه ، فهذه الأربعة أمور ضرورية للعبد بل و كل حي لا يقوم وجوده و صلاحه إلا بها ، و أما ما ليس بحي فالكلام فيه على وجه آخر .
إذا تبين ذلك فبيان ما ذكرته من وجوه :
أحدها : أن الله تعالى هو الذي يحب أن يكون هو المقصود المدعو المطلوب ، و هو المعين على المطلوب و ما سواه هو المكروه ، و هو المعين على دفع المكروه ، فهو سبحانه الجامع للأمور الأربعة دون ما سواه ، و هذا معنى قوله : }إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فإن العبودية تتضمن المقصود المطلوب ، لكن على أكمل الوجوه ، و المستعان هو الذي يستعان به على المطلوب ، فالأول معنى الألوهية .''([70]) و قال ابن القيم :'' فـ { إياك نعبد }تحقيق لهذا التوحيد و إبطال الشرك في الإلهية''([71] )
و قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : ''قوله تعالى: { إياك نعبد }؛ { إيّاك([72]) }: مفعول به مقدم([73])؛ وعامله: { نعبد }؛ وقُدِّم على عامله لإفادة الحصر؛ فمعناه: لا نعبد إلا إياك؛ وكان منفصلاً لتعذر الوصل حينئذ؛ و{ نعبد } أي نتذلل لك أكمل ذلّ؛ ولهذا تجد المؤمنين يضعون أشرف ما في أجسامهم في موطئ الأقدام ذلاً لله عزّ وجلّ: يسجد على التراب؛ تمتلئ جبهته من التراب . كل هذا ذلاً لله؛ ولو أن إنساناً قال: "أنا أعطيك الدنيا كلها واسجد لي" ما وافق المؤمن أبداً؛ لأن هذا الذل لله عزّ وجلّ وحده..
و "العبادة" تتضمن فعل كل ما أمر الله به، وترك كل ما نهى الله عنه؛ لأن من لم يكن كذلك فليس بعابد: لو لم يفعل المأمور به لم يكن عابداً حقاً؛ ولو لم يترك المنهي عنه لم يكن عابداً حقاً؛ العبد: هو الذي يوافق المعبود في مراده الشرعي؛ فـ "العبادة" تستلزم أن يقوم الإنسان بكل ما أُمر به، وأن يترك كل ما نُهي عنه؛ ولا يمكن أن يكون قيامه هذا بغير معونة الله؛ ولهذا قال تعالى: { وإياك نستعين } أي لا نستعين إلا إياك على العبادة([74])، وغيرها؛ و "الاستعانة"([75]) طلب العون؛ والله سبحانه وتعالى يجمع بين العبادة، والاستعانة، أو التوكل([76]) في مواطن عدة في القرآن الكريم؛ لأنه لا قيام بالعبادة على الوجه الأكمل إلا بمعونة الله، والتفويض إليه، والتوكل عليه..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: إخلاص العبادة لله؛ لقوله تعالى: { إياك نعبد }؛ وجه الإخلاص: تقديم المعمول..
.2 ومنها: إخلاص الاستعانة بالله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { وإياك نستعين }([77])، حيث قدم المفعول..
فإن قال قائل: كيف يقال: إخلاص الاستعانة لله وقد جاء في قوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة: 2] إثبات المعونة من غير الله عزّ وجلّ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تعين الرجل في دابته، فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة"؟)[78](فالجواب: أن الاستعانة نوعان: استعانة تفويض؛ بمعنى أنك تعتمد على الله عزّ وجلّ، وتتبرأ من حولك، وقوتك؛ وهذا خاص بالله عزّ وجلّ؛ واستعانة بمعنى المشاركة فيما تريد أن تقوم به: فهذه جائزة إذا كان المستعان به حياً قادراً على الإعانة؛ لأنه ليس عبادة؛ ولهذا قال الله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة: 2 ].
فإن قال قائل: وهل الاستعانة بالمخلوق جائزة في جميع الأحوال؟
فالجواب: لا؛ الاستعانة بالمخلوق إنما تجوز حيث كان المستعان به قادراً عليها؛ وأما إذا لم يكن قادراً فإنه لا يجوز أن تستعين به: كما لو استعان بصاحب قبر فهذا حرام؛ بل شرك أكبر؛ لأن صاحب القبر لا يغني عن نفسه شيئاً؛ فكيف يعينه!!! وكما لو استعان بغائب في أمر لا يقدر عليه، مثل أن يعتقد أن الوليّ الذي في شرق الدنيا يعينه على مهمته في بلده: فهذا أيضاً شرك أكبر؛ لأنه لا يقدر أن يعينه وهو هناك..
فإن قال قائل: هل يجوز أن يستعين المخلوقَ فيما تجوز استعانته به؟
فالجواب: الأولى أن لا يستعين بأحد إلا عند الحاجة، أو إذا علم أن صاحبه يُسَر بذلك، فيستعين به من أجل إدخال السرور عليه؛ وينبغي لمن طلبت منه الإعانة على غير الإثم والعدوان أن يستجيب لذلك..''([79])
ثالثا : فيها تحقيق لمعنى {و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون }:
و معنى يعبدون أي يوحدون ، '' فقوله : }إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} هذا فيه توحيد الألوهية و إخلاص الدين لله –تبارك و تعالى – فلا نستعين في أمر من الأمور – الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله – تبارك و تعالى- لا يجوز الإستعانة فيها بمخلوق من المخلوقات ، لا الأنبياء و لا الملائكة و لا غيرهم من مخلوقات الله عزوجل ، '' إذا سألت فسأل الله و إذا استعنت فاستعن بالله ''([80]) ، فقوله : }إِيَّاكَ نَعْبُدُ} نخصك بالعبادة ، لآن هذه من صيغ القصر و التخصيص ، }إِيَّاكَ نَعْبُدُ} لا نعبد إلا إياك وحدك مخلصين لك الدين لا نشرك أحدا في عبادتك لا نتخذ شريكا معك في ذرة من ذرات العبادات التي خلقت الجن و الإنس من أجلها ، و التي قال الله سبحانه و تعالى فيها : {و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون } ، فربنا ما خلقنا إلا لعبادته ، و فرض علينا هذه السورة التي ندين الله –تبارك و تعالى – بها في كل ركعة من الركعات ، فنتعرف بهذا الحق ، و نصرخ بهذه الغاية التي خلقنا من أجلها ، فنقول : لا نعبد إلا إياك ، لا نعبد غيرك تحقيقا لهذه الغاية التي خلقتنا من اجلها و سخرت لنا ما في السماوات و الأرض لنقوم بها .
و قوله : { وإياك نستعين } لا نستعين إلا بك في العبادة في أمور الدين([81]) ، في أمور الدنيا لا نستعين إلا بك ، و لا نلجأ إلا إليك ، و لا نستغيث في الكروب إلا بك ، و لا نلجأ في الشدائد إلا إليك ، {أمن يجيب المضطر إذا دعاه و يكشف السوء و يجعلكم خلفاء الأرض أءِلهٌ مع الله قليلا ما تذكرون }. [النمل: 62].'' ([82])
رابعا : تحقيق معنى لا إله إلا الله :
قال الشيخ محمد أمين الشنقيطي رحمه الله : '' قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}([83]) أشار في هذه الآية الكريمة إلى تحقيق معنى لا إله إلا الله([84])؛ لأن معناها مركب من أمرين: نفي وإثبات. فالنفي: خلع جميع المعبودات غير الله تعالى في جميع أنواع العبادات، والإثبات: إفراد رب السماوات والأرض وحده بجميع أنواع العبادات على الوجه المشروع. وقد أشار إلى النفي من لا إله إلا الله بتقديم المعمول الذي هو {إِيَّاكَ} وقد تقرر في الأصول، في مبحث دليل الخطاب الذي هو مفهوم المخالفة. وفي المعاني في مبحث القصر: أن تقديم المعمول من صيغ الحصر([85]). وأشار إلى الإثبات منها بقوله: {نَعْبُدُ}.
وقد بين معناها المشار إليه هنا مفصلا في آيات أخر كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} الآية [2/21]، فصرح بالإثبات منها بقوله: {اعْبُدُوا رَبَّكُمْ}، وصرح بالنفي منها في آخر الآية الكريمة بقوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون} [2/22]، وكقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}, فصرح بالإثبات بقوله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} وبالنفي بقوله: {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}، وكقوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [2/256]، فصرح بالنفي منها بقوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ}، وبالإثبات بقوله: {وَيُؤْمِنْ بِاللََّهِ}؛ وكقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ، إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [43/27،26]، وكقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [21/25]، وقوله: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [43/45]؛ إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}([86]) أي لا نطلب العون إلا منك وحدك؛ لأن الأمر كله بيدك وحدك لا يملك أحد منه معك مثقال ذرة. وإتيانه بقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، بعد قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، فيه إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتوكل إلا على من يستحق العبادة؛ لأن غيره ليس بيده الأمر. وهذا المعنى المشار إليه هنا جاء مبينا واضحا في آيات أخر كقوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّل عَلَيْهِ} الآية [11/123]، وقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} الآية [9/129]، وقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} [73/9]، وقوله: {قُلْ هُوَالرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [27/29]، وإلى غير ذلك من الآيات.'' ([87])
خامسا :تضمنها الرد على أهل الأهواء كالجبرية و القائلين بالموجب بالذات و فيها رد على المعطلة كالجهمية :
و ذلك '' بقولهم (نعبد) و (نستعين ) و هي نسبة حقيقية لا مجازية . و الله لا يصح وصفه بالعبادة و الإستعانة التي هي من أفعال عبيده ، بل العبد حقيقة هو العابد المستعين . و الله هو المعبود به – سبحانه و تعالى- .''([88])
و (نستعين ) ترد على القائلين بالموجب بالذات دون الإختيار والمشيئة ، فهؤلاء الضلال نفوا أن الله سبحانه و تعالى فاعل مختار ، لهذا نقول لهم '' الإستعانة بمن لا اخيار له و لا مشيئة و لا قدرة محال . ''([89])
قال السلمي في (حقائقه) : سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان([90]) يقول : سمعت أبا حفص الفرغاني يقول : من أقر بـ }إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، فقد بريء من الجبر و القدر([91])
و أما الرد على الجهمية الذين يقولون أن أفعال العباد ليست مقدورة لله ، و لا مخلوقة لهم ، و هي صادرة بغير مشيئته ، و لا قدرة له عليها ، نقول : '' في قوله : }وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} رد ظاهر عليهم ، إذ استعانتهم به إنما تكون عن شيء هو بيده و تحت قدرته و مشيئته ، فكيف يستعين من بيده الفعل و هو موجده ، إن شاء أوجده و إن شاء لم يوجده ، بمن ليس ذلك الفعل بيده و لا هو داخل تحت قدرته و لا مشيئته؟([92]) ، وفي أمر الله جل ثناؤه عباده أن يقولوا{إياك نعبد وإياك نستعين}، بمعنى مسألتهم إياه المعونة على العبادة ، أدل الدليل على فساد قول القائلين بالتفويض من أهل القدر ، الذين أحالوا أن يأمر الله أحدا من عبيده بأمر ، أو يكلفه فرض عمل ، إلا بعد إعطائه المعونة على فعله وعلى تركه . ولو كان الذي قالوا من ذلك كما قالوا ، لبطلت الرغبة إلى الله في المعونة على طاعته . إذ كان - على قولهم ، مع وجود الأمر والنهي والتكليف - حقا واجبا على الله للعبد إعطاؤه المعونة عليه ، سأله عبده أو ترك مسألة ذلك . بل ترك إعطائه ذلك عندهم منه جور . ولو كان الأمر في ذلك على ما قالوا ، لكان القائل{إياك نعبد وإياك نستعين }، إنما يسأل ربه أن لا يجور([93])
سادسا : فيها أنفع الدعاء :
قال ابن القيم : '' و لهذا كان من أفضل ما يسأل الرب تبارك و تعالى : الإعانة على مرضاته ، و هو الذي علمه النبي صلى الله عليه و سلم : لحب معاذ بن جبل رضي الله عنه : ، فقال : ''يا معاذ ، و الله إني لأحبك ، فلا تنسى أن تقول دبر كل صلاة :( اللهم أعني على ذكرك و شكرك و حسن عبادتك).
فأنفع الدعاء : طلب العون على مرضاته ، و أفضل المواهب : إسعافه بهذا المطلوب ، و جميع الأدعية المأثورة مدارها على هذا ، و على دفع ما يضاده ، و على تكميله و تيسير أسبابه ، فتأملها .
و قال شيخ الإسلام ابن تيمية : -قدس الله روحه- : تأملت أنفع الدعاء : فإذا هو سؤال العون على مرضاته ، ثم رايته في الفاتحة في : { إياك نعبد وإياك نستعين }([94]).
سابعا : فيها شفاء للقلوب :
قال ابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى : '' و التحقيق بـ }إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} علما و معرفة ، و عملا و حالا : يتضمن الشفاء من مرض فساد القلب و القصد فإن فساد القصد يتعلق بالغايات و الوسائل .
فمن طلب غاية منقطعة مضمحلة فانية ، و توسل إليها بأنواع الوسائل الموصلة إليها كان كلا نوعى قصده فاسدا.''([95])
وقال رحمه الله :
أركان علاج القلب :
فإن هذا الدواء مركب من ستة أجزاء :
(1) عبودية الله لا غيره (2) بأمره و شرعه (3) لا بالهوى (4) و لا بآراء الرجال و أوضاعهم ، و رسومهم ، و أفكارهم (5) بالإستعانة علة عبوديته به (6) لا بنفس العبد و قو ته وحوله و لا بغيره.
فهذه هي أجزاء }إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فإذا ركبها الطبيب اللطيف ، العالم بالمرض ، و استعملها المريض ، حصل بها الشفاء التام . و ما نقص من الشفاء فهو لفوات جزء من أجزائها أو اثنين أو أكثر .
الرياء و الكبر من أشد أمراض القلب :
ثم إن القلب يعرض له مرضان عظيمان إن لم يتداركهما العبد تراميا به إلى التلف و لا بد ، و هما الرياء و الكبر ، فدواء الرياء بـ '' إياك نعبد '' ، و دواء الكبر بـ '' إياك نستعين '' ، و كثيرا ما كنت أسمع شيخ الإسلام ابن تيمية _ قدس الله روحه _ يقول : '' إياك نعبد '' تدفع الرياء ، '' و إياك نستعين '' تدفع الكبرياء[96] ، فإذا عوفي من مرض الرياء([97]) بـ '' إياك نعبد '' ، و من مرض الكبرياء و العجب بـ ''و إياك نستعين '' ، و من مرض الضلال و الجهل بـ '' اهدنا الصراط المستقيم '' ، عوفي من امراضه و اسقامه و رفل([98]) في اثواب العافية و تمت عليه النعمة .و كان من المنعم عليهم }غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } و هم أهل فساد القصد ، الذين عرفوا الحق و عدلوا عنه ،}و الضَّالِّينَ} وهم أهل فساد العلم ، الذين جهلوا الحق و لم يعرفوه .
و حق لسورة تشتمل على هذين الشفاءين : أن يستشفى بها من كل مرض ... '' ([99])
ثامنا : فائدة في التفسير بالإلتفات :
'' الإلتفات : تحويل أسلوب الكلام من وجه إلى آخر ، و فيه صور منها الإلتفات من الغيبة إلى الخطاب و من الخطاب إلى الغيبة و في سورة الفاتحة يوجد الإلتفات من الغيبة إلى الخطاب فقوله تعالى :
}بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) }.
فحول الكلام من الغيبة إلى الخطاب في قوله : (ِإيَّاكَ)'' ([100]) ، و قال القرطبي رحمه الله تعالى : '' قوله تعالى : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} رجع من الغيبة إلى الخطاب على التلوين ، لأن من أول السورة إلى هاهنا خبر عن الله تعالى ، وثناء عليه ، كقوله : { وسقاهم ربهم شرابا طهورا} [ الإنسان :21] . ثم قال : { إن هذا كان لكم جزاءا } . و عكسه : {حتى إذا كنتم في الفلك و جَرَيْنَ بهم}[يونس : 22 ] ، على ما يأتي ''([101]) ، و قال ابن كثير في تفسيره : '' و تحول الكلام من الغيبة إلى المواجهة بكاف الخطاب ، و هو مناسبة ، لأنه لما أثنى على الله فكأنه اقترب و حضر بين يدي الله تعالى ، فلهذا قال : {إياك نعبد وإياك نستعين } ، و في هذا دليل على أن أول السورة خبر من الله تعالى بالثناء على نفسه الكريمة بجميل صفاته الحسنى ، و إرشاد لعباده أن يثنوا عليه بذلك ...'' ([102]).
و في الأخير أذكر إخواني أن الأمة '' بأمس الحاجة إلى إصلاح عقائدها إصلاحا جذريا ، و لا يجوز البدء بشيء قبل هذا ، الإصلاح الإجتماعي و الإصلاح الإقتصادي و الإصلاح السياسي كلها تأتي بعد هذا الباب ، كما هي طريقة الأنبياء – عليهم الصلاة و السلام- و نسأل الله أن يبصرنا جميعا بديننا ، و أن يوفقنا للاعتصام بكتابه ، و سنة نبيه صلى الله عليه و سلم و أن يوفقنا لسلوك منهج الأنبياء – عليهم الصلاة و السلام- الذي أمرنا الله به ، و أمرنا رسول صلى الله عليه و سلم بالإقتداء بهم { أُوْلَئِكَ الَذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام : 90].''([103])
نسأل الله أن يجعلنا و إياكم من المتأسين بهم المقتدين بهم المتبعين لمنهجهم ، إن ربنا لسميع الدعاء.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليما.
أبي عبد الله بلال بريغت الجزائري.
يوم الخميس:
18 ذو القعدة 1433 هـ
الموافق لـ:
04 أكتوبر 2012 م
[1]: جواب سؤال عن سوء مقال، لابن باديس: ص (97-98)، و انظر آثار ابن باديس (3/222).
[2] :أخرجه أبوداود (2/591رقم 2118)، و الترميذي (3/13رقم 1105)، و النسائي (2/89)، و ابن ماجة (1/609رقم1892)،و ابن الجارود(رقم679) و الحاكم في المستدرك (2/182-183) ، و أبو نعيم في الحلية (7/178)، و البيهقي (7/146)، و الدارمي (2/142)،و أحمد ( 1/392،393)، و الطيالسي (ص45 رقم 338) من حديث ابن مسعود ، و زاد الطيالسي عن شعبة قال : قلت لأبي إسحاق : هذه خطبة النكاح في غيرها ؟ قال : في كل حاجة .
قال الألباني رحمه الله : في كتابه (خطبة الحاجة التي كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعلمها أصحابه ) (ص12) : ''وردت هذه الخطبة المباركة عن ستة من الصحابة و هم : عبد الله بن مسعود، و أبو موسى الأشعري ، و عبد الله بن عباس ، و جابر بن عبد الله ، و نبيط بن شريك و عائشة رضي الله عنها ، و عن تابعي واحد و هو الزهري رحمه الله ''
[3] : مقدمة طريق الوصول إلى إيضاح الثلاثة الأصول ، شرح الشيخ زيد المدخلي حفظه الله ، تحقيق و تعليق فواز بن علي بن علي المدخلي حفظه الله (ص6).
[4] : بهذا وصفه الإمام عبد الحميد بن باديس، انظرابن باديس: حياته وآثاره (463/3) للطالبي.
[5] : بهذا وصفه العلاّمة مبارك الميلي، انظر رسالة الشرك ومظاهره (ص447) بتحقيق الشيخ أبي عبد الرحمن محمود الجزائري حفظه الله.
[6] : آثار الابراهيمي: (1/138).
[7] : جريدة السنة: (2/7).
[8] : جريدة الصراط: (15/4).
[9] : تفسير ابن كثير (5/365).
[10] : العلاَّت بفتح العين الضرائر و أصله من تزوج امرأة ثم تزوج أخرى كأنه علَّ منها ، و العلل : الشرب بعد الشرب ، و أولاد العلاَّت : الأخوة من الأب و أمهاتهم شتى . [فتخ الباري (6/489). و في النهاية (3/291) : '' الأنبياء أولاد علات '' : أولاد العلات الذين أمهاتهم مختلفة و أبوهم واحد أراد أنَّ إيمانهم واحد و شرائعهم مختلفة.
[11] : أخرجه البخاري (60) كتاب الأنبياء ، حديث رقم (3443) ، و مسلم في كتاب الفضائل (40) فضل عيسى عليه السلام ، برقم (145) ، و أحمد في المسند (2/319 ، 406 ، 482).
[12] :قال البشير الإبراهيمي رحمه الله تعالى: (..وقال إبراهيم في أوثان قومه: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ...﴾ [إبراهيم:36]، هذا المرض الفتاك الذي استعصى على أولي العزم من رسل الله علاجُه، هو الذي غفل عنه المسلمون، وهوّن شأنَه علماؤهم الجامدون حتى استشرى وأعضل. فهذه القباب المشيدة، وهي أوثان هذه الأمة، أضلت كثيراً من الناس، وأكثر من الكثير، وافتتنوا بها، وبأسماء أصحابها حتى أَلْهَتْهُم عن دنياهم وأفسدت عليهم أخراهم، وغَلَوْا في تعظيمها حتى أصبحت معبودةً تُشَدُّ إليها الرحال، وتُقَرَّبُ لها القرابين والنذور، وتُسْأَلُ عندها الحاجات التي لا تُسْأَلُ إلاَّ من الله، ويحلف بها من دون الله، ويتآلى بها على الله، وما جرَّ هذا البلاء على الأمة الإسلامية حتى أضاعت الدين والدنيا، إلاَّ سكوتُ العلماء عن هذه الأباطيل أوّلَ نشأتها، وعدمُ سدِّهِمْ لذرائعها حتى طغت هذا الطغيان على عقول الأمة، ولو أنهم فَقَّهُوا الأمة في كتاب ربها، وساسوها بسنة نبيها لكان لها من سيرة إبراهيم ومحمد عاصمٌ أيّ عاصمٍ من هذا الشر المستطير.) [ آثار الإبراهيمي (1/397)]
[13] :إشارة إلى حديث أبي ذر : أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (5/447) ، و أحمد في المسند (5/178، 179) ، من طريق المسعودي عن أبي عمر الدمشقي عن عبيد بين الحسحاس عن أبي ذر.
و اخرجه ابن حبان كما في موارد الظمآن برقم (94) ، و أبو نعيم في الحلية (1/166،168) , و اشار إلى طرق أخرى إلى أبي ذر ، و أحمد (5/265) و ابن أبي مردويه في تفسيره نقلا عن ابن كثير (2/423) ، و الطبراني (8/258) ، و هناك طرق أخرى عن أبي أمامة في عدد الرسل و هم مائة و ثلاثة عشر أخرجه الطبراني (8/139) و ابن حبان كما في الموارد برقم ( 2085) ، و قال ابن كثير : و هذا على شرط مسلم.
و قال الهيثمي : '' رواه الطبراني و رجاله رجال الصحيح غير أحمد بن خليد الحلبي و هو ثقة ''.
[14] : و هو طريق نبذ الشرك و تعليم الناس التوحيد.
[15] : من كلام الشيخ ربيع حفظه الله من كتابه منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله ( ص 29-30)
[16] : أخرجه مسلم برقم (394/872) كتاب الصلاة ، و باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة و أنه إذا لم يحسن الفاتحة و لا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها.
[17] : أحكام القرآن لإين العربي المالكي رحمه الله (1/9)
[18] : و لها اثنا عشر اسما ذكرها القرطبي في تفسيره مفصلة (1/172-173-174-175) :'' منها أم القرآن ، الشفاء ، الرقية ، الأساس ، الوافية ، الكافية'' ، و الستة الباقية ذكرناهم في الأعلى.
[19] : أخرجه البخاري (4474) ، و أحمد (17851) ، و أبو داود (1474) ،و النسائي (2/139) ، و ابن ماجة (3785).
[20] : متفق عليه من حديث عبادة بن الصامت (خ/756) كتاب الآذان و (م/394/872) كتاب الصلاة .
[21] : التفسير القيم (ص 9)
[22] : و سر الخلق و الأمر ، و الكتب و الشرائع ، و الثواب و العقاب : انتهى إلى هاتين الكلمتين . و عليهما مدار العبودية و التوحيد . حتى قيل : أنزل الله مائة كتاب و أربعة كتب . جمع معانيها في التوراة و الإنجيل و القرآن . و جمع معاني هذه الكتب الثلاثة في القرآن . و جمع معاني القرآن في المفصل . و جمع معاني المفصل في الفاتحة ، و معاني الفاتحة في : { إياك نعبد وإياك نستعين } . و هما الكلمتان المقسومتان بين الرب و عبده نصفين . فنصفهما له تعلى و هو { إياك نعبد} ، و نصفهما لعبده ، و هو : { وإياك نستعين
وصية الشيخ ابن باديس رحمه الله تعالى :
‘’اعلموا - جعلكم الله من وعاة العلم، ورزقكم حلاوة الإدراك والفهم، وجمَّلكم بعزَّة الاتِّباع، وجنَّبكم ذِلّة الابتداع - أنَّ الواجب على كلِّ مسلم في كلِّ زمان ومكان، أن يعتقد - عقدا يتشرَّبه قلبه، وتسكن له نفسه، وينشرح له صدره، ويلهج به لسانه، وتنبني عليه أعماله - أنَّ دين الله تعالى - من عقائد الإيمان وقواعد الإسلام وطرائق الإحسان - إنّما هو في القرآن والسنّة الثابتة الصحيحة وعمل السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، وأنّ كلَّ ما خرج عن هذه الأصول، ولم يحظَ لديها بالقبول - قولا كان أو عملا أو عقدا أو حالا - فإنّه باطل من أصله، مردود على صاحبه، كائنا من كان، في كلِّ زمان ومكان.
هذه نصيحتي لكم ووصيَّتي أفضيت بها إليكم، فاحفظوها واعملوا بها، تهتدوا وترشدوا - إن شاء الله تعالى -؛ فقد تضافرت عليها الأدلة من الكتاب والسنّة وأقوال أساطين الملة من علماء الأمصار،وأئمة الأقطار، وشيوخ الزهد الأخيار، وهي - لعمر الحقّ - لا يَقبلها إلا أهل الدِّين والإيمان، ولا يردُّها إلا أهل الزيغ والبهتان([1]) ‘’
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أنْ لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيْبًا﴾ [النساء: 1].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70-71].
أمَّا بعد: فإنَّ أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.([2])
أما بعد :
فإن أولى ما يتنافس فيه المتنافسون ، و أحرى ما يتسابق في ميدان سباقه المتسابقون : ما يكفل للعبد الحياة الهنيئة في دينه و دنياه ، و ذلكم هو العلم النافع و العمل الصالح ، اللذان لا سعادة للعبد إلا بهما ، و لا فوز و لا نجاة في الآخرة إلا بإقامتهما على الوجه الصحيح ، و لما كان العلم و العمل قرينين ، و على طريق واحد لا يفترقان ، كان أشرف العلوم على الإطلاق : علم التوحيد الذي هو حق الله على عبيده([3]) ، فالتوحيد أصل الأصول و به جاءت الرسل و إليه دعت ،فما من نبي أو رسول إلا و حذر قومه من الشرك ، و ما من عالم أتى إلا و حذر مما حذر منه الأنبياء عليهم الصلاة السلام ، فأول خطوة يبدأ بها الداعية إلى الله هو التوحيد و نبذ الشرك ، و لنضرب مثلا بعلماء الجزائر الأجلاء أمثال الشيخ ابن باديس رحمه و الشيخ البشير الإبراهيمي و الشيخ مبارك الميلي و أبو يعلى الزواوي و العربي التبسي و الطيب العقبي الملقب بـ (سيفُ السنّة وعَلَمُ الموحّدين)([4]) و (داعيةُ الإصلاح وخطيب المصلحين)([5]) ، فقد كانوا شوكة في حلوق أهل الزيغ و حاربوا الشرك بأنواعه و دعوا إلى التوحيد و لم يخافوا في الله لومة لائم ، فالدَّعوة إلى التَّوحيد هو الغرض الذي أُنشئت الجمعيّة من أجلهووجَّهت معظم نشاطها إليه، ومنتهى غايتها إذا وصلت إليه؛ ولذلك يقول الإبراهيمي: ''إنّ الحدَّ الأخير الذي يحدِّده التاريخ لهذه الجمعيّة هو اليوم الذي يصبح فيه المسلمون كلُّهم بهذا الوطن ولا مرجع لهم في التماس الهداية إلا كتاب الله وسنّة رسوله، ولا سلطان على أرواحهم إلا الله الحيُّ القيُّوم، ولا مصرِّف لجوارحهم وإرادتهم إلا الإيمان الصحيح تنشأ عنه الأعمال الصحيحة فتُثمر آثاراً صحيحة... يوم يصبح المسلمون متساوين في العبوديّة لله، لا يعبدون غيره ولا يدعون سواه ولا يُسلمون وجوههم إلا إليه، ولا يتَّخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله''([6]) ، وقال الطيِّب العقبي: ''هذا، وإنّ دعوتنا الإصلاحيّة قبل كلِّ شيء وبعده هي دعوة دينيّة محضة ... وهي تتلخَّص في كلمتين: أن لا نعبد إلا الله وحده، وأن لا تكونعبادتُنا له إلا بما شرعه وجاء من عنده'' ([7]) ، و يقول العلامة الإمامالفقيه صاحب الفكر الثاقب الشيخ ابن باديس رحمه الله تعالى : ''وبعدُ، فإنَّنا اخترنا الخطَّة الدِّينيّة على غيرها عن علم وبصيرة وتمسُّكا بما هو مناسب لفطرتنا وتربيتنا من النُّصح والإرشاد وبثِّ الخير، والثَّبات على وجهٍ واحدٍ، والسير في خط مستقيم... ولو أردنا أن ندخل الميدان السياسيّ لَدخلناه جهراً، ولَضربنا فيه المثل بما عُرف عنَّا من ثباتنا وتضحيتنا، ولَقُدْنا الأمَّة كلَّها للمطالبة بحقوقها، ولكان أسهلَ شيء علينا أن نسير بها على ما نرسمه لها، وأن نبلُغ من نفوسها إلى أقصى غايات التَّأثير عليها؛ فإنّ ممَّا نعلمه ولا يخفى على غيرنا أنّ القائد الذي يقول للأمَّة: إنَّك مظلومة في حقوقك وإنَّني أريد إيصالك إليها؛ يجد منها ما لا يجده من يقول لها: إنَّك ضالَّة عن أصول دِينك وإنَّني أريد هدايتك، فذلك تلبِّيه كلُّها، وهذا يقاومه معظمُها أو شطرُها، وهذا كلُّه نعلمه؛ ولكنَّنا اخترنا ما اخترنا لِما ذكرنا وبيَّنَّا، وإنَّنا – فيما اخترناه – بإذن الله لماضون وعليه متوكلون''([8]).
هذه هي الطريقة التي اختارتها الجمعية ، الطريق التي سار عليها الأنبياء في كل عصر و مصر .
و لقد أخبر القرآن عنهم – أي الأنبياء عليهم السلام- في مواضع كثيرة منها قوله تعالى : }وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ {[ النحل : 36].
و قال تعالى : }وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ {[ الأنبياء : 25].
و قال تعالى : }إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ{ [ الأنبياء : 92].
و قال عزوجل : }يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ{[المؤمنون : 51- 52].
قال ابن كثير رحمه الله تعالى : قال مجاهد و سعيد بن جبير و قتادة و عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى : }وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً{ يقول : '' دينكم واحد '' ([9]).
و في معنى الآيتين من السنة ، قوله صلى الله عليه و سلم : '' أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا و الآخرة ، و الأنبياء أخوة لعلاَّت ([10]) أمهاتهم شتى و دينهم واحد''([11]).
و قال تعالى عن أولي العزم من الرسل عليهم الصلاة و السلام :}شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ{[ الشورى : 13].
تلك هي دعوة الأنبياء جميعا و على رأسهم ألوا العزم([12]) منهم الأنبياء الذين يبلغ تعدادهم أربعة و عشرين ألفا و مائة ألف ([13]) يسيرون في دعوتهم في منهج واحد ، و ينطلقون من منطلق واحد و هو التوحيد ، أعظم القضايا و المبادئ التي حملوها إلى الإنسانية جميعا في جميع أجيالهم و مختلف بيئاتهم و بلدانهم و أزمانهم .
مما يدل أن هذا هو الطريق الوحيد الذي يجب أن يسلك في دعوة الناس([14]) إلى الله ، و سنة من سننه التي رسمها لأنبيائه و أتباعه الصادقين ، لا يجوز تبديلها و لا العدول عنها'' ([15] ) .
و لهذا فقد أردت أن أقدم لك أخي المسلم هذا البحث المتواضع في بيان أهمية التوحيد ذلك بذكر ما جاء في تفسير آية من آيات القرآن ، و هي الآية الخامسة من سورة الفاتحة }إياك نعبد وإياك و إياك نستعين{ لأن الفاتحة تعد أعظم سورة في التوحيد ، و هي أم الكتاب ، و القرآن كله يدور عليها ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عز وجل: '' إني قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين. قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: الرحمن الرحيم. قال الله: أثنى علي عبدي. فإذا قال: مالك يوم الدين. قال: مجدني عبدي. وقال مرة: فوض إلي عبدي. وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين. قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل'' .([16]) ، يعني من العبد العبادة ، و من الله سبحانه العون .([17])
و سميت هذه السورة([18]) '' فاتحة الكتاب لكون القرآن افتتح بها ، إذ هي أول ما يكتبه الكاتب من المصحف ، و أول ما يتلوه التالي من الكتاب العزيز ، و هي ليست أول ما نزل من القرآن ، قيل : هي مكية ، و قيل : مدنية ، و تسمى فاتحة الكتاب ، و تسمى أم الكتاب ، و السبع المثاني ، و سورة الحمد ، و سورة الصلاة ، و الواقية ، و قد ورد في فضلها أحاديث ، منها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : '' الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني ، و القرآن العظيم الذي أوتيته '' ([19])
و هذه السورة شأنها عظيم فقد قال الرسول صلى الله عليه و سلم في شأنها: '' لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ''. ([20])
وهذا الحديث من أعظم فضائل الفاتحة، ومما استدل به الجمهور على وجوبها بعينها في كل ركعة من ركعات الصلاة.
قال ابن القيم رحمه الله : اعلم أن هذه السورة اشتملت على أمهات المطالب العالية أتم اشتمال ، و تضمنتها أكمل تضمن .
فاشتملت على التعريف بالمعبود – تبارك و تعالى – بثلاثة أسماء ، مرجع الأسماء الحسنى و الصفات العليا إليها ، و مدارها عليها .
و هي : '' الله ، و الرب ، و الرحمن '' و بنيت السورة على ''الإلهية '' ، و '' الربوبية '' ، و '' الرحمة '' .
فـ}إِيَّاكَ نَعْبُدُ{ : مبنى على الإلهية . و }إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ{ : على الربوبية .([21])
و عليه فإني أسأل الله تبارك و تعالى أن يجعلنا ممن يحققون معنى }إياك نعبد وإياك و إياك نستعين{ كما اسأله عزوجل أن يجعلنا من دعاة التوحيد ([22] )، و أسأله عزوجل أن يعينني على نفسي، هذه النفس الجاهلة الظالمة ، كما أسأله تعالى أن يوفقني لهذا العمل و أن يجعله لوجهه الكريم ، و لا يجعله لأحد من خلقه أجمعين ، و الحمد لله رب العالمين.
أولا تعريف العبادة :
لغة يقال عبدت الرجل : ذللته حتى عمل عمل العبيد ([23] )، وسمي العبد عبدا لذلته و انقياده ([24]) و العرب تقول : طريق معبّد أي: مذلّل([25]) للسّير عليه.([26])
وقال القرطبي رحمه الله تعالى : '' و نعبد معناه : نطيع ، و العبادة : الطاعة و التذلل '' ([27]) ، و قال ابن القيم : و التعبد : التذلل و الخضوع ([28])
شرعا : عرّفها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بقوله:
" هي اسم جامع لما يحبّه الله تعالى من الأعمال والأقوال الباطنة و الظّاهرة ([29])" ، و هي '' غاية الحب ، بغاية الذل و الخضوع ''([30]) ، و قال ابن كثير رحمه الله : '' عبارة عما يجمع كمال المحبة و الخضوع و الخوف.([31]).
قال الشيخ عبد العزيز الراجحي حفظه الله :''و بعبارة أخرى العبادة : هي امتثال أوامر الله ، و اجتناب نواهيه ، فهي أداء الواجبات ، و ترك المحرمات ، أداء الواجبات التي أوجبها الله قولا أو فعلا ، باطنا و ظاهرا ، و ترك المحرمات التي حرمها الله قولا أو فعلا ، باطنا أو ظاهرا.''([32]).
ثانيا : تعريف الإستعانة :
الِاسْتِعَانَةُ مَصْدَرُ اسْتَعَانَ , وَهِيَ : طَلَبُ الْعَوْنِ , يُقَالُ : اسْتَعَنْته وَاسْتَعَنْت بِهِ فَأَعَانَنِي وَالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ .
وفي الاصطلاح كما قال شيخ الإسلام : الاستعانة: طلب العون ، و المستعان هو الذي يستعان به على المطلوب ([33]) ، و هي تجمع أصلين : ( الثقة بالله ، و الإعتماد عليه )([34]).
وهناك قاعدة في اللغة وهي: أن زيادة السين والتاء في الاسم تكون للطلب، فنقول: الاستعانة: طلب العون من الرب الجليل، لدفع الضر أو جلب المنفعة أو تثبيت الدين، فالكل ينزل تحته. والفرق بين التعريف اللغوي والتعريف الشرعي: أن التعريف في الشرع أخص من التعريف في اللغة، إذ التعريف في الشرع طلب العون فقط من الله([35])، وهذه فيها إشعار بأن الطلب من غير الله شرك.
فضل سورة الفاتحة :
عن أبي سعيد المعلي قال([36]) : '' كنت أصلي فدعاني رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم أجبه ، قلت : يا رسول الله إني كنت أصلي ، قال : ألم يقل الله سبحانه و تعالى :}يا أيها الذين ءامنوا استجيبوا لله و للرسول إذا دعاكم {[الأنفال : 24] . ثم قال : ألا أعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج؟ فأخذ بيدي ، فلما أراد أن يخرج ، قلت : يا رسول الله إنك قلت : أعلمنك أعظم سورة في القرآن ؟ قال : }الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ{ هي السبع المثاني و القرآن العظيم الذي أوتيته ''([37]).
وأخرج الترمذي([38]) من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم خرج على أبي بن كعب فقال أتحب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها قال نعم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله كيف تقرأ في صلاتك قال أقرأ بأم القرآن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها وإنها سبع من المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته قال الترمذي حديث حسن صحيح وأخرجه ابن خزيمة([39]) وابن حبان([40]) في صحيحهما وأخرجه الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم ([41]).
فقوله : '' أعظم سورة في القرآن '' هذا تصريح منه صلى الله عليه وسلم بأنها أعظم سورة في القرآن فلا ينبغي بعد هذا أن يقال سورة كذا مثل الفاتحة في العظم استدلالا بما ورد في بعض السور من عظم الثواب لتاليها فإن الثواب شيء آخر وقد يكون هذا العظم المنصوص عليه لهذه السورة مستلزما لعظم أجرهاوأنه أعظم من الأجور المنصوص عليها في غيرها من السور.([42])
و قوله : '' هي السبع المثاني والقرآن العظيم '' هذا يدل على أن المراد في الآية هي هذه السورة وروى عن ابن عباس وسعيد بن جبير أن السبع المثاني هي البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس وروى غير ذلك من الأقوال.([43])
و عن معقل ابن يسار رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : '' اعملوا بالقرآن أحلوا حلاله وحرموا حرامه واقتدوا به ولا تكفروا بشيء منه وما تشابه عليكم فردوه إلى الله وإلى أولي العلم من بعدي كما يخبروكم وآمنوا بالتوراة والإنجيل والزبور وما أوتى النبيون من ربهم وليسعكم القرآن وما فيه من البيان فإنه أول شافع مشفع وماحل مصدق وإني أعطيت سورة البقرة من الذكر الأول وأعطيت طه والطواسين والحواميم من ألواح موسى وأعطيت فاتحة الكتاب من تحت العرش '' ([44]).
قلت : '' وفي الحديث دليل على شرف هذه السورة لكونه صلى الله عليه وسلم أعطيها من تحت العرش وهذه مزية لم توجد في غيرها''([45])، فما أعظمك من سورة.
و عن أنس رضي الله عنه قال: '' كان النبي صلى الله عليه وسلم في مسير فنزل ونزل رجل إلى جانبه قال: فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : '' ألا أخبركم بأفضل القرآن ؟ '' قال : بلى فقال : }الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ{([46]).
و عن جابر([47]) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : '' ألا أخبركم بأخير سورة في القرآن؟ قلت : بلى يا رسول الله قال: اقرأ : }الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ{''([48]).
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : '' بينا جبريل قاعدا عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضا من فوقه فرفع رأسه فقال هذا ملك نزل الأرض لم ينزل قط فسلم فقال أبشر بنورين أتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته''([49]).
[فقوله:'' نقيضا'' بالنون والقاف والضاد المعجمة وهو الصوت.
وقوله : '' لم ينزل قط '' هذا يدل على انه نزل بالفاتحة وخواتيم سورة البقرة ملك غير جبريل ، وقيل : إن جبريل نزل قبل هذا الملك معلما ومخبرا بنزول الملك ، فهو مشارك له في إنزالها ، وقال القرطبي : إن جبريل نزل بها أولا بمكة ثم أنزل هذا الملك ثانيا بثوابها.
وقوله :'' بنورين'' قد فسرهما بقوله فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة.
أما قوله :'' إلا أعطيته '' أي أعطيت ثوابه أو أعطاه الله ثواب ما اشتمل عليه من الدعاء كما في خواتيم سورة البقرة فإنها دعاء وهكذا الفاتحة فأنها ثناء ودعاء كما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : '' قال الله سبحانه وتعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل...''([50]) الحديث]([51]).
بعض فوائد هذه الآية :
أولا : فيها تقديم حق الله على حق العباد مع حسن الأدب :
فـ }إِيَّاكَ([52]) نَعْبُدُ{ تعني إفراد العبادة لله وحده و هذا حق من حقوق الله عزوجل و لا يحق لغيره أبدا ، أما }إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ{ فالإستعانة لا تكون إلا بالله جل جلاله و هي حق من حقوق العباد و جاءت مؤخرة عن العبادة لأن حق الله أهم من حق العباد([53]) ، و هذا '' من باب تقديم الغايات على الوسائل ، إذ (العبادة) غاية العباد التي خلقوا لها ، و (الاستعانة) وسيلة([54]) إليها''([55]) ، قال العلامة السعدي رحمه الله : '' وتقديم العبادة على الإستعانة من باب تقديم العام على الخاص،واهتماماً بتقديم حق الله تعالى على حق عباده ''.([56]) ، ''و شأن العرب تقديم الأهم ، يذكر أن أعرابيا سب آخر ، فأعرض المسبوب عنه ، فقال له الساب : إياك أعني ، فقال له الآخر : و عنك أعرض ، فقدما الأهم .([57]) ، و '' ذكر الاستعانة بعد العبادة مع دخولها فيها ، لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى ، فإنه إن لم يعنه الله ، لم يحصل له ما يريده من فعل الأوامر و اجتناب النواهي.''([58])
و من أسرار تقديم العبادة على الاستعانة أن '' { إياك نعبد } متعلق بألوهيته و اسمه (الله) و {إياك نستعين} متعلق بربوبيته و اسمه (الرب) فقدم { إياك نعبد } على {إياك نستعين} كما قدم اسم (الله) على (الرب) في أول السورة.''([59])
'' و لآن { إياك نعبد }له ، و {إياك نستعين} به ، و ما له مقدم على ما به ، لأن ما له متعلق بمحبته و رضاه ، و ما به متعلق بمشيئته .
و ما تعلق بمحبته أكمل مما تعلق بمجرد مشيئته ، فإن الكون كله متعلق بمشيئته ، و الملائكة و الشياطين و المؤمنون و الكفار ، و الطاعات و المعاصي ، و المتعلق بمحبته : طاعاتهم و إيمانهم ، فالكفار أهل مشيئة ، و المؤمنون أهل محبته ، و لهذا لا يستقر في النار شيء لله أبدا ، و كل ما فيها فإنه به تعالى و بمشيئته.
فهذه الأسرار يتبين بها حكمة تقديم { إياك نعبد } على {إياك نستعين}([60]).
و قال ابن القيم : '' و أما تقديم المعبود و المستعان على الفعلين، ففيه : أدبهم مع الله بتقديم اسمه على فعلهم'' ([61])
ثانيا : فيها تحقيق لتوحيد الألوهية و توحيد الربوبية:
تعريف التوحيد :
التوحيد في اللغة:
مصدر : '' وحَّد، يوحِّد، توحيدًا''أي: جعله واحدًا، ومادَّة (وحَّد) تدور على انفراد الشيء بذاته أو صفاته أو أفعاله، والتوحيد على وزن (تفعيل) تعني الوحدة والانفراد والتفرُّد، والمقصود من التفعيل هو للنسبة لا للجعل، فمعنى: (وحَّدتُ الله تعالى): نَسَبْتُه إلى الوحدانيةلا جعلتُه واحدًا، لأنَّ وحدانيته صفةٌ ذاتيَّةٌ له لا بجعل جاعلٍ، والتشديد فيه للمبالغة أي: بالغتُ في وصفه بذلك.([62])
أمَّا التوحيد -في الشرع-:
فهو الإيمان بأنَّ الله تعالى متفرِّدٌ بصفات العظمة والكمال والجلال والجمال، والاعترافُ بتوحُّده بها، والاعتقاد أنه لا شريك له فيها، وإفراده وحده بالعبادة([63])، قال السفاريني -رحمه الله- في تعريفه للتوحيد بالمعنى الشرعي: ''هو إفراد المعبود بالعبادة مع اعتقاد وحدته ذاتًا وصفاتٍ وأفعالاً، فلا تقبل ذاته الانقسامَ بوجهٍ، ولا تشبه صفاته الصفاتِ ولا تنفكُّ عن الذات، ولا يدخل أفعالَه الاشتراك''([64])
بيان ما هو توحيد الألوهية و توحيد الربوبية :
أولا : توحيد الربوبية :
'' و هو إفراد الله سبحانه و تعالى في أمور ثلاثة ، في الخلق ، و الملك ، و التدبير.
الخلق :
دليل ذلك قوله تعالى : {ألا له الخلق و الأمر} [ الأعراف : 54] ووجه الدلالة من الآية :أنه قدم فيها الخبر الذي من حقه التأخير ، و القاعدة البلاغية : أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر ، ثم تأمل افتتاح هذه الآية بـ (ألا) الدالة على التنبيه و التوكيد :{ألا له الخلق و الأمر} ، لا لغيره ، فالخلق هذا هو ، و الأمر هو التدبير .
أما الملك :
فدليله مثل قوله تعالى : {و لله ملك السموات و الأرض} [ الجاثية : 27]، فإن هذا يدل على انفراده سبحانه و تعالى بالملك ، و وجه الدلالة من هذه الآية كما سبق تقديم ما حقه التأخير ...
إذا ، فالرب عزوجل منفرد بالخلق و الملك و التدبير .
فإن قلت : كيف تجمع بين ما قررت و بين إثبات الخلق لغير الله ، مثل قوله تعالى : {فتبارك اللهُ أحسنُ الخالقين }[المؤمنون :14] و مثل قوله صلى الله عليه و سلم في المصورين : ''يقال لهم : أحيوا ما خلقتهم " ([65]) ، و مثل قوله تعالى في الحديث القدسي : '' من أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ''([66]) ، فكيف تجمع بين قولك : أن الله منفرد بالخلق ، و بين هذه النصوص؟!
فالجواب أن يقول : إن الخلق هو الإيجاد ، و هذا خاص بالله تعالى ([67])، أما تحويل الأشياء من صورة إلى أخرى ، فإنه ليس بخلق حقيقة ، و إن سمي خلقا باعتبار التكوين ، لكنه في الواقع ليس بخلق تام ، فمثلا : هذا النجار صنع من الخشب بابا فيقال : خلق بابا ، لكن مادة هذه الصناعة التي خلقها هو الله عزوجل ، لا يستطيع الناس مهما بلغوا في القدرة أن يخلقوا عود أراك أبدا ، و لا أن يخلقوا ذرة ، و لا أن يخلقوا ذبابا .''([68]).
ثانيا : توحيد الألوهية:
'' و هو إفراد الله عزوجل بالعبادة ، بألا تكون عبدا لغير الله ، لا تعبد لا ملكا و لا نبيا ولا وليا و لا شيخا و لا أما و لا أبا ، لا تعبد إلا الله وحده ، فتفرد الله عزوجل وحده بالتأله و التعبد ، و لهذا يسمى توحيد الألوهية ، و يسمى توحيد العبادة ، باعتبار إضافته إلى الله هو توحيد ألوهية ، و باعتبار إضافته إلى العابد هو توحيد عبادة'' ([69])
قلت : و في هذه الآية {إياك نعبد و إياك نستعين} تحقيق لهذين النوعين من التوحيد ، فـ : {إياك نعبد} تحقيق لتوحيد الألوهية ، و: {إياك نستعين} تحقيق لتوحيد الربوبية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : '' ... و ذلك أن العبد بل كل حي بل و كل مخلوق سوى الله هو فقير محتاج إلى جلب ما ينفعه ، و دفع ما يضره ، و المنفعة للحي هي من جنس النعيم و اللذة ، و المضرة هي من جنس الألم و العذاب ، فلا بد له من أمرين :
أحدهما : هو المطلوب المقصود المحبوب الذي ينتفع و يتلذ به .
و الثاني : هو المعين الموصل المحصل لذلك المقصود و المانع من دفع المكروه ، و هذان هما الشيئان المنفصلان الفاعل و الغاية فهنا أربعة أشياء :
أحدها : أمر هو محبوب مطلوب الوجود.
و الثاني : أمر مكروه مبغض مطلوب العدم.
و الثالث : الوسيلة إلى حصول المطلوب المحبوب.
و الرابع : الوسيلة إلى دفع المكروه ، فهذه الأربعة أمور ضرورية للعبد بل و كل حي لا يقوم وجوده و صلاحه إلا بها ، و أما ما ليس بحي فالكلام فيه على وجه آخر .
إذا تبين ذلك فبيان ما ذكرته من وجوه :
أحدها : أن الله تعالى هو الذي يحب أن يكون هو المقصود المدعو المطلوب ، و هو المعين على المطلوب و ما سواه هو المكروه ، و هو المعين على دفع المكروه ، فهو سبحانه الجامع للأمور الأربعة دون ما سواه ، و هذا معنى قوله : }إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فإن العبودية تتضمن المقصود المطلوب ، لكن على أكمل الوجوه ، و المستعان هو الذي يستعان به على المطلوب ، فالأول معنى الألوهية .''([70]) و قال ابن القيم :'' فـ { إياك نعبد }تحقيق لهذا التوحيد و إبطال الشرك في الإلهية''([71] )
و قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : ''قوله تعالى: { إياك نعبد }؛ { إيّاك([72]) }: مفعول به مقدم([73])؛ وعامله: { نعبد }؛ وقُدِّم على عامله لإفادة الحصر؛ فمعناه: لا نعبد إلا إياك؛ وكان منفصلاً لتعذر الوصل حينئذ؛ و{ نعبد } أي نتذلل لك أكمل ذلّ؛ ولهذا تجد المؤمنين يضعون أشرف ما في أجسامهم في موطئ الأقدام ذلاً لله عزّ وجلّ: يسجد على التراب؛ تمتلئ جبهته من التراب . كل هذا ذلاً لله؛ ولو أن إنساناً قال: "أنا أعطيك الدنيا كلها واسجد لي" ما وافق المؤمن أبداً؛ لأن هذا الذل لله عزّ وجلّ وحده..
و "العبادة" تتضمن فعل كل ما أمر الله به، وترك كل ما نهى الله عنه؛ لأن من لم يكن كذلك فليس بعابد: لو لم يفعل المأمور به لم يكن عابداً حقاً؛ ولو لم يترك المنهي عنه لم يكن عابداً حقاً؛ العبد: هو الذي يوافق المعبود في مراده الشرعي؛ فـ "العبادة" تستلزم أن يقوم الإنسان بكل ما أُمر به، وأن يترك كل ما نُهي عنه؛ ولا يمكن أن يكون قيامه هذا بغير معونة الله؛ ولهذا قال تعالى: { وإياك نستعين } أي لا نستعين إلا إياك على العبادة([74])، وغيرها؛ و "الاستعانة"([75]) طلب العون؛ والله سبحانه وتعالى يجمع بين العبادة، والاستعانة، أو التوكل([76]) في مواطن عدة في القرآن الكريم؛ لأنه لا قيام بالعبادة على الوجه الأكمل إلا بمعونة الله، والتفويض إليه، والتوكل عليه..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: إخلاص العبادة لله؛ لقوله تعالى: { إياك نعبد }؛ وجه الإخلاص: تقديم المعمول..
.2 ومنها: إخلاص الاستعانة بالله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { وإياك نستعين }([77])، حيث قدم المفعول..
فإن قال قائل: كيف يقال: إخلاص الاستعانة لله وقد جاء في قوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة: 2] إثبات المعونة من غير الله عزّ وجلّ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تعين الرجل في دابته، فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة"؟)[78](فالجواب: أن الاستعانة نوعان: استعانة تفويض؛ بمعنى أنك تعتمد على الله عزّ وجلّ، وتتبرأ من حولك، وقوتك؛ وهذا خاص بالله عزّ وجلّ؛ واستعانة بمعنى المشاركة فيما تريد أن تقوم به: فهذه جائزة إذا كان المستعان به حياً قادراً على الإعانة؛ لأنه ليس عبادة؛ ولهذا قال الله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة: 2 ].
فإن قال قائل: وهل الاستعانة بالمخلوق جائزة في جميع الأحوال؟
فالجواب: لا؛ الاستعانة بالمخلوق إنما تجوز حيث كان المستعان به قادراً عليها؛ وأما إذا لم يكن قادراً فإنه لا يجوز أن تستعين به: كما لو استعان بصاحب قبر فهذا حرام؛ بل شرك أكبر؛ لأن صاحب القبر لا يغني عن نفسه شيئاً؛ فكيف يعينه!!! وكما لو استعان بغائب في أمر لا يقدر عليه، مثل أن يعتقد أن الوليّ الذي في شرق الدنيا يعينه على مهمته في بلده: فهذا أيضاً شرك أكبر؛ لأنه لا يقدر أن يعينه وهو هناك..
فإن قال قائل: هل يجوز أن يستعين المخلوقَ فيما تجوز استعانته به؟
فالجواب: الأولى أن لا يستعين بأحد إلا عند الحاجة، أو إذا علم أن صاحبه يُسَر بذلك، فيستعين به من أجل إدخال السرور عليه؛ وينبغي لمن طلبت منه الإعانة على غير الإثم والعدوان أن يستجيب لذلك..''([79])
ثالثا : فيها تحقيق لمعنى {و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون }:
و معنى يعبدون أي يوحدون ، '' فقوله : }إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} هذا فيه توحيد الألوهية و إخلاص الدين لله –تبارك و تعالى – فلا نستعين في أمر من الأمور – الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله – تبارك و تعالى- لا يجوز الإستعانة فيها بمخلوق من المخلوقات ، لا الأنبياء و لا الملائكة و لا غيرهم من مخلوقات الله عزوجل ، '' إذا سألت فسأل الله و إذا استعنت فاستعن بالله ''([80]) ، فقوله : }إِيَّاكَ نَعْبُدُ} نخصك بالعبادة ، لآن هذه من صيغ القصر و التخصيص ، }إِيَّاكَ نَعْبُدُ} لا نعبد إلا إياك وحدك مخلصين لك الدين لا نشرك أحدا في عبادتك لا نتخذ شريكا معك في ذرة من ذرات العبادات التي خلقت الجن و الإنس من أجلها ، و التي قال الله سبحانه و تعالى فيها : {و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون } ، فربنا ما خلقنا إلا لعبادته ، و فرض علينا هذه السورة التي ندين الله –تبارك و تعالى – بها في كل ركعة من الركعات ، فنتعرف بهذا الحق ، و نصرخ بهذه الغاية التي خلقنا من أجلها ، فنقول : لا نعبد إلا إياك ، لا نعبد غيرك تحقيقا لهذه الغاية التي خلقتنا من اجلها و سخرت لنا ما في السماوات و الأرض لنقوم بها .
و قوله : { وإياك نستعين } لا نستعين إلا بك في العبادة في أمور الدين([81]) ، في أمور الدنيا لا نستعين إلا بك ، و لا نلجأ إلا إليك ، و لا نستغيث في الكروب إلا بك ، و لا نلجأ في الشدائد إلا إليك ، {أمن يجيب المضطر إذا دعاه و يكشف السوء و يجعلكم خلفاء الأرض أءِلهٌ مع الله قليلا ما تذكرون }. [النمل: 62].'' ([82])
رابعا : تحقيق معنى لا إله إلا الله :
قال الشيخ محمد أمين الشنقيطي رحمه الله : '' قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}([83]) أشار في هذه الآية الكريمة إلى تحقيق معنى لا إله إلا الله([84])؛ لأن معناها مركب من أمرين: نفي وإثبات. فالنفي: خلع جميع المعبودات غير الله تعالى في جميع أنواع العبادات، والإثبات: إفراد رب السماوات والأرض وحده بجميع أنواع العبادات على الوجه المشروع. وقد أشار إلى النفي من لا إله إلا الله بتقديم المعمول الذي هو {إِيَّاكَ} وقد تقرر في الأصول، في مبحث دليل الخطاب الذي هو مفهوم المخالفة. وفي المعاني في مبحث القصر: أن تقديم المعمول من صيغ الحصر([85]). وأشار إلى الإثبات منها بقوله: {نَعْبُدُ}.
وقد بين معناها المشار إليه هنا مفصلا في آيات أخر كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} الآية [2/21]، فصرح بالإثبات منها بقوله: {اعْبُدُوا رَبَّكُمْ}، وصرح بالنفي منها في آخر الآية الكريمة بقوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون} [2/22]، وكقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}, فصرح بالإثبات بقوله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} وبالنفي بقوله: {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}، وكقوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [2/256]، فصرح بالنفي منها بقوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ}، وبالإثبات بقوله: {وَيُؤْمِنْ بِاللََّهِ}؛ وكقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ، إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [43/27،26]، وكقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [21/25]، وقوله: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [43/45]؛ إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}([86]) أي لا نطلب العون إلا منك وحدك؛ لأن الأمر كله بيدك وحدك لا يملك أحد منه معك مثقال ذرة. وإتيانه بقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، بعد قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، فيه إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتوكل إلا على من يستحق العبادة؛ لأن غيره ليس بيده الأمر. وهذا المعنى المشار إليه هنا جاء مبينا واضحا في آيات أخر كقوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّل عَلَيْهِ} الآية [11/123]، وقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} الآية [9/129]، وقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} [73/9]، وقوله: {قُلْ هُوَالرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [27/29]، وإلى غير ذلك من الآيات.'' ([87])
خامسا :تضمنها الرد على أهل الأهواء كالجبرية و القائلين بالموجب بالذات و فيها رد على المعطلة كالجهمية :
و ذلك '' بقولهم (نعبد) و (نستعين ) و هي نسبة حقيقية لا مجازية . و الله لا يصح وصفه بالعبادة و الإستعانة التي هي من أفعال عبيده ، بل العبد حقيقة هو العابد المستعين . و الله هو المعبود به – سبحانه و تعالى- .''([88])
و (نستعين ) ترد على القائلين بالموجب بالذات دون الإختيار والمشيئة ، فهؤلاء الضلال نفوا أن الله سبحانه و تعالى فاعل مختار ، لهذا نقول لهم '' الإستعانة بمن لا اخيار له و لا مشيئة و لا قدرة محال . ''([89])
قال السلمي في (حقائقه) : سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان([90]) يقول : سمعت أبا حفص الفرغاني يقول : من أقر بـ }إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، فقد بريء من الجبر و القدر([91])
و أما الرد على الجهمية الذين يقولون أن أفعال العباد ليست مقدورة لله ، و لا مخلوقة لهم ، و هي صادرة بغير مشيئته ، و لا قدرة له عليها ، نقول : '' في قوله : }وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} رد ظاهر عليهم ، إذ استعانتهم به إنما تكون عن شيء هو بيده و تحت قدرته و مشيئته ، فكيف يستعين من بيده الفعل و هو موجده ، إن شاء أوجده و إن شاء لم يوجده ، بمن ليس ذلك الفعل بيده و لا هو داخل تحت قدرته و لا مشيئته؟([92]) ، وفي أمر الله جل ثناؤه عباده أن يقولوا{إياك نعبد وإياك نستعين}، بمعنى مسألتهم إياه المعونة على العبادة ، أدل الدليل على فساد قول القائلين بالتفويض من أهل القدر ، الذين أحالوا أن يأمر الله أحدا من عبيده بأمر ، أو يكلفه فرض عمل ، إلا بعد إعطائه المعونة على فعله وعلى تركه . ولو كان الذي قالوا من ذلك كما قالوا ، لبطلت الرغبة إلى الله في المعونة على طاعته . إذ كان - على قولهم ، مع وجود الأمر والنهي والتكليف - حقا واجبا على الله للعبد إعطاؤه المعونة عليه ، سأله عبده أو ترك مسألة ذلك . بل ترك إعطائه ذلك عندهم منه جور . ولو كان الأمر في ذلك على ما قالوا ، لكان القائل{إياك نعبد وإياك نستعين }، إنما يسأل ربه أن لا يجور([93])
سادسا : فيها أنفع الدعاء :
قال ابن القيم : '' و لهذا كان من أفضل ما يسأل الرب تبارك و تعالى : الإعانة على مرضاته ، و هو الذي علمه النبي صلى الله عليه و سلم : لحب معاذ بن جبل رضي الله عنه : ، فقال : ''يا معاذ ، و الله إني لأحبك ، فلا تنسى أن تقول دبر كل صلاة :( اللهم أعني على ذكرك و شكرك و حسن عبادتك).
فأنفع الدعاء : طلب العون على مرضاته ، و أفضل المواهب : إسعافه بهذا المطلوب ، و جميع الأدعية المأثورة مدارها على هذا ، و على دفع ما يضاده ، و على تكميله و تيسير أسبابه ، فتأملها .
و قال شيخ الإسلام ابن تيمية : -قدس الله روحه- : تأملت أنفع الدعاء : فإذا هو سؤال العون على مرضاته ، ثم رايته في الفاتحة في : { إياك نعبد وإياك نستعين }([94]).
سابعا : فيها شفاء للقلوب :
قال ابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى : '' و التحقيق بـ }إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} علما و معرفة ، و عملا و حالا : يتضمن الشفاء من مرض فساد القلب و القصد فإن فساد القصد يتعلق بالغايات و الوسائل .
فمن طلب غاية منقطعة مضمحلة فانية ، و توسل إليها بأنواع الوسائل الموصلة إليها كان كلا نوعى قصده فاسدا.''([95])
وقال رحمه الله :
أركان علاج القلب :
فإن هذا الدواء مركب من ستة أجزاء :
(1) عبودية الله لا غيره (2) بأمره و شرعه (3) لا بالهوى (4) و لا بآراء الرجال و أوضاعهم ، و رسومهم ، و أفكارهم (5) بالإستعانة علة عبوديته به (6) لا بنفس العبد و قو ته وحوله و لا بغيره.
فهذه هي أجزاء }إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فإذا ركبها الطبيب اللطيف ، العالم بالمرض ، و استعملها المريض ، حصل بها الشفاء التام . و ما نقص من الشفاء فهو لفوات جزء من أجزائها أو اثنين أو أكثر .
الرياء و الكبر من أشد أمراض القلب :
ثم إن القلب يعرض له مرضان عظيمان إن لم يتداركهما العبد تراميا به إلى التلف و لا بد ، و هما الرياء و الكبر ، فدواء الرياء بـ '' إياك نعبد '' ، و دواء الكبر بـ '' إياك نستعين '' ، و كثيرا ما كنت أسمع شيخ الإسلام ابن تيمية _ قدس الله روحه _ يقول : '' إياك نعبد '' تدفع الرياء ، '' و إياك نستعين '' تدفع الكبرياء[96] ، فإذا عوفي من مرض الرياء([97]) بـ '' إياك نعبد '' ، و من مرض الكبرياء و العجب بـ ''و إياك نستعين '' ، و من مرض الضلال و الجهل بـ '' اهدنا الصراط المستقيم '' ، عوفي من امراضه و اسقامه و رفل([98]) في اثواب العافية و تمت عليه النعمة .و كان من المنعم عليهم }غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } و هم أهل فساد القصد ، الذين عرفوا الحق و عدلوا عنه ،}و الضَّالِّينَ} وهم أهل فساد العلم ، الذين جهلوا الحق و لم يعرفوه .
و حق لسورة تشتمل على هذين الشفاءين : أن يستشفى بها من كل مرض ... '' ([99])
ثامنا : فائدة في التفسير بالإلتفات :
'' الإلتفات : تحويل أسلوب الكلام من وجه إلى آخر ، و فيه صور منها الإلتفات من الغيبة إلى الخطاب و من الخطاب إلى الغيبة و في سورة الفاتحة يوجد الإلتفات من الغيبة إلى الخطاب فقوله تعالى :
}بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) }.
فحول الكلام من الغيبة إلى الخطاب في قوله : (ِإيَّاكَ)'' ([100]) ، و قال القرطبي رحمه الله تعالى : '' قوله تعالى : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} رجع من الغيبة إلى الخطاب على التلوين ، لأن من أول السورة إلى هاهنا خبر عن الله تعالى ، وثناء عليه ، كقوله : { وسقاهم ربهم شرابا طهورا} [ الإنسان :21] . ثم قال : { إن هذا كان لكم جزاءا } . و عكسه : {حتى إذا كنتم في الفلك و جَرَيْنَ بهم}[يونس : 22 ] ، على ما يأتي ''([101]) ، و قال ابن كثير في تفسيره : '' و تحول الكلام من الغيبة إلى المواجهة بكاف الخطاب ، و هو مناسبة ، لأنه لما أثنى على الله فكأنه اقترب و حضر بين يدي الله تعالى ، فلهذا قال : {إياك نعبد وإياك نستعين } ، و في هذا دليل على أن أول السورة خبر من الله تعالى بالثناء على نفسه الكريمة بجميل صفاته الحسنى ، و إرشاد لعباده أن يثنوا عليه بذلك ...'' ([102]).
و في الأخير أذكر إخواني أن الأمة '' بأمس الحاجة إلى إصلاح عقائدها إصلاحا جذريا ، و لا يجوز البدء بشيء قبل هذا ، الإصلاح الإجتماعي و الإصلاح الإقتصادي و الإصلاح السياسي كلها تأتي بعد هذا الباب ، كما هي طريقة الأنبياء – عليهم الصلاة و السلام- و نسأل الله أن يبصرنا جميعا بديننا ، و أن يوفقنا للاعتصام بكتابه ، و سنة نبيه صلى الله عليه و سلم و أن يوفقنا لسلوك منهج الأنبياء – عليهم الصلاة و السلام- الذي أمرنا الله به ، و أمرنا رسول صلى الله عليه و سلم بالإقتداء بهم { أُوْلَئِكَ الَذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام : 90].''([103])
نسأل الله أن يجعلنا و إياكم من المتأسين بهم المقتدين بهم المتبعين لمنهجهم ، إن ربنا لسميع الدعاء.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليما.
أبي عبد الله بلال بريغت الجزائري.
يوم الخميس:
18 ذو القعدة 1433 هـ
الموافق لـ:
04 أكتوبر 2012 م
[1]: جواب سؤال عن سوء مقال، لابن باديس: ص (97-98)، و انظر آثار ابن باديس (3/222).
[2] :أخرجه أبوداود (2/591رقم 2118)، و الترميذي (3/13رقم 1105)، و النسائي (2/89)، و ابن ماجة (1/609رقم1892)،و ابن الجارود(رقم679) و الحاكم في المستدرك (2/182-183) ، و أبو نعيم في الحلية (7/178)، و البيهقي (7/146)، و الدارمي (2/142)،و أحمد ( 1/392،393)، و الطيالسي (ص45 رقم 338) من حديث ابن مسعود ، و زاد الطيالسي عن شعبة قال : قلت لأبي إسحاق : هذه خطبة النكاح في غيرها ؟ قال : في كل حاجة .
قال الألباني رحمه الله : في كتابه (خطبة الحاجة التي كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعلمها أصحابه ) (ص12) : ''وردت هذه الخطبة المباركة عن ستة من الصحابة و هم : عبد الله بن مسعود، و أبو موسى الأشعري ، و عبد الله بن عباس ، و جابر بن عبد الله ، و نبيط بن شريك و عائشة رضي الله عنها ، و عن تابعي واحد و هو الزهري رحمه الله ''
[3] : مقدمة طريق الوصول إلى إيضاح الثلاثة الأصول ، شرح الشيخ زيد المدخلي حفظه الله ، تحقيق و تعليق فواز بن علي بن علي المدخلي حفظه الله (ص6).
[4] : بهذا وصفه الإمام عبد الحميد بن باديس، انظرابن باديس: حياته وآثاره (463/3) للطالبي.
[5] : بهذا وصفه العلاّمة مبارك الميلي، انظر رسالة الشرك ومظاهره (ص447) بتحقيق الشيخ أبي عبد الرحمن محمود الجزائري حفظه الله.
[6] : آثار الابراهيمي: (1/138).
[7] : جريدة السنة: (2/7).
[8] : جريدة الصراط: (15/4).
[9] : تفسير ابن كثير (5/365).
[10] : العلاَّت بفتح العين الضرائر و أصله من تزوج امرأة ثم تزوج أخرى كأنه علَّ منها ، و العلل : الشرب بعد الشرب ، و أولاد العلاَّت : الأخوة من الأب و أمهاتهم شتى . [فتخ الباري (6/489). و في النهاية (3/291) : '' الأنبياء أولاد علات '' : أولاد العلات الذين أمهاتهم مختلفة و أبوهم واحد أراد أنَّ إيمانهم واحد و شرائعهم مختلفة.
[11] : أخرجه البخاري (60) كتاب الأنبياء ، حديث رقم (3443) ، و مسلم في كتاب الفضائل (40) فضل عيسى عليه السلام ، برقم (145) ، و أحمد في المسند (2/319 ، 406 ، 482).
[12] :قال البشير الإبراهيمي رحمه الله تعالى: (..وقال إبراهيم في أوثان قومه: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ...﴾ [إبراهيم:36]، هذا المرض الفتاك الذي استعصى على أولي العزم من رسل الله علاجُه، هو الذي غفل عنه المسلمون، وهوّن شأنَه علماؤهم الجامدون حتى استشرى وأعضل. فهذه القباب المشيدة، وهي أوثان هذه الأمة، أضلت كثيراً من الناس، وأكثر من الكثير، وافتتنوا بها، وبأسماء أصحابها حتى أَلْهَتْهُم عن دنياهم وأفسدت عليهم أخراهم، وغَلَوْا في تعظيمها حتى أصبحت معبودةً تُشَدُّ إليها الرحال، وتُقَرَّبُ لها القرابين والنذور، وتُسْأَلُ عندها الحاجات التي لا تُسْأَلُ إلاَّ من الله، ويحلف بها من دون الله، ويتآلى بها على الله، وما جرَّ هذا البلاء على الأمة الإسلامية حتى أضاعت الدين والدنيا، إلاَّ سكوتُ العلماء عن هذه الأباطيل أوّلَ نشأتها، وعدمُ سدِّهِمْ لذرائعها حتى طغت هذا الطغيان على عقول الأمة، ولو أنهم فَقَّهُوا الأمة في كتاب ربها، وساسوها بسنة نبيها لكان لها من سيرة إبراهيم ومحمد عاصمٌ أيّ عاصمٍ من هذا الشر المستطير.) [ آثار الإبراهيمي (1/397)]
[13] :إشارة إلى حديث أبي ذر : أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (5/447) ، و أحمد في المسند (5/178، 179) ، من طريق المسعودي عن أبي عمر الدمشقي عن عبيد بين الحسحاس عن أبي ذر.
و اخرجه ابن حبان كما في موارد الظمآن برقم (94) ، و أبو نعيم في الحلية (1/166،168) , و اشار إلى طرق أخرى إلى أبي ذر ، و أحمد (5/265) و ابن أبي مردويه في تفسيره نقلا عن ابن كثير (2/423) ، و الطبراني (8/258) ، و هناك طرق أخرى عن أبي أمامة في عدد الرسل و هم مائة و ثلاثة عشر أخرجه الطبراني (8/139) و ابن حبان كما في الموارد برقم ( 2085) ، و قال ابن كثير : و هذا على شرط مسلم.
و قال الهيثمي : '' رواه الطبراني و رجاله رجال الصحيح غير أحمد بن خليد الحلبي و هو ثقة ''.
[14] : و هو طريق نبذ الشرك و تعليم الناس التوحيد.
[15] : من كلام الشيخ ربيع حفظه الله من كتابه منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله ( ص 29-30)
[16] : أخرجه مسلم برقم (394/872) كتاب الصلاة ، و باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة و أنه إذا لم يحسن الفاتحة و لا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها.
[17] : أحكام القرآن لإين العربي المالكي رحمه الله (1/9)
[18] : و لها اثنا عشر اسما ذكرها القرطبي في تفسيره مفصلة (1/172-173-174-175) :'' منها أم القرآن ، الشفاء ، الرقية ، الأساس ، الوافية ، الكافية'' ، و الستة الباقية ذكرناهم في الأعلى.
[19] : أخرجه البخاري (4474) ، و أحمد (17851) ، و أبو داود (1474) ،و النسائي (2/139) ، و ابن ماجة (3785).
[20] : متفق عليه من حديث عبادة بن الصامت (خ/756) كتاب الآذان و (م/394/872) كتاب الصلاة .
[21] : التفسير القيم (ص 9)
[22] : و سر الخلق و الأمر ، و الكتب و الشرائع ، و الثواب و العقاب : انتهى إلى هاتين الكلمتين . و عليهما مدار العبودية و التوحيد . حتى قيل : أنزل الله مائة كتاب و أربعة كتب . جمع معانيها في التوراة و الإنجيل و القرآن . و جمع معاني هذه الكتب الثلاثة في القرآن . و جمع معاني القرآن في المفصل . و جمع معاني المفصل في الفاتحة ، و معاني الفاتحة في : { إياك نعبد وإياك نستعين } . و هما الكلمتان المقسومتان بين الرب و عبده نصفين . فنصفهما له تعلى و هو { إياك نعبد} ، و نصفهما لعبده ، و هو : { وإياك نستعين
أحمد نصيب-
- عدد المساهمات : 9959
العمر : 66
المكان : أم المدائن قفصة
المهنه : طالب علم
الهوايه : المطالعة فحسب
نقاط تحت التجربة : 24437
تاريخ التسجيل : 05/08/2007
مواضيع مماثلة
» كتاب كريستيانو رونالدو.. العالمي: كشف سر الرجل الثمين وقيم النجاح
» إياك والعجب
» إياك والكذب
» إياك أن تشارك المشركين في أعيادهم
» إياك والفتن والدخول فيها
» إياك والعجب
» إياك والكذب
» إياك أن تشارك المشركين في أعيادهم
» إياك والفتن والدخول فيها
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى