انتفاضة 1864 بالبلاد التونسية: المقدمات، الوقائع والنهايات
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
انتفاضة 1864 بالبلاد التونسية: المقدمات، الوقائع والنهايات
Rédigé par حسين الحامدي et publié depuis Overblog
القسم الأوّل
انتفاضة 1864 بالبلاد التونسية: المقدّمات
شهدت الإيالة التونسية في ربيع 1864 انتفاضة شعبية عارمة انطلقت من البلد العميق في الجنوب والغرب وهوالمجال الجغرافي للقبائل الكبرى المتنقلة وتوسعت تدريجيا لتشمل المناطق الساحلية وسائر المدن لتعمّ البلاد بأسرها. ولئن مثل قرار مضاعفة المجبى القادح المباشر لاندلاع هذه الانتفاضة، فإن جذورها تعود إلى ما كانت تعيشه البلاد في ظل الدولة الحسينية ومماليكها من استبداد بالشأن السياسي من جهة ومن حيف اقتصادي وجور اجتماعي من جهة ثانية. تقترح هذه الورقة مقاربة هذا الحدث التاريخي المهمّ في مقدماته غير المباشرة والمباشرة وفي وقائعه وأطواره وفي ما آل إليه من نهايات وسيتم تنزيلها على هذه المدونة في ثلاثة أجزاء وفقا للتخطيط المعلن.
I - في المقدمات: الإقصاء السياسي والحيف الاقتصادي والاجتماعي
مثّل الاقصاء السياسي معطى ثابتا يتجلى من خلال حكم الفرد في عهد البايات. ومثل استلاب الإرادة الشعبية سلوكا ثابتافي تسيير الشأن العام. ولقد شكل المهمشون احتماعيا ومجاليا ضحاياه الرئيسيون، حيث لم يكن لهم حظ في السلطة السياسية وفي الثروة ولعلّ سكان البلد العميق في الجنوب والغرب هم أبرز ضحايا هذا الاقصاء والتهميش ولا غرابة والحال على ما ذكرنا أن يكونوا المبادرين بالتمرّد على السلطة المركزية. ولقد اتخذ الإقصاء السياسي مظهرين أولهما الاستبداد بالسلطة السياسية وثانيهما استبعاد شرائح اجتماعية ومجالات بعينها من المشاركة في هذه السلطة وبالنتيجة حرمانها مما تتيحه هذه المشاركة من نفع مادي.
1. الإقصاء السياسي في ظل سلطة المماليك
لئن كان حكم الايالة التونسية قد استقر بيد الأسرة الحسينية منذ 1705 (1)، فإن السلطة الفعلية، على الأرض، قد انتقلت تدريجيا إلى يد المماليك الذين اضطلعوا بدور مركزي في إدارة الشأن السياسي والشأن الاقتصادي بالبلاد. فمن هم المماليك؟ وما هي السمات الرئيسية لسياساتهم فكرا وممارسة؟
1-1.من هم المماليك؟
المماليك هم عبيد من أسرى القرصنة البحرية أو ممن جرى اقتناؤهم من أسواق العبيد بإسطنبول أو تونس أو غيرهما من أسواق العبيد، اصطفاهم البايات لخدمتهم. وهم ينحدرون من أصول إيطالية ويونانية وجيورجية وشركسية، تربوا في بلاط البايات الحسينيين وارتقوا بصفة تدريجية في سلم الوظائف الإدارية والمهام السياسية حتى وصل بهم الأمر إلى بسط سلطتهم المطلقة على سكان البلاد التونسية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر وطيلة القرن التاسع عشر الذي توجوه بإعلان إفلاس البلاد سنة 1869 ثم تسليمها إلى الاستعمار الفرنسي سنة 1881. والمشهور أن المنافسة بين الماليك الشراكسة والقرج من جهة والمماليك اليونانيين كانت شديدة، ذلك أن " المماليك الجراكسة والقرج يكرهون المماليك اليونان لمبالغتهم في الملق لأسيادهم ودناءة طباعهم... ويرون فضلهم على اليونان لكونهم عريقين في الاسلام وأثمانهم أضعاف أثمان غيرهم.."(2). ولتعزيز سلطتهم، تحالف المماليك مع أعيان الحواضر الكبرى وخاصة تونس العاصمة، " البلدية" وعلماء الدين وشيوخ الطرق الدينية و"الأشراف" أو من كانوا ينسبون أنفسهم إلى "آل البيت". أما في تونس العميقة فقد ربطوا صلات وثيقة قوامها المنفعة المتبادلة مع أعيان القبائل، حيث سخروهم لخدمة مصالحهم مقابل تمكينهم من سلطة مطلقة على منظوريهم تبيح لهم السلب والابتزاز، ومثلوا ذراعهم الطولى التي لا ترحم فقر الفقراء ولا حاجة المحتاجين. كان سلاحهم في ذلك اعتماد سياسة "فرق تسد" لا فقط بين سكان المدن وسكان البوادي في المناطق الداخلية وبين أعيان القبائل وسائر أفرادها وبين القبائل في مجملها، بل بلغ بهم الأمر حد استثارة الأخ على أخيه في صورة نادرة لما بلغه الأهالي من هوان في تلك الفترة، تشهد عـــلىذلك هذه الرسالة الموجهة من أحمــد بن عمار شيخ "بيت الشريعة" بالجريد إلى الوزير الأكبر مصطفى خزندار بتاريخ 18 رجب 1280 ( 29 ديسمبر 1863) حيث يشكو أخاه ويحرّض على الاقتصاص منه بسبب امتناعه عن دفع المجبى وتزعّمه للرافضين لهذا الأمر:"...وبعد أولا سيدي ملازمين لكم بالدعاء الصالح في بيت الشريعة عقب كل درس وصلات...ويليه سيدي قد كنت أخبرتكم عن أناس لم يمتثلوا لخلاص مال الإعانة مفسدين عني، منهم أخونا ومعه تسعة أنفار الفسايدية ومعهم أناس متبعين لفسادهم وممتنعين من الإعطاء لمال الإعانة...كل ذلك من محمد بن عمار أخونا هو الذي يفسد فيهم...ومحمد هو الذي يخاصم عنهم. فبقت هذه الطائفة ممتنعين من الإعانة. أخونا هو الذي يفسد فيهم ويغويهم ولم يتركهم نخلصوا منهم الإعانة. هذا كله من أخونا محمد بن عمار. المطلوب من السيادة التعيين إلى محمد بن عمار والطائفة الذين معه...ونهيهم عن الفساد...فها نحن أخبرناكم ونظركم أعلا وأوسع ودمتم في أمان الله وحفظه والسلام." (3) ومن أكثر المماليك شهرة: مصطفى خوجة ، إسماعيل قائد السبسي ، شاكير صاحب الطابع ، يوسف صاحب الطابع ، مصطفى خزندار ، محمد خزندار، خيرالدين باشا، الجنرال رستم، الجنرال حسين....
2-1. في خصائص الفكر السياسي المملوكي
لقد اتسم تعاطي المماليك مع الشأن التونسي العام الذي ائتمنهم عليه البايات الحسينيون بسمات ترسخت مع الزمن ما حولها إلى ثقافة سياسية / فكر سياسي قائم الذات يحيل على أبشع معاني التهميش والإذلال والطغيان وشتى ضروب الابتزاز والسرقة والنهب في ظل ثقافة هجينة تتبدى من خلال لغة ركيكة وأدأب صفراء وجهل مدقع... ولقد توارثت الطبقة السياسية التونسية على مر العقود هذه الثقافة السياسية واسترشدت بها في تسيير الشأن الوطني. وأهم سمات الثقافة السياسية المملوكية:
- الاستبداد بالسلطة السياسية ضمن حلقة ضيقة من النخبة المدينية التي تتشكل من الباي وأسرته ومماليكه، وهم غالبا وزراؤه وقادة جيشه وكبار موظفي دولته، والبلدية (4) من كبار التجار وكبار مالكي الأرض والقائمين على الدين حرفة مقابل استبعاد تام للأهالي من المشاركة الفعلية في إدارة الشأن العامّ إلا من ارتضى دور التابع الأمين مثل عدد من زعماء القبائل وأعيانها وبعض القائمين على الزوايا والطرق الدينية. ويعكس هذا السلوك احتقارا حقيقيا لهؤلاء السكان الذين ينظر إليهم على أنهم مجرد رعايا يسبحون بحمد البايات ومماليكهم، خلقوا أصلا لخدمة سادتهم لا غير.
- الاستئثار بالثروة والاستحواذ عليها بشتى الأساليب غير المشروعة كالابتزاز والنهب السافر والسرقة الموصوفة بما أفضى إلى بروز "شبكة" من الأثرياء لم ينقطع ثراؤها رغم تغيّر الظروف السياسية مقابل الإبقاء على حالة الحرمان والفقر بين سائر التونسيين خاصة في المناطق الداخلية استنادا إلى مقولة مملوكية خالصة: " العربي خوذ ماله واقطع رأسه"(5). ولا يخلو تاريخ كل المماليك من عمليات السلب والنهب والسطو على الممتلكات وقد استمرت هذه الميزة لدى النخبة التونسية ولسنا في حاجة لإثبات هذا الأمر والوقائع الدالة على ذلك في تاريخ ما يسمى بالدولة الوطنية متعددة.
- نشر ثقافة هجينة تضرب في الصميم هوية الشعب من خلال ضرب لغته العربية عبر تعويضها برطانة هي خليط من اللهجات المتداولة في المنطقة المتوسطية وتحويل الدين الإسلامي إلى مجــــــــــردطقوس جامدة تفرغه من محتواه الإنساني الشامل، وليس أدل على ما تقدم من ضمور العطاء الفكري التونسي في ظل حكم المماليك.
- الاستقواء بالأجنبي والاحتماء به وقد شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر تأرجح القرار السياسي التونسي بين القنصلين الفرنسي والبريطاني وفقا لمزاج المماليك الذين تسيدوا البلاد ووفقا لأطماعهم وحساباتهم الشخصية، وقد تحوّل الأجنبي لهذا السبب إلى "شريك" في القرار السياسي الوطني.
وفي كل المراحل وفي ظل كل البايات الحسينيين لم يكن للشعب التونسي دور يذكر في الشأن العام وكان مجرد رعية تسمع وتطيع وتنزف دما وعرقا ودموعا لتوفير شتى أنواع الضرائب.
وهكذا ظل الأهالي ، أصيلو البلاد والمناطق الداخلية منها على وجه التحديد – إلا من لهج بمدح الحاكم وارتضى خدمته من زعماء القبائل وأعيانها والقائمين على الزوايا- مبعدين عن الشأن السياسي الذي انفرد به الباي ومماليكه و"البلدية" الموالين له، وكان ذلك مقصد الشعار المرفوع في انتفاضة القبائل سنة 1864 : "لا للمماليك....". ويكفي للتدليل على ذلك النظر في تركيبة "المجلس الكبير" الذي تشكل على إثر صدور دستور 1861 ، ففي معرض تعليقه على تعيين أعضاء هذا المجلس، يكتب أحمد بن أبي الضياف : " ...ومن غريب الاتفاق أن العشرين رجلا المنتخبين من رجال الدولة لم يكن فيهم من أبنائها ولادة إلا العبد الحقير ( يشير إلى نفسه) والشريف حسين بن عمرالمقرون...كما أنه من الاتفاق أن هؤلاء الرؤساء على المجالس لم يكن فيهم أحد من أبناء المملكة ولادة، بل رؤساء مجلس التحقيق والجنايات ليس فيهم من شروط الانتخاب إلا الوجاهة في هذه الدنيا وليس لهم من العلم إلا الاحساس بالأمور الضرورية....كما أنه من الاتفاق أن أهل المجلس الأكبر لم يكن منهم واحد من أهل العلم." (6).
3-1. مرتكزات الفكر السياسي المملوكي
استند هذا السلوك السياسي القائم على استثناء الأهالي - وسكان المناطق الداخلية منهم تحديدا - من إدارة الشأن العام على خلفيتين:
- خلفية استبدادية تتمثل في سيطرة الباي المطلقة ومن يفوضهم من المماليك على الشأن السياسي والإداري عامة في ظل بنية إدارية بدائية تتمثل مهمتها الأساسية في خدمة سلطة الباي وحاشيته من المماليك وبقايا الأتراك عبر تنفيذ قراراته دون مراجعة كما تتمثل في جمع الجباية المجحفة المسلطة على السكان. ولم تجد القوانين والترتيبات التي جرى سنها تحت ضغط القوى الأجنبية مثل قانون عهد الأمان سنة 1857 ودستور 1861 في الحد من هذه السلطة المطلقة، بل إن محمد الصادق باي و وزيره الأكبر المملوك مصطفى خزندار استغلا انتفاضة القبائل سنة 1864 لإيقاف العمل بالدستور وتجميد المجلس الكبير وإنهاء العمل بالنظام العدلي الجديد بتشجيع من القنصل الفرنسي آنذاك. ويورد بن أبي الضياف في معرض الإشارة إلى الحكم المطلق للباي الرد المنفعل من قبل محمد الصادق باي عندما أعلمه بعض عمال الجهات بتعذر استخلاص المجبي في صيغتها الجديدة: " أنا [محمد الصادق باي] حكمت بالغصب في الخلاص وعلى الخديم الاجتهاد في تنفيذ الأمر، وهؤلاء رعيتي، وهل ثم أحد يسألني في رعيتي؟" ويعلق ين أبي الضياف على هذا القول، " فانظر الملك المطلق إلى أين يصل" (7).
- أما الخلفية الثانية فيختلط فيها الثقافي بالتاريخي وتكاد تلامس العنصرية وتتمثلفي ما يحمله المماليك من توجس تجاه الأهالي يصل حد النقمة والكراهية، وقد اشتهرت عبارة كان يرددها المماليك في حق الأهالي: " أولاد تونس زكايط لا يصلحو لشيء" ( ما أفضى بهم إلى السعي إلى عزل الباي عن رعيته ذلك أن التوافق بين الباي والرعية من جهة واعتماد أهل البلاد في إدارة الشأن العام يعنيان انتهاء حظوتهم وما يتمتعون به من نفوذ والعودة بهم إلى دورهم الأصلي: مجرد عبيد وخدم في قصور البايات. إن هذا التوجس من الأهالي يجد جذوره في تاريخ الدولة الحسينية تحديدا، فقد شهدت هذه الدولة حربا أهلية أثارها تمرد علي باشا على عمه حسين بن علي بعد أن خلعه من ولاية العهد وذلك في سنة 1728، وأفضى هذا الصراع على السلطة السياسية في صلب العائلة الحسينية إلى انقسام البلاد بين "الصف الحسيني" : قبائل الهمامة ( سيدي بوزيد وقفصة) وجلاص (القيروان) ونفات ( بئر علي بن خليفة) وأولاد عون( سليانة) المناصر لحسين بن علي، و"الصف الباشي": قبائل ماجر والفراشيش (القصرين) وأولاد عيار (مكثر) و ورتان (الكاف) وجهة الساحل، المناصر لعلي باشا. وما يعنينا في هذا الأمر هو الدور الذي اضطلعت به القبائل المتمركزة في غرب البلاد في هذا الصراع بما أكد ما عرف عنها من نزوع إلى التمرد على السلطة المركزية واعتبارها "قوى نابذة" لا بد من "خضد شوكتها" بكل الوسائل الممكنة: التفقير المستمر والإذلال الممنهج وبث الفرقة بينها حتى لا تجتمع كلمتها أبدا ذلك أن السلطة المركزية كانت دوما أكبر المتضررين كلما اجتمعت كلمة هذه القبائل ، أوليست انتفاضة 1864 أفضل دليل على ذلك؟ لقد كان هذا السلوك القائم على الظلم والإذلال سياسة الدولة الرسمية تجاه رعاياها، سياسة يؤسس لها في المجالس المغلقة وتبتدع لها المبررات وكان الرأي السائد بين الباي ومماليكه وبقايا العساكر الأتراك ومن والاهم من البلدية ومن رجال الدين " المحترفين" " أن العربان إذا كثر مالهم ساء حالهم، وفي ثقل الجباية خضد لشوكتهم وكبح لهم عن العصيان..." (9). والواقع أن القاموس المستعمل آنذاك يزخر بمفردات تكشف عن موقف السلطة المركزية وأعوانها من هذه المجموعات البشرية المنتشرة في غرب البلاد: فهم "عربان" و"أوغاد" و"أوباش" و"عامة" و" فسايدية"( مفسدون) و "من يطلب الرزق بالفتنة" و"أهل الفساد" و"أهل العيب" و" الغوارة" ( القائمون بالغارات) (10)... وهكذا كانت السلطة المركزية - و المماليك تحديدا - تعاملهم معاملة العدو لعدوه ولهذا السبب كان إنهاء سلطة المماليك من المطالب الرئيسية لانتفاضة القبائل سنة 1864."...ويقال أنهم طلبوا أن لا تتولى عليهم الموالي من المماليك...لأن غالب المماليك وأهل الصراية ( القصر) يخرجون إليهم خروج المالك لعبيده، يرون ما يأخذونه منهم حقا واجبا وما يبقونه بأيديهم تفضلا منهم ويستعينون على ذلك باستمالة أعيانهم بالرهبة تارة وبالرغبة تارة أخرى ويجعلون لهم طعمة كسهم الكلب على المائدة ومن أمثالهم " الشجرة تحرق بعود منها"...ولا يخطر ببال الرعية الانتصاف من هؤلاء...لأن القوم من المقربين زلفى معايبهم تستر و زلاتهم تغفر" (11).
لقد جمع حكم البايات الحسينيين ومماليكهم بين الاستبداد بالشأن السياسي من جهة وإقصاء الأهالي عامة وسكان تونس الداخلية تحديدا من الممارسة السياسية. وأفضى هذا السلوك الاستبدادي الاقصائي إلى تفاقم أزمة البلاد التونسية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وإلى إغراقها في الديون ما أفضى إلى تركيز "اللجنة المالية الدولية" (12) سنة 1869 كمقدمة للاستعمار الفرنسي سنة 1881.
2- الحيف الاقتصادي الجور الاجتماعي
لازم الحيف الاقتصادي والجور الاجتماعي إدارة الشأن العام على مر القرون الثلاثة الماضية، وقد اتخذ في عهد البايات وفي ظل حكم المماليك شكل نهب الممتلكات العامة وسلب ممتلكات الرعية.
تتمثل أبلغ تجليات هذا الحيف الاقتصادي والجور الاجتماعي طيلة هذه الفترة في قيام العلاقة بين الدولة والمجتمع على جمع الجباية وقصر منافعها على العاصمة وبعض المدن المحظوظة في حين استأثر البايات وأتباعهم بالقسط الأوفر من ميزانية الدولة لتلبية نزواتهم مثل بناء القصور وحياة البذخ الفاضح، أما دواخل البلاد حيث القبائل المتنقلة فما من إنجاز يذكر وهو ما يفسر واقع التخلف الذي كانت عليه البلاد إبان الاحتلال الفرنسي سنة 1881. على أن أوجها متعددة لهذا الحيف الاقتصادي والاجتماعي تناسلت من هذه العلاقة العمودية بين جهاز الدولة ورموزها من جهة وبين الأهالي من جهة ثانية.
1-2. الاستغلال السافر للأهالي بواسطة الضرائب
فهو سلب للممتلكات حينا وإجحاف في الضريبة غالبا وإذلال متعمد للأهالي دائما. لقد أجمل شعار انتفاضة القبائل في ربيع 1864 مآخذ الثائرين على سلطة البايات ومماليكهم كما أجمل مطالبهم، "لا للمجبى ! لا للمماليك! ولا للدستور!" ، فكانت انتفاضتهم رفضا للاستغلال الاقتصادي من خلال رفضهم لمضاعفة المجبى ورفضا لاستئثار المماليك بالسلطة السياسية في البلاد وما ترتب عن هذا الأمر من فساد ومن إذلال ممنهج للأهالي ورفضا للدستور الذي كرس هيمنة المماليك المطلقة على الحكم في مختلف تفاصيله. "... وبهذا يظهر أن ضجيج المملكة (...) إنما هو لطلب التخفيف من الأداء الموظف على الرؤوس...وكذلك طلب العربان أيضا التخفيف من عشر حبوبهم... والمتفقه منهم يقول إن الزكاة أخذ من الأغنياء لسد خلة الفقراء...وزكاة بلادنا أخذ من الفقراء للزيادة في كسب الأغنياء... وكذلك مطالبتهم عزل عمالهم ومحاسبتهم معقول أيضا ليظهر مقدار المآخوذ منهم وهل وصل الدولة... ويقال أنهم طلبوا أن لا تتولى عليهم الموالي من المماليك...وطلبوا أيضا أن عمالهم ينزلون معهم ...لأن مفهوم العامل أن يكون بمحل عمله...وطلبوا أيضا أن من باع شيئا في السوق لا يلزمه أداء الضريبة الموظفة على بيعه سدا لذريعة الجور..." (13).
شكل قرار مضاعفة المجبى، وهي ضريبة على الأفراد أقرت في عهد محمد باي وقيمتها 36 ريالا لتصبح 72 ريالا، في سبتمبر 1863 القطرة التي أفاضت كأس الصبر والمعاناة، والقادح المباشر للمجاهرة بالعصيان والخروج على سلطة الباي ومماليكه. ففي الوقت الذي كان فيه السكان ينتظرون إلغاء هذه الضريبة المذلة وهي أقرب ما تكون إلى الجزية، فوجئوا بمضاعفتها وبالإلحاح في استخلاصها، " وهذا المطلب من العربان معقول لأن الأداء على الرؤوس ثقيل في نفسه ولما علم الله ثقله ضربه على أهل الذمة ليلجئهم إلى الاسلام فهو أخو السيف في الالجاء بدليل أنه يسقط حين يسلم الذمي" (14)، فرفض المجبى من قبل الأهالي علاوة على قيمتها المجحفة هو رفض لامتهان كرامتهم حيث يعاملون معاملة الذميين في بلادهم والحال أنهم مسلمون أبا عن جد ولقرون.
وفضلا عن ذلك، فإن استفادتهم مما تجنيه الدولة من مداخيل معدومة تماما فما من إنجازات تذكر لفائدة الأهالي في المناطق الداخلية حيث كانت هذه العائدات توظف في قسم منها لخلاص أصول ديون الدولة وفوائضها ويستأثر الباي وحاشيته بما يتبقى منها. وكانت إنجازات البايات تقتصر على إقامة بعض الجسور وترميم بعض الزوايا والمساجد لا غير. واستثار هذا القرار الجائر ما كمن في النفوس من شعور مُراكم بالظلم والمهانة واتخذت المطالب أبعادا شــــــــاملة منها السيــــــــاسي ومنها الاقتصــــادي
والاجتماعي. لقد كانت هذه الانتفاضة رفضا لتفرد المماليك بالسلطة واستبعاد الأهالي من إدارة شؤونهم مع ما يصحب هذا الاستبعاد من استغلال وسلب ونهب وإذلال وهتك للأعراض.
2-2. إذلال الدولة لرعاياها
وكانت هذه الانتفاضة أيضا رفضا للإذلال الذي طالما مارسه الباي ومماليكه وسائر المتنفذين من كبار التجار وملاك الأراضي من " البلدية" ومن "شيوخ الدين" في حق سائر الأهالي ومنهم "الخماسة" (15). فعلاوة عن الاجحاف في الضرائب فإن استخلاصها كان مناسبة لترويعهم و " خضد شوكتهم". وكانت عملية الاستخلاص تتم بقيادة ولي عهد الدولة الحسينية والذي يلقب "بباي الأمحال" فيخرج مرتين في السنة لهذا الغرض، محلة الصيف ومحلة الشتاء. ويتحمل السكان مستلزمات العسكر وقادته بالمناطق التي يمر بها بدءا من علف الخيول والإبل انتهاء "بعلف" الجنود وقادتهم و "الهدايا" الضرورية لإظــهارالطاعة وبذلك تكون الجباية مضاعفة. وفي الرسالة الموجهة من " محمد قعيد بن سالم وكافة المشايخ والرجالة الكبار من أولاد مهنة وشقطمة" إلى مصطفى خزندار في آخر جمادى الأولى 1278 للهجرة ( نوفمبر- ديسمبر 1863) الدليل على ما كانت تتحمله الرعية من عبء هذه المحلة: " وبعد قدم لنا الأعز جوابك صحبت أمر مولانا المطاع الواجب له الامتثال والإتباع. مضمون ذلك أن مولانا حفضه الله اقتضا نضره السعيد و رأيه الرشيد وجه الأعز العمدت نخبت الأعيان من أهل الرفعة والشان الأمير لوا سيدي فرحات ءاغة وما معه من الوجق المنصور إلى ناحيت الهمامة لفسادهم وعدم امتثالهم....وأمرتنا حفضك الله بشراء ماة قفيزا وخمسة وعشرون قفيزا شعيرا وحملها إلى الأعز سيدي فرحات لقوام الوجق المنصور معه. ها نحن على ما أمرتنا بالجد والجهد على قدر الطاقة...ودمت..."(16). كما تتخلل هذه الحملات وقائع فيها الكثير من الإذلال للأهالي ويروي ابن أبي الضياف في معرض سرده لوقائع مقتل فرحات عامل الكاف أثناء الانتفاضة ( 16 أفريل 1864) الواقعة التالية:" ... وقتل معه (أي عامل الكاف فرحات) كاتبه أبو الحسن علي النقبي، وأتباعه محمد بوحوش وآخر اسمه حمدة بربار وانجرح بعض أتباعه. ويقال أن الذي ضرب تابعه حمدة بربار قال له: " أتتذكر إذ أتيتك بقصعة لم يعجبك طعامها فكسرتها بضربها على رأسي بطعامي؟ هذا جوابك «،وضربه فخر قتيلا." (17)
3-2. دولة النهب والفساد
وكانت هذه الانتفاضة كذلك رفضا للفساد الذي كان يسود البلاد ويتزعمه المماليك وما يرافقه من ظلم وامتهان للكرامة البشرية، والوقائع الدالة على هذا الفساد لا حصر لها وسنكتفي بالإشارة إلى بعض الأمثلة منها. ففي رسالة موجهة إلى الوزير الأكبر مضطفى خزندار في جمادى الأولى سنة 1278 للهجرة ( نوفمبر – ديسمبر 1861)، يشكو مشايخ قبيلة ماجر ( أولاد مهنة وشقطمة) من عسف القايد المتولي أمرهم، الحاج محمد قعيد بن سالم: " ...وفي علم سيدنا ما حل بنا من جانب المكرم الأجل قايدنا سي الحاج قعيد في السنة الفارطة وما أخذه منا زائدا فوق مأمورات مولانا أيده الله آمين من الجمال والخيل والكباش والشعير...ولم يعط التذاكر في ما يقبله وظهر لسيدي وصلحتنا نحن و إياه. وفي علمنا يرجع عن قبيح فعله. فلم يرجع عن فعله وازداد مكرا ....مطلوبنا من سيدي أن تفهم بواقعنا مولانا أيده الله وتفكنا من هذا الرجل...فكنا من هذا الراجل لوجه الله والمأمورات التي علينا خلصت ولا بقا منها ألا جد قليل تافه ونحن عرفناك بأمورنا ونظرك أعلا...."(18) ولقد كان هذا الفساد منظما من قبل المماليك وخصوصا الوزير الأكبر مصطفى خزندار الذي راكم بشتى أساليب التحيل والنهب السافر ثروة طائلة وشمل ضرر سياسته هذه المالية العمومية وبعضا من أثرياء البلاد من كبار التجار والفلاحينمن البلدية ومن أعيان القبائل. " ولما خلف أحمد باي أخاه مصطفى على العرش الحسيني اتخذ من مصطفى خزندار وزيره الأكبر. وسرعان ما كشف مصطفى عن عميق هواه للثروة والمال والذهب ولم ينقطع عنه هذا الهوى بل تفاقم بصاحبه دون هوادة حتى انتهى به الأمر إلى أن يضحي في سبيله بثروة البلاد وبالمتساكنين أنفسهم بل وبأمن الملك صاحب نعمته..." (19). وشكل مصطفى خزندار بسبب استمراره على رأس الوزارة الكبرى طيلة أربعة عقود في ظل البايات أحمد (1837- 1855) ومحمد ( 1855 – 1859) و محمد الصادق ( 1859- 1882) شبكة من الفاسدين من موظفي الدولة ومن الأعيان سخرها لنهب الأموال والتلاعب بمقدرات البلاد ومن هؤلاء محمود بن عياد " الذي كانت إدارته كارثة على البلاد التونسية إذ ...جمع ثروة اطمأن عليها بتحويلها إلى الخارج وتقدر بخمسين أو ستين مليون من الفرنك ( الفرنسي)..." (20) ونسيم شمامة " الذي كان قابض مال خاص عند مصطفى خزندار ولم يكن له ثروة كبيرة وبمجرد توليه منصب محمود بن عياد حتى سرعان ما صار يتمتع بامتلاك ثروة طائلة إلى حد أنه استطاع بمفرده أن يقرض الحكومة التونسية مبلغا من المال قدره 12 مليون من الفرنك ثم حمل معه لما فر إلى الخارج مبلغا من المال ربما يقدر عده 25 أو 30 مليون من الفرنك..." (21)، علاوة عن العمال الذين كانوا يدينون له بالولاء ويقاسمونه ما ينهبونه من السكان تحت عناوين شتى أهمها الضرائب خاصة وأنهم كانوا يشترون خططهم الوظيفية ويدفعون له مباشرة.
وقد ضمن المفتش الفرنسي فرنسوا فيللي ، عضو اللجنة المالية لسنة 1869، في تقريره حول المالية التونسية أمثلة متعددة حول أساليب الوزير الأكبر وشبكته في السلب والنهب والسرقة الموصوفة. و دفع هذا السلوك الجائر عددا من الرعايا ومنهم بعض رجال الدين إلى الاحتماء بالقنصليتين الفرنسية والإنكليزية للنجاة بأرواحهم وأعراضهم وممتلكاتهم كما فضل البعض منهم الفرار من البلاد والاستقرار بمصر واسطمبول وفرنسا. ومن أمثلة نهب المماليك وأزلامهم للمال العام، الاستئثار باللزم ( الصفقات العمومية) والتلاعب بأجور الموظفين لتحقيق ربح ذريع وغير مشروع ومضر بمصالح السكان وسنكتفي باقتباس مثال عن كل حالة من تقرير فيللي.
مثال التلاعب بلزمة محصول القمارق: " احتفظ نسيم شمامة لنفسه لمدة خمس عشرة سنة بامتياز محصول القمارق بتونس مقابل ثمن قدره 300 ألف ريال بينما تقدم غيره للحصول على ذلك الامتياز وعرض المرة تلو الأخرى ثمنا يفوق ثلاث أو أربع مرات مقدار الثلاثمائة ألف ريال ومع ذلك تمكن نسيم شمامة من الاحتفاظ بهذا الامتياز موضحا أنه امتياز راجع في الواقع إلى الوزير الأكبر وما هو في الواقع إلا عون له" (22).
مثال عن التلاعب بخلاص أجور موظفي الدولة: " لقد كانت مرتبات أعوان الحكومة وجميع مصاريف الحكومة تدفع على صورة تذاكر ( تسكرة) من الباي تسلم للمستحقين. فهذه التذاكر كانت مناسبة استغلها مصطفى خزندار لتوفير أرباحه وذلك بأن يقع تأجيل دفع مبالغ التذاكر عن أوقاتها حتى يصبح أصحابها مع مرور الأيام في حاجة ماسة إلى مبالغها فيضطرون خوفا من خسارة كامل مبالغها إلى ما يعرضه عليهم قابض مال الحكومة القائد نسيم شمامة من التنازل على 70 % من مبلغ التذكرة ولا يقبضون إلا 30 % منه أما نسيم شمامة فيسجل في كتاب حسابات الدولة أنه دفع كامل المبلغ...." (23).
4-2. الأزمة المالية وقرار تضعيف المجبى وتعميمها
تفاقمت الأزمة المالية للبلاد التونسية منذ مطلع ستينات القرن التاسع عشر وتمثلت في تفوق المصاريف على المداخيل. فقد أصبحت المداخيل قاصرة عن الإيفاء بالتزامات الدولة تجاه دائنيها " وذلك أنه تعين من دخل المملكة قدر عظيم لفائدته ( أي الدين) وأصله في كل سنة، لا يقبل التأخير عند حلول اجله، ومقداره أكثر من أربعة ملايين فرنك، وذلك أكثر من ثلث دخل المملكة بجميع أنواعه...لأن جميعها لا يصل إلى الخمسة عشر مليونا ريالات تونس..." (24). كما أصبحت عاجزة عن الاستجابة لمصاريف الباي وأسرته وسائر أعوان الدولة على اختلاف رتبهم" لأن مرتب الملك وحده مليون ومائتا ألف، ومرتب آله أكثر من مليون، ومرتب الوزراء والرؤساء وأعضاء المجالس والكتاب والعمال والجند وغيرهم من ذوي الألقاب ثلاثة ملايين وخمسمائة ألف.... وغالب هذه المرتبات تدفع منجمة على الأشهر..." (25). وكان الحل المتاح هو واحد من أمرين: الضغط على مصاريف الدولة أو الزيادة في مداخيلها. غير أن الحل الثاني – على قلة وجاهته ومنافاته لواقع الأمور- هو الذي كان الأكثر حضورا في المجالس التي خصصها الباي للنظر في المسألة، ولم ينصت الباي للحجج التي قدمها أمير الامراء حسين رئيس المجلس البلدي بالحاضرة الذي خاطبه بالقول، " يا سيدي ، إن هذه المملكة لا قدرة لها على احتمال شيء زائد ، وهي من الموجود في خطر، فحالها كحال البقرة إذا حلب ضرعها حتى خرج الدم، فهي الآن ينزو ضرعها بالدم، وولدها بمضيعة والعطب أقرب إليها من السلامة" (26) وغيره ممن ذهب مذهبه من خاصة أعضاء المجلس مثل خير الدين باشا ، بل أنصت إلى دعاة الزيادة في الدخل عبر الترفيع في الضرائب واستحسن رأيهم و " دعا بتكثير أمثالهم في الأعيان" (27). وكان الرأي النهائي لحل معضلة الميزانية هو " ...أن مال الإعانة يزاد عليه مثله ويكون عاما في سائر بلدان المملكة من غير استثناء ولا اعتبار لحال الدافع"(28) ويعلق ابن أبي الضياف على القرار بقوله:
"وسيقت المدن التي استثناها منشور الإعانة مساق عربان البوادي" (29) ويبدو أن ذلك ما ساءه في الأمر كله، إذ كيف يستوي سكان هذه المدن والعربان؟؟؟ وفي جمادى الثانية من سنة 1280 للهجرة ( نوفمبر- ديسمبر 1863)، أصدر الباي المنشور المنظم لأداء الإعانة و وجهه إلى العمال "... وبعد،...اقتضت المصلحة الآن أن تكون الإعانة إثنين وسبعين ريالا في العام، يدفعها كل نفر من الأنفار المقيدة أسماؤهم بدفتر عملكم. فالعمل أن تعلموا من لنظركم بذلك وتحرضوهم على المناجزة في الخلاص وتجتهدوا في ذلك. ومن يخلص في إعانته يأخذ حجة الخلاص في ذلك لتكون بيده دليلا على خلاصه ومبدأ ذلك من عام ثمانين عجمي ( الصواب: هجري). وتحذروا جميع أهل عملكم من التراخي. والله ولي إعانتكم والسلام". (30) وهكذا جمع هذا القرار بين أمرين: تعميم توظيف ضريبة "الإعانة" على كافة سكان البلاد وتضعيف قيمتها وبذلك توسعت دائرة المتضررين من هذا القرار.
لقد مثلت انتفاضة القبائل في ربيع 1864 رفضا لنظام سياسي واقتصادي واجتماعي جائر- بالرغم من عدم استهدافها للباي في شخصه وفي رمزيته - سمته الأساسية هي إقصاء الأهالي من المشاركة في إدارة الشأن العام وحرمانهم من الاستفادة من الثروة مقابل استئثار المماليك وأتباعهم بامتياز السلطة والثروة. وهي لهذا السبب بالذات مطالبة صريحة بالشراكة الحقيقية في الوطن، شراكة من شأنها أن تتيح إنهاء المظالم من جهة والاستفادة من الثروة من جهة ثانية وكان ذلك هو جوهر شعارها الأساسي: " لا للمماليك، لا للمجبى ولا للدستور".
هوامش القسم الأوّل
(1) تأسّست الدولة الحسينية سنة 1705 على يد حسين بن علي التركي بعد أن بايعه " أهل الحل والعقد" في تونس العاصمة لدرء مخاطر الفوضى والاضطراب التي كانت تهدد البلاد، وزالت هذه الدولة سنة 1957 بإعلان النظام الجمهوري.
(2) توفيق البشروش، ربيع العربان، بيت الحكمة 1991، ص 90-91.
(3) احمد بن أبي الضياف، إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان، ج 5، ص 129، الدار التونسية للنشر، 1990.
(4) عبارة تونسية تشير إلى ساكنة المدن وخاصة العاصمة تونس وهي مشتقة من كلمة "البلاد" أي المدينة أو الحاضرة ولا تزال متداولة إلى اليوم في بعض الجهات. وتحمل هذه العبارة معاني التعالي على بقية مكونات المجتمع التونسي، فالبلدية والأعيان منهم على وجه الخصوص يحتكرون السلطة الدينية والنفوذ الاقتصادي ويتمتعون بالوجاهة الاجتماعية وكانوا ولا يزالون طرفا أساسيا في الحكم.
(5) الاتحاف، ج 5، ص 129.
(6) الاتحاف، ج 5، ص 44.
(7) الإتحاف، ج 5، ص 122.
(8 الاتحاف، ج 8، ص 185، زكايط، مفردها زكطي: لئيم، خبيث، شرير.
(9) الاتحاف، ج 5، ص 129.
(10) أنظر الاتحاف، ج 5 ومقال محمد الهادي الشريف المذكور سابقا.
(11) الاتحاف، ج 5، ث 148.
(12) صدر القرار القاضي بتشكيل اللجنة المالية الدولية في 5 جويلية 1869 وهي تمثل مصالح كبار مقرضي الدولة التونسية وتسهر على التصرف في المالية العمومية بما يضمن مصالح الدائنين وتتركب من ممثلين عن فرنسا وانقلترا وإيطاليا ويرأسها المملوك خيرالدين باشا التونسي.
(13) الإتحاف، ج 5، ص 147 و148.
(14) المصدر السابق، ص 146.
(15) للمزيد: الهادي التمومي، " الاستعمار الرأسمالي والتشكيلات الاجتماعية ماقبل الرأسمالية..."، ج 1، 1999.
(16) توفيق البشروش، ربيع العربان، بيت الحكمة 1991، ص 61.
(17) الاتحاف، ج 5، ص 159.
(18) توفيق البشروش، ربيع العربان، بيت الحكمة 1991، ص 56-57.( يقرأ النص بالعامية التونسية).
(19) محمد السنوسي، الرحلة الحجازية، ج 2، ص 488.
(20) المصدر السابق، ص 493.
(21) المصدر السابق، ص 494.
(22) المصدر السابق، ص 494.
(23) المصدر السابق، ص 495.
(24) الاتحاف، ج 5، ص 127
(25) المصدر السابق، ص 127-128 .
(26) المصدر السابق، ص 129.
(27) المصدر السابق، ص 130.
(28) المصدر السابق، ص 130، المدن المستثناة سابقا من أداء الإعانة هي: القيروان، سوسة، المنستير، كما استثني من ذلك سكان العاصمة والموظفون والعسكر والطلبة والعلماء ويهود الحاضرة.
(29) المصدر السابق، ص 131.
(30) الإتحاف، ج 5، ص 132.
القسم الأوّل
انتفاضة 1864 بالبلاد التونسية: المقدّمات
شهدت الإيالة التونسية في ربيع 1864 انتفاضة شعبية عارمة انطلقت من البلد العميق في الجنوب والغرب وهوالمجال الجغرافي للقبائل الكبرى المتنقلة وتوسعت تدريجيا لتشمل المناطق الساحلية وسائر المدن لتعمّ البلاد بأسرها. ولئن مثل قرار مضاعفة المجبى القادح المباشر لاندلاع هذه الانتفاضة، فإن جذورها تعود إلى ما كانت تعيشه البلاد في ظل الدولة الحسينية ومماليكها من استبداد بالشأن السياسي من جهة ومن حيف اقتصادي وجور اجتماعي من جهة ثانية. تقترح هذه الورقة مقاربة هذا الحدث التاريخي المهمّ في مقدماته غير المباشرة والمباشرة وفي وقائعه وأطواره وفي ما آل إليه من نهايات وسيتم تنزيلها على هذه المدونة في ثلاثة أجزاء وفقا للتخطيط المعلن.
I - في المقدمات: الإقصاء السياسي والحيف الاقتصادي والاجتماعي
مثّل الاقصاء السياسي معطى ثابتا يتجلى من خلال حكم الفرد في عهد البايات. ومثل استلاب الإرادة الشعبية سلوكا ثابتافي تسيير الشأن العام. ولقد شكل المهمشون احتماعيا ومجاليا ضحاياه الرئيسيون، حيث لم يكن لهم حظ في السلطة السياسية وفي الثروة ولعلّ سكان البلد العميق في الجنوب والغرب هم أبرز ضحايا هذا الاقصاء والتهميش ولا غرابة والحال على ما ذكرنا أن يكونوا المبادرين بالتمرّد على السلطة المركزية. ولقد اتخذ الإقصاء السياسي مظهرين أولهما الاستبداد بالسلطة السياسية وثانيهما استبعاد شرائح اجتماعية ومجالات بعينها من المشاركة في هذه السلطة وبالنتيجة حرمانها مما تتيحه هذه المشاركة من نفع مادي.
1. الإقصاء السياسي في ظل سلطة المماليك
لئن كان حكم الايالة التونسية قد استقر بيد الأسرة الحسينية منذ 1705 (1)، فإن السلطة الفعلية، على الأرض، قد انتقلت تدريجيا إلى يد المماليك الذين اضطلعوا بدور مركزي في إدارة الشأن السياسي والشأن الاقتصادي بالبلاد. فمن هم المماليك؟ وما هي السمات الرئيسية لسياساتهم فكرا وممارسة؟
1-1.من هم المماليك؟
المماليك هم عبيد من أسرى القرصنة البحرية أو ممن جرى اقتناؤهم من أسواق العبيد بإسطنبول أو تونس أو غيرهما من أسواق العبيد، اصطفاهم البايات لخدمتهم. وهم ينحدرون من أصول إيطالية ويونانية وجيورجية وشركسية، تربوا في بلاط البايات الحسينيين وارتقوا بصفة تدريجية في سلم الوظائف الإدارية والمهام السياسية حتى وصل بهم الأمر إلى بسط سلطتهم المطلقة على سكان البلاد التونسية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر وطيلة القرن التاسع عشر الذي توجوه بإعلان إفلاس البلاد سنة 1869 ثم تسليمها إلى الاستعمار الفرنسي سنة 1881. والمشهور أن المنافسة بين الماليك الشراكسة والقرج من جهة والمماليك اليونانيين كانت شديدة، ذلك أن " المماليك الجراكسة والقرج يكرهون المماليك اليونان لمبالغتهم في الملق لأسيادهم ودناءة طباعهم... ويرون فضلهم على اليونان لكونهم عريقين في الاسلام وأثمانهم أضعاف أثمان غيرهم.."(2). ولتعزيز سلطتهم، تحالف المماليك مع أعيان الحواضر الكبرى وخاصة تونس العاصمة، " البلدية" وعلماء الدين وشيوخ الطرق الدينية و"الأشراف" أو من كانوا ينسبون أنفسهم إلى "آل البيت". أما في تونس العميقة فقد ربطوا صلات وثيقة قوامها المنفعة المتبادلة مع أعيان القبائل، حيث سخروهم لخدمة مصالحهم مقابل تمكينهم من سلطة مطلقة على منظوريهم تبيح لهم السلب والابتزاز، ومثلوا ذراعهم الطولى التي لا ترحم فقر الفقراء ولا حاجة المحتاجين. كان سلاحهم في ذلك اعتماد سياسة "فرق تسد" لا فقط بين سكان المدن وسكان البوادي في المناطق الداخلية وبين أعيان القبائل وسائر أفرادها وبين القبائل في مجملها، بل بلغ بهم الأمر حد استثارة الأخ على أخيه في صورة نادرة لما بلغه الأهالي من هوان في تلك الفترة، تشهد عـــلىذلك هذه الرسالة الموجهة من أحمــد بن عمار شيخ "بيت الشريعة" بالجريد إلى الوزير الأكبر مصطفى خزندار بتاريخ 18 رجب 1280 ( 29 ديسمبر 1863) حيث يشكو أخاه ويحرّض على الاقتصاص منه بسبب امتناعه عن دفع المجبى وتزعّمه للرافضين لهذا الأمر:"...وبعد أولا سيدي ملازمين لكم بالدعاء الصالح في بيت الشريعة عقب كل درس وصلات...ويليه سيدي قد كنت أخبرتكم عن أناس لم يمتثلوا لخلاص مال الإعانة مفسدين عني، منهم أخونا ومعه تسعة أنفار الفسايدية ومعهم أناس متبعين لفسادهم وممتنعين من الإعطاء لمال الإعانة...كل ذلك من محمد بن عمار أخونا هو الذي يفسد فيهم...ومحمد هو الذي يخاصم عنهم. فبقت هذه الطائفة ممتنعين من الإعانة. أخونا هو الذي يفسد فيهم ويغويهم ولم يتركهم نخلصوا منهم الإعانة. هذا كله من أخونا محمد بن عمار. المطلوب من السيادة التعيين إلى محمد بن عمار والطائفة الذين معه...ونهيهم عن الفساد...فها نحن أخبرناكم ونظركم أعلا وأوسع ودمتم في أمان الله وحفظه والسلام." (3) ومن أكثر المماليك شهرة: مصطفى خوجة ، إسماعيل قائد السبسي ، شاكير صاحب الطابع ، يوسف صاحب الطابع ، مصطفى خزندار ، محمد خزندار، خيرالدين باشا، الجنرال رستم، الجنرال حسين....
2-1. في خصائص الفكر السياسي المملوكي
لقد اتسم تعاطي المماليك مع الشأن التونسي العام الذي ائتمنهم عليه البايات الحسينيون بسمات ترسخت مع الزمن ما حولها إلى ثقافة سياسية / فكر سياسي قائم الذات يحيل على أبشع معاني التهميش والإذلال والطغيان وشتى ضروب الابتزاز والسرقة والنهب في ظل ثقافة هجينة تتبدى من خلال لغة ركيكة وأدأب صفراء وجهل مدقع... ولقد توارثت الطبقة السياسية التونسية على مر العقود هذه الثقافة السياسية واسترشدت بها في تسيير الشأن الوطني. وأهم سمات الثقافة السياسية المملوكية:
- الاستبداد بالسلطة السياسية ضمن حلقة ضيقة من النخبة المدينية التي تتشكل من الباي وأسرته ومماليكه، وهم غالبا وزراؤه وقادة جيشه وكبار موظفي دولته، والبلدية (4) من كبار التجار وكبار مالكي الأرض والقائمين على الدين حرفة مقابل استبعاد تام للأهالي من المشاركة الفعلية في إدارة الشأن العامّ إلا من ارتضى دور التابع الأمين مثل عدد من زعماء القبائل وأعيانها وبعض القائمين على الزوايا والطرق الدينية. ويعكس هذا السلوك احتقارا حقيقيا لهؤلاء السكان الذين ينظر إليهم على أنهم مجرد رعايا يسبحون بحمد البايات ومماليكهم، خلقوا أصلا لخدمة سادتهم لا غير.
- الاستئثار بالثروة والاستحواذ عليها بشتى الأساليب غير المشروعة كالابتزاز والنهب السافر والسرقة الموصوفة بما أفضى إلى بروز "شبكة" من الأثرياء لم ينقطع ثراؤها رغم تغيّر الظروف السياسية مقابل الإبقاء على حالة الحرمان والفقر بين سائر التونسيين خاصة في المناطق الداخلية استنادا إلى مقولة مملوكية خالصة: " العربي خوذ ماله واقطع رأسه"(5). ولا يخلو تاريخ كل المماليك من عمليات السلب والنهب والسطو على الممتلكات وقد استمرت هذه الميزة لدى النخبة التونسية ولسنا في حاجة لإثبات هذا الأمر والوقائع الدالة على ذلك في تاريخ ما يسمى بالدولة الوطنية متعددة.
- نشر ثقافة هجينة تضرب في الصميم هوية الشعب من خلال ضرب لغته العربية عبر تعويضها برطانة هي خليط من اللهجات المتداولة في المنطقة المتوسطية وتحويل الدين الإسلامي إلى مجــــــــــردطقوس جامدة تفرغه من محتواه الإنساني الشامل، وليس أدل على ما تقدم من ضمور العطاء الفكري التونسي في ظل حكم المماليك.
- الاستقواء بالأجنبي والاحتماء به وقد شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر تأرجح القرار السياسي التونسي بين القنصلين الفرنسي والبريطاني وفقا لمزاج المماليك الذين تسيدوا البلاد ووفقا لأطماعهم وحساباتهم الشخصية، وقد تحوّل الأجنبي لهذا السبب إلى "شريك" في القرار السياسي الوطني.
وفي كل المراحل وفي ظل كل البايات الحسينيين لم يكن للشعب التونسي دور يذكر في الشأن العام وكان مجرد رعية تسمع وتطيع وتنزف دما وعرقا ودموعا لتوفير شتى أنواع الضرائب.
وهكذا ظل الأهالي ، أصيلو البلاد والمناطق الداخلية منها على وجه التحديد – إلا من لهج بمدح الحاكم وارتضى خدمته من زعماء القبائل وأعيانها والقائمين على الزوايا- مبعدين عن الشأن السياسي الذي انفرد به الباي ومماليكه و"البلدية" الموالين له، وكان ذلك مقصد الشعار المرفوع في انتفاضة القبائل سنة 1864 : "لا للمماليك....". ويكفي للتدليل على ذلك النظر في تركيبة "المجلس الكبير" الذي تشكل على إثر صدور دستور 1861 ، ففي معرض تعليقه على تعيين أعضاء هذا المجلس، يكتب أحمد بن أبي الضياف : " ...ومن غريب الاتفاق أن العشرين رجلا المنتخبين من رجال الدولة لم يكن فيهم من أبنائها ولادة إلا العبد الحقير ( يشير إلى نفسه) والشريف حسين بن عمرالمقرون...كما أنه من الاتفاق أن هؤلاء الرؤساء على المجالس لم يكن فيهم أحد من أبناء المملكة ولادة، بل رؤساء مجلس التحقيق والجنايات ليس فيهم من شروط الانتخاب إلا الوجاهة في هذه الدنيا وليس لهم من العلم إلا الاحساس بالأمور الضرورية....كما أنه من الاتفاق أن أهل المجلس الأكبر لم يكن منهم واحد من أهل العلم." (6).
3-1. مرتكزات الفكر السياسي المملوكي
استند هذا السلوك السياسي القائم على استثناء الأهالي - وسكان المناطق الداخلية منهم تحديدا - من إدارة الشأن العام على خلفيتين:
- خلفية استبدادية تتمثل في سيطرة الباي المطلقة ومن يفوضهم من المماليك على الشأن السياسي والإداري عامة في ظل بنية إدارية بدائية تتمثل مهمتها الأساسية في خدمة سلطة الباي وحاشيته من المماليك وبقايا الأتراك عبر تنفيذ قراراته دون مراجعة كما تتمثل في جمع الجباية المجحفة المسلطة على السكان. ولم تجد القوانين والترتيبات التي جرى سنها تحت ضغط القوى الأجنبية مثل قانون عهد الأمان سنة 1857 ودستور 1861 في الحد من هذه السلطة المطلقة، بل إن محمد الصادق باي و وزيره الأكبر المملوك مصطفى خزندار استغلا انتفاضة القبائل سنة 1864 لإيقاف العمل بالدستور وتجميد المجلس الكبير وإنهاء العمل بالنظام العدلي الجديد بتشجيع من القنصل الفرنسي آنذاك. ويورد بن أبي الضياف في معرض الإشارة إلى الحكم المطلق للباي الرد المنفعل من قبل محمد الصادق باي عندما أعلمه بعض عمال الجهات بتعذر استخلاص المجبي في صيغتها الجديدة: " أنا [محمد الصادق باي] حكمت بالغصب في الخلاص وعلى الخديم الاجتهاد في تنفيذ الأمر، وهؤلاء رعيتي، وهل ثم أحد يسألني في رعيتي؟" ويعلق ين أبي الضياف على هذا القول، " فانظر الملك المطلق إلى أين يصل" (7).
- أما الخلفية الثانية فيختلط فيها الثقافي بالتاريخي وتكاد تلامس العنصرية وتتمثلفي ما يحمله المماليك من توجس تجاه الأهالي يصل حد النقمة والكراهية، وقد اشتهرت عبارة كان يرددها المماليك في حق الأهالي: " أولاد تونس زكايط لا يصلحو لشيء" ( ما أفضى بهم إلى السعي إلى عزل الباي عن رعيته ذلك أن التوافق بين الباي والرعية من جهة واعتماد أهل البلاد في إدارة الشأن العام يعنيان انتهاء حظوتهم وما يتمتعون به من نفوذ والعودة بهم إلى دورهم الأصلي: مجرد عبيد وخدم في قصور البايات. إن هذا التوجس من الأهالي يجد جذوره في تاريخ الدولة الحسينية تحديدا، فقد شهدت هذه الدولة حربا أهلية أثارها تمرد علي باشا على عمه حسين بن علي بعد أن خلعه من ولاية العهد وذلك في سنة 1728، وأفضى هذا الصراع على السلطة السياسية في صلب العائلة الحسينية إلى انقسام البلاد بين "الصف الحسيني" : قبائل الهمامة ( سيدي بوزيد وقفصة) وجلاص (القيروان) ونفات ( بئر علي بن خليفة) وأولاد عون( سليانة) المناصر لحسين بن علي، و"الصف الباشي": قبائل ماجر والفراشيش (القصرين) وأولاد عيار (مكثر) و ورتان (الكاف) وجهة الساحل، المناصر لعلي باشا. وما يعنينا في هذا الأمر هو الدور الذي اضطلعت به القبائل المتمركزة في غرب البلاد في هذا الصراع بما أكد ما عرف عنها من نزوع إلى التمرد على السلطة المركزية واعتبارها "قوى نابذة" لا بد من "خضد شوكتها" بكل الوسائل الممكنة: التفقير المستمر والإذلال الممنهج وبث الفرقة بينها حتى لا تجتمع كلمتها أبدا ذلك أن السلطة المركزية كانت دوما أكبر المتضررين كلما اجتمعت كلمة هذه القبائل ، أوليست انتفاضة 1864 أفضل دليل على ذلك؟ لقد كان هذا السلوك القائم على الظلم والإذلال سياسة الدولة الرسمية تجاه رعاياها، سياسة يؤسس لها في المجالس المغلقة وتبتدع لها المبررات وكان الرأي السائد بين الباي ومماليكه وبقايا العساكر الأتراك ومن والاهم من البلدية ومن رجال الدين " المحترفين" " أن العربان إذا كثر مالهم ساء حالهم، وفي ثقل الجباية خضد لشوكتهم وكبح لهم عن العصيان..." (9). والواقع أن القاموس المستعمل آنذاك يزخر بمفردات تكشف عن موقف السلطة المركزية وأعوانها من هذه المجموعات البشرية المنتشرة في غرب البلاد: فهم "عربان" و"أوغاد" و"أوباش" و"عامة" و" فسايدية"( مفسدون) و "من يطلب الرزق بالفتنة" و"أهل الفساد" و"أهل العيب" و" الغوارة" ( القائمون بالغارات) (10)... وهكذا كانت السلطة المركزية - و المماليك تحديدا - تعاملهم معاملة العدو لعدوه ولهذا السبب كان إنهاء سلطة المماليك من المطالب الرئيسية لانتفاضة القبائل سنة 1864."...ويقال أنهم طلبوا أن لا تتولى عليهم الموالي من المماليك...لأن غالب المماليك وأهل الصراية ( القصر) يخرجون إليهم خروج المالك لعبيده، يرون ما يأخذونه منهم حقا واجبا وما يبقونه بأيديهم تفضلا منهم ويستعينون على ذلك باستمالة أعيانهم بالرهبة تارة وبالرغبة تارة أخرى ويجعلون لهم طعمة كسهم الكلب على المائدة ومن أمثالهم " الشجرة تحرق بعود منها"...ولا يخطر ببال الرعية الانتصاف من هؤلاء...لأن القوم من المقربين زلفى معايبهم تستر و زلاتهم تغفر" (11).
لقد جمع حكم البايات الحسينيين ومماليكهم بين الاستبداد بالشأن السياسي من جهة وإقصاء الأهالي عامة وسكان تونس الداخلية تحديدا من الممارسة السياسية. وأفضى هذا السلوك الاستبدادي الاقصائي إلى تفاقم أزمة البلاد التونسية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وإلى إغراقها في الديون ما أفضى إلى تركيز "اللجنة المالية الدولية" (12) سنة 1869 كمقدمة للاستعمار الفرنسي سنة 1881.
2- الحيف الاقتصادي الجور الاجتماعي
لازم الحيف الاقتصادي والجور الاجتماعي إدارة الشأن العام على مر القرون الثلاثة الماضية، وقد اتخذ في عهد البايات وفي ظل حكم المماليك شكل نهب الممتلكات العامة وسلب ممتلكات الرعية.
تتمثل أبلغ تجليات هذا الحيف الاقتصادي والجور الاجتماعي طيلة هذه الفترة في قيام العلاقة بين الدولة والمجتمع على جمع الجباية وقصر منافعها على العاصمة وبعض المدن المحظوظة في حين استأثر البايات وأتباعهم بالقسط الأوفر من ميزانية الدولة لتلبية نزواتهم مثل بناء القصور وحياة البذخ الفاضح، أما دواخل البلاد حيث القبائل المتنقلة فما من إنجاز يذكر وهو ما يفسر واقع التخلف الذي كانت عليه البلاد إبان الاحتلال الفرنسي سنة 1881. على أن أوجها متعددة لهذا الحيف الاقتصادي والاجتماعي تناسلت من هذه العلاقة العمودية بين جهاز الدولة ورموزها من جهة وبين الأهالي من جهة ثانية.
1-2. الاستغلال السافر للأهالي بواسطة الضرائب
فهو سلب للممتلكات حينا وإجحاف في الضريبة غالبا وإذلال متعمد للأهالي دائما. لقد أجمل شعار انتفاضة القبائل في ربيع 1864 مآخذ الثائرين على سلطة البايات ومماليكهم كما أجمل مطالبهم، "لا للمجبى ! لا للمماليك! ولا للدستور!" ، فكانت انتفاضتهم رفضا للاستغلال الاقتصادي من خلال رفضهم لمضاعفة المجبى ورفضا لاستئثار المماليك بالسلطة السياسية في البلاد وما ترتب عن هذا الأمر من فساد ومن إذلال ممنهج للأهالي ورفضا للدستور الذي كرس هيمنة المماليك المطلقة على الحكم في مختلف تفاصيله. "... وبهذا يظهر أن ضجيج المملكة (...) إنما هو لطلب التخفيف من الأداء الموظف على الرؤوس...وكذلك طلب العربان أيضا التخفيف من عشر حبوبهم... والمتفقه منهم يقول إن الزكاة أخذ من الأغنياء لسد خلة الفقراء...وزكاة بلادنا أخذ من الفقراء للزيادة في كسب الأغنياء... وكذلك مطالبتهم عزل عمالهم ومحاسبتهم معقول أيضا ليظهر مقدار المآخوذ منهم وهل وصل الدولة... ويقال أنهم طلبوا أن لا تتولى عليهم الموالي من المماليك...وطلبوا أيضا أن عمالهم ينزلون معهم ...لأن مفهوم العامل أن يكون بمحل عمله...وطلبوا أيضا أن من باع شيئا في السوق لا يلزمه أداء الضريبة الموظفة على بيعه سدا لذريعة الجور..." (13).
شكل قرار مضاعفة المجبى، وهي ضريبة على الأفراد أقرت في عهد محمد باي وقيمتها 36 ريالا لتصبح 72 ريالا، في سبتمبر 1863 القطرة التي أفاضت كأس الصبر والمعاناة، والقادح المباشر للمجاهرة بالعصيان والخروج على سلطة الباي ومماليكه. ففي الوقت الذي كان فيه السكان ينتظرون إلغاء هذه الضريبة المذلة وهي أقرب ما تكون إلى الجزية، فوجئوا بمضاعفتها وبالإلحاح في استخلاصها، " وهذا المطلب من العربان معقول لأن الأداء على الرؤوس ثقيل في نفسه ولما علم الله ثقله ضربه على أهل الذمة ليلجئهم إلى الاسلام فهو أخو السيف في الالجاء بدليل أنه يسقط حين يسلم الذمي" (14)، فرفض المجبى من قبل الأهالي علاوة على قيمتها المجحفة هو رفض لامتهان كرامتهم حيث يعاملون معاملة الذميين في بلادهم والحال أنهم مسلمون أبا عن جد ولقرون.
وفضلا عن ذلك، فإن استفادتهم مما تجنيه الدولة من مداخيل معدومة تماما فما من إنجازات تذكر لفائدة الأهالي في المناطق الداخلية حيث كانت هذه العائدات توظف في قسم منها لخلاص أصول ديون الدولة وفوائضها ويستأثر الباي وحاشيته بما يتبقى منها. وكانت إنجازات البايات تقتصر على إقامة بعض الجسور وترميم بعض الزوايا والمساجد لا غير. واستثار هذا القرار الجائر ما كمن في النفوس من شعور مُراكم بالظلم والمهانة واتخذت المطالب أبعادا شــــــــاملة منها السيــــــــاسي ومنها الاقتصــــادي
والاجتماعي. لقد كانت هذه الانتفاضة رفضا لتفرد المماليك بالسلطة واستبعاد الأهالي من إدارة شؤونهم مع ما يصحب هذا الاستبعاد من استغلال وسلب ونهب وإذلال وهتك للأعراض.
2-2. إذلال الدولة لرعاياها
وكانت هذه الانتفاضة أيضا رفضا للإذلال الذي طالما مارسه الباي ومماليكه وسائر المتنفذين من كبار التجار وملاك الأراضي من " البلدية" ومن "شيوخ الدين" في حق سائر الأهالي ومنهم "الخماسة" (15). فعلاوة عن الاجحاف في الضرائب فإن استخلاصها كان مناسبة لترويعهم و " خضد شوكتهم". وكانت عملية الاستخلاص تتم بقيادة ولي عهد الدولة الحسينية والذي يلقب "بباي الأمحال" فيخرج مرتين في السنة لهذا الغرض، محلة الصيف ومحلة الشتاء. ويتحمل السكان مستلزمات العسكر وقادته بالمناطق التي يمر بها بدءا من علف الخيول والإبل انتهاء "بعلف" الجنود وقادتهم و "الهدايا" الضرورية لإظــهارالطاعة وبذلك تكون الجباية مضاعفة. وفي الرسالة الموجهة من " محمد قعيد بن سالم وكافة المشايخ والرجالة الكبار من أولاد مهنة وشقطمة" إلى مصطفى خزندار في آخر جمادى الأولى 1278 للهجرة ( نوفمبر- ديسمبر 1863) الدليل على ما كانت تتحمله الرعية من عبء هذه المحلة: " وبعد قدم لنا الأعز جوابك صحبت أمر مولانا المطاع الواجب له الامتثال والإتباع. مضمون ذلك أن مولانا حفضه الله اقتضا نضره السعيد و رأيه الرشيد وجه الأعز العمدت نخبت الأعيان من أهل الرفعة والشان الأمير لوا سيدي فرحات ءاغة وما معه من الوجق المنصور إلى ناحيت الهمامة لفسادهم وعدم امتثالهم....وأمرتنا حفضك الله بشراء ماة قفيزا وخمسة وعشرون قفيزا شعيرا وحملها إلى الأعز سيدي فرحات لقوام الوجق المنصور معه. ها نحن على ما أمرتنا بالجد والجهد على قدر الطاقة...ودمت..."(16). كما تتخلل هذه الحملات وقائع فيها الكثير من الإذلال للأهالي ويروي ابن أبي الضياف في معرض سرده لوقائع مقتل فرحات عامل الكاف أثناء الانتفاضة ( 16 أفريل 1864) الواقعة التالية:" ... وقتل معه (أي عامل الكاف فرحات) كاتبه أبو الحسن علي النقبي، وأتباعه محمد بوحوش وآخر اسمه حمدة بربار وانجرح بعض أتباعه. ويقال أن الذي ضرب تابعه حمدة بربار قال له: " أتتذكر إذ أتيتك بقصعة لم يعجبك طعامها فكسرتها بضربها على رأسي بطعامي؟ هذا جوابك «،وضربه فخر قتيلا." (17)
3-2. دولة النهب والفساد
وكانت هذه الانتفاضة كذلك رفضا للفساد الذي كان يسود البلاد ويتزعمه المماليك وما يرافقه من ظلم وامتهان للكرامة البشرية، والوقائع الدالة على هذا الفساد لا حصر لها وسنكتفي بالإشارة إلى بعض الأمثلة منها. ففي رسالة موجهة إلى الوزير الأكبر مضطفى خزندار في جمادى الأولى سنة 1278 للهجرة ( نوفمبر – ديسمبر 1861)، يشكو مشايخ قبيلة ماجر ( أولاد مهنة وشقطمة) من عسف القايد المتولي أمرهم، الحاج محمد قعيد بن سالم: " ...وفي علم سيدنا ما حل بنا من جانب المكرم الأجل قايدنا سي الحاج قعيد في السنة الفارطة وما أخذه منا زائدا فوق مأمورات مولانا أيده الله آمين من الجمال والخيل والكباش والشعير...ولم يعط التذاكر في ما يقبله وظهر لسيدي وصلحتنا نحن و إياه. وفي علمنا يرجع عن قبيح فعله. فلم يرجع عن فعله وازداد مكرا ....مطلوبنا من سيدي أن تفهم بواقعنا مولانا أيده الله وتفكنا من هذا الرجل...فكنا من هذا الراجل لوجه الله والمأمورات التي علينا خلصت ولا بقا منها ألا جد قليل تافه ونحن عرفناك بأمورنا ونظرك أعلا...."(18) ولقد كان هذا الفساد منظما من قبل المماليك وخصوصا الوزير الأكبر مصطفى خزندار الذي راكم بشتى أساليب التحيل والنهب السافر ثروة طائلة وشمل ضرر سياسته هذه المالية العمومية وبعضا من أثرياء البلاد من كبار التجار والفلاحينمن البلدية ومن أعيان القبائل. " ولما خلف أحمد باي أخاه مصطفى على العرش الحسيني اتخذ من مصطفى خزندار وزيره الأكبر. وسرعان ما كشف مصطفى عن عميق هواه للثروة والمال والذهب ولم ينقطع عنه هذا الهوى بل تفاقم بصاحبه دون هوادة حتى انتهى به الأمر إلى أن يضحي في سبيله بثروة البلاد وبالمتساكنين أنفسهم بل وبأمن الملك صاحب نعمته..." (19). وشكل مصطفى خزندار بسبب استمراره على رأس الوزارة الكبرى طيلة أربعة عقود في ظل البايات أحمد (1837- 1855) ومحمد ( 1855 – 1859) و محمد الصادق ( 1859- 1882) شبكة من الفاسدين من موظفي الدولة ومن الأعيان سخرها لنهب الأموال والتلاعب بمقدرات البلاد ومن هؤلاء محمود بن عياد " الذي كانت إدارته كارثة على البلاد التونسية إذ ...جمع ثروة اطمأن عليها بتحويلها إلى الخارج وتقدر بخمسين أو ستين مليون من الفرنك ( الفرنسي)..." (20) ونسيم شمامة " الذي كان قابض مال خاص عند مصطفى خزندار ولم يكن له ثروة كبيرة وبمجرد توليه منصب محمود بن عياد حتى سرعان ما صار يتمتع بامتلاك ثروة طائلة إلى حد أنه استطاع بمفرده أن يقرض الحكومة التونسية مبلغا من المال قدره 12 مليون من الفرنك ثم حمل معه لما فر إلى الخارج مبلغا من المال ربما يقدر عده 25 أو 30 مليون من الفرنك..." (21)، علاوة عن العمال الذين كانوا يدينون له بالولاء ويقاسمونه ما ينهبونه من السكان تحت عناوين شتى أهمها الضرائب خاصة وأنهم كانوا يشترون خططهم الوظيفية ويدفعون له مباشرة.
وقد ضمن المفتش الفرنسي فرنسوا فيللي ، عضو اللجنة المالية لسنة 1869، في تقريره حول المالية التونسية أمثلة متعددة حول أساليب الوزير الأكبر وشبكته في السلب والنهب والسرقة الموصوفة. و دفع هذا السلوك الجائر عددا من الرعايا ومنهم بعض رجال الدين إلى الاحتماء بالقنصليتين الفرنسية والإنكليزية للنجاة بأرواحهم وأعراضهم وممتلكاتهم كما فضل البعض منهم الفرار من البلاد والاستقرار بمصر واسطمبول وفرنسا. ومن أمثلة نهب المماليك وأزلامهم للمال العام، الاستئثار باللزم ( الصفقات العمومية) والتلاعب بأجور الموظفين لتحقيق ربح ذريع وغير مشروع ومضر بمصالح السكان وسنكتفي باقتباس مثال عن كل حالة من تقرير فيللي.
مثال التلاعب بلزمة محصول القمارق: " احتفظ نسيم شمامة لنفسه لمدة خمس عشرة سنة بامتياز محصول القمارق بتونس مقابل ثمن قدره 300 ألف ريال بينما تقدم غيره للحصول على ذلك الامتياز وعرض المرة تلو الأخرى ثمنا يفوق ثلاث أو أربع مرات مقدار الثلاثمائة ألف ريال ومع ذلك تمكن نسيم شمامة من الاحتفاظ بهذا الامتياز موضحا أنه امتياز راجع في الواقع إلى الوزير الأكبر وما هو في الواقع إلا عون له" (22).
مثال عن التلاعب بخلاص أجور موظفي الدولة: " لقد كانت مرتبات أعوان الحكومة وجميع مصاريف الحكومة تدفع على صورة تذاكر ( تسكرة) من الباي تسلم للمستحقين. فهذه التذاكر كانت مناسبة استغلها مصطفى خزندار لتوفير أرباحه وذلك بأن يقع تأجيل دفع مبالغ التذاكر عن أوقاتها حتى يصبح أصحابها مع مرور الأيام في حاجة ماسة إلى مبالغها فيضطرون خوفا من خسارة كامل مبالغها إلى ما يعرضه عليهم قابض مال الحكومة القائد نسيم شمامة من التنازل على 70 % من مبلغ التذكرة ولا يقبضون إلا 30 % منه أما نسيم شمامة فيسجل في كتاب حسابات الدولة أنه دفع كامل المبلغ...." (23).
4-2. الأزمة المالية وقرار تضعيف المجبى وتعميمها
تفاقمت الأزمة المالية للبلاد التونسية منذ مطلع ستينات القرن التاسع عشر وتمثلت في تفوق المصاريف على المداخيل. فقد أصبحت المداخيل قاصرة عن الإيفاء بالتزامات الدولة تجاه دائنيها " وذلك أنه تعين من دخل المملكة قدر عظيم لفائدته ( أي الدين) وأصله في كل سنة، لا يقبل التأخير عند حلول اجله، ومقداره أكثر من أربعة ملايين فرنك، وذلك أكثر من ثلث دخل المملكة بجميع أنواعه...لأن جميعها لا يصل إلى الخمسة عشر مليونا ريالات تونس..." (24). كما أصبحت عاجزة عن الاستجابة لمصاريف الباي وأسرته وسائر أعوان الدولة على اختلاف رتبهم" لأن مرتب الملك وحده مليون ومائتا ألف، ومرتب آله أكثر من مليون، ومرتب الوزراء والرؤساء وأعضاء المجالس والكتاب والعمال والجند وغيرهم من ذوي الألقاب ثلاثة ملايين وخمسمائة ألف.... وغالب هذه المرتبات تدفع منجمة على الأشهر..." (25). وكان الحل المتاح هو واحد من أمرين: الضغط على مصاريف الدولة أو الزيادة في مداخيلها. غير أن الحل الثاني – على قلة وجاهته ومنافاته لواقع الأمور- هو الذي كان الأكثر حضورا في المجالس التي خصصها الباي للنظر في المسألة، ولم ينصت الباي للحجج التي قدمها أمير الامراء حسين رئيس المجلس البلدي بالحاضرة الذي خاطبه بالقول، " يا سيدي ، إن هذه المملكة لا قدرة لها على احتمال شيء زائد ، وهي من الموجود في خطر، فحالها كحال البقرة إذا حلب ضرعها حتى خرج الدم، فهي الآن ينزو ضرعها بالدم، وولدها بمضيعة والعطب أقرب إليها من السلامة" (26) وغيره ممن ذهب مذهبه من خاصة أعضاء المجلس مثل خير الدين باشا ، بل أنصت إلى دعاة الزيادة في الدخل عبر الترفيع في الضرائب واستحسن رأيهم و " دعا بتكثير أمثالهم في الأعيان" (27). وكان الرأي النهائي لحل معضلة الميزانية هو " ...أن مال الإعانة يزاد عليه مثله ويكون عاما في سائر بلدان المملكة من غير استثناء ولا اعتبار لحال الدافع"(28) ويعلق ابن أبي الضياف على القرار بقوله:
"وسيقت المدن التي استثناها منشور الإعانة مساق عربان البوادي" (29) ويبدو أن ذلك ما ساءه في الأمر كله، إذ كيف يستوي سكان هذه المدن والعربان؟؟؟ وفي جمادى الثانية من سنة 1280 للهجرة ( نوفمبر- ديسمبر 1863)، أصدر الباي المنشور المنظم لأداء الإعانة و وجهه إلى العمال "... وبعد،...اقتضت المصلحة الآن أن تكون الإعانة إثنين وسبعين ريالا في العام، يدفعها كل نفر من الأنفار المقيدة أسماؤهم بدفتر عملكم. فالعمل أن تعلموا من لنظركم بذلك وتحرضوهم على المناجزة في الخلاص وتجتهدوا في ذلك. ومن يخلص في إعانته يأخذ حجة الخلاص في ذلك لتكون بيده دليلا على خلاصه ومبدأ ذلك من عام ثمانين عجمي ( الصواب: هجري). وتحذروا جميع أهل عملكم من التراخي. والله ولي إعانتكم والسلام". (30) وهكذا جمع هذا القرار بين أمرين: تعميم توظيف ضريبة "الإعانة" على كافة سكان البلاد وتضعيف قيمتها وبذلك توسعت دائرة المتضررين من هذا القرار.
لقد مثلت انتفاضة القبائل في ربيع 1864 رفضا لنظام سياسي واقتصادي واجتماعي جائر- بالرغم من عدم استهدافها للباي في شخصه وفي رمزيته - سمته الأساسية هي إقصاء الأهالي من المشاركة في إدارة الشأن العام وحرمانهم من الاستفادة من الثروة مقابل استئثار المماليك وأتباعهم بامتياز السلطة والثروة. وهي لهذا السبب بالذات مطالبة صريحة بالشراكة الحقيقية في الوطن، شراكة من شأنها أن تتيح إنهاء المظالم من جهة والاستفادة من الثروة من جهة ثانية وكان ذلك هو جوهر شعارها الأساسي: " لا للمماليك، لا للمجبى ولا للدستور".
هوامش القسم الأوّل
(1) تأسّست الدولة الحسينية سنة 1705 على يد حسين بن علي التركي بعد أن بايعه " أهل الحل والعقد" في تونس العاصمة لدرء مخاطر الفوضى والاضطراب التي كانت تهدد البلاد، وزالت هذه الدولة سنة 1957 بإعلان النظام الجمهوري.
(2) توفيق البشروش، ربيع العربان، بيت الحكمة 1991، ص 90-91.
(3) احمد بن أبي الضياف، إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان، ج 5، ص 129، الدار التونسية للنشر، 1990.
(4) عبارة تونسية تشير إلى ساكنة المدن وخاصة العاصمة تونس وهي مشتقة من كلمة "البلاد" أي المدينة أو الحاضرة ولا تزال متداولة إلى اليوم في بعض الجهات. وتحمل هذه العبارة معاني التعالي على بقية مكونات المجتمع التونسي، فالبلدية والأعيان منهم على وجه الخصوص يحتكرون السلطة الدينية والنفوذ الاقتصادي ويتمتعون بالوجاهة الاجتماعية وكانوا ولا يزالون طرفا أساسيا في الحكم.
(5) الاتحاف، ج 5، ص 129.
(6) الاتحاف، ج 5، ص 44.
(7) الإتحاف، ج 5، ص 122.
(8 الاتحاف، ج 8، ص 185، زكايط، مفردها زكطي: لئيم، خبيث، شرير.
(9) الاتحاف، ج 5، ص 129.
(10) أنظر الاتحاف، ج 5 ومقال محمد الهادي الشريف المذكور سابقا.
(11) الاتحاف، ج 5، ث 148.
(12) صدر القرار القاضي بتشكيل اللجنة المالية الدولية في 5 جويلية 1869 وهي تمثل مصالح كبار مقرضي الدولة التونسية وتسهر على التصرف في المالية العمومية بما يضمن مصالح الدائنين وتتركب من ممثلين عن فرنسا وانقلترا وإيطاليا ويرأسها المملوك خيرالدين باشا التونسي.
(13) الإتحاف، ج 5، ص 147 و148.
(14) المصدر السابق، ص 146.
(15) للمزيد: الهادي التمومي، " الاستعمار الرأسمالي والتشكيلات الاجتماعية ماقبل الرأسمالية..."، ج 1، 1999.
(16) توفيق البشروش، ربيع العربان، بيت الحكمة 1991، ص 61.
(17) الاتحاف، ج 5، ص 159.
(18) توفيق البشروش، ربيع العربان، بيت الحكمة 1991، ص 56-57.( يقرأ النص بالعامية التونسية).
(19) محمد السنوسي، الرحلة الحجازية، ج 2، ص 488.
(20) المصدر السابق، ص 493.
(21) المصدر السابق، ص 494.
(22) المصدر السابق، ص 494.
(23) المصدر السابق، ص 495.
(24) الاتحاف، ج 5، ص 127
(25) المصدر السابق، ص 127-128 .
(26) المصدر السابق، ص 129.
(27) المصدر السابق، ص 130.
(28) المصدر السابق، ص 130، المدن المستثناة سابقا من أداء الإعانة هي: القيروان، سوسة، المنستير، كما استثني من ذلك سكان العاصمة والموظفون والعسكر والطلبة والعلماء ويهود الحاضرة.
(29) المصدر السابق، ص 131.
(30) الإتحاف، ج 5، ص 132.
*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*الكلمة الطيبة كشجرة طيبة*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*
إنك لا تدع شيئاً إتقاء الله تعالى إلا أعطاك الله عز وجل خيرا منه
رد: انتفاضة 1864 بالبلاد التونسية: المقدمات، الوقائع والنهايات
شكرا على المعلومات القيمة والهادفة
أحمد نصيب-
- عدد المساهمات : 9959
العمر : 66
المكان : أم المدائن قفصة
المهنه : طالب علم
الهوايه : المطالعة فحسب
نقاط تحت التجربة : 24439
تاريخ التسجيل : 05/08/2007
مواضيع مماثلة
» الى الامة التونسية المسلمة
» لكسر حصار غزة...انتفاضة سفن عربية واسلامية
» الصحافة التونسية
» الثورة التونسية
» درس في اللغة الدارجة التونسية
» لكسر حصار غزة...انتفاضة سفن عربية واسلامية
» الصحافة التونسية
» الثورة التونسية
» درس في اللغة الدارجة التونسية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى