في رحاب البكالوريا
+14
بنت الرديف
المنذر
ريان
ولد الجيران
sihem
Sweet EviL
قوافليست انتحاري
scorpion
soujoud
takwa
foued
سيف
wardabayda
حمزة سديرة
18 مشترك
صفحة 1 من اصل 4
صفحة 1 من اصل 4 • 1, 2, 3, 4
في رحاب البكالوريا
:afro: :afro:
أمّا بعد، اخواني الأعضاء أقترح عليكم هذا الموضوع الجادّوالصّريح
وهو كالتّالي
نظرا لردائة نتائج البكالوريا بولاية قفصةعلى المستوى الوطني وفي سبيل الوعي بهذه المرتبة والعمل على النّهوض
بها وتحسينها أقترح عليكم-(قسم الاشراف على المنتدى/والأخوة الأعضاء)- تخصيص هذه الصفحة يكون فيه العمل جماعيّا من خلال عرض
استفساراتنا واشكاليّاتنا الّتي تعترضنا في البكالوريا
سواءا كان معرفيّا أو منهجيّا والعمل على وضع حلولها من خلال مبادرة كلّ من الأعضاء
والمشرفين تقديم اقتراحاتهم
نرجو من الاخوة تقييم هذا الموضوع
أمّا بعد، اخواني الأعضاء أقترح عليكم هذا الموضوع الجادّوالصّريح
وهو كالتّالي
نظرا لردائة نتائج البكالوريا بولاية قفصةعلى المستوى الوطني وفي سبيل الوعي بهذه المرتبة والعمل على النّهوض
بها وتحسينها أقترح عليكم-(قسم الاشراف على المنتدى/والأخوة الأعضاء)- تخصيص هذه الصفحة يكون فيه العمل جماعيّا من خلال عرض
استفساراتنا واشكاليّاتنا الّتي تعترضنا في البكالوريا
سواءا كان معرفيّا أو منهجيّا والعمل على وضع حلولها من خلال مبادرة كلّ من الأعضاء
والمشرفين تقديم اقتراحاتهم
نرجو من الاخوة تقييم هذا الموضوع
حمزة سديرة-
- عدد المساهمات : 453
العمر : 36
المكان : قصر*قفصة
المهنه : طلب العلم
الهوايه : كل شيء
نقاط تحت التجربة : 12489
تاريخ التسجيل : 07/03/2008
رد: في رحاب البكالوريا
فكره رائعه منك حمزه ويبدو انك دخلت بقوه والباكلوريا على الابواب
ارجو من بقيت الاعضاء ومن يهمهم الامر التفاعل مع الفكره
شكرا
ارجو من بقيت الاعضاء ومن يهمهم الامر التفاعل مع الفكره
شكرا
رد: في رحاب البكالوريا
wardabayda كتب:فكره رائعه منك حمزه ويبدو انك دخلت بقوه والباكلوريا على الابواب
ارجو من بقيت الاعضاء ومن يهمهم الامر التفاعل مع الفكره
شكرا
نرجو أن يكون كلّ الأعضاء أمام الأمر الواقع والعمل الجدّي لتحسين مستوى النّتائح
حمزة سديرة-
- عدد المساهمات : 453
العمر : 36
المكان : قصر*قفصة
المهنه : طلب العلم
الهوايه : كل شيء
نقاط تحت التجربة : 12489
تاريخ التسجيل : 07/03/2008
رد: في رحاب البكالوريا
مشكور الاخ حمزة على هذا الموضوع المهم بالفعل يستحق تفاعل الاعضاء ممن هم تلاميذة الباكالوريا
:rendeer:
:rendeer:
سيف-
- عدد المساهمات : 879
نقاط تحت التجربة : 12228
تاريخ التسجيل : 23/02/2008
رد: في رحاب البكالوريا
شكرا حمزة على التعاون
*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*الكلمة الطيبة كشجرة طيبة*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*
foued- مشرف
- عدد المساهمات : 8063
العمر : 46
المكان : Lagos .. nigeria
نقاط تحت التجربة : 13427
تاريخ التسجيل : 07/11/2007
رد: في رحاب البكالوريا
حمزة سديرة كتب::afro: :afro:
أمّا بعد، اخواني الأعضاء أقترح عليكم هذا الموضوع الجادّوالصّريح
وهو كالتّالي
نظرا لردائة نتائج البكالوريا بولاية قفصةعلى المستوى الوطني وفي سبيل الوعي بهذه المرتبة والعمل على النّهوض
بها وتحسينها أقترح عليكم-(قسم الاشراف على المنتدى/والأخوة الأعضاء)- تخصيص هذه الصفحة يكون فيه العمل جماعيّا من خلال عرض
استفساراتنا واشكاليّاتنا الّتي تعترضنا في البكالوريا
سواءا كان معرفيّا أو منهجيّا والعمل على وضع حلولها من خلال مبادرة كلّ من الأعضاء
والمشرفين تقديم اقتراحاتهم
نرجو من الاخوة تقييم هذا الموضوع
بلاغ إلى تلاميذ البكالوريا
آداب نظام جديد
الموضوع مادّة العربيّة
تعتبر مادّة العربيّة من المواد الأساسيّة هذه
السّنة من زاوية الضّارب4 ومن زاوية إسهامها إلى جانب مادّة الفلسفة في النّسبة
المائويّة25 لذلك يجب الإهتمام بها والعناية على استعابها وفي إطار هذه الصّفحة"في رحاب
البكالوريا" أقدّم إلى زملائي
التّلاميذ هذه النّقاط الهامّة في كيفيّة التّعامل مع مادّة العربيّة :
أوّلا الكلّ يعلم
أنّ الدّراسات والكتب الّتي تتناول دراسة المحاور المدروسة لهذه السّنة
كثيرا ، لذلك وفي إطار التّوعيّة على العمل الهادف يجب علينا أنّ نتقيّد بالأهداف
الرّسميّة الّتي أعلنت عنها الوزارة لدراسة محاور مادّة العربيّة حتّى نكون في خضم
مانحن مطالبون به خاصّة أنّ الإختبارات الوطنيّة لمادّة العربيّة تستمدّ روحها من
تلك الأهداف المعلن عنها
إليكم البرنامج الرّسمي لمادّة
العربيّة:
المحور الأوّل شعر الحماسة في القرنين الثـّالث والرّابع للهجرة:
مختارات من شعر أبي تمّام والمتنبّي وابن هانئ.
الأهداف:
تبيّن الخصائص
الفنّيّة المميّزة لشعر الحماسة.
استجلاء معاني الحماسة
في هذا الشّعر.
استخلاص
المثل والقيم التي يدعو إليها شعراء الحماسة.
التّوجيهات:
يتمّ
الاهتمام :
في معاني الحماسة بالبطولة، التّغنّي بالقوّة، الفتوّة، الثـّقة بالنّفس...
في الخصائص الفنّيّة المتّصلة بمعاني الحماسة،
بالصّورة والمعجم والأساليب والإيقاع.
(ينبغي على التّلميذ التّوسع )
المحور الثّاني:
المنزع العقلي في الأدب العربيّ القديم : الجاحظ مختارات
من"الرّسائل" و"الحيوان" للجاحظ.
الأهداف:
تبيّن الخصائص
الفنّيّة المميّزة لكتابة الجاحظ.
استجلاء مظاهر المنزع
العقليّ عنده.
إبداء
الرّأي في القضايا التي يثيرها .
التّوجيهات:
يتمّ الاهتمام في تبيّن الخصائص الفنّيّة بالحجاج خاصّة وذلك بالنّظر في :
· بنية
النصّ الحجاجيّ.
· تنظيمه.
· سيرورته
(الحجج وأنواعها، الأمثلة ومصادرها).
يتمّ الاهتمام في كتابات الجاحظ بالمنهج العلميّ وتجلّيات الفكر الاعتزاليّ في
مجالي اللّغة والأدب :
· في
المنهج العلميّ : بالموضوعيّة، الشكّ، التّجربة ومقوّماتها كالملاحظة والاستقراء
والموازنة والتّرتيب والتّعديل والتّجريح والاستنباط...
في
تجلّيات الفكر الاعتزالي : بكيفيّة الاستدلال على بعض المسائل الفكريّة والكلاميّة
بالحجج العقليّة (النّقد، الشكّ، الجدل، الاستقراء...).
المحور الثاّلث : من أشكال القصّ في الأدب العربيّ القديم : رسالة الغفران (قسم
الرّحلة)
الأهداف:
تبيّن الخصائص الفنّيّة لشكل من أشكال القصّ
في نصّ قديم.
استجلاء مظاهر إعمال العقل في القضايا المطروحة.
إبداء الرّأي في ذلك.
التّوجيهات:
يتمّ الاهتمام بـ :
ـ البنية القصصيّة :
· الشّخصيّات
(أصنافها، علاقاتها، خصائصها).
· الرّاوي
(أنواعه، مواقعه، وظائفه).
· الإطار
المكانيّ (أنواعه، خصائصه، بناؤه...).
· الإطار
الزّمانيّ (أنواعه، دلالاته، مفارقاته).
ـ الخيال :
· مصادره
(القرآن، السّنّة، الشّعر، الأساطير).
· مظاهره
(الواقعيّ، الغرائبيّ، العجائبيّ).
· تقنيّاته
(التّحويل، التّهويل، التّركيب).
ـ أنواع الهزل :
· السّخرية،
التّهكّم، روح العبث.
ـ الإضحاك :
·
وسائله (المفاجأة، سوء التّفاهم، التّكرار،
الدّعاء، الاختلال في الجنّة).
·
مظاهره (الحركة، الكلمة، الموقف، الشّخصيّة
السّاذجة).
ـ
الاستطراد :
·
موقعه من الحوار.
·
مضامينه (لغويّة، أدبيّة).
-مواقف المعرّي من :
·
المعتقدات الدّينيّة والقضايا الماورائيّة.
·
القضايا الاجتماعيّة والسّياسيّة.
·
الأخلاق والسّلوك.
·
قضايا اللّغة والأدب.
ـ
يشير الأستاذ أثناء شرح النّصوص إلى مواطن من رسالة ابن القارح أو من قسم الردّ
كلّما اقتضى فهم النّصوص ذلك.
المحور
الرّابع : المسرحيّة : "مغامرة رأس المملوك جابر" لسعد الله
ونّوس.
الأهداف:
يتمّ الاهتمام في مسرحيّة " مغامرة رأس
المملوك جابر" لسعد الله ونّوس بالمسائل التّالية :
ü
في الجانب الفنيّ :
- بناء
النصّ المسرحيّ : التّضمين ـ التّناوب بين السّرد والحوار ـ
التّداول بين المرئيّ والمحكيّ ـ الإشارات الرّكحيّة ودورها في بناء المسرحيّة
(السّياقات التّاريخيّة، تحديد فضاءات الأحداث) ـ أنواع العقد والمفاجآت ومساهمتها
في نموّ النّصّ المسرحيّ ـ النّهاية المأساويّة ـ دور الموارد التّراثيّة في بناء
النصّ المسرحيّ ـ عناصر الفرجة (الدّيكور، الأضواء، الظّلال).
-
الشخصيّة المسرحيّة : البطل التّراجيديّ
الكوميديّ (بناء الشّخصيّة، خطابها، رمزيّتها : بين العقل والعاطفة، بين البراءة
والخيانة، بين السّذاجة والخبث، المساومة، المغامرة في سبيل المكافأة) ـ الرّاوي
(بناء الشّخصيّة، دورها، مراجعها) ـ السّائس ( بناء الشّخصيّة نفسيّا وذهنيّا) ـ
المتفرّجون (التّنوّع والاختلاف، أوجه الاتّفاق، الحاجة، الطّموح...).
-
العلاقات بين
الشّخصيّات : أوجه التّقابل بين الخليفة والوزير وأعوان كلّ
منهما ـ أوجه الخلاف بين الرّاعي والرّعيّة ـ أوجه الاختلاف والائتلاف بين
الحكواتي وحرفاء المقهى ـ الظّاهر والباطن في علاقة العجم بالعرب ـ الحبّ .
- الحوار
المسرحيّ :
·
أصنافه : منفرد، ثنائيّ، جماعيّ (بين الرّكح والمتفرّجين).
·
بناؤه : مواضيعه، أطرافه، موجّهاته، تناميه.
·
تنظيمه : توزيع الأدوار، تنظيم المواقف، توقيت
التدخّلات.
·
لغته : بنية الجملة، أساليب الحذف والاختزال،
المعاجم المتداولة (العدل، الظّلم، الخوف...).
·
أساليبه : الغنائيّة، التّقريريّة، الحجاجيّة...
·
سجلاّته : العامّيّة، الفصحى...
ü
في الجانب المضمونيّ :
علاقة
الرّاعي بالرّعيّة، علاقة الرّاعي بالحاشية، الفتن السّياسيّة، المثقّف والمجتمع،
الحبّ والسّياسة، العقل والعاطفة، مفهوم السّعادة والشّرف، الزّمن والتّاريخ،
توظيف التّراث في الفنّ المسرحيّ.
المحور
الخامس: الرّواية
العربيّة مختارات من "حدّث أبو هريرة قال..." لمحمود المسعدي
الأهداف:
تبيّن الخصائص الفنّية
في الرّواية
استجلاء أهمّ القضايا
المعروضة.
إبداء
الرّأي في ذلك.
التّوجيهات:
يتمّ
الاهتمام في تبيّن الخصائص الفنّيّة بـ :
ـ بنية كامل الأثر.
ـ بنية الخبر (السّند والمتن في كلّ حديث).
ـ الرّاوي : أنواعه، وظائفه، مواقعه.
ـ الشّخصيّات : صفاتها، أصنافها، علاقاتها،
أدوارها.
ـ بنية الأزمنة : السّبق، الرّجع.
ـ الحركات السّرديّة : الوصف، الحوار.
ـ الأبعاد الرّمزيّة للأماكن والأزمنة والشّخصيّات
والأحداث.
ـ مظاهر الأصالة والمعاصرة في الأثر : في اللّغة،
في بنية الحديث، في دعائم الحكاية (الشّخصيّات والأحداث والمكان والزّمان في
الشّكل الرّوائيّ).
يتمّ الاهتمام أيضا بـ :
ـ مسيرة البطل وتحليل أبعادها الرّمزيّة
والوجوديّة.
ـ الرّوافد الثّقافيّة التي أثـّرت في النصّ وأغنته
: الإسلام، المسيحيّة، الأسطورة.
يتمّ الاهتمام في استجلاء القضايا المعروضة بـ :
ـ
تجربة الحسّ.(الجسد).
ـ
تجربة الجماعة (العمل).
ـ
تجربة الرّوح (الإيمان).
ـ تجربة الحكمة
(العقل).
عدل سابقا من قبل حمزة سديرة في السبت 8 مارس - 15:39 عدل 1 مرات (السبب : التّعديل في عرض الموضوع)
حمزة سديرة-
- عدد المساهمات : 453
العمر : 36
المكان : قصر*قفصة
المهنه : طلب العلم
الهوايه : كل شيء
نقاط تحت التجربة : 12489
تاريخ التسجيل : 07/03/2008
رد: في رحاب البكالوريا
سيف كتب:مشكور الاخ حمزة على هذا الموضوع المهم بالفعل يستحق تفاعل الاعضاء ممن هم تلاميذة الباكالوريا
:rendeer:
دراسة حول الفكر السّياسي في المسرح
تحقيق في أعمال برشت
وسعد اللّه ونّوس
ملاحظة سعد اللّه ونّوس من المتأثرين
بتجارب برشت في المسرح
-----------------------
المسرح والسّياسة
كتابات :يوسف الطالبي
تحقيق في أعمال برشت
وسعد اللّه ونّوس
ملاحظة سعد اللّه ونّوس من المتأثرين
بتجارب برشت في المسرح
-----------------------
المسرح والسّياسة
كتابات :يوسف الطالبي
لا محيد للفعل الثقافي، من أجل عرض الأفكار ونشرها، عن المؤسسة (البنية
التحتية) التي تدخل ضمن اشتغالات الحكم وسلطته، ولا مندوحة للمبدع عن
خلفية فكرية تحكم توجهه، وهو ما يعني موقفه من (أدلوجة) الدولة، على حد
تعبير عبد الله العروي، والتي تحدد بالتالي لونه السياسي. ومن ثمة فإن
العلاقة القائمة بين الإبداع عموما، والسلطة السياسية تحديدا، موغلة في
القدم، وقد عرفتها مختلف الثقافات كإشكالية صدامية، تتردد بين الإقبال
والإدبار، وتتأرجح بين التبعية والانفصال. وبين التوافق أو المواجهة التي
تحكم علاقةالفني بالسياسي، استمر الجدال والصراع إلى اليوم وعلى طول التاريخ.[1].
لذلك و"برغم الانطباع الأولي الذي يوحي به موضوع العلاقة بين الأدب
والسياسة، من أنه موضوع مطروق "مستهلك" فإنه يظل محتاجا إلى التحليل
وإعادة النظر"[2]. وهو ما سنحاول ملامسته في هذه المقاربة.
إن الفن الكبير يخدم أهدافا كبرى. وأحد الأسس التي يرتكز عليها فهمنا
للفن، هو ذلك الرأي الذي يعتقد أن الفن العظيم، يؤثر بصورة طبيعية ومباشرة
من الشعور إلى الشعور[3]. والمسرح الهادف، أو مسرح الأطروحة
(Théâtre à thèse)، هو الذي يرصد تحرك الشارع،
وينقل نبض الجماهير الشعبية، ويترجمها أفكارا صارخة، تبسط على الخشبة،
لتسلط عليها الأضواء الكاشفة، من أجل الملاحظة الثاقبة، والنقد اللاذع،
والمناقشة الساخنة، في أفق البحث عن مخرج لأزمة قد تطول كلما تمكن الخوف
من الإنسان، وغزا الصمت الأماكن القصية المعتمة. بهذا المعنى الإيتمولوجي
(Etymologie) يمكن اعتبار كل مسرح عملا سياسيا، أو كما يقول أوجستو بول (Augusto boal) "كل مسرح هو سياسي بالضرورة، لأن كل أنشطة الإنسان سياسية،
والمسرح واحد من هذه الأنشطة، وأولئك الذين يحاولون فصل المسرح عن السياسة
يحاولون تضليلنا، وهذا نفسه موقف سياسي"[4]. فالمسرح السياسي
(Théâtre politique) إذن يقوم على الرغبة في انتصار نظرية
مرتبطة باعتقاد اجتماعي، في أفق تحقيق مشروع فلسفي طموح، ليغدو علم الجمال
خاضعا للمعركة السياسية، بانصهار الشكل المسرحي داخل جدل الأفكار[5].
إن النص المسرحي في نماذجه الجادة والجيدة، نص مشكوك فيه رسميا. لأنه
مشاكس، معاند، مشاغب، وغير منضبط، أو بكلمة واحدة "نص فضولي" يمارس هجاء
الواقع.. إنه نص للتعرية وتسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية[6]، حيث يرى
بسكاتور (Piscator) أننا نعيش في حقبة تغلي بالمتغيرات السياسية، ولهذا
فإن "السياسة" تحتل المستوى الأول من الاهتمام. من هنا علينا ألا نطلب من
المسرح شيئا آخر غير السياسة[7]، ما دامت هناك صلة قوية "بين الأدب
المسرحي والسياسية فهي في داخله في تكوينه ملتصقة به، وهو ملتحم فيها لا
ملحق بها لا مجال للفصل بينهما، وحدتهما الحياة التي ينتميان إليها،
ويشكلان خلاصة من أهم خلاصاتها"[8].
فعلى المسرح –انطلاقا من وعيه بحقيقة الصراعات الدائرة- أن يفضح
ويكشف طبيعة تلك الصراعات، عليه أن يستفز الجمهور، ويعلمه، وهو يعرض عليه
أوضاعه بكثير من التحليل من أجل تنويره. ومن ثمة تحفيزه على العمل لتغيير
قدره. إنه مسرح القلق والغضب، مسرح لا مجال فيه للراحة والانفراج، بل هدفه
التصعيد حد الضيق والاحتقان. "وكم هو دقيق وشفاف الخيط الفاصل بين خاتمة
تشحن وأخرى تفرغ."[9]، وهو ما يحدد اختيار الفنان المسرحي وتوجهه نحو
سياسة تكرس الوضع القائم، على القمع والقهر والمصادرة والتسلط، أو سياسة
تدفع باتجاه التغيير نحو ما هو أفضل. لهذا فالمسرح "السياسي التحريضي هو
المسرح الذي يطرح الحالة المراد توصيلها ليتخذ المشاهد موقفا فكريا
ومبدئيا من تلك الحالة […] إنه عملية تحريك، عملية نقل إلى حيز
الفعل"[10].
ومن ثمة، فالمسرح يتيح للإنسان إمكانية تأمل واقعه ومصيره وردود فعله إزاء
الأحداث والوقائع، وتقييمها من أجل الخروج باقتراحات للحياة فكرا وممارسة
لذلك، فالمسرح من الفنون التعبيرية، التي عبرت عن الإنسان وقضاياه، منذ
زمن سحيق، وما الواقع الذي يصدر عنه إلا نقطة البداية، لتوضيح التناقضات
الاجتماعية، التي يأخذ منها عناصر اتهام للمجتمع، وعناصر دعوى إلى التغيير.
ومن التصورات الخلاقة، التي اشتغلت في أطروحاتها على إشكالية العلاقة بين
الإبداع والسياسة، وتستند إلى الاعتبارات الفلسفية والجمالية، وتجد
مرجعيتها في الماركسية، نذكر على سبيل التمثيل لا الحصر، جورج لوكاتش،
لوسيان كولدمان وبرتولت برشت (Pertolt Brecht)، دون إغفال المحاولات
الرائدة، التي دشنها واحد من أبرز أقطاب المسرح العربي، ونعني بذلك سعد
الله ونوس، الذي نهضت تجربته على الممارسة المسرحية والوضوح النظري، فهو
صاحب موقف تقدمي تغييري، إذ تعتبر مسألة "التسييس" لديه الثيمة
(Thème) المهيمنة على مشروعه المسرحي.
في هذه المقاربة إذن، سنعمل على تسليط الضوء على كل من مسرح برتولت برشت، وسعد الله ونوس في علاقتهما بالسياسة.
برتولت برشت: جدلية المسرح والسياسة:
تجدر الإشارة، إلى أن برتولت برشت، رجل مسرح قبل أن يكون رجل سياسة، ولقد
حاول جاهدا أن يغير المجتمع، ويحرر الناس من الشقاء، عن طريق مسرح مخصب
بلون السياسة. لقد كان "يحمل فضائع هذا العصر في أعصابه، في دمه، ويشعر
شعورا جسديا بما في زمانه من فوضى وعفن وفساد"[11]. لهذا فقد نقل قضايا
المجتمع وتناقضاته ومصير الإنسان من الشارع إلى الخشبة، وعنده أن "المسرح
بدون جمهور شيء لا معنى له"[12]. حيث استهدف تثويره من خلال تعليمه
وتوعيته وكشف الواقع، وتعرية التاريخ أمامه، قصد استفزازه للثورة على حاله
المتردي، والتصدي عمليا لتغييره[13]. ومن أجل أن تصبح الأحداث الاجتماعية،
في الحياة مفهومة، رأى برتولت برشت ضرورة عرض الوسط الاجتماعي أمام
المشاهد عرضا واسعا، بكل ما ينطوي عليه هذا الوسط من أهمية[14]. فالمسرح،
عنده مدرسة لتنوير المجتمع، وصقل الوعي الإنساني، وتربيته، لكي
يصبح هذا المسرح فيما بعد مسرحا سياسيا وثوريا[15]. فهو يرى "أنه لا يحق
للمشاهد أن يستسلم عن طريق الاندماج البسيط في العالم النفسي لشخصيات
المسرحية، لمعاناتها العاطفية بلا أدنى موقف انتقادي"[16]. إذ على
المتلقي، أن يخلق مسافة تسمح له، بالتحكم في الفرحة، وبالتالي تأسيس قراءة
نقدية عالمة، بدل التعاطي الاستيهامي الحالم. حيث أن برتولت برشت "لا يريد
أن يترك المتفرجون عقولهم مع قبعاتهم قبل دخول المسرح كما يحدث عادة في
المسرحيات التقليدية، ولا يريد أن يخرج المتفرج وقد أحس بالراحة والتوازن،
بل على العكس يريد أن يقلقه ويدفعه إلى التفكير ومن ثم يفقد توازنه، ليسعى
إلى استعادته عن طريق العمل الإيجابي الخلاق"[17].
إن المتأمل في فكر برتولت برشت، ومسرحه الملحمي، يلمس ذلك النزوع الملفت
إلى خلق التوتر العالي، لدى المتلقي والتأثير فيه إيجابا، من أجل إقناعه
بجدوى الفعل والسعي إلى تكريسه في أفق خلق شروط التغيير، الذي يحفظ
للإنسان كرامته ووجوده. من ثمة، فإن الأطروحة المركزية للمسرح الملحمي،
تنهض على التغريب والتأرخة والديالكتيك (Dialectique) باعتبارها مرتكزات
نظرية، لا محيد عنها من أجل مسرح يخدم الإنسان على مستوى التعليم والتربية
والوعي.. لذلك، يرى برتولت برشت، أن خلق هذا الوعي الفعال في المجتمع، لا
بد أن يمر "من خلال توضيح المفاهيم والتحليلات الصائبة للتاريخ. إن الحاضر
يصبح بعدئذ مغربا كما أن التاريخ يصبح المجال الحيوي لجعل الديالكتيك
القانون الرئيسي للتاريخ"[18].
وإذا كان أرسطو في كتابه "فن الشعر" قد اعتمد مفهوم التطهير (Catharsis)
محورا لنظريته عن المسرح (الكلاسيكي)، فإن برتولت برشت قد عمل على تقويض
هذه النظرية من أساسها، وطرح البديل النظري والعملي، لها من أجل مسرح فاعل
غير منفعل، فجاء بمفهوم التغريب (Distantiation)[19].
والتغريب، هو جعل المألوف غريبا، والتوصل إلى تغريب
الحادثة أو الشخصية، يعني فقدانها لكل ما هم بديهي ومألوف وواضح، بالإضافة
إلى إثارة الدهشة والفضول بسبب الحادثة نفسها[20]. ففي "التغريب"
يصبح الاعتيادي والمعروف، ملفتا للانتباه ومفاجئا، والبديهي غامضا. كل ذلك
من أجل أن تظهر الأمور مفهومة أكثر، وهذا ما يرمي غليه "تأثير التغريب"
أساسا. "إننا نستخدم عادة "تأثير التغريب" عندما نسأل أحدهم: هل نظرت يوما
بانتباه إلى ساعتك؟ إن السائل يعرف أني أنظر باستمرار إلى ساعتي، غير أنه
بسؤاله قد قضى على اعتيادية الأمر بالنسبة لي، وللسبب ذاته قضى على تصوري
للساعة الذي لم يكن ليعني لي شيئا، إنني أنظر إلى الساعة باستمرار لأحدد
الوقت، غير أنه عندما أسأل بإلحاح وإصرار عندها أفهم أني لم أنظر إلى
الساعة نظرة مليئة بالدهشة، وأنها من نواح عديدة تعتبر ماكنة مدهشة"[21].
إذن فالطبيعي، يجب أن يبدو مدهشا، ومن خلال
الاستغراب والدهشة، ينبثق فهم جديد للموقف الإنساني.. ومن أجل الحصول على
"تأثير التغريب" حسب برشت "يتعين على الممثل أن ينسى كل ما تعلمه عندما
كان يحاول أن يحقق، بواسطة تمثيله الاندماج الانفعالي للجمهور بالشخصيات
التي يخلقها، فإذا كان الممثل لا يهدف إلى الوصول بجمهوره إلى حالة من
النشوة والوجد، عليه من باب أولى أن لا يقع هو نفسه في مثل هذه
الحالة"[22]. بمعنى، أنه عليه أن يترك المسافة قائمة بينه وبين الشخصية
التي يمثلها، محاولا في ذات الحين استفزاز المشاهد، وإثارته لإصدار موقف
انتقادي اتجاه تلك الشخصية. من هنا، فإن الجدار الرابع الذي هو التحام
الصالة بالخشبة يعد مجالا مثمرا للمشاهد، لقطع الصلة بينه وبين الممثل،
حيث يقول المشاهد مع نفسه: "لم يخطر على بالي هذا الشيء.. لا يجوز أن يقوم
المرء بهذا العمل.. أو.. هذا عجيب وملفت للنظر ولا يمكن تصديقه.. ويجب
إيقاف ومنع هذا العمل عند حده.. أو.. أن عذابات هذا الإنسان ومعاناته
تهزني، إذ ينبغي أن يوجد لها مخرج أو حل ناجع.. أو.. أنه حقا فن رائع ولا
يوجد هنا شيء حاسم وبديهي.. إنني أضحك على الباكين وأبكي على
الضاحكين.."[23] فالممثل إذن، يبلور الحدث الصغير، من خلال أهميته ويجعله
غريبا ومدهشا.." ويذكر برشت ثلاثة طرق من أجل تجسيد علة التغريب على المسرح:
نقل الدور إلى الشخص الثالث.
ـ الانتقال إلى الماضي.
ـ ربط توجيه التمثيل والتعليقات في الحوار"[24].
إن برتولت برشت، يخدم عملية صقل الوعي، من خلال استخدامه لعملية التغريب،
وتأرخة الأحداث، لكي يصبح الإنسان واعيا بأحداث وجوده الاجتماعي، وممارسة
النقد من أجل تغيير هذا الوجود للوصول إلى أهداف الثورة الاجتماعية[25].
فبرشت يتناول نصوص التراث المسرحي بالتبديل والتغيير، رغبة منه في إخضاعها
للتغريب، وفي العروض المسرحية الملحمية، يلجأ إلى كثير من الوسائل لإحداث
التغريب ومن أهمها، شخصية الراوي، الذي يفسر ما هو كائن وما يجب أن
يكون[26].
وللاقتراب أكثر من مسرح برشت، لا بد من الوقوف بالضرورة على الديالكتيك،
باعتباره المحرك الرئيس لجميع أفكاره وأعماله. فما هو الديالكتيك؟[27].
الديالكتيك هو الجدل، أي محاولة الوصول إلى الحقيقة، فمن خلال رأيين
متناقضين، ينشأ حوار ثالث يقودنا إلى الحقيقة والصواب.. وقد ربط برشت هذا
القانون بالمسرح، حيث أن الصراع الدرامي هو صراع جدلي، مما دفعه إلى
الانشغال طويلا بضرورة نقل الديالكتيك إلى المسرح، ليكشف للمشاهد
التناقضات الاجتماعية والاقتصادية، التي تحرك التاريخ وتطور المجتمعات، ما
دام الإنسان وليد التناقضات الاجتماعية المنعكسة على مساره الحياة
–التي لا يمكن أن تظل جامدة- وعلى تصرفاته وأخلاقه وحاجاته المستمرة
للتغيير ونبذ الركود.. إذ أن قانون الديالكتيكي يفرض نفسه حيث لا توجد
حتمية للأشياء، لأنها في تغيير مستمر[28] وقديما قيل "إنك لا تستحم في
النهر مرتين" أو على حد تعبير هرقليطس "إن مثل هذا التغيير ينبغي أن يعتمد
على العقل والحكمة لأن الحاكمين عبر التاريخ لم يتنازلوا طواعية عن
امتيازاتهم وظلمهم للناس دون أن يعمل البشر على إثارة عملية التغيير. إذ
لا توجد ثمة سلطة تساعد بل وساعدت الإنسان عبر التاريخ على تغيير مسار
حياته دون أن يشارك هو نفسه في هذه العملية"[29]. إن أثر برتولت برشت على
المسرح العالمي، كان يتسم بالثورة على تناقضات المجتمع، وكانت كتاباته
التي تتفجر أسئلة عن واقع الإنسان وحقائق المجتمع، تؤدي لتحريك التفكير
وجذب القارئ والمشاهد، إلى حلبة الصراع الدرامي والمساهمة في إصدار
الأحكام والحلول الناجعة. ما دام المسرح يشكل
واجهة ثقافية إستراتيجية للدولة من أجل ترسيخ نمطها السياسي. "إن المجتمع
السائر نحو التغيير وصراع الإنسان ضد أزمات وتناقضات الحياة هما الموضوعان
الرئيسيان في مسرح برشت كما أن أفكاره وطريقة تصويره لهذه الصراعات تقودنا
إلى التعرف على علة التغريب التي ابتكرها برشت لاستفزاز المشاهد من خلال
تعايشه مع الأحداث اليومية، وهذه الأساليب تمنح المسرحية قدرة كبيرة على
استخدام الديالكتيك وكيفية التعامل اليومي معه حيث يصبح بالنسبة للمشاهد
نوعا من المتعة اليومية، وكان برشت يميل دائما إلى تسمية مسرحه بالمسرح
الديالكتيكي، وكان يقول: من خلال استخدام الديالكتيك في المسرح يمكن للمرء
أن يكشف عن التناقضات المثيرة"[31].
التحتية) التي تدخل ضمن اشتغالات الحكم وسلطته، ولا مندوحة للمبدع عن
خلفية فكرية تحكم توجهه، وهو ما يعني موقفه من (أدلوجة) الدولة، على حد
تعبير عبد الله العروي، والتي تحدد بالتالي لونه السياسي. ومن ثمة فإن
العلاقة القائمة بين الإبداع عموما، والسلطة السياسية تحديدا، موغلة في
القدم، وقد عرفتها مختلف الثقافات كإشكالية صدامية، تتردد بين الإقبال
والإدبار، وتتأرجح بين التبعية والانفصال. وبين التوافق أو المواجهة التي
تحكم علاقةالفني بالسياسي، استمر الجدال والصراع إلى اليوم وعلى طول التاريخ.[1].
لذلك و"برغم الانطباع الأولي الذي يوحي به موضوع العلاقة بين الأدب
والسياسة، من أنه موضوع مطروق "مستهلك" فإنه يظل محتاجا إلى التحليل
وإعادة النظر"[2]. وهو ما سنحاول ملامسته في هذه المقاربة.
إن الفن الكبير يخدم أهدافا كبرى. وأحد الأسس التي يرتكز عليها فهمنا
للفن، هو ذلك الرأي الذي يعتقد أن الفن العظيم، يؤثر بصورة طبيعية ومباشرة
من الشعور إلى الشعور[3]. والمسرح الهادف، أو مسرح الأطروحة
(Théâtre à thèse)، هو الذي يرصد تحرك الشارع،
وينقل نبض الجماهير الشعبية، ويترجمها أفكارا صارخة، تبسط على الخشبة،
لتسلط عليها الأضواء الكاشفة، من أجل الملاحظة الثاقبة، والنقد اللاذع،
والمناقشة الساخنة، في أفق البحث عن مخرج لأزمة قد تطول كلما تمكن الخوف
من الإنسان، وغزا الصمت الأماكن القصية المعتمة. بهذا المعنى الإيتمولوجي
(Etymologie) يمكن اعتبار كل مسرح عملا سياسيا، أو كما يقول أوجستو بول (Augusto boal) "كل مسرح هو سياسي بالضرورة، لأن كل أنشطة الإنسان سياسية،
والمسرح واحد من هذه الأنشطة، وأولئك الذين يحاولون فصل المسرح عن السياسة
يحاولون تضليلنا، وهذا نفسه موقف سياسي"[4]. فالمسرح السياسي
(Théâtre politique) إذن يقوم على الرغبة في انتصار نظرية
مرتبطة باعتقاد اجتماعي، في أفق تحقيق مشروع فلسفي طموح، ليغدو علم الجمال
خاضعا للمعركة السياسية، بانصهار الشكل المسرحي داخل جدل الأفكار[5].
إن النص المسرحي في نماذجه الجادة والجيدة، نص مشكوك فيه رسميا. لأنه
مشاكس، معاند، مشاغب، وغير منضبط، أو بكلمة واحدة "نص فضولي" يمارس هجاء
الواقع.. إنه نص للتعرية وتسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية[6]، حيث يرى
بسكاتور (Piscator) أننا نعيش في حقبة تغلي بالمتغيرات السياسية، ولهذا
فإن "السياسة" تحتل المستوى الأول من الاهتمام. من هنا علينا ألا نطلب من
المسرح شيئا آخر غير السياسة[7]، ما دامت هناك صلة قوية "بين الأدب
المسرحي والسياسية فهي في داخله في تكوينه ملتصقة به، وهو ملتحم فيها لا
ملحق بها لا مجال للفصل بينهما، وحدتهما الحياة التي ينتميان إليها،
ويشكلان خلاصة من أهم خلاصاتها"[8].
فعلى المسرح –انطلاقا من وعيه بحقيقة الصراعات الدائرة- أن يفضح
ويكشف طبيعة تلك الصراعات، عليه أن يستفز الجمهور، ويعلمه، وهو يعرض عليه
أوضاعه بكثير من التحليل من أجل تنويره. ومن ثمة تحفيزه على العمل لتغيير
قدره. إنه مسرح القلق والغضب، مسرح لا مجال فيه للراحة والانفراج، بل هدفه
التصعيد حد الضيق والاحتقان. "وكم هو دقيق وشفاف الخيط الفاصل بين خاتمة
تشحن وأخرى تفرغ."[9]، وهو ما يحدد اختيار الفنان المسرحي وتوجهه نحو
سياسة تكرس الوضع القائم، على القمع والقهر والمصادرة والتسلط، أو سياسة
تدفع باتجاه التغيير نحو ما هو أفضل. لهذا فالمسرح "السياسي التحريضي هو
المسرح الذي يطرح الحالة المراد توصيلها ليتخذ المشاهد موقفا فكريا
ومبدئيا من تلك الحالة […] إنه عملية تحريك، عملية نقل إلى حيز
الفعل"[10].
ومن ثمة، فالمسرح يتيح للإنسان إمكانية تأمل واقعه ومصيره وردود فعله إزاء
الأحداث والوقائع، وتقييمها من أجل الخروج باقتراحات للحياة فكرا وممارسة
لذلك، فالمسرح من الفنون التعبيرية، التي عبرت عن الإنسان وقضاياه، منذ
زمن سحيق، وما الواقع الذي يصدر عنه إلا نقطة البداية، لتوضيح التناقضات
الاجتماعية، التي يأخذ منها عناصر اتهام للمجتمع، وعناصر دعوى إلى التغيير.
ومن التصورات الخلاقة، التي اشتغلت في أطروحاتها على إشكالية العلاقة بين
الإبداع والسياسة، وتستند إلى الاعتبارات الفلسفية والجمالية، وتجد
مرجعيتها في الماركسية، نذكر على سبيل التمثيل لا الحصر، جورج لوكاتش،
لوسيان كولدمان وبرتولت برشت (Pertolt Brecht)، دون إغفال المحاولات
الرائدة، التي دشنها واحد من أبرز أقطاب المسرح العربي، ونعني بذلك سعد
الله ونوس، الذي نهضت تجربته على الممارسة المسرحية والوضوح النظري، فهو
صاحب موقف تقدمي تغييري، إذ تعتبر مسألة "التسييس" لديه الثيمة
(Thème) المهيمنة على مشروعه المسرحي.
في هذه المقاربة إذن، سنعمل على تسليط الضوء على كل من مسرح برتولت برشت، وسعد الله ونوس في علاقتهما بالسياسة.
برتولت برشت: جدلية المسرح والسياسة:
تجدر الإشارة، إلى أن برتولت برشت، رجل مسرح قبل أن يكون رجل سياسة، ولقد
حاول جاهدا أن يغير المجتمع، ويحرر الناس من الشقاء، عن طريق مسرح مخصب
بلون السياسة. لقد كان "يحمل فضائع هذا العصر في أعصابه، في دمه، ويشعر
شعورا جسديا بما في زمانه من فوضى وعفن وفساد"[11]. لهذا فقد نقل قضايا
المجتمع وتناقضاته ومصير الإنسان من الشارع إلى الخشبة، وعنده أن "المسرح
بدون جمهور شيء لا معنى له"[12]. حيث استهدف تثويره من خلال تعليمه
وتوعيته وكشف الواقع، وتعرية التاريخ أمامه، قصد استفزازه للثورة على حاله
المتردي، والتصدي عمليا لتغييره[13]. ومن أجل أن تصبح الأحداث الاجتماعية،
في الحياة مفهومة، رأى برتولت برشت ضرورة عرض الوسط الاجتماعي أمام
المشاهد عرضا واسعا، بكل ما ينطوي عليه هذا الوسط من أهمية[14]. فالمسرح،
عنده مدرسة لتنوير المجتمع، وصقل الوعي الإنساني، وتربيته، لكي
يصبح هذا المسرح فيما بعد مسرحا سياسيا وثوريا[15]. فهو يرى "أنه لا يحق
للمشاهد أن يستسلم عن طريق الاندماج البسيط في العالم النفسي لشخصيات
المسرحية، لمعاناتها العاطفية بلا أدنى موقف انتقادي"[16]. إذ على
المتلقي، أن يخلق مسافة تسمح له، بالتحكم في الفرحة، وبالتالي تأسيس قراءة
نقدية عالمة، بدل التعاطي الاستيهامي الحالم. حيث أن برتولت برشت "لا يريد
أن يترك المتفرجون عقولهم مع قبعاتهم قبل دخول المسرح كما يحدث عادة في
المسرحيات التقليدية، ولا يريد أن يخرج المتفرج وقد أحس بالراحة والتوازن،
بل على العكس يريد أن يقلقه ويدفعه إلى التفكير ومن ثم يفقد توازنه، ليسعى
إلى استعادته عن طريق العمل الإيجابي الخلاق"[17].
إن المتأمل في فكر برتولت برشت، ومسرحه الملحمي، يلمس ذلك النزوع الملفت
إلى خلق التوتر العالي، لدى المتلقي والتأثير فيه إيجابا، من أجل إقناعه
بجدوى الفعل والسعي إلى تكريسه في أفق خلق شروط التغيير، الذي يحفظ
للإنسان كرامته ووجوده. من ثمة، فإن الأطروحة المركزية للمسرح الملحمي،
تنهض على التغريب والتأرخة والديالكتيك (Dialectique) باعتبارها مرتكزات
نظرية، لا محيد عنها من أجل مسرح يخدم الإنسان على مستوى التعليم والتربية
والوعي.. لذلك، يرى برتولت برشت، أن خلق هذا الوعي الفعال في المجتمع، لا
بد أن يمر "من خلال توضيح المفاهيم والتحليلات الصائبة للتاريخ. إن الحاضر
يصبح بعدئذ مغربا كما أن التاريخ يصبح المجال الحيوي لجعل الديالكتيك
القانون الرئيسي للتاريخ"[18].
وإذا كان أرسطو في كتابه "فن الشعر" قد اعتمد مفهوم التطهير (Catharsis)
محورا لنظريته عن المسرح (الكلاسيكي)، فإن برتولت برشت قد عمل على تقويض
هذه النظرية من أساسها، وطرح البديل النظري والعملي، لها من أجل مسرح فاعل
غير منفعل، فجاء بمفهوم التغريب (Distantiation)[19].
والتغريب، هو جعل المألوف غريبا، والتوصل إلى تغريب
الحادثة أو الشخصية، يعني فقدانها لكل ما هم بديهي ومألوف وواضح، بالإضافة
إلى إثارة الدهشة والفضول بسبب الحادثة نفسها[20]. ففي "التغريب"
يصبح الاعتيادي والمعروف، ملفتا للانتباه ومفاجئا، والبديهي غامضا. كل ذلك
من أجل أن تظهر الأمور مفهومة أكثر، وهذا ما يرمي غليه "تأثير التغريب"
أساسا. "إننا نستخدم عادة "تأثير التغريب" عندما نسأل أحدهم: هل نظرت يوما
بانتباه إلى ساعتك؟ إن السائل يعرف أني أنظر باستمرار إلى ساعتي، غير أنه
بسؤاله قد قضى على اعتيادية الأمر بالنسبة لي، وللسبب ذاته قضى على تصوري
للساعة الذي لم يكن ليعني لي شيئا، إنني أنظر إلى الساعة باستمرار لأحدد
الوقت، غير أنه عندما أسأل بإلحاح وإصرار عندها أفهم أني لم أنظر إلى
الساعة نظرة مليئة بالدهشة، وأنها من نواح عديدة تعتبر ماكنة مدهشة"[21].
إذن فالطبيعي، يجب أن يبدو مدهشا، ومن خلال
الاستغراب والدهشة، ينبثق فهم جديد للموقف الإنساني.. ومن أجل الحصول على
"تأثير التغريب" حسب برشت "يتعين على الممثل أن ينسى كل ما تعلمه عندما
كان يحاول أن يحقق، بواسطة تمثيله الاندماج الانفعالي للجمهور بالشخصيات
التي يخلقها، فإذا كان الممثل لا يهدف إلى الوصول بجمهوره إلى حالة من
النشوة والوجد، عليه من باب أولى أن لا يقع هو نفسه في مثل هذه
الحالة"[22]. بمعنى، أنه عليه أن يترك المسافة قائمة بينه وبين الشخصية
التي يمثلها، محاولا في ذات الحين استفزاز المشاهد، وإثارته لإصدار موقف
انتقادي اتجاه تلك الشخصية. من هنا، فإن الجدار الرابع الذي هو التحام
الصالة بالخشبة يعد مجالا مثمرا للمشاهد، لقطع الصلة بينه وبين الممثل،
حيث يقول المشاهد مع نفسه: "لم يخطر على بالي هذا الشيء.. لا يجوز أن يقوم
المرء بهذا العمل.. أو.. هذا عجيب وملفت للنظر ولا يمكن تصديقه.. ويجب
إيقاف ومنع هذا العمل عند حده.. أو.. أن عذابات هذا الإنسان ومعاناته
تهزني، إذ ينبغي أن يوجد لها مخرج أو حل ناجع.. أو.. أنه حقا فن رائع ولا
يوجد هنا شيء حاسم وبديهي.. إنني أضحك على الباكين وأبكي على
الضاحكين.."[23] فالممثل إذن، يبلور الحدث الصغير، من خلال أهميته ويجعله
غريبا ومدهشا.." ويذكر برشت ثلاثة طرق من أجل تجسيد علة التغريب على المسرح:
نقل الدور إلى الشخص الثالث.
ـ الانتقال إلى الماضي.
ـ ربط توجيه التمثيل والتعليقات في الحوار"[24].
إن برتولت برشت، يخدم عملية صقل الوعي، من خلال استخدامه لعملية التغريب،
وتأرخة الأحداث، لكي يصبح الإنسان واعيا بأحداث وجوده الاجتماعي، وممارسة
النقد من أجل تغيير هذا الوجود للوصول إلى أهداف الثورة الاجتماعية[25].
فبرشت يتناول نصوص التراث المسرحي بالتبديل والتغيير، رغبة منه في إخضاعها
للتغريب، وفي العروض المسرحية الملحمية، يلجأ إلى كثير من الوسائل لإحداث
التغريب ومن أهمها، شخصية الراوي، الذي يفسر ما هو كائن وما يجب أن
يكون[26].
وللاقتراب أكثر من مسرح برشت، لا بد من الوقوف بالضرورة على الديالكتيك،
باعتباره المحرك الرئيس لجميع أفكاره وأعماله. فما هو الديالكتيك؟[27].
الديالكتيك هو الجدل، أي محاولة الوصول إلى الحقيقة، فمن خلال رأيين
متناقضين، ينشأ حوار ثالث يقودنا إلى الحقيقة والصواب.. وقد ربط برشت هذا
القانون بالمسرح، حيث أن الصراع الدرامي هو صراع جدلي، مما دفعه إلى
الانشغال طويلا بضرورة نقل الديالكتيك إلى المسرح، ليكشف للمشاهد
التناقضات الاجتماعية والاقتصادية، التي تحرك التاريخ وتطور المجتمعات، ما
دام الإنسان وليد التناقضات الاجتماعية المنعكسة على مساره الحياة
–التي لا يمكن أن تظل جامدة- وعلى تصرفاته وأخلاقه وحاجاته المستمرة
للتغيير ونبذ الركود.. إذ أن قانون الديالكتيكي يفرض نفسه حيث لا توجد
حتمية للأشياء، لأنها في تغيير مستمر[28] وقديما قيل "إنك لا تستحم في
النهر مرتين" أو على حد تعبير هرقليطس "إن مثل هذا التغيير ينبغي أن يعتمد
على العقل والحكمة لأن الحاكمين عبر التاريخ لم يتنازلوا طواعية عن
امتيازاتهم وظلمهم للناس دون أن يعمل البشر على إثارة عملية التغيير. إذ
لا توجد ثمة سلطة تساعد بل وساعدت الإنسان عبر التاريخ على تغيير مسار
حياته دون أن يشارك هو نفسه في هذه العملية"[29]. إن أثر برتولت برشت على
المسرح العالمي، كان يتسم بالثورة على تناقضات المجتمع، وكانت كتاباته
التي تتفجر أسئلة عن واقع الإنسان وحقائق المجتمع، تؤدي لتحريك التفكير
وجذب القارئ والمشاهد، إلى حلبة الصراع الدرامي والمساهمة في إصدار
الأحكام والحلول الناجعة. ما دام المسرح يشكل
واجهة ثقافية إستراتيجية للدولة من أجل ترسيخ نمطها السياسي. "إن المجتمع
السائر نحو التغيير وصراع الإنسان ضد أزمات وتناقضات الحياة هما الموضوعان
الرئيسيان في مسرح برشت كما أن أفكاره وطريقة تصويره لهذه الصراعات تقودنا
إلى التعرف على علة التغريب التي ابتكرها برشت لاستفزاز المشاهد من خلال
تعايشه مع الأحداث اليومية، وهذه الأساليب تمنح المسرحية قدرة كبيرة على
استخدام الديالكتيك وكيفية التعامل اليومي معه حيث يصبح بالنسبة للمشاهد
نوعا من المتعة اليومية، وكان برشت يميل دائما إلى تسمية مسرحه بالمسرح
الديالكتيكي، وكان يقول: من خلال استخدام الديالكتيك في المسرح يمكن للمرء
أن يكشف عن التناقضات المثيرة"[31].
حمزة سديرة-
- عدد المساهمات : 453
العمر : 36
المكان : قصر*قفصة
المهنه : طلب العلم
الهوايه : كل شيء
نقاط تحت التجربة : 12489
تاريخ التسجيل : 07/03/2008
رد: في رحاب البكالوريا
سعد الله ونوس ومسرح التسيس:
نشأ المسرح سياسيا وما يزال حسب رأي سعد الله ونوس، والنص المسرحي عنده
يسير في خط مسرح "التسييس" الهادف إلى تحسيس الجمهور وتفتيح عيونه. "وهذا
الخط يضع فرقا أساسيا بين ما يقال له "مسرح سياسي" وبين المسرح
"التسييسي".. فكل مسرح هو بالنهاية، مسرح سياسي.. والمهم أية "سياسة"
يخدمها هذا النص المسرحي أو ذاك؟ باتجاه تكريس الوضع القائم أم باتجاه
التغيير لمصلحة التقدم الاجتماعي؟"[32]. وما دامت فكرة "المسرح السياسي"
فضفاضة، عائمة وغير محددة.. كان لا بد لسعد الله ونوس، أمام هذا الوضع من
التفريق بين المسرح السياسي ومسرح "التسييس" أي تعميق وتوضيح الهم السياسي
في العمل المسرحي.. بمعنى الانتقال إلى التسييس.
فمفهوم التسييس عنده يعني محاولة "طرح المشكلة السياسية من خلال قوانينها
العميقة وعلاقاتها المترابطة والمتشابكة داخل بنية المجتمع الاقتصادية
والسياسية، وأنك تحاول استشفاف أفق تقدمي لحل هذه المشاكل"[33]. إذن
بالتسييس أراد سعد الله ونوس أن يمضي "خطوة أعمق في تعريف المسرح السياسي
بأنه المسرح الذي يحمل مضمونا سياسيا تقدميا. ومن نافل القول أن الطبقات
الفعلية التي تحتاج إلى التسييس هي الطبقات الشعبية"[34].
لقد بدأ المسرح العربي الحديث، بعد نكسة 1967 مرحلة جديدة، عندما وجد نفسه
مواجها بسؤال كبير: "من نحن، إلى أين، كيف؟" وهذا يؤكد أن المسرح أداة
ثورية بالغة الأهمية، من أجل تجاوز الهزيمة والتمزق والتخلف[35]. "ولقد
خضع المسرح بعد النكسة لمراجعة إحساسية واتخذ طريقا جديدة لرؤياه محاولا
إعادة اكتشاف الواقع العربي وكشفه والإسهام في تغييره بدءا برسم الحاضر
بكل تناقضاته لتحديد أفق المستقبل بنظرة مغايرة"[36]. وكانت الخطوة
الأولى، في تعميق، وإغناء علاقة التجربة المسرحية بالواقع الذي تنمو فيه،
تقر على أن "للمسرح علاقة بالسياسة وأن المسرح لا يستطيع أن يدير ظهره
للأحداث السياسي القائمة في مجتمعنا"[37]. وهذا ما ذهب إليه رفيق الصبان
في قوله: "إن المسرح أداة سياسية بالدرجة الأولى ولا يكمن أن يجد مسوغا
لوجوده إذا ابتعد عن معالجة القضايا السياسية والاقتصادية النابعة من
العصر"[38]. وهذا ما يزكيه سعد أردش بقوله: "وفي المسرح الملتزم يختار رجل
المسرح موقفه من المجتمع، ويلتزم به وهو بطبيعة الحال موقف واضح في جانب
الجماهير، وعلى وجه الدقة في جانب الطبقات المستغلة، ويدخل في التزام رجل
المسرح السياسي أيضا أمر توصيل المسرح إلى هذه الطبقات"[39]. إلا أن هناك
جانبا آخر للتسييس، يتحدد في الجانب الجمالي، إذ عليه أن يبحث عن أشكال
اتصال جديدة ومبتكرة، لا يوفرها دائما التراث الإنساني، كما يرى ذلك سعد
الله ونوس.
فلا بد إذن، من مواجهة ما هو سائد من تفاهة وذوق ساقط سقيم، وخلق جماليات
جديدة ومبتكرة، أو كما يرى (بسكاتور) أنه يجب على المسرح أن يخدم الحركة
الثورية، ومعنى هذه الخدمة "أن يقدم المسرح لجماهير هذه الطبقة عروضا
مسرحية تحرره علميا وثقافيا بما يتوازى مع قيام المؤسسة السياسية بالإعداد
للتحرير الاجتماعي"[40] ليكون بذلك مسرح التسييس، إطارا للعمل والتجربة.
ولقد التقط سعد الله ونوس، في تجربته صورة من صور الإنسان العربي، أو كما
عبر عنها "الصورة التي هزتني وأثرت في وبالتالي انعكست في أعمالي هي صورة
الإنسان العربي المهزوم المقهور، والذي يلتمس إمكانية أن يتفتح وأن يحمل
قدره بنفسه ولكنه لا يجد حوله إلا الصعوبات والعراقيل والأكاذيب. عراقيل
سببها بالدرجة الأولى الوضع السياسي الذي يعيش فيه، سببها القمع المنظم
الطويل الذي خضع له، سببها أيضا شراسة القوى الخارجية التي تحاول هزيمته
ومنعه من أن يتفتح ويحمل قدره بنفسه"[41].
من ثمة فإن سعد الله ونوس، يريد أن يبني وعيا لا أن يعطي وعيا جاهزا،
فتأملوا معي يقول سعد الله ونوس أن "يأتي الجمهور وهو يحمل أحزان يومه
وهموم حياته فنمتص نقمته على الواقع ونحولها إلى ضحكات تملأ فراغ الصالة،
ولا يتجاوز تأثيرها عتبة النفس والمسرح، ونفرغه من شحنة غضب كان يمكن أن
نوجه إليها سهاما ونفجرها في ذاته نارا حارقة"[42].
إن بناء الوعي، يمكن أن يتم عبر عرض ما هو سلبي، كأن نأخذ عيبا من العيوب
ونظهر آثاره، وبذلك نكون قد قدمنا مثالا حيا ودرسا فعليا لهذه الحالة. دون
أن ننسى أن المسرح أساسا، عملية جدلية بين الصالة والخشبة.
إذن فهاجس ونوس، هو البحث في المجتمع عن مشاكله وقضاياه.. وعن النماذج
التي تتحكم في سيرورته وحركته، من هنا حاول بناء مسرح عربي عبر طرح
إشكالية المجتمع العربي[43] دون أن يطمح إلى أن يكون المسرح عمل تغيير
فوري وراهن "إن فاعلية المسرح في تقديري الآن [كما يقول سعد الله ونوس ]
هي بالضبط ألا يشغل نفسه في التغيير الثوري والسريع هي أن يكون وسيلة
معرفية توسع أفق المتفرج معرفيا، وأن يكون في الوقت نفسه، كما قلت وألححت
على هذه النقطة، وسيلة جمالية توقد في ذهن المتفرج قابليات للذوق والتذوق
مختلفة، وتتقاطع مع القيم الجمالية التي يعممها الفن والإعلام
السائد"[44]. لقد أدرك ونوس أن "جدوى الإنسان الرئيسة أو الجوهرية هي أن
يكون سياسيا، وأن على كل منا أن يعمل ما يستطيع"[45]، واضعا نصب عينيه
هدفين: الوضوح الفكري السياسي أولا، ثم طبيعة المتفرج الذي يريد مخاطبته.
وإذا كان هذا هو ما يطلب من المبدع المسرحي، فما هو المطلوب من المتفرج أو
المتلقي من أجل خلق تواصل فعال يحقق التغيير؟
إن المسرح في أعم تعاريفه، ظاهرة اجتماعية تتحدد في أبسط أشكالها من متفرج
وممثل، وأي تطوير للمسرح يتعلق بهما معا.. "فلا معنى لأي إبداع يتطور من
غير أن يكون هناك تطور مشابه ومماثل على مستوى الجمهور"[46]. فبإمكان
المتفرج أن يقوم بدور كبير في توجيه المسرح، لذا وجب تعليمه، وتشجيعه، حتى
يباشر وظيفته كمتفرج بشكل فعال، وأول ما يجب أن يقوم به المتلقي، هو أن
يغير من سلوكه داخل قاعة العرض، ويتخلى عن سلبيته المتمثلة في جلسته
السكونية، التي هي أشبه ما تكون بالخضوع للمناهج التعليمية العتيقة، والتي
هي إلى الاستسلام أقرب منه إلى التعلم، الذي يحث على مناقشة ما يجري
وتمحيصه وانتقاده وإبداء الرأي فيه.
ينبغي على الجمهور، أن يعي أهميته في أي عرض مسرحي، وكل ما يدور على
الخشبة يستهدفه، ويهمه، ويعنيه، لذا عليه أن يتخذ موقفا منه وبناء على هذا
الموقف تتحدد قيمة العرض.. على المتفرج، أن يحس بالمسؤولية وبأن لمواقفه
نتائج هامة وخطيرة أيضا، عليه وعلى أوضاع بلاده[47]. فالمتفرج هو الطرف
الأساس، لأي عرض مسرحي، لذلك عليه أن يمارس حقوقه كاملة، عليه أن يؤدي
دوره بشكل تام وإيجابي. عليه أن يملأ حيزه في كل نشاط مسرحي، وأن يقبل
ويرفض.. أن يضغط ويقاطع، عليه ألا يكون سلبيا يأخذ ما يقدم له دون اعتراض
ودون تمحيص[48]. وأو عليه حسب سعد الله ونوس "أن يكون واعيا ووقحا، وبذلك
فقط يمكن أن تتساقط كثير من التفاهات والأكاذيب، وأن يصبح المسرح نشاطا
اجتماعيا وثقافيا فعالا يجمع الخشبة والصالة في علاقة جدلية وثيقة
وعنية"[49].
بهذا سيكون العرض المسرحي، هو الحدث المقلق الذي يجمع عددا من الناس، لا
يلبثون عند انصهار الخشبة والصالة في وحدة لا تتجزء، أن يحسوا وحدة
مشاكلهم وحميميتهم، عبر الارتجال، وأحيانا المشاركة في العرض. ولنا أن
نتصور ما يمكن أن ينتج عبر هذا التفاعل بين المتفرجين؟![50].
وصفوة القول، أن سعد الله ونوس مبدع صنع بالكلمات مسرحيات رائعة، كان يطمح
من ورائها إلى تأسيس "الكلمة/الفعل" ويناضل بقلمه كما يناضل الجندي
ببندقيته، وعاد يمشي على جرحه وهو يقول: "المناضل الذي أريد أن أكونه، ليس
في النهاية سوى كاتب فعله الكلمات […] إنه ما من هزيمة لعبت فيها
الكلمات الدور الذي لعبته في هزيمة حزيران. كنت أحس الكلمة شركا سقطنا في
حبائله. كانت خديعة، أو جثة تتحلل، وتتحول غازاتها في دخائلنا خجلا صامتا
وعارا باردا […] وما فائدة الكلمات حين يكون ما نحتاجه هو "الفعل"
الذي يغسلنا من دجل الكلمات وعفونتها التي فاحت رائحتها في قيظ الهزيمة؟
ما فائدة الكلمات إن لم يندغم فيها الفعل ويكونها؟"[51].
وبدأ بحثا دائبا عن طموحه الذي يتأسس بالكلمة/الفعل، كلمة عارية مكثفة
تكشف الواقع وتغيره في آن.. وانتصب السؤال ثانية: هل تستطيع الكلمة أن
تكون فعلا حقيقيا؟ وفي فترة اعتقد أن ذلك ممكنا، وغمره إحساس
بالتوازن[52]. وبعد مخاض صعب، جاءت لحظة الوضع العسير، وجاء معها ونوس
يحمل على أكتافه ثقل التجربة والممارسة.. ولسان حاله يقول: "اهتز حلمي،
وأخذت تترمد الصورة المتقدة التي اشتعلت في رأسي وأنا أكتب"[53]. ليخلص
إلى القول والأسى يعتصر قلبه: "الكلمة كلمة، المسرح مسرح، وأن الكلمة ليست
فعلا وأن المسرح ليس بؤرة انتفاضة. كان الاستنتاج مخيبا ومرا. وكان الحلم
ينأى منطويا في سراب أو وهم، نعم تبدد الحلم وانطوى، أما الإشكال فبقي في
مواجهتي يقلقني، ويدفعني إلى رحلة بحث جديدة"[54]. ولم يتحقق حلمه، فربما
"كان خطأ في العمل أو في الحلم نفسه، وربما كان هناك كسل في تحقيق التجربة
ومواصلتها"[55]. فلماذا جاءت النتيجة سوداء حالكة كليل حزيران؟ ويأتينا
الجواب من سعد الله ونوس: "إنني (مشروع) دائب وقلق كي أكون فعالا في زمني
وبيئتي [لكنني ] أجد هذا المشروع مطوقا بالصعاب، مهدوجا بالشوك والوساوس.
وما فعلته حتى الآن لا يستوعب ما أريده"[56] مضيفا، لقد: "كنت أطمح إلى
إنجاز "الكلمة-الفعل" التي يتلازم ويندغم في سياقها حلم الثورة وفعل
الثورة معا [… لكن ] كيف أصوغ "الكلمة-الفعل" وكيف أنجز بالكتابة
طموحا مزدوجا أو ربما متعارضا أم أن هذه المحاولة مستحيلة، ومحكومة دائما
بالإخفاق"[57].
.
نشأ المسرح سياسيا وما يزال حسب رأي سعد الله ونوس، والنص المسرحي عنده
يسير في خط مسرح "التسييس" الهادف إلى تحسيس الجمهور وتفتيح عيونه. "وهذا
الخط يضع فرقا أساسيا بين ما يقال له "مسرح سياسي" وبين المسرح
"التسييسي".. فكل مسرح هو بالنهاية، مسرح سياسي.. والمهم أية "سياسة"
يخدمها هذا النص المسرحي أو ذاك؟ باتجاه تكريس الوضع القائم أم باتجاه
التغيير لمصلحة التقدم الاجتماعي؟"[32]. وما دامت فكرة "المسرح السياسي"
فضفاضة، عائمة وغير محددة.. كان لا بد لسعد الله ونوس، أمام هذا الوضع من
التفريق بين المسرح السياسي ومسرح "التسييس" أي تعميق وتوضيح الهم السياسي
في العمل المسرحي.. بمعنى الانتقال إلى التسييس.
فمفهوم التسييس عنده يعني محاولة "طرح المشكلة السياسية من خلال قوانينها
العميقة وعلاقاتها المترابطة والمتشابكة داخل بنية المجتمع الاقتصادية
والسياسية، وأنك تحاول استشفاف أفق تقدمي لحل هذه المشاكل"[33]. إذن
بالتسييس أراد سعد الله ونوس أن يمضي "خطوة أعمق في تعريف المسرح السياسي
بأنه المسرح الذي يحمل مضمونا سياسيا تقدميا. ومن نافل القول أن الطبقات
الفعلية التي تحتاج إلى التسييس هي الطبقات الشعبية"[34].
لقد بدأ المسرح العربي الحديث، بعد نكسة 1967 مرحلة جديدة، عندما وجد نفسه
مواجها بسؤال كبير: "من نحن، إلى أين، كيف؟" وهذا يؤكد أن المسرح أداة
ثورية بالغة الأهمية، من أجل تجاوز الهزيمة والتمزق والتخلف[35]. "ولقد
خضع المسرح بعد النكسة لمراجعة إحساسية واتخذ طريقا جديدة لرؤياه محاولا
إعادة اكتشاف الواقع العربي وكشفه والإسهام في تغييره بدءا برسم الحاضر
بكل تناقضاته لتحديد أفق المستقبل بنظرة مغايرة"[36]. وكانت الخطوة
الأولى، في تعميق، وإغناء علاقة التجربة المسرحية بالواقع الذي تنمو فيه،
تقر على أن "للمسرح علاقة بالسياسة وأن المسرح لا يستطيع أن يدير ظهره
للأحداث السياسي القائمة في مجتمعنا"[37]. وهذا ما ذهب إليه رفيق الصبان
في قوله: "إن المسرح أداة سياسية بالدرجة الأولى ولا يكمن أن يجد مسوغا
لوجوده إذا ابتعد عن معالجة القضايا السياسية والاقتصادية النابعة من
العصر"[38]. وهذا ما يزكيه سعد أردش بقوله: "وفي المسرح الملتزم يختار رجل
المسرح موقفه من المجتمع، ويلتزم به وهو بطبيعة الحال موقف واضح في جانب
الجماهير، وعلى وجه الدقة في جانب الطبقات المستغلة، ويدخل في التزام رجل
المسرح السياسي أيضا أمر توصيل المسرح إلى هذه الطبقات"[39]. إلا أن هناك
جانبا آخر للتسييس، يتحدد في الجانب الجمالي، إذ عليه أن يبحث عن أشكال
اتصال جديدة ومبتكرة، لا يوفرها دائما التراث الإنساني، كما يرى ذلك سعد
الله ونوس.
فلا بد إذن، من مواجهة ما هو سائد من تفاهة وذوق ساقط سقيم، وخلق جماليات
جديدة ومبتكرة، أو كما يرى (بسكاتور) أنه يجب على المسرح أن يخدم الحركة
الثورية، ومعنى هذه الخدمة "أن يقدم المسرح لجماهير هذه الطبقة عروضا
مسرحية تحرره علميا وثقافيا بما يتوازى مع قيام المؤسسة السياسية بالإعداد
للتحرير الاجتماعي"[40] ليكون بذلك مسرح التسييس، إطارا للعمل والتجربة.
ولقد التقط سعد الله ونوس، في تجربته صورة من صور الإنسان العربي، أو كما
عبر عنها "الصورة التي هزتني وأثرت في وبالتالي انعكست في أعمالي هي صورة
الإنسان العربي المهزوم المقهور، والذي يلتمس إمكانية أن يتفتح وأن يحمل
قدره بنفسه ولكنه لا يجد حوله إلا الصعوبات والعراقيل والأكاذيب. عراقيل
سببها بالدرجة الأولى الوضع السياسي الذي يعيش فيه، سببها القمع المنظم
الطويل الذي خضع له، سببها أيضا شراسة القوى الخارجية التي تحاول هزيمته
ومنعه من أن يتفتح ويحمل قدره بنفسه"[41].
من ثمة فإن سعد الله ونوس، يريد أن يبني وعيا لا أن يعطي وعيا جاهزا،
فتأملوا معي يقول سعد الله ونوس أن "يأتي الجمهور وهو يحمل أحزان يومه
وهموم حياته فنمتص نقمته على الواقع ونحولها إلى ضحكات تملأ فراغ الصالة،
ولا يتجاوز تأثيرها عتبة النفس والمسرح، ونفرغه من شحنة غضب كان يمكن أن
نوجه إليها سهاما ونفجرها في ذاته نارا حارقة"[42].
إن بناء الوعي، يمكن أن يتم عبر عرض ما هو سلبي، كأن نأخذ عيبا من العيوب
ونظهر آثاره، وبذلك نكون قد قدمنا مثالا حيا ودرسا فعليا لهذه الحالة. دون
أن ننسى أن المسرح أساسا، عملية جدلية بين الصالة والخشبة.
إذن فهاجس ونوس، هو البحث في المجتمع عن مشاكله وقضاياه.. وعن النماذج
التي تتحكم في سيرورته وحركته، من هنا حاول بناء مسرح عربي عبر طرح
إشكالية المجتمع العربي[43] دون أن يطمح إلى أن يكون المسرح عمل تغيير
فوري وراهن "إن فاعلية المسرح في تقديري الآن [كما يقول سعد الله ونوس ]
هي بالضبط ألا يشغل نفسه في التغيير الثوري والسريع هي أن يكون وسيلة
معرفية توسع أفق المتفرج معرفيا، وأن يكون في الوقت نفسه، كما قلت وألححت
على هذه النقطة، وسيلة جمالية توقد في ذهن المتفرج قابليات للذوق والتذوق
مختلفة، وتتقاطع مع القيم الجمالية التي يعممها الفن والإعلام
السائد"[44]. لقد أدرك ونوس أن "جدوى الإنسان الرئيسة أو الجوهرية هي أن
يكون سياسيا، وأن على كل منا أن يعمل ما يستطيع"[45]، واضعا نصب عينيه
هدفين: الوضوح الفكري السياسي أولا، ثم طبيعة المتفرج الذي يريد مخاطبته.
وإذا كان هذا هو ما يطلب من المبدع المسرحي، فما هو المطلوب من المتفرج أو
المتلقي من أجل خلق تواصل فعال يحقق التغيير؟
إن المسرح في أعم تعاريفه، ظاهرة اجتماعية تتحدد في أبسط أشكالها من متفرج
وممثل، وأي تطوير للمسرح يتعلق بهما معا.. "فلا معنى لأي إبداع يتطور من
غير أن يكون هناك تطور مشابه ومماثل على مستوى الجمهور"[46]. فبإمكان
المتفرج أن يقوم بدور كبير في توجيه المسرح، لذا وجب تعليمه، وتشجيعه، حتى
يباشر وظيفته كمتفرج بشكل فعال، وأول ما يجب أن يقوم به المتلقي، هو أن
يغير من سلوكه داخل قاعة العرض، ويتخلى عن سلبيته المتمثلة في جلسته
السكونية، التي هي أشبه ما تكون بالخضوع للمناهج التعليمية العتيقة، والتي
هي إلى الاستسلام أقرب منه إلى التعلم، الذي يحث على مناقشة ما يجري
وتمحيصه وانتقاده وإبداء الرأي فيه.
ينبغي على الجمهور، أن يعي أهميته في أي عرض مسرحي، وكل ما يدور على
الخشبة يستهدفه، ويهمه، ويعنيه، لذا عليه أن يتخذ موقفا منه وبناء على هذا
الموقف تتحدد قيمة العرض.. على المتفرج، أن يحس بالمسؤولية وبأن لمواقفه
نتائج هامة وخطيرة أيضا، عليه وعلى أوضاع بلاده[47]. فالمتفرج هو الطرف
الأساس، لأي عرض مسرحي، لذلك عليه أن يمارس حقوقه كاملة، عليه أن يؤدي
دوره بشكل تام وإيجابي. عليه أن يملأ حيزه في كل نشاط مسرحي، وأن يقبل
ويرفض.. أن يضغط ويقاطع، عليه ألا يكون سلبيا يأخذ ما يقدم له دون اعتراض
ودون تمحيص[48]. وأو عليه حسب سعد الله ونوس "أن يكون واعيا ووقحا، وبذلك
فقط يمكن أن تتساقط كثير من التفاهات والأكاذيب، وأن يصبح المسرح نشاطا
اجتماعيا وثقافيا فعالا يجمع الخشبة والصالة في علاقة جدلية وثيقة
وعنية"[49].
بهذا سيكون العرض المسرحي، هو الحدث المقلق الذي يجمع عددا من الناس، لا
يلبثون عند انصهار الخشبة والصالة في وحدة لا تتجزء، أن يحسوا وحدة
مشاكلهم وحميميتهم، عبر الارتجال، وأحيانا المشاركة في العرض. ولنا أن
نتصور ما يمكن أن ينتج عبر هذا التفاعل بين المتفرجين؟![50].
وصفوة القول، أن سعد الله ونوس مبدع صنع بالكلمات مسرحيات رائعة، كان يطمح
من ورائها إلى تأسيس "الكلمة/الفعل" ويناضل بقلمه كما يناضل الجندي
ببندقيته، وعاد يمشي على جرحه وهو يقول: "المناضل الذي أريد أن أكونه، ليس
في النهاية سوى كاتب فعله الكلمات […] إنه ما من هزيمة لعبت فيها
الكلمات الدور الذي لعبته في هزيمة حزيران. كنت أحس الكلمة شركا سقطنا في
حبائله. كانت خديعة، أو جثة تتحلل، وتتحول غازاتها في دخائلنا خجلا صامتا
وعارا باردا […] وما فائدة الكلمات حين يكون ما نحتاجه هو "الفعل"
الذي يغسلنا من دجل الكلمات وعفونتها التي فاحت رائحتها في قيظ الهزيمة؟
ما فائدة الكلمات إن لم يندغم فيها الفعل ويكونها؟"[51].
وبدأ بحثا دائبا عن طموحه الذي يتأسس بالكلمة/الفعل، كلمة عارية مكثفة
تكشف الواقع وتغيره في آن.. وانتصب السؤال ثانية: هل تستطيع الكلمة أن
تكون فعلا حقيقيا؟ وفي فترة اعتقد أن ذلك ممكنا، وغمره إحساس
بالتوازن[52]. وبعد مخاض صعب، جاءت لحظة الوضع العسير، وجاء معها ونوس
يحمل على أكتافه ثقل التجربة والممارسة.. ولسان حاله يقول: "اهتز حلمي،
وأخذت تترمد الصورة المتقدة التي اشتعلت في رأسي وأنا أكتب"[53]. ليخلص
إلى القول والأسى يعتصر قلبه: "الكلمة كلمة، المسرح مسرح، وأن الكلمة ليست
فعلا وأن المسرح ليس بؤرة انتفاضة. كان الاستنتاج مخيبا ومرا. وكان الحلم
ينأى منطويا في سراب أو وهم، نعم تبدد الحلم وانطوى، أما الإشكال فبقي في
مواجهتي يقلقني، ويدفعني إلى رحلة بحث جديدة"[54]. ولم يتحقق حلمه، فربما
"كان خطأ في العمل أو في الحلم نفسه، وربما كان هناك كسل في تحقيق التجربة
ومواصلتها"[55]. فلماذا جاءت النتيجة سوداء حالكة كليل حزيران؟ ويأتينا
الجواب من سعد الله ونوس: "إنني (مشروع) دائب وقلق كي أكون فعالا في زمني
وبيئتي [لكنني ] أجد هذا المشروع مطوقا بالصعاب، مهدوجا بالشوك والوساوس.
وما فعلته حتى الآن لا يستوعب ما أريده"[56] مضيفا، لقد: "كنت أطمح إلى
إنجاز "الكلمة-الفعل" التي يتلازم ويندغم في سياقها حلم الثورة وفعل
الثورة معا [… لكن ] كيف أصوغ "الكلمة-الفعل" وكيف أنجز بالكتابة
طموحا مزدوجا أو ربما متعارضا أم أن هذه المحاولة مستحيلة، ومحكومة دائما
بالإخفاق"[57].
.
حمزة سديرة-
- عدد المساهمات : 453
العمر : 36
المكان : قصر*قفصة
المهنه : طلب العلم
الهوايه : كل شيء
نقاط تحت التجربة : 12489
تاريخ التسجيل : 07/03/2008
رد: في رحاب البكالوريا
هكذا كانت النتيجة التي توصل إليها سعد الله ونوس مخيبة ومرة، صادمة، وربما كارثية أيضا.
وختاما، هل يسمح لنا الحضور البرشتي، في أعمال سعد الله ونوس بإطلاق حكم عام مفاده أن سعد الله ونوس تأثّر حدّ النخاع ببروتولت برشت؟؟
إن ركوب هذه الموجة، مغامرة محفوفة بالمخاطر، وغير مأمونة العواقب.. خاصة
وأننا تطرقنا لقضية واحدة دون سواها، فحصل التقاء ربما قد يكون وليد
(الصدفة)، في حين قد يكون بينهما اختلاف كبير في العديد من القضايا الأخرى
–وهذا أمر وارد دون أدنى شك- وجانبناه بحكم احترامنا للخط المرسوم
سلفا لهذه المقاربة. والحال، أن كل نظرية أو دعوة –كيفما كانت- لا
يجب انتزاعها من تربتها ومحاولة زرعها ثانية، وبشكل تعسفي في أرض غير
الأرض، وتربة غير التربة، ونجاح أو فشل تجربة، يجب محاكمتها تحت سمائها
وليس تحت أي سماء أخرى؛ أي جيب موضعتها في إطارها التاريخي والسوسيوثقافي.
من ثمة، فإن الحضور البرشتي في أعمال بعض المسرحيين العرب، هو حضور مؤقت
أو بكلمة أكثر دقة، إنه تقليعة (Mode) نادت بها ظروف معينة تراجعت بتراجع
تلك الظروف. أما بالنسبة لسعد الله ونوس، فمراجعته تعفينا من الخوض في
المتاهات التي يمكنها أن تبعدنا عن صلب الموضوع، إذ يقول: "اكتشفت أنه من
الصعب جدا، رغم موافقتي التامة وتبني الشخصي لأهم مقولات برشت أنه من
العسير جدا تقديم مسرحية لبرشت كما هي لبيئة محلية كبيئة دمشق مثلا"[58].
وهو ما يعني أن سعد الله ونوس قدم اجتهادات وتجارب، تراعي خصوصيات المجتمع
العربي، دون النقل المحايد والبارد لأهم مرتكزات المسرح الملحمي، مقدما
مسوغات للصعوبات التي ذكرها، في قوله: "نحن كجمهور عفوي –وهذا
امتياز- ليست لدينا تقاليد مسرحية ثقيلة تنيخ على أكتافنا وتمنعنا مثلا،
من معاناة تجربة مسرحية بتلقائية مختلفة، ليس لدينا جمهور متيبس وليست
لدينا عادات وتقاليد في الفرجة، وليست لدينا صالات مقسمة تقسيما اعتباطيا
وليست لدينا بنية ذهنية للمسرح أو المسرحية المتيبسة، ونطالب بأن نجدها
دائما في كل مسرح ندخله"[59].
أي أن لدينا مكتسبات تحتفظ بها الذاكرة الجماعية، وتراثنا المشترك في
وطننا العربي الكبير، يسعفنا في صقل تجربتنا المسرحية الفتية، "لذلك فإن
التجديدات التي اقتطعت الكثير من الجهد والوقت لدى برشت هي مبذولة لنا
بشكل تلقائي، وبعض محاولاته لكسر الإيهام المسرحي تبدو بالنسبة لنا غير
مفهومة لأننا لم نعش مرحلة الإيهام المسرحي، أو لم تترسخ لدينا تقاليد
فرجة تتضمن الإيهام المسرحي"[60].
ومهما يكن من أمر سعد الله ونوس، استجابت ممارسته لتنظيراته أو عاكسه
الحظ، حقق الكلمة/الفعل في مسرحه، أو أخفق في ذلك، وجد واقعا لحلمه أو ظل
حلمه يحلق في الفضاء دون أن يجد أرضا تأويه أو سماء تقيه.. سواء تكلم
قليلا أو غزاه الصمت طويلا، أو العكس، تأثر ببرتولت برشت حد النخاع، أو
لامس أهم مقولاته دون التغلغل فيها.. فإنه يبقى "عاشق المسرح بامتياز
ووجها من انضر وجوهه المعاصرة، أثبت جدارته في أعماله الطويلة […]
قضيته كانت واحدة: من نحن، ولماذا يحدث لنا وفينا ما يحدث؟ عين إلى الفهم
وغلى التحليل وأخرى إلى الحفز والتحريض، عين إلى الواقع المعيش وأخرى إلى
التراث والموروث، عين إلى مجددي فن المسرح في الغرب وأخرى إلى الراوي
والحكواتي، عين إلى وضوح الفكر ونصاعته وأخرى إلى أحكام العمل الفني
وإثرائه، بعبارة واحدة: عين إلى الفعل وأخرى إلى المتعة"[61].
لقد ظل سعد الله ونوس ممزقا بين موقعين "لم يتخل عن الخصوصية الإبداعية
لنصوص المسرحية ولم يتخل عن طموحه إلى تغيير البنى السياسية الاجتماعية
بهذه الأداة مما يطرح عليها تحديا كبيرا […] والمتمثل في عجز
الإبداع والتعبير على مستوى النص من الانتقال إلى مستوى الواقع السياسي
والاجتماعي. فقد نجح في إضاءة إشكالية المسرح وفي تحليل الانقطاعات، لكنه
قد مسرح الحل أو حوله إلى حكاية، إلى مسرحية ثانية إلى حلم بجماعية الكلام
وعفويته"[62].
ليبقى المسرح والسياسة؛ الإنسان والقضية.
تأثر حد النخاع ببرتولت برشت؟!
--------------------------------
الهوامش:
[1] - يمكن الرجوع إلى مداخلة محمد برادة الموسومة بـ: الأدبي والسياسي:
جدلية معاقة؟ مجلة البحث العلمي، العدد: 43/44، السنة الثلاثون 1997.
والتي تعرض فيها لهذه الإشكالية في الثقافة العربية. يقول: "ما كتب عندنا
حول إشكالية علاقة الأدب بالسياسة، لا يندرج ضمن اهتمام نظري أساسي، يكون
تراكما وينجز تحيينا للأسئلة، ويرصد التبدلات في طرائق التفكير وبالمقارنة
مع الممارسة الأدبية والوعي السياسي"، ص149.
[2] - المرجع نفسه، ص149.
[3] - برتولد بريخت، نظرية المسرح الملحمي، ترجمة: جميل نصيف، عالم المعرفة، بيروت، بدون طبعة، بدون تاريخ، ص14.
[4] - أوجستو بول، نقلا عن: فؤاد دوارة، مسرح المقهورين، رؤية جديدة تهدم
نظرية أرسطو من أساسها، مجلة العربي (الكويتية)، العدد 272، يوليوز 1981،
ص146.
[5] - أحمد بلخيري، معجم المصطلحات المسرحية، مطبعة سندي، مكناس، الطبعة الأولى، 1997، ص118.
[6] - عبد الكريم برشيد، كتابتنا المسرحية في أفق التساؤل، مجلة الوحدة، العدد 58/59، يوليوز/غشت، 1989، ص128-129.
[7] - سعد أردش، المخرج في المسرح المعاصر، المجلس الوطني للثقافة والفنون
والآداب، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، العدد 19، يوليوز 1979، ص201.
[8] - علي عقلة عرسان، سياسة في المسرح، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، بدون طبعة، 1978، ص7.
[9] - سعد الله ونوس، بيانات لمسرح عربي جديد، دار الفكر الجديد، بيروت، الطبعة الأولى، 1988، ص41.
[10] - أحمد العشري، المسرح التحريضي، الإثارة والدعاية، مجلة عالم الفكر (الكويتية)، العدد: الأول، أبريل/ماي/يونيو 1987، ص103-104.
[11] - هوبرت هرنج، نقلا عن: علي عقلة عرسان، سياسة في المسرح، مرجع سابق، ص284.
[12] - برتولد بريخت، نظرية المسرح الملحمي، مرجع سابق، ص11.
[13] - سعد أردش، المخرج في المسرح المعاصر، مرجع سابق، ص206.
[14] - برتولد بريخت، نظرية المسرح الملحمي، مرجع سابق، ص87.
[15] - عدنان رشيد، مسرح برشت، دار النهضة العربية، بيروت، بدون طبعة، 1988، ص85.
[16] - برتولد بريخت، نظرية المسرح الملحمي، مرجع سابق، ص88.
[17] - فؤاد دوارة، مسرح المقهورين، مرجع سابق، ص149.
[18] - عدنان رشيد، مسرح برشت، مرجع سابق، ص93.
[19] - يطلق على التغريب في اللغة الألمانية: Verfremdung، وباللغة
الإنجليزية: Alienation، وعند نقاد الدراما في أمريكا: Estrangenent، وفي
اللغة الفرنسية فما هو كما ذكرنا: Distantiation، أما في لغتنا العربية
فقد درج الدارسون على ترجمته: التغريب أو الإغراب أو الإبعاد في القليل
الناذر، ولا شك أن الكلمة الأولى لائقة وشائعة.
[20] - برتولد بريخت، نظرية المسرح الملحمي، مرجع سابق، ص124.
[21] - المرجع نفسه، ص143.
[22] - المرجع نفسه، ص235.
[23] - عدنان رشيد، مسرح برشت، مرجع سابق، ص237.
[24] - المرجع نفسه، ص243.
[25] - المرجع نفسه، ص90.
[26] - سعد أردش، المخرج في المسرح المعاصر، مرجع سابق، ص210.
[27] - Dialectique جدلي، ديالكتيكي. وهو: فن حوار يرتفع به العقل من
المحسوس إلى المعقول (حسب أفلاطون)، استدلال على وجه الاحتمال (حسب
أرسطو)، منطق الوهم (حسب كانط)، إبراز تماسك التناقضات ووحدتها (في نظر
هيغل)، استدلال يعتمد المتناقضات وتفاوت الأفكار ليصل من بعد إلى عملية
تركيبية (في رأي المحدثين)..
[28] - انظر: عدنان رشيد، مسرح برشت، مرجع سابق، ص61-62-63-235.
[29] - المرجع نفسه، 235.
[30] - المرجع نفسه، 71.
[31] - المرجع نفسه، 76.
[32] - حوار مع سعد الله ونوس، أجراه نبيل حفار، مجلة الطريق، العدد الثاني، أبريل/ماي، 1986، ص95.
[33] - المرجع نفسه، 98.
[34] - المرجع نفسه، 98.
[35] - أحمد العشري، المسرح التحريضي، مرجع سابق، ص124.
[36] - المرجع نفسه، ص124-125.
[37] - حوار مع سعد الله ونوس، مجلة الطريق، مرجع سابق، ص97.
[38] - رفيق الصبان، نقلا عن عبد الله أبو هيف، التأسيس، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، بدون طبعة، بدون تاريخ، ص51.
[39] - سعد أردش، المخرج في المسرح المعاصر، مرجع سابق، ص193.
[40] - المرجع نفسه، ص201.
[41] - حوار مع سعد الله ونوس، مجلة الطريق، مرجع سابق، ص105.
[42] - علي عقلة عرسان، سياسة في المسرح، مرجع سابق، ص21.
[43] - حوار مع سعد الله ونوس، مجلة الطريق، مرجع سابق، ص107-108.
[44] - المرجع نفسه، 116.
[45] - إسماعيل فهد إسماعيل، سعد الله ونوس ورحلة الالتزام والوضوح، مجلة الآداب، العدد 6، يوليوز 1978، ص128.
[46] - هيئة التحرير، التأسيس، الورقة الأولى، مجلة التأسيس، العدد الأول، يناير 1978، ص12.
[47] - سعد الله ونوس، بيانات لمسرح عربي جديد، مرجع سابق، ص42.
[48] - المرجع نفسه، 43-44.
[49] - المرجع نفسه، 43-44.
[50] - كان المتفرجون أيام الثورة الفرنسية يتعاركون ويختصمون ويقتتلون
أثناء العرض المسرحي ثم ما لبثت أن تبدأ المعركة الحقيقة خارج المسرح.
[51] - سعد الله ونوس، بيانات لمسرح عربي جديد، مرجع سابق، ص384.
[52] - المرجع السابق، ص284-285.
[53] - المرجع السابق، ص286.
[54] - المرجع السابق، ص286.
[55] - حوار مع سعد الله ونوس، مجلة الطريق، مرجع سابق، ص102.
[56] - إسماعيل فهد إسماعيل، الكلمة/الفعل في مسرح سعد الله ونوس، دار الآداب، بيروت، الطبعة الأولى، ماي 1981، ص222.
[57] - سعد الله ونوس، بيانات لمسرح عربي جديد، مرجع سابق، ص283-286.
[58] - حوار مع سعد الله ونوس، مجلة الطريق، مرجع سابق، ص101.
[59] - المرجع نفسه، ص101.
[60] - المرجع نفسه، ص101.
[61] - فاروق عبد القاهر، صراع المساحات عند سعد الله ونوس، ربيع المسرح، العدد 1، الجمعة 25 ماي 1990، ص2.
[62] - خالدة سعيد، لغز النص القاتل ب2ين السلطة الكاتبة والرأس المكتوب
(قراءة في مسرح سعد الله ونوس)، مجلة الطريق، العدد الثاني، ماي 1985،
وختاما، هل يسمح لنا الحضور البرشتي، في أعمال سعد الله ونوس بإطلاق حكم عام مفاده أن سعد الله ونوس تأثّر حدّ النخاع ببروتولت برشت؟؟
إن ركوب هذه الموجة، مغامرة محفوفة بالمخاطر، وغير مأمونة العواقب.. خاصة
وأننا تطرقنا لقضية واحدة دون سواها، فحصل التقاء ربما قد يكون وليد
(الصدفة)، في حين قد يكون بينهما اختلاف كبير في العديد من القضايا الأخرى
–وهذا أمر وارد دون أدنى شك- وجانبناه بحكم احترامنا للخط المرسوم
سلفا لهذه المقاربة. والحال، أن كل نظرية أو دعوة –كيفما كانت- لا
يجب انتزاعها من تربتها ومحاولة زرعها ثانية، وبشكل تعسفي في أرض غير
الأرض، وتربة غير التربة، ونجاح أو فشل تجربة، يجب محاكمتها تحت سمائها
وليس تحت أي سماء أخرى؛ أي جيب موضعتها في إطارها التاريخي والسوسيوثقافي.
من ثمة، فإن الحضور البرشتي في أعمال بعض المسرحيين العرب، هو حضور مؤقت
أو بكلمة أكثر دقة، إنه تقليعة (Mode) نادت بها ظروف معينة تراجعت بتراجع
تلك الظروف. أما بالنسبة لسعد الله ونوس، فمراجعته تعفينا من الخوض في
المتاهات التي يمكنها أن تبعدنا عن صلب الموضوع، إذ يقول: "اكتشفت أنه من
الصعب جدا، رغم موافقتي التامة وتبني الشخصي لأهم مقولات برشت أنه من
العسير جدا تقديم مسرحية لبرشت كما هي لبيئة محلية كبيئة دمشق مثلا"[58].
وهو ما يعني أن سعد الله ونوس قدم اجتهادات وتجارب، تراعي خصوصيات المجتمع
العربي، دون النقل المحايد والبارد لأهم مرتكزات المسرح الملحمي، مقدما
مسوغات للصعوبات التي ذكرها، في قوله: "نحن كجمهور عفوي –وهذا
امتياز- ليست لدينا تقاليد مسرحية ثقيلة تنيخ على أكتافنا وتمنعنا مثلا،
من معاناة تجربة مسرحية بتلقائية مختلفة، ليس لدينا جمهور متيبس وليست
لدينا عادات وتقاليد في الفرجة، وليست لدينا صالات مقسمة تقسيما اعتباطيا
وليست لدينا بنية ذهنية للمسرح أو المسرحية المتيبسة، ونطالب بأن نجدها
دائما في كل مسرح ندخله"[59].
أي أن لدينا مكتسبات تحتفظ بها الذاكرة الجماعية، وتراثنا المشترك في
وطننا العربي الكبير، يسعفنا في صقل تجربتنا المسرحية الفتية، "لذلك فإن
التجديدات التي اقتطعت الكثير من الجهد والوقت لدى برشت هي مبذولة لنا
بشكل تلقائي، وبعض محاولاته لكسر الإيهام المسرحي تبدو بالنسبة لنا غير
مفهومة لأننا لم نعش مرحلة الإيهام المسرحي، أو لم تترسخ لدينا تقاليد
فرجة تتضمن الإيهام المسرحي"[60].
ومهما يكن من أمر سعد الله ونوس، استجابت ممارسته لتنظيراته أو عاكسه
الحظ، حقق الكلمة/الفعل في مسرحه، أو أخفق في ذلك، وجد واقعا لحلمه أو ظل
حلمه يحلق في الفضاء دون أن يجد أرضا تأويه أو سماء تقيه.. سواء تكلم
قليلا أو غزاه الصمت طويلا، أو العكس، تأثر ببرتولت برشت حد النخاع، أو
لامس أهم مقولاته دون التغلغل فيها.. فإنه يبقى "عاشق المسرح بامتياز
ووجها من انضر وجوهه المعاصرة، أثبت جدارته في أعماله الطويلة […]
قضيته كانت واحدة: من نحن، ولماذا يحدث لنا وفينا ما يحدث؟ عين إلى الفهم
وغلى التحليل وأخرى إلى الحفز والتحريض، عين إلى الواقع المعيش وأخرى إلى
التراث والموروث، عين إلى مجددي فن المسرح في الغرب وأخرى إلى الراوي
والحكواتي، عين إلى وضوح الفكر ونصاعته وأخرى إلى أحكام العمل الفني
وإثرائه، بعبارة واحدة: عين إلى الفعل وأخرى إلى المتعة"[61].
لقد ظل سعد الله ونوس ممزقا بين موقعين "لم يتخل عن الخصوصية الإبداعية
لنصوص المسرحية ولم يتخل عن طموحه إلى تغيير البنى السياسية الاجتماعية
بهذه الأداة مما يطرح عليها تحديا كبيرا […] والمتمثل في عجز
الإبداع والتعبير على مستوى النص من الانتقال إلى مستوى الواقع السياسي
والاجتماعي. فقد نجح في إضاءة إشكالية المسرح وفي تحليل الانقطاعات، لكنه
قد مسرح الحل أو حوله إلى حكاية، إلى مسرحية ثانية إلى حلم بجماعية الكلام
وعفويته"[62].
ليبقى المسرح والسياسة؛ الإنسان والقضية.
تأثر حد النخاع ببرتولت برشت؟!
--------------------------------
الهوامش:
[1] - يمكن الرجوع إلى مداخلة محمد برادة الموسومة بـ: الأدبي والسياسي:
جدلية معاقة؟ مجلة البحث العلمي، العدد: 43/44، السنة الثلاثون 1997.
والتي تعرض فيها لهذه الإشكالية في الثقافة العربية. يقول: "ما كتب عندنا
حول إشكالية علاقة الأدب بالسياسة، لا يندرج ضمن اهتمام نظري أساسي، يكون
تراكما وينجز تحيينا للأسئلة، ويرصد التبدلات في طرائق التفكير وبالمقارنة
مع الممارسة الأدبية والوعي السياسي"، ص149.
[2] - المرجع نفسه، ص149.
[3] - برتولد بريخت، نظرية المسرح الملحمي، ترجمة: جميل نصيف، عالم المعرفة، بيروت، بدون طبعة، بدون تاريخ، ص14.
[4] - أوجستو بول، نقلا عن: فؤاد دوارة، مسرح المقهورين، رؤية جديدة تهدم
نظرية أرسطو من أساسها، مجلة العربي (الكويتية)، العدد 272، يوليوز 1981،
ص146.
[5] - أحمد بلخيري، معجم المصطلحات المسرحية، مطبعة سندي، مكناس، الطبعة الأولى، 1997، ص118.
[6] - عبد الكريم برشيد، كتابتنا المسرحية في أفق التساؤل، مجلة الوحدة، العدد 58/59، يوليوز/غشت، 1989، ص128-129.
[7] - سعد أردش، المخرج في المسرح المعاصر، المجلس الوطني للثقافة والفنون
والآداب، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، العدد 19، يوليوز 1979، ص201.
[8] - علي عقلة عرسان، سياسة في المسرح، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، بدون طبعة، 1978، ص7.
[9] - سعد الله ونوس، بيانات لمسرح عربي جديد، دار الفكر الجديد، بيروت، الطبعة الأولى، 1988، ص41.
[10] - أحمد العشري، المسرح التحريضي، الإثارة والدعاية، مجلة عالم الفكر (الكويتية)، العدد: الأول، أبريل/ماي/يونيو 1987، ص103-104.
[11] - هوبرت هرنج، نقلا عن: علي عقلة عرسان، سياسة في المسرح، مرجع سابق، ص284.
[12] - برتولد بريخت، نظرية المسرح الملحمي، مرجع سابق، ص11.
[13] - سعد أردش، المخرج في المسرح المعاصر، مرجع سابق، ص206.
[14] - برتولد بريخت، نظرية المسرح الملحمي، مرجع سابق، ص87.
[15] - عدنان رشيد، مسرح برشت، دار النهضة العربية، بيروت، بدون طبعة، 1988، ص85.
[16] - برتولد بريخت، نظرية المسرح الملحمي، مرجع سابق، ص88.
[17] - فؤاد دوارة، مسرح المقهورين، مرجع سابق، ص149.
[18] - عدنان رشيد، مسرح برشت، مرجع سابق، ص93.
[19] - يطلق على التغريب في اللغة الألمانية: Verfremdung، وباللغة
الإنجليزية: Alienation، وعند نقاد الدراما في أمريكا: Estrangenent، وفي
اللغة الفرنسية فما هو كما ذكرنا: Distantiation، أما في لغتنا العربية
فقد درج الدارسون على ترجمته: التغريب أو الإغراب أو الإبعاد في القليل
الناذر، ولا شك أن الكلمة الأولى لائقة وشائعة.
[20] - برتولد بريخت، نظرية المسرح الملحمي، مرجع سابق، ص124.
[21] - المرجع نفسه، ص143.
[22] - المرجع نفسه، ص235.
[23] - عدنان رشيد، مسرح برشت، مرجع سابق، ص237.
[24] - المرجع نفسه، ص243.
[25] - المرجع نفسه، ص90.
[26] - سعد أردش، المخرج في المسرح المعاصر، مرجع سابق، ص210.
[27] - Dialectique جدلي، ديالكتيكي. وهو: فن حوار يرتفع به العقل من
المحسوس إلى المعقول (حسب أفلاطون)، استدلال على وجه الاحتمال (حسب
أرسطو)، منطق الوهم (حسب كانط)، إبراز تماسك التناقضات ووحدتها (في نظر
هيغل)، استدلال يعتمد المتناقضات وتفاوت الأفكار ليصل من بعد إلى عملية
تركيبية (في رأي المحدثين)..
[28] - انظر: عدنان رشيد، مسرح برشت، مرجع سابق، ص61-62-63-235.
[29] - المرجع نفسه، 235.
[30] - المرجع نفسه، 71.
[31] - المرجع نفسه، 76.
[32] - حوار مع سعد الله ونوس، أجراه نبيل حفار، مجلة الطريق، العدد الثاني، أبريل/ماي، 1986، ص95.
[33] - المرجع نفسه، 98.
[34] - المرجع نفسه، 98.
[35] - أحمد العشري، المسرح التحريضي، مرجع سابق، ص124.
[36] - المرجع نفسه، ص124-125.
[37] - حوار مع سعد الله ونوس، مجلة الطريق، مرجع سابق، ص97.
[38] - رفيق الصبان، نقلا عن عبد الله أبو هيف، التأسيس، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، بدون طبعة، بدون تاريخ، ص51.
[39] - سعد أردش، المخرج في المسرح المعاصر، مرجع سابق، ص193.
[40] - المرجع نفسه، ص201.
[41] - حوار مع سعد الله ونوس، مجلة الطريق، مرجع سابق، ص105.
[42] - علي عقلة عرسان، سياسة في المسرح، مرجع سابق، ص21.
[43] - حوار مع سعد الله ونوس، مجلة الطريق، مرجع سابق، ص107-108.
[44] - المرجع نفسه، 116.
[45] - إسماعيل فهد إسماعيل، سعد الله ونوس ورحلة الالتزام والوضوح، مجلة الآداب، العدد 6، يوليوز 1978، ص128.
[46] - هيئة التحرير، التأسيس، الورقة الأولى، مجلة التأسيس، العدد الأول، يناير 1978، ص12.
[47] - سعد الله ونوس، بيانات لمسرح عربي جديد، مرجع سابق، ص42.
[48] - المرجع نفسه، 43-44.
[49] - المرجع نفسه، 43-44.
[50] - كان المتفرجون أيام الثورة الفرنسية يتعاركون ويختصمون ويقتتلون
أثناء العرض المسرحي ثم ما لبثت أن تبدأ المعركة الحقيقة خارج المسرح.
[51] - سعد الله ونوس، بيانات لمسرح عربي جديد، مرجع سابق، ص384.
[52] - المرجع السابق، ص284-285.
[53] - المرجع السابق، ص286.
[54] - المرجع السابق، ص286.
[55] - حوار مع سعد الله ونوس، مجلة الطريق، مرجع سابق، ص102.
[56] - إسماعيل فهد إسماعيل، الكلمة/الفعل في مسرح سعد الله ونوس، دار الآداب، بيروت، الطبعة الأولى، ماي 1981، ص222.
[57] - سعد الله ونوس، بيانات لمسرح عربي جديد، مرجع سابق، ص283-286.
[58] - حوار مع سعد الله ونوس، مجلة الطريق، مرجع سابق، ص101.
[59] - المرجع نفسه، ص101.
[60] - المرجع نفسه، ص101.
[61] - فاروق عبد القاهر، صراع المساحات عند سعد الله ونوس، ربيع المسرح، العدد 1، الجمعة 25 ماي 1990، ص2.
[62] - خالدة سعيد، لغز النص القاتل ب2ين السلطة الكاتبة والرأس المكتوب
(قراءة في مسرح سعد الله ونوس)، مجلة الطريق، العدد الثاني، ماي 1985،
ص16
منقول من كتابات يوسف الطّلباني
منقول من كتابات يوسف الطّلباني
حمزة سديرة-
- عدد المساهمات : 453
العمر : 36
المكان : قصر*قفصة
المهنه : طلب العلم
الهوايه : كل شيء
نقاط تحت التجربة : 12489
تاريخ التسجيل : 07/03/2008
الإطار العام لمسرحيّة رأس المملوك جابر
الغايات من وراء "مغامرة رأس المملوك جابر"
في مسرحية سعد الله ونوس "مغامرة
رأس المملوك جابر". نرصد قصة تاريخية، حاول فيها ونوس إعطاء بعض التفسيرات
لطبيعة العلاقة بين السائس والمسوس من خلال تناول موضوع الصراع على السلطة
بين خليفة بغداد ووزيره، إذ يحاول الوزير الاستعانة بجيوش الأعداء لنصرته،
ويستغل مملوك جابرموقف عدم استطاعة الوزير إرسال رسالة إلى العدو فيقترح
عليه أن يكتب الرسالة على رأسه بعد أن يحلق شعره... ويذهب الحارس في مهمته
تحدوه أحلام كثيرة بالثروة والجاه والجواري، لكنه يكتشف بعد فوات الأوان
أن الوزير طلب من العدو قطع رأس حامل الرسالة...وبهذا تنتهي هذه المغامرة
الانتهازية إلى الفشل.
استطاع ونوس أن يحقق الإسقاط الفكري الذي أراده من هذه المسرحيّة ،
واستطاع أن يقول من خلالها أن الانتهازية لن تؤدي بصاحبها إلا إلى الفشل
والموت ، بينما يظل الشعب هو الذي بيده كل شيء ، وهو الذي سينتصر في
النهاية ، "المشهد الختامي للشعب-"المجموعة"- وحده يتصدى لجند الأعداء
وينتصر عليهم" . وقد حرص ونوس في مسرحيته " رأس المملوك جابر "على
تمريرفكرة تنتهي إلى أهمّيّة العمل الجماعي السياسي إذ لا جدوى من العمل
الفردي كمطلب للخلاص ، و الانسان غير المسيس ستستغله السلطة و تسحقه كما
حدث للمملوك جابر الذي اراد ان يتحرر من عبوديته بطريقة الخيانة وتحقيق
مآربه غير مراع لمصالح الجماعة ومصير البلاد، فكان الثمن ان ضيع رأسه
،ولتمرير فكرته في شكل مسرحي عربي جديد عمد ونّوس إلى كسر الطّوق بين
الخشبة والرّكح ،بين الممثّل والمتقبّل حيث سيكون فضاء المقهى الشّعبي
المكان الملائم أين يحتلّ "الحكواتي" الحظوة من قبل الزّبائن الّذين
يستمعون لحكاياته الشّيّقة،وبالتّالي سيكون كرسي الحكواتي هو أول شكل من
أشكال التفرج الحكائي العربي، وربما الحيوية القائمة بين الراوي ومن يصغي
اليه، طقسية هذا الروي، وتبادل الآراء والتعليقات وانقسامها واختلافها حول
ما يروي، هي ما أغرت سعد الله بالاستفادة من كل ذلك في مفهومه للمسرح
السياسي ليأخذ منحي جمالياً مقصوداً لذاته في هذه المسرحية، في تركيبها
بين زمن الحكي القديم( الوضع السّياسي العام للخلافة قديما) وزمن الاصغاء
الجديد من جهة(وضع الزّبائن المتشابه مع الوضع القديم)، وحكاية سعد الله
للزمنين مجتمعين والتفرج عليها مجدداً من جهة أخري..
في مسرحية سعد الله ونوس "مغامرة
رأس المملوك جابر". نرصد قصة تاريخية، حاول فيها ونوس إعطاء بعض التفسيرات
لطبيعة العلاقة بين السائس والمسوس من خلال تناول موضوع الصراع على السلطة
بين خليفة بغداد ووزيره، إذ يحاول الوزير الاستعانة بجيوش الأعداء لنصرته،
ويستغل مملوك جابرموقف عدم استطاعة الوزير إرسال رسالة إلى العدو فيقترح
عليه أن يكتب الرسالة على رأسه بعد أن يحلق شعره... ويذهب الحارس في مهمته
تحدوه أحلام كثيرة بالثروة والجاه والجواري، لكنه يكتشف بعد فوات الأوان
أن الوزير طلب من العدو قطع رأس حامل الرسالة...وبهذا تنتهي هذه المغامرة
الانتهازية إلى الفشل.
استطاع ونوس أن يحقق الإسقاط الفكري الذي أراده من هذه المسرحيّة ،
واستطاع أن يقول من خلالها أن الانتهازية لن تؤدي بصاحبها إلا إلى الفشل
والموت ، بينما يظل الشعب هو الذي بيده كل شيء ، وهو الذي سينتصر في
النهاية ، "المشهد الختامي للشعب-"المجموعة"- وحده يتصدى لجند الأعداء
وينتصر عليهم" . وقد حرص ونوس في مسرحيته " رأس المملوك جابر "على
تمريرفكرة تنتهي إلى أهمّيّة العمل الجماعي السياسي إذ لا جدوى من العمل
الفردي كمطلب للخلاص ، و الانسان غير المسيس ستستغله السلطة و تسحقه كما
حدث للمملوك جابر الذي اراد ان يتحرر من عبوديته بطريقة الخيانة وتحقيق
مآربه غير مراع لمصالح الجماعة ومصير البلاد، فكان الثمن ان ضيع رأسه
،ولتمرير فكرته في شكل مسرحي عربي جديد عمد ونّوس إلى كسر الطّوق بين
الخشبة والرّكح ،بين الممثّل والمتقبّل حيث سيكون فضاء المقهى الشّعبي
المكان الملائم أين يحتلّ "الحكواتي" الحظوة من قبل الزّبائن الّذين
يستمعون لحكاياته الشّيّقة،وبالتّالي سيكون كرسي الحكواتي هو أول شكل من
أشكال التفرج الحكائي العربي، وربما الحيوية القائمة بين الراوي ومن يصغي
اليه، طقسية هذا الروي، وتبادل الآراء والتعليقات وانقسامها واختلافها حول
ما يروي، هي ما أغرت سعد الله بالاستفادة من كل ذلك في مفهومه للمسرح
السياسي ليأخذ منحي جمالياً مقصوداً لذاته في هذه المسرحية، في تركيبها
بين زمن الحكي القديم( الوضع السّياسي العام للخلافة قديما) وزمن الاصغاء
الجديد من جهة(وضع الزّبائن المتشابه مع الوضع القديم)، وحكاية سعد الله
للزمنين مجتمعين والتفرج عليها مجدداً من جهة أخري..
حمزة سديرة-
- عدد المساهمات : 453
العمر : 36
المكان : قصر*قفصة
المهنه : طلب العلم
الهوايه : كل شيء
نقاط تحت التجربة : 12489
تاريخ التسجيل : 07/03/2008
رد: في رحاب البكالوريا
مسرح التسييس : الحرية وعي الشرط التاريخي والاجتماعي للوجود:
مسرح التسييس هو حوار بين ساحته ن : الأولى هي العرض المسرحي الذي تقدمه
جماعة تريد أن تتواصل مع الجمهور وتحاوره الثانية هي جمهور الصالة التي
تعكس فيها كل ظواهر الواقع ومشكلاته، الأمر الذي من شأنه أن يدفع الكاتب
ال ابتداع "بعض الوسائل الاصطناعية لكسر طوق الصمت، وتقديم نموذج قد يؤدي
تكراره الى تحقيق غديتنا الأساسية في "اقامة الحوار".. اقامة حوار مرتجل
وحار وحقيقي بين مساحتي المسرح : العرض والمتفرج.. ولابد لموضوع الحوار أن
يكون مرتبطا بحياة المتفرج، ومشكلاته من جهة، ونوع المعالجة وشكلها، لكيلا
تكون المعالجة مسألة شكلية وتقنية، حيث لابد للهواجس الجمالية أن يتم
تعديلها الى "المشكلات السياسية والاجتماعية للواقع " وذلك لتشجيع المتفرج
على الكلام والارتجال والحوار".
تمثل هذه المرحلة انعطافا نوعيا في وعي الوجود المؤسس للبنية التكوينية
للنص، حيث ينتقل وعي الحرية من الرؤية المعرفية التي ترى في الحرية جوهر
الوجود، الى الرؤية المعرفية التي ترى في الحرية شرط الوجود قيميا، من وعي
الحرية بوصفها جوهر الكائن، الى وعيها بوصفها شرط كرامة وسيادة الكائن، من
وعيها بوصفها وضعا اتنولوجيا، الى وعيها بوصفها صيرورة تاريخية على طريق
اكتمال الوجود بالقيمة، وهكذا تخرج الحرية من الوجود بوصفه مكتفيا بذاته
وقانونياته الداخلية، ال مجال القيمة التي لا معنى للوجود بطريقة كريمة
بدونها، أي من حالتها الوجودية ال حالتها التاريخية، عندها تنخرط في
المشكلات القيمية للوجود من أجل امتلاك بعده التاريخي، والشرط الاجتماعي
للكائن بوصفه ممثل القيمة التي تمنح واجب الوجود في ذاته، معنى أن يفيض عن
ذاته دلالات ورموزا وأحلاما بشرية تجعله بشريا، قيميا، جماليا، وانسانيا،
وذلك لا يتم إلا بالفرص في حمأة الواقع وأسئلته اليومية الشائكة التي توحد
مساحتي الوجود والتاريخ، العرض المسرحي، وجمهور الصالة بمشكلاتهم وهمومهم
وأشواقهم.
بيد أن هزيمة حزيران 1967 كانت الزلزال الذي صدع كل هذه الأوهام الأونتولوجية التي أشاعتها الوجودية عن الحرية، وعززها مسرح العبث.
" حفلة سمر" والجوع الى الحوار:
كانت النقلة عنيفة وحاسمة في مسرحية "حفلة سمر من أجل 5 حزيران " حيث في
هذا النص يؤسس سعدالله لفكرة (الحوار والمشاركة ) ليس عبر الرسالة
المعرفية والايديولوجية للنص فحسب، بل من خلال التشكيل البنائي للنص ذاته،
اذ يكسر الحاجز الفاصل بين المعرفة والسلطة، لتدمير معرفة السلطة التي
قادت الى الهزيمة دافعا بجمهور الصالة أن ينتزع حقه بالمشاركة في صناعة
القرار، عبر الحوار والتدخل المباشر على الخشبة لمواجهة معرفة السلطة،
بسلطة المعرفة التي بدونها لا يمكن للناس أن يمتلكوا حريتهم، وذلك عبر
الثنائية الحوارية، بين المتفرج وخشبة العرض الرسمية بين الكاتب عبد
الفني، والمخرج الرسمي، وذلك عبر اشرا ء الأسئلة. والسؤال هو المدخل
لتقويض القائم عبر التشكيك بصلابته الواقعية الرثة. من أجل تجاوزه فالكاتب
يمثل المعرفة وارادة الجمهور المقهور والمهزوم والباحث عن معرفة سبب ما
حدث، والمخرج ممثل سلطة الخشبة والعرض ويقود جهازه التمثيلي للتضليل
والايهام والتسلية والترفيه وتمجيد البولات الزائفة.
هذه المرارة الساكنة أحشاء الخطاب في النص، المرارة تجاد واقع عصي على
التغيير سلطة ومجتمعا، ستربض ثاوية في سفر الكتابة المتوجهة أبدا حتى
اللحظة الأخيرة وهي تطمح للارتقاء بالواقع من واقعيته الرثة بالتجدد قيم
الحرية والعقل والعدالة، لكن فظاظة الوجود التي تأبى أن تنصاع لحلم
الحرية، تلقي بالقمامة والامامة والرثاثة بوجه الأحلام الجميلة، فلا يكون
الملاذ سوى الخيبة والمرارة من جديد، وكأن الكتابة هي الأمل المحكوم به
الكاتب في وجه كل هذه البشاعة التي سيكتشف عنها لاحقا بهجاء نادر في
مباشرته، وشراسته. وعينه الزرقاء المتنبئة في (يوم من زماننا _ ملحمة
السراب ) حيث يكتب ملحمة مأتم الحرية الذي يخيط كفنه منذ عويل الشعارات
الكبرى عن الحرية والوحدة والاشتراكية، وهو يستبيح كل واحدة منها على حدة
نكاية بكل هذه القيم والمثل التي آمن بها الكاتب ورعيله. وسيأتي حديث ذلك.
اذا كان المجتمع على هذه الدرجة من الامامة، والسلطة على هذه الدرجة من
الشراسة، فإن نزوعا من تأنيب النفس وتقريعها، سيتبدى في هذه المرحلة
الثانية من وعي الحرية، وكأن الواقع المرير الذي لوع النهضوي الراديكالي
الكواكبي، هو ذاته يمضي ساكنا، لا جديد فيه سوى لبوس السلطة من الطربوش
والعمامة العثمانية الى قبعة الجنرال المعلقة صورته على الجدار في «يوم من
رهاننا» والذي يسهل أن تنتهك أشد المحرمات، من المس بصورته الجليلة،
والشعب هو هو لا يزال مقيدا بسلاسل الاستعباد، فغضب الكواكبي من أمته
وشعبه، وهو يقرعهم بأن الأمة التي لا يستشعر شعبها أو بعض شعبها
بالاستبداد فإنها غير جديرة بالحرية، هذه الخلاصة المريرة القي تجرعها
الكواكبي سما زعافا، ستتحول الى الأطروحة الرئيسية التي تسكن مفاصل خطاب
النص عند سعدالله. والتي سيتجرعها سرطانا فاتكا، كما تجرع الكواكبي سم
السلطان عبدالحميد. والكواكبي سيكون الرمز الوحيد لممكنات الحرية في
مسرحيته الهجائية بمرارة "يوم من زماننا".
[size=16]المرحلة الثانية:
في هذه المرحلة، سيكتب مسرحياته (الفيل يا ملك الزمان - مغامرة رأس
المملوك جابر _ الملك هو الملك )، قبل صمته الذر سيدوم عشر سنوات، ليبدأ
المرحلة الثالثة، التي يتجاوز فيها أحادية الرؤية الى الحرية بوصفها وضعا
وجوديا جوهريا في مرحلته الأولى، والحرية بوصفها شرطا تاريخيا في مرحلته
الثانية، الى انشاء كليات نوعية جديدة ومغايرة، عندما سيهدم الحاجز بين
الرضع والشرط، ليوغل عميقا في داخل الذات (ذات الفرد والمجتمع والتاريخ)
مواصلا سفر عذ ابات الكلمة الشريفة. في هذه المرحلة، المرحلة الثانية التي
نحن بصدد تشخيصها، سيشهد منظوره المعرفي والجمالي انتقالا في وعي الحرية،
حيث الانتقال من وعيها كوضع وجودي انطولوجي، الى وعيها كشرط تاريخي كما
ستظهر لاحقا.
وبذلك فإن الحرية في هذا السياق ستتبدى بوصفها المعادل للوجود الانساني،
أي المعادل القيمي الذي يمنى الوجود الطبيعي معناه، والالته الروحية
ومغزاه الاخلاقي فهي إذن لم تعد جوهريا ثابتا أو انطولوجيا. بالمعنى
الوجودي بل غدت شرطا انسانيا لابد منه قيميا، لتحقيق حالة التطابق بين
الوجود والقيمة، وهنا ينهض الوعي التاريخي ليعلن أن البشر هم الذين يصنعون
مصائرهم عبر امتلاك الوعي بهذه المصائر، والحرية لمن يستحقها، والانسان
محكوم بها لا كوضع طبيعي بل كشرط تاريخي انساني، به يتحقق وجوده الأمثل
بصورة كريمة، وليس الوجود المحض بأي ثمن كما تقدمه حكمة أزمنة الذل والقهر
والاستبداد القائمة على (فخار يكسر بعضه _ ومن يتزوج أمنا نسميه عمنا) وفق
ما يتأسس عليه نظام خطاب الرعية الراسخة في العبودية روحيا وانسانيا في
مسرحيتي (الفيل يا ملك الزمان - ومغامرة رأس المملوك جابر).
سهرة مع أبي خليل القباني : المسرح بوصفه فعل حرية:
ستكون "سهرة مع أبي خليل القباني" المسرحية الصادرة سنة 1996 بعد (الفيل
يا ملك الزمان _ ومغامرة رأس المملوك جابر لم وقبل "الملك هو الملك "
الصادرة 1997 بمثابة الجذر المعرفي الذي سيؤسس لرؤية كتابة سعدالله
اللاحقة، وقد كان نصا لافتا في انتباهه المبكر لميراث التنوير العربي، وهو
الكاتب الذي حسم كل تطويره الفكري باتجاه الانتقال من وعي الحرية كوضع الى
وعيها كشرط تاريخي، أي طور الفكري من وجودية قومية متمردة باطلق الى رؤية
تاريخية متطلعة الى فعل التغيير وواثقة من قدرة الناس على صناعة مصيرها،
وكانت العلاقة الخاصة التي ربطت تجربته المسرحية بتجربة بريشت واستثماره
المبدع للاقتراحات التي قدمها المسرح البريشتي على مستوى البنية والرؤى،
كل ذلك ساهم في ابراز سعدالله كمثقف عضوي يخوض معركة التغيير بوصفها فعلا
يوميا ينبغي خوضه دائما، واعادة كسبه أبدا.
ان داعية مسرح التسييس كان دائما قادرا عي فك أي ارتباط مع الاحزاب
السياسية التي ظل يحتفظ لنفسه بمسافة نقدية عنها، هذا المسافة النقدية وهي
مسافة الحرية التي تقلع اليها المعرفة لخوض معركة الجذرية تجاه الأستبداد،
هي آلتي ستنير لسعدالله أن يقدم رؤية مختلفة لزمن التنوير العربي بمنحى عن
المناخ الفكري اليساري (الماركسي والقومي) من جهة، و(التراثي المحدثن )
الابستمولوجي، الفينوميقولوجي والتفكيكي، من جهة أخرى، حيث يرى في تجربة
القباني المسرحية فعل حرية بذاتها، بوصف المسرح هو النتاج التاريخي
للديمقراطية اليونانية على حد تعبه سعد اثو، وهو يكشف في هذه المسرحية عن
الترابط الوثيق بين المسرح والحريات الدستورية والقانونية التي تحققت في
ظل الوالي المتنور مدحت باشا 1978، وأن المسرح كان بهدف معركة الرجعية، من
خلال الشيخ "سعيد الغبري" والسعى الى السلطان في سبيل اغلاقا وعلى هذا
تنشأ شبكة من العلاقات المتناظرة والمتوالدة، فحيث يسود التنوير نتفته
شجرة الحرية، وكلما كانت شجرة الحرية وارفة، كان الوعي بالاستبداد حادا
بوصفه العقبة أمام التفتح الذهني والروحي، وكلما ازداد الوعي معرفة
بقوانين الاستبداد، كان المسرح ضرورة لهذا :لوعي الحديث، للنهضة والتنوير،
وبذلك فالمسرح في ذاته فعل حرية شاجب للطغيان وسيادة الو احدية الفكرية
والايديولوجية السياسية، في إطار هذا الهوامش التي سقناها على متن تحليلنا
لمرحلتي الحرية التي عرفها مسرح سعدالله، سنؤجل تناولنا التحليلي للمرحلة
الثالثة المتمثلة بالانتقال بمفهوم الحرية من شرط وجود الكائن، وجوديا
كرضه، وتاريخيا كشرط، الى الحرية كشرط لمعنى وجود الكائن، حيث الانتقال
نحو الداخل للحفي فيه بحثا عن البريق الأبيض لالتماعات النفس وتخلق الجسد،
وبمقدار ما تتكشف النفس في جوانيتها عن عوامل الكبح والقهر التي نتوء بها
الذات داخليا، بمقدار ما تفتته حرية الجسد، بشابتها تتويجا حسيا لتموجات
الروح وجرار النفس، وقروح الوجدان، ولعل ذروة التشخيص الدوامي لهذه
الحوارية الجوانية بين الباطن والظاهر، يتعكس بارتهان فعل الحرية لمدى
درجة تقويض الجدار وتصدعه بينهما، ومن ثم تداعى هذه الفسحة البرزخية
الوهمية بين المعنى والمبنى، بين الميث واللوغوس، بين اندفاعات الحس
وأشواق العقل حيث سقوط الوعي التنكري، وذلك في مسرحيته "طقوس الاشارات
والتحولات " الصادرة سنة 1994 هذا التشخيص في أرقي تجلياته الدرامية في
هذه المسرحية سيشكل انعطافا نوعيا فذا في سيرته المسرحية، حيث الكتابة
ستعيش مرحلة تلظيها وهي تكتوي بحمى المرض الذي كان يكتب تحت وطأته
الفتاكة، فيقاومه ويزجره ويؤجله هذه الانعطافة ربما يتم له عبرها أن يؤسس
لايقاع جديد في المسرح العربي،، لو طال العمو، فوفق هذا الايقاع سيكتب عدة
مسرحيات وان لم ترق الى تلك المجرة الدلالية التي أودعها نص "طقوس
الاشارات والتحولات " وهذه المسرحيات "أحلام شقية " كتبها في السنة ذاتها
وفي عام 1996يصدر مسرحية قصيرة "بلاد أضيق من الحب " وآخر هذه المسرحيات
التي ينتظمها ايقاع اسقاط الجدار بين الروح والجسد، والولوج الى عوالم
الداخل الذي يأتي الخارج محصلة لها هي مسرحية "الأيام المخمورة " وان كان
في هذه المسرحية قد أراد من خلال هذه المباطنة الداخلية للشخصيات أن يباطن
التاريخ والمجتمع وتلك السيرورة التي "كانت الناس تتمايل... وكنت الأيام
مخمورة ".[/size]
مسرح التسييس هو حوار بين ساحته ن : الأولى هي العرض المسرحي الذي تقدمه
جماعة تريد أن تتواصل مع الجمهور وتحاوره الثانية هي جمهور الصالة التي
تعكس فيها كل ظواهر الواقع ومشكلاته، الأمر الذي من شأنه أن يدفع الكاتب
ال ابتداع "بعض الوسائل الاصطناعية لكسر طوق الصمت، وتقديم نموذج قد يؤدي
تكراره الى تحقيق غديتنا الأساسية في "اقامة الحوار".. اقامة حوار مرتجل
وحار وحقيقي بين مساحتي المسرح : العرض والمتفرج.. ولابد لموضوع الحوار أن
يكون مرتبطا بحياة المتفرج، ومشكلاته من جهة، ونوع المعالجة وشكلها، لكيلا
تكون المعالجة مسألة شكلية وتقنية، حيث لابد للهواجس الجمالية أن يتم
تعديلها الى "المشكلات السياسية والاجتماعية للواقع " وذلك لتشجيع المتفرج
على الكلام والارتجال والحوار".
تمثل هذه المرحلة انعطافا نوعيا في وعي الوجود المؤسس للبنية التكوينية
للنص، حيث ينتقل وعي الحرية من الرؤية المعرفية التي ترى في الحرية جوهر
الوجود، الى الرؤية المعرفية التي ترى في الحرية شرط الوجود قيميا، من وعي
الحرية بوصفها جوهر الكائن، الى وعيها بوصفها شرط كرامة وسيادة الكائن، من
وعيها بوصفها وضعا اتنولوجيا، الى وعيها بوصفها صيرورة تاريخية على طريق
اكتمال الوجود بالقيمة، وهكذا تخرج الحرية من الوجود بوصفه مكتفيا بذاته
وقانونياته الداخلية، ال مجال القيمة التي لا معنى للوجود بطريقة كريمة
بدونها، أي من حالتها الوجودية ال حالتها التاريخية، عندها تنخرط في
المشكلات القيمية للوجود من أجل امتلاك بعده التاريخي، والشرط الاجتماعي
للكائن بوصفه ممثل القيمة التي تمنح واجب الوجود في ذاته، معنى أن يفيض عن
ذاته دلالات ورموزا وأحلاما بشرية تجعله بشريا، قيميا، جماليا، وانسانيا،
وذلك لا يتم إلا بالفرص في حمأة الواقع وأسئلته اليومية الشائكة التي توحد
مساحتي الوجود والتاريخ، العرض المسرحي، وجمهور الصالة بمشكلاتهم وهمومهم
وأشواقهم.
بيد أن هزيمة حزيران 1967 كانت الزلزال الذي صدع كل هذه الأوهام الأونتولوجية التي أشاعتها الوجودية عن الحرية، وعززها مسرح العبث.
" حفلة سمر" والجوع الى الحوار:
كانت النقلة عنيفة وحاسمة في مسرحية "حفلة سمر من أجل 5 حزيران " حيث في
هذا النص يؤسس سعدالله لفكرة (الحوار والمشاركة ) ليس عبر الرسالة
المعرفية والايديولوجية للنص فحسب، بل من خلال التشكيل البنائي للنص ذاته،
اذ يكسر الحاجز الفاصل بين المعرفة والسلطة، لتدمير معرفة السلطة التي
قادت الى الهزيمة دافعا بجمهور الصالة أن ينتزع حقه بالمشاركة في صناعة
القرار، عبر الحوار والتدخل المباشر على الخشبة لمواجهة معرفة السلطة،
بسلطة المعرفة التي بدونها لا يمكن للناس أن يمتلكوا حريتهم، وذلك عبر
الثنائية الحوارية، بين المتفرج وخشبة العرض الرسمية بين الكاتب عبد
الفني، والمخرج الرسمي، وذلك عبر اشرا ء الأسئلة. والسؤال هو المدخل
لتقويض القائم عبر التشكيك بصلابته الواقعية الرثة. من أجل تجاوزه فالكاتب
يمثل المعرفة وارادة الجمهور المقهور والمهزوم والباحث عن معرفة سبب ما
حدث، والمخرج ممثل سلطة الخشبة والعرض ويقود جهازه التمثيلي للتضليل
والايهام والتسلية والترفيه وتمجيد البولات الزائفة.
هذه المرارة الساكنة أحشاء الخطاب في النص، المرارة تجاد واقع عصي على
التغيير سلطة ومجتمعا، ستربض ثاوية في سفر الكتابة المتوجهة أبدا حتى
اللحظة الأخيرة وهي تطمح للارتقاء بالواقع من واقعيته الرثة بالتجدد قيم
الحرية والعقل والعدالة، لكن فظاظة الوجود التي تأبى أن تنصاع لحلم
الحرية، تلقي بالقمامة والامامة والرثاثة بوجه الأحلام الجميلة، فلا يكون
الملاذ سوى الخيبة والمرارة من جديد، وكأن الكتابة هي الأمل المحكوم به
الكاتب في وجه كل هذه البشاعة التي سيكتشف عنها لاحقا بهجاء نادر في
مباشرته، وشراسته. وعينه الزرقاء المتنبئة في (يوم من زماننا _ ملحمة
السراب ) حيث يكتب ملحمة مأتم الحرية الذي يخيط كفنه منذ عويل الشعارات
الكبرى عن الحرية والوحدة والاشتراكية، وهو يستبيح كل واحدة منها على حدة
نكاية بكل هذه القيم والمثل التي آمن بها الكاتب ورعيله. وسيأتي حديث ذلك.
اذا كان المجتمع على هذه الدرجة من الامامة، والسلطة على هذه الدرجة من
الشراسة، فإن نزوعا من تأنيب النفس وتقريعها، سيتبدى في هذه المرحلة
الثانية من وعي الحرية، وكأن الواقع المرير الذي لوع النهضوي الراديكالي
الكواكبي، هو ذاته يمضي ساكنا، لا جديد فيه سوى لبوس السلطة من الطربوش
والعمامة العثمانية الى قبعة الجنرال المعلقة صورته على الجدار في «يوم من
رهاننا» والذي يسهل أن تنتهك أشد المحرمات، من المس بصورته الجليلة،
والشعب هو هو لا يزال مقيدا بسلاسل الاستعباد، فغضب الكواكبي من أمته
وشعبه، وهو يقرعهم بأن الأمة التي لا يستشعر شعبها أو بعض شعبها
بالاستبداد فإنها غير جديرة بالحرية، هذه الخلاصة المريرة القي تجرعها
الكواكبي سما زعافا، ستتحول الى الأطروحة الرئيسية التي تسكن مفاصل خطاب
النص عند سعدالله. والتي سيتجرعها سرطانا فاتكا، كما تجرع الكواكبي سم
السلطان عبدالحميد. والكواكبي سيكون الرمز الوحيد لممكنات الحرية في
مسرحيته الهجائية بمرارة "يوم من زماننا".
[size=16]المرحلة الثانية:
في هذه المرحلة، سيكتب مسرحياته (الفيل يا ملك الزمان - مغامرة رأس
المملوك جابر _ الملك هو الملك )، قبل صمته الذر سيدوم عشر سنوات، ليبدأ
المرحلة الثالثة، التي يتجاوز فيها أحادية الرؤية الى الحرية بوصفها وضعا
وجوديا جوهريا في مرحلته الأولى، والحرية بوصفها شرطا تاريخيا في مرحلته
الثانية، الى انشاء كليات نوعية جديدة ومغايرة، عندما سيهدم الحاجز بين
الرضع والشرط، ليوغل عميقا في داخل الذات (ذات الفرد والمجتمع والتاريخ)
مواصلا سفر عذ ابات الكلمة الشريفة. في هذه المرحلة، المرحلة الثانية التي
نحن بصدد تشخيصها، سيشهد منظوره المعرفي والجمالي انتقالا في وعي الحرية،
حيث الانتقال من وعيها كوضع وجودي انطولوجي، الى وعيها كشرط تاريخي كما
ستظهر لاحقا.
وبذلك فإن الحرية في هذا السياق ستتبدى بوصفها المعادل للوجود الانساني،
أي المعادل القيمي الذي يمنى الوجود الطبيعي معناه، والالته الروحية
ومغزاه الاخلاقي فهي إذن لم تعد جوهريا ثابتا أو انطولوجيا. بالمعنى
الوجودي بل غدت شرطا انسانيا لابد منه قيميا، لتحقيق حالة التطابق بين
الوجود والقيمة، وهنا ينهض الوعي التاريخي ليعلن أن البشر هم الذين يصنعون
مصائرهم عبر امتلاك الوعي بهذه المصائر، والحرية لمن يستحقها، والانسان
محكوم بها لا كوضع طبيعي بل كشرط تاريخي انساني، به يتحقق وجوده الأمثل
بصورة كريمة، وليس الوجود المحض بأي ثمن كما تقدمه حكمة أزمنة الذل والقهر
والاستبداد القائمة على (فخار يكسر بعضه _ ومن يتزوج أمنا نسميه عمنا) وفق
ما يتأسس عليه نظام خطاب الرعية الراسخة في العبودية روحيا وانسانيا في
مسرحيتي (الفيل يا ملك الزمان - ومغامرة رأس المملوك جابر).
سهرة مع أبي خليل القباني : المسرح بوصفه فعل حرية:
ستكون "سهرة مع أبي خليل القباني" المسرحية الصادرة سنة 1996 بعد (الفيل
يا ملك الزمان _ ومغامرة رأس المملوك جابر لم وقبل "الملك هو الملك "
الصادرة 1997 بمثابة الجذر المعرفي الذي سيؤسس لرؤية كتابة سعدالله
اللاحقة، وقد كان نصا لافتا في انتباهه المبكر لميراث التنوير العربي، وهو
الكاتب الذي حسم كل تطويره الفكري باتجاه الانتقال من وعي الحرية كوضع الى
وعيها كشرط تاريخي، أي طور الفكري من وجودية قومية متمردة باطلق الى رؤية
تاريخية متطلعة الى فعل التغيير وواثقة من قدرة الناس على صناعة مصيرها،
وكانت العلاقة الخاصة التي ربطت تجربته المسرحية بتجربة بريشت واستثماره
المبدع للاقتراحات التي قدمها المسرح البريشتي على مستوى البنية والرؤى،
كل ذلك ساهم في ابراز سعدالله كمثقف عضوي يخوض معركة التغيير بوصفها فعلا
يوميا ينبغي خوضه دائما، واعادة كسبه أبدا.
ان داعية مسرح التسييس كان دائما قادرا عي فك أي ارتباط مع الاحزاب
السياسية التي ظل يحتفظ لنفسه بمسافة نقدية عنها، هذا المسافة النقدية وهي
مسافة الحرية التي تقلع اليها المعرفة لخوض معركة الجذرية تجاه الأستبداد،
هي آلتي ستنير لسعدالله أن يقدم رؤية مختلفة لزمن التنوير العربي بمنحى عن
المناخ الفكري اليساري (الماركسي والقومي) من جهة، و(التراثي المحدثن )
الابستمولوجي، الفينوميقولوجي والتفكيكي، من جهة أخرى، حيث يرى في تجربة
القباني المسرحية فعل حرية بذاتها، بوصف المسرح هو النتاج التاريخي
للديمقراطية اليونانية على حد تعبه سعد اثو، وهو يكشف في هذه المسرحية عن
الترابط الوثيق بين المسرح والحريات الدستورية والقانونية التي تحققت في
ظل الوالي المتنور مدحت باشا 1978، وأن المسرح كان بهدف معركة الرجعية، من
خلال الشيخ "سعيد الغبري" والسعى الى السلطان في سبيل اغلاقا وعلى هذا
تنشأ شبكة من العلاقات المتناظرة والمتوالدة، فحيث يسود التنوير نتفته
شجرة الحرية، وكلما كانت شجرة الحرية وارفة، كان الوعي بالاستبداد حادا
بوصفه العقبة أمام التفتح الذهني والروحي، وكلما ازداد الوعي معرفة
بقوانين الاستبداد، كان المسرح ضرورة لهذا :لوعي الحديث، للنهضة والتنوير،
وبذلك فالمسرح في ذاته فعل حرية شاجب للطغيان وسيادة الو احدية الفكرية
والايديولوجية السياسية، في إطار هذا الهوامش التي سقناها على متن تحليلنا
لمرحلتي الحرية التي عرفها مسرح سعدالله، سنؤجل تناولنا التحليلي للمرحلة
الثالثة المتمثلة بالانتقال بمفهوم الحرية من شرط وجود الكائن، وجوديا
كرضه، وتاريخيا كشرط، الى الحرية كشرط لمعنى وجود الكائن، حيث الانتقال
نحو الداخل للحفي فيه بحثا عن البريق الأبيض لالتماعات النفس وتخلق الجسد،
وبمقدار ما تتكشف النفس في جوانيتها عن عوامل الكبح والقهر التي نتوء بها
الذات داخليا، بمقدار ما تفتته حرية الجسد، بشابتها تتويجا حسيا لتموجات
الروح وجرار النفس، وقروح الوجدان، ولعل ذروة التشخيص الدوامي لهذه
الحوارية الجوانية بين الباطن والظاهر، يتعكس بارتهان فعل الحرية لمدى
درجة تقويض الجدار وتصدعه بينهما، ومن ثم تداعى هذه الفسحة البرزخية
الوهمية بين المعنى والمبنى، بين الميث واللوغوس، بين اندفاعات الحس
وأشواق العقل حيث سقوط الوعي التنكري، وذلك في مسرحيته "طقوس الاشارات
والتحولات " الصادرة سنة 1994 هذا التشخيص في أرقي تجلياته الدرامية في
هذه المسرحية سيشكل انعطافا نوعيا فذا في سيرته المسرحية، حيث الكتابة
ستعيش مرحلة تلظيها وهي تكتوي بحمى المرض الذي كان يكتب تحت وطأته
الفتاكة، فيقاومه ويزجره ويؤجله هذه الانعطافة ربما يتم له عبرها أن يؤسس
لايقاع جديد في المسرح العربي،، لو طال العمو، فوفق هذا الايقاع سيكتب عدة
مسرحيات وان لم ترق الى تلك المجرة الدلالية التي أودعها نص "طقوس
الاشارات والتحولات " وهذه المسرحيات "أحلام شقية " كتبها في السنة ذاتها
وفي عام 1996يصدر مسرحية قصيرة "بلاد أضيق من الحب " وآخر هذه المسرحيات
التي ينتظمها ايقاع اسقاط الجدار بين الروح والجسد، والولوج الى عوالم
الداخل الذي يأتي الخارج محصلة لها هي مسرحية "الأيام المخمورة " وان كان
في هذه المسرحية قد أراد من خلال هذه المباطنة الداخلية للشخصيات أن يباطن
التاريخ والمجتمع وتلك السيرورة التي "كانت الناس تتمايل... وكنت الأيام
مخمورة ".[/size]
حمزة سديرة-
- عدد المساهمات : 453
العمر : 36
المكان : قصر*قفصة
المهنه : طلب العلم
الهوايه : كل شيء
نقاط تحت التجربة : 12489
تاريخ التسجيل : 07/03/2008
رد: في رحاب البكالوريا
مواضيع اختباريّة في شعر الحماسة
الى الأخوة التّلاميذ:
موضوع1: لم يكن ابو تمام وابن هانئ والمتنبّي مهتمّين بالحماسة في مستوى
الصيغ الفنّية بل عملوا الى إثبات حضورها من خلال تواتر عديد القيم في
أشعارهم،
حلل ذلك القول وناقشه معتمدا شواهد دقيقة ممادرست.
موضوع2:لئن اعتمد المتنبّي الحرب معنا لدلالات الحماسة فإنه نجح في أن يطوّع لتلك الدّلالات عديد اللأساليب الفنّية
بيّن ذلك معتمدا شواهد دقيقة ممّا درست
موضوع3:لم يحتفل المتنبّي في شعره بأنتقاء الألفاض ونحت التراكيب وبناء
الصّور بمجرّد إضفاء البعد الحماسي على شعره بل لأنّ ذلك الإحتفال في أخصّ
وجوهه يلطّف السّامع إلى دقيق المعاني وعميق الدّلالات ....
حللّ ذلك معتمدا شواهد دقيقة ممّا درست.
موضوع4: قد يتبادر إلى الأذهان أنّ قيمة شعر كلّ من أبي تمّام والمتنبّي
وابن هاني تتجلّى في ما زخر به من معاني حماسيّة والحقّ أنّها تتجلّى
كأروع مايكون في طرق التّعبير عن تلك المعاني....
حللّ ذلك معتمدا شواهد دقيقة من شعر هؤلاء الشّعراء
الى الأخوة التّلاميذ:
موضوع1: لم يكن ابو تمام وابن هانئ والمتنبّي مهتمّين بالحماسة في مستوى
الصيغ الفنّية بل عملوا الى إثبات حضورها من خلال تواتر عديد القيم في
أشعارهم،
حلل ذلك القول وناقشه معتمدا شواهد دقيقة ممادرست.
موضوع2:لئن اعتمد المتنبّي الحرب معنا لدلالات الحماسة فإنه نجح في أن يطوّع لتلك الدّلالات عديد اللأساليب الفنّية
بيّن ذلك معتمدا شواهد دقيقة ممّا درست
موضوع3:لم يحتفل المتنبّي في شعره بأنتقاء الألفاض ونحت التراكيب وبناء
الصّور بمجرّد إضفاء البعد الحماسي على شعره بل لأنّ ذلك الإحتفال في أخصّ
وجوهه يلطّف السّامع إلى دقيق المعاني وعميق الدّلالات ....
حللّ ذلك معتمدا شواهد دقيقة ممّا درست.
موضوع4: قد يتبادر إلى الأذهان أنّ قيمة شعر كلّ من أبي تمّام والمتنبّي
وابن هاني تتجلّى في ما زخر به من معاني حماسيّة والحقّ أنّها تتجلّى
كأروع مايكون في طرق التّعبير عن تلك المعاني....
حللّ ذلك معتمدا شواهد دقيقة من شعر هؤلاء الشّعراء
حمزة سديرة-
- عدد المساهمات : 453
العمر : 36
المكان : قصر*قفصة
المهنه : طلب العلم
الهوايه : كل شيء
نقاط تحت التجربة : 12489
تاريخ التسجيل : 07/03/2008
رد: في رحاب البكالوريا
دراسة فلسفيّة للأسناذ محمّد علي كسيرة
التمهيد: التواصل بين الضرورة والاختيار
لا نكاد نلتقي بمسألة معاصرة في الفلسفة، إلا ولها صلة بالانسان إلى درجة
أمكننا أن نسلم فيها مع كانط بأن الفلسفة قد تحولت إلى أنتروبولوجيا، أي
إلى دراسة تسعى قدر الإمكان إلى تمثل كل ما يتعلق بهذا الكائن، فما
الإنسان؟
إن النظرة الأولية لهذا الكائن تحيلنا إلى تركيبته العضوية، فالغلاف
الخارجي الذي يغطي الجسم بأكمله والمتمثل في الجلد، ليس وحدة صماء، بل هو
منفتح من خلال ثقبه على العالم الخارجي، وما الفم والأذن والأنف إلا قنوات
تمرر داخل الجسم ما هو خارجي عنه، حتى أنه لا قوام للجسم بذاته بل إنه يجد
حيويته في تجذره في عالمه الخارجي الذي يلقى فيه غذاءه ونفسه، ليقترن كل
تواصل يشبع الجسد باللذة ويقترن كل انغلاق بالألم والضعف والوهن.
إنه محكوم علينا بيولوجيا بأن ننفتح على الطبيعة الخارجية. ولكنه محكوم
علينا أيضا ان نتواصل مع العالم في شكل جماعي، فمواجهة الإنسان للطبيعة لا
يمكن بأية حال أن تكون فردية. إن الضرورة البيولوجية للجسد تستدعي ضرورة
إجتماعية للتواصل.
إن حاجة الحيوان إلى محيطه هي نفسها حاجة المحيط إلى الحيوان، فحين يحقق
حاجته في الطبيعة لضمان بقائه فإنه يضمن في الآن نفسه توازنا إيكولوجيا
بيئيا، فالحياة الحيوانية ليست إلا إمتدادا للطبيعة نفسها، إذ لا يحتاج
الحيوان لكي يلبي حاجاته إلى تعلم، وإنما يولد أحيانا من يومه الأول قادرا
على التواصل مع محيطه بقدرته على الإنتصاب قائما. ذلك أن غريزته هي أداة
تواصله وهو لا يحتاج إلى تعلم لكي يحصل على هذه الأداة، وإنما يرثها إرثا
بيولوجيا من نوعه. لأن "الغريزة متخصصة إضطرارا" كما يذهب إلى ذلك برقسن.
أما الإنسان، فلكي يعمل، يحتاج إلى تعلم. ولكي يتعلم يحتاج إلى الآخر، فلا
تواصل مع الطبيعة دون تواصل مع الآخر وهذا ما يجعل التواصل ضرورة بشرية
بالأساس لأن التواصل يقتضي سلفا وعيا بالتواصل.
إذا كان تواصلنا مع الطبيعة لا ينتظم تلقائيا، فإن تواصلنا مع الآخر يتعدى
بدوره التلقائية المباشرة. وإذا كانت التلقائية تخلق نظاما في تواصل
الحيوان مع محيطه فإنها غير كافية بل وأحيانا مبعثا للفوضى حين يتعلق
الأمر بالإنسان. ذلك أنه لو ترك أمر التواصل الإنساني للتلقائية المباشرة
لكنا إزاء رغبات إنسانية متعارضة ومتصادمة. وبناءا عليه فإن التواصل يحتاج
إلى تجاوز الطابع المباشر بالتفكير في وسائط. وبهذا المعنى نكون أمام
خيارين: إما أن نتواصل تلقائيا – مع ما ينجر عن ذلك من تصادم
– وإما أن نختار وضع شروط للتواصل. ولحظتها نرتفع عن الطابع المباشر
الذي يسم التواصل الحيواني لنحقق تواصلا مجهزا ومنظما حتى يكون من الممكن
أن نتحدث عن إنسانية التواصل.
I- إنسانية التواصل:
حين نتحدث عن إنسانية التواصل يكون من الضروري أن نفهم أولا دلالة
"التواصل" ودلالة "الإنسانية". إن التواصل يعني الإتصال المتبادل، وسواء
أكان تبادلا للتجارب والآراء بما يعنيه ذلك من تواصل حواري أو تواصل علمي
بما تحمله المعرفة من دلالة أخلاقية لاقترانها بالخير، أو تواصل تسويقي
بما يمثله من دعاية تجارية وإشهار ونشر وبرماجيات أو تواصل يرتبط بشبكة
وسائل الإعلام والإتصالات المختلفة. وقد يقترن بشبكة النقل والمواصلات بما
تعنيه من تقريب المسافات بين البشر والأمم وبما تعننيه من إلتقاء بالآخر
البعيد عنا مكانيا أو الإلتقاء به في وسائل النقل نفسها. غير أن ما نعنيه
بالأساس بالتواصل هو التكافؤ بين مختلف الأطراف، ليحمل بذلك معنى التحاور
بما يقتضيه من مجادلة الرأي بالرأي إثراءا وتنويعا. إننا لا نسمي مثلا
الأوامر العسكرية التي يتلقاها جنديا ما تواصلية، لأنها تكتفي بالعلاقة
الأحادية: باث – متقبل، ولا تسمح بتبادل الأدوار، أي بأن يتحول
الباث متقبلا والمتقبل باثا، لأن هذه الخاصية بالأساس هي ما نطمح إليها
وهي ما تجعل من التواصل إنسانيا. فحين نتحدث عن إنسانية التواصل فإن ما
نقصده هو الإعتراف المتبادل، وأن الطرف المقابل هو كفؤ لنا، وأنه من عدم
الإنسانية أن نعتبره أقل منا مرتبتا أو يحتاج إلى قيادة وتوجيه وأوامر.
II- الثورة التواصلية:
إن تطورا هائلا قد طرأ على التواصل وعلى الأنظمة الرمزية التي تحول
بمقتضاها العالم إلى قرية معلوماتية وإلى سوق تجارية. لم تعد هناك أزمة
نقص في المعلومة، بل أزمة معيار لانتقائها واختيارها واختبارها، ولم تعد
هناك أزمة سلع بل أزمة أذواق. لم يعد الإنسان يكلف نفسه عناء التنقل في
العالم طالما أن العالم ماثل بين يديه على الشاشة . لم يعد الإنسان يكلف
نفسه جهد التسوق طالما أن الرواج للبضائع يكون عبر الشاشة. إن رأسالمال
يتحرك رقميا، إنه لم يعد يخضع للرقابة الجمروقية، إلى درجة أمكننا أن
نتحدث فيها عن إنهيار مفهوم الحدود الجغرافية ومفهوم المسافة ومفهوم
المكان في عصرنا. لم يعد الإنسان في حاجة إلى قطع المسافات وتكلف عنائها
طالما أن التواصل يفد إليه دون عناء أو كلفة. ولكن بقدر ما يتواصل الإنسان
معلوماتيا وتجاريا مع أقصى مواقع العالم، بقدر ما ينغلق في بيته وينعزل
أمام شاشة الكمبيوتر على أقرب الناس إليه. وهذا ما يجعلنا نسلم مع أدورنو:
"إن التقدم يفرق بين الناس... ووسائل الإتصال تفرق بين الناس ماديا".
إن هذا الشكل من التواصل الإنساني يجعل مسألة التواصل نفسه في موضع إحراج
وإشكال. ذلك أن مسألة التواصل لم تكن تطرح قديما في فضاء أثينا
الديمقراطية، بل لقد اختزل الأمر في مسألة الصداقة السياسية. غير أن
الفلسفة - في عصرنا الراهن- تجد نفسها مضطرة للتعاطي مع التواصل الذي يوشك
أن يقتل التواصل نفسه. إننا حقا إزاء مفارقة تجعلنا نميز بين التواصل
كواقعة والتواصل كرهان فلسفي، أي رهان إنساني، فحتى يكون التواصل إنساني
لا بد من تجاوز طابعه المصلحي الضيق ليكون كونيا.
إذا كانت اللغة الشفوية تختصر على الاستعمالات الظرفية والمنفعية الطارئة،
فإن اللغة المكتوبة تتخطى حدود المكان وحدود الزمان لكي تتأكد كنظام
تواصلي يتجاوز هذه التضييقات. إن ظهور الكتابة قد طور التواصل ومثل وعاء
للذاكرة الإنسانية، ولكن ثورة الكتابة لم تكن ثورة فعلية إلا بظهور
المطبعة، التي جعلت الكتابة تخرج عن الكنائس والقصور، لتقتحم كل البيوت.
لقد استطاعت الكتابة أن تكسر طوق السلطة الدينية والسلطة السياسية لتتحول
إلى أداة تواصلية تكون في الآن نفسه توعوية وتحررية. إن انتشار الكتابة قد
ساهم إلى حد كبير في ظهور لغات كانت في بدايتها شفوية لذلك فقد أسر ديكارت
على أن يكتب باللغة الفرنسية في زمن لم تكن اللغة الطاغية إلا اللغة
اللاتينية. وكان هدفه بالأساس أن تصل الكتابة حتى إلى النساء والأطفال في
زمن كانت اللغة حكرا على الكنائس والقصور.
إن إنتشار الكتابة يوازيه تراجعا في الأمية، بقدر ما يوازيه قدرة على
التواصل والإستفادة مع المعارف الإنسانية لقول غوسدورف "اللغة تقوم بتمكين
التواصل ومضاعفتها، إنها تنشأ من التواصل عالما جديدا هو العالم الحق".
وإذا كانت الكنائس قد سعت إلى احتكار الكتابة، فإن الكتابة على العكس، قد
أدت إلى انتشار الأنظمة الرمزية الدينية. لقد أصبحت الكتب المقدسة متاحة
للجميع، فلأي كان أن يختار مقدساته وأنماط تواصله الدينية.
لقد ضاعفت ثقافة الصورة من هذا الإنتشار ليزداد تشابك الأنظمة الرمزية من
دين وأسطورة ولغة وصورة، لتؤدي المهمة نفسها لقول إ. كاسيرار "وكل التقدم
الإنساني في الفكر وفي التجربة يعقد هذه الشبكة ويقويها" ذلك أن الأنظمة
الرمزية تطور بعضها البعض بما يسمح من تيسير التواصل وجعله الأداة المثلى
في التقاء الإنسان بالإنسان، إن التواصل من خلال الأنظمة الرمزية ليس إلا
بديلا عن مظاهر العنف والتعسف. وبهذا المعنى أمكننا أن نحلل المسألة
فرويديا لنعتبر كل هذه الأنظمة الرمزية تصعيدا يفرغ شحنة العنف الكامنة
داخل كل إنسان في شكل أنماط تساهم في إثراء التواصل، بدل تعطيله عنفا
وإرهابا وقمعا. ولعل هذا ما عناه وينر بقوله "إن تكنولوجيا الإتصال هي
السبيل لتفادي سقوط الإنسانية مجددا في عالم هيروشيما". وبدل الحرب
الباردة والعنف والعنف المضاد وبدل صراع الحضارات وصراع الديانات يكون من
الأفضل أن تكون الأنماط التواصلية تفهمية تعاطفية. وبدل الحديث عن
إمبراطوريات إستعمارية عظمى تتقاسم العالم يكون من الأجدر توحيد الإنسانية
وانتظامها ضمن أنظمة رمزية تكون بدورها إنسانية، لذلك يكون من الضروري
الإستعاضة عن ثقافة الصراع والتقاتل بثقافة التواصل الحضاري الذي يقوم فيه
الرفاه بديلا عن الصراع، لقول جون هارتلي"فقد حل الترفيه محل الدفاع".
ولكن ألا يكذب الواقع هذه المثالية ويجعلها مجرد إدعاءات ؟
III- أزمة التواصل:
إذا كنا غير قادرين على حسم الإجابة عن أسبقية الإنسان عن اللغة أو العكس،
فإننا نعلم – على الأقل – أن اللغة ليست ذاتية، "فكل لغة هي
في البداية متقبلة يتلقاها الطفل جاهزة من الوسط كما يتلقى منه غذاءه" على
حد عبارة غوسدورف. وأن لا تكون اللغة ذاتية، معناه أن الدلالات التي
تحملها هي مضمنة فيها سلفا، وهي ثابتة، بينما يشهد الواقع بحيوية الذات
الإنسانية وبحركية الأحداث، فلا يمكن، بناء على ذلك أن يحتوي الثابت
اللغوي حركية الذات والأحداث إلا لكي يطبعهما بثباته وسكونه. إن اللغة
بهذا المعنى، لا تقول إلا لكي تخون مكامن النفس وأحداث الواقع ; وما أكثر
تذمر الناس من خيانة العبارة، فاللغة ليست لغتي وإنما هي تمارس سلطتها
بمحدودية دلالاتها.
إن سلطة اللغة كبنية وكمؤسسة خارجة عن الذات تمارس سلطتها كمدونة معجمية
لدلالات محدودة هو أمر يمكن أن نشكك فيه لنبين بالمقابل مستطاعها كأداة
طيعة ولكن يبقى التساؤل: طيعة في يد من؟ هل هي أداة طيعة لكل الناس؟
قد لا نضيف شيئا إذا قلنا أن السلطة السياسية تسعى قدر الإمكان إلى امتلاك
أدوات السلطة واحتكارها، وما الأنظمة الرمزية إلا آليات مثلى لتنظيم البشر
وتعويدهم على الطاعة. إن المستعمر يبادر أولا بتعليم لغته لمستعمره، لأن
الأكثر اكتسابا للغة هو الأكثر قابلية للتطويع والإخضاع. إن الأمر نفسه
ينطبق على المجال العسكري الذي تسند فيه المراتب والأوسمة إلى الأكثر درجة
في التعليم لأنه الأكثر قابلية للإنصياع والخضوع. فليست اللغة هي ما يحقق
إنسانية الإنسان بل على العكس هي أداة إغترابه وهي الوسيلة المثلى لإبعاده
عن ذاته بإبعاده عن حريته.
إن صراعنا حول السلطة هو صراع على إمتلاك الأنظمة الرمزية التي تتحقق بها
السلطة نفسها، فعن سؤال "من هو أفضل رمز تاريخي بالنسبة إليك؟" أجاب زعيم
سياسي: "المسيح". وقد نفاجؤ بهكذا إجابة حين نتمثل الدولة الحديثة على
أنها دولة علمانية. ولكن يبدو أن لكل دولة، بل ولكل حزب معتقده، والكل يشن
الحرب ضد الكل ويسميها حربا مقدسة إلى درجة أنه من المؤسف أن تتردد على
مسامعنا عبارات تحمل تناقضا مثل عبارة "الحقد المقدس"، فهل يعقل أن يكون
الحقد مقدسا؟؟
لقد أصاب إبن خلدون بقوله: "إن أشد الحروب ضراوة تلك التي قامت على
العقيدة"، فالمقدس في عصرنا أصبح قدرة تأثيرية على جميع الأنصار سياسيا ،
ولكن تبدو المفارقة عجيبة حين نرى حروبا تحركها نوازع دينية وفي الآن نفسه
يسعف المصابون إسعافا يحمل إما صليب المسيحية أو هلال الإسلام. إن المقدس
الذي يدفع بالحرب هو نفسه الذي يضمد ويلاتها. إننا أمام زمن إلتباس المقدس
بما يوشك أن يفقده قداسته إذ لم نعد نميز بين عمليات إرهابية وعمليات
خيرية. إن أسوء ما وصلت إليه الإنسانية هو التشكيك في مقدساتها. وإذا كانت
الأنظمة الرمزية لا تنضاف إلى الواقع الإنساني بل هي الوجود نفسه فإن
التشكيك في مصداقيتها هو تشكيك في قيمة الإنسان نفسه كمبدع ومنتج لها.
إننا لم نعد ندري ما إذا كنا نستعمل المقدس أم يستعملها؟ نستعمل اللغة أم تستعملنا؟ ألا يمكن أن تسعفنا رمزية الصورة؟
إن الصورة نفسها لا تخلو من التوظيفات الإيديولوجية والاقتصادية. وإن
الواحد منا ليجد نفسه محاطا من كل الجوانب بالصورة ملصقة على الجدران وعلى
وسائل النقل العامة والخاصة، بل الأفضع من ذلك على ألبستنا، إلى درجة أمكن
القول معها بأننا أصبحنا مجرد لوحات إشهارية سياسية كانت أم اقتصادية أم
ثقافية. إننا لا نستعمل الصورة ونوظفها بقدر ما تستعملنا، وهي ليست شيئا
ينضاف إلى محيطنا، بل هي المتملكة له، وهذا ما يجد تأييده في قول ديبراي:
"فبما أن الصورة أول ساكن للمكان، فإنها ليست ضيفا علينا وإنما هي صاحبة
المحل". وإذا كان ابن خلدون قد قال: "ما دخلت السياسة شيئا إلا وأفسدته"
فإن الأمر يكون أشد خطورة إذا كانت الصورة موضع تقاسم بين السلطة السياسية
والسلطة الاقتصادية. إذا كانت الإيديولوجيا تجبرنا على أن ننظر إلى العالم
فقط من خلال منطلقاتها وأفكارها وأحكامها، فإن النزوع الاقتصادي يبدو أشد
خطورة لأنه لا يسمح بالتفكير بل يكرس عقلية الاستهلاك، وهو لا يقدم العالم
إلا في شكل فرجة ومتعة وتسلية بل أحيانا في شكل ألعاب إعلامية لا تقتصر
على الصغار بل تطال الكبار أيضا.
إن المتعة الظرفية والآنية تغني الإنسان عن التفكير وعن البحث السببي في
نشوء العالم، وعن العلاقات التي تحكمها، لأنها تقدم لنا مشهدا واحدا من
الواقع، هو الفرجة الظرفية التي تحجب عنا النظرة العقلية والمتماسكة
للعالم، ذلك أن "أصل الفرجة هو خسارة لوحدة العالم" على حد عبارة غي
ديبور. وإذا كان "للدماغ البشري مطلبا أساسيا، هو الحصول على تمثل موحد
ومنسجم للعالم"، فإن هذا نفسه ما تحول ثقافة الفرجة دونه، ذلك أنه "أمام
منضدة المشاهدة نصمت" ونمتنع عن الحوار بيننا، لنصوب أنظارنا تجاه صورة
تقدم لنا المعنى "دفعة" دون مناقشته. إن الصورة تغير أفكارنا وفي الآن
نفسه تغير لغتنا ذلك أنه "في اللغة عوضت كلمة البصر كلمة التفكير والفهم"
كما ذهب إلى ذلك ديبراي، وتراجعت فاعلية الفكر أمام طغيان الصورة وتحكمها
في البصر.
يبدو أن قدر الإنسان أن يبدع دائما مظاهر إستعباده ; فقد اعتقدنا أن اللغة
إبداعا، ولكن اتضح لنا أنها مجالا للإرغام سواء في بنيتها أو في
توظيفاتها. وقد اعتقدنا أن الصورة قد يسرت لنا الفهم وجنبتنا عناء التفكير
المطول الذي تقتضيه اللغة كما أن اعتقادنا في قيمة المقدس قد انهار أمام
تحوله إلى آلية تحريض على العنف والعنف المضاد. وكأن الإنسانية تبدع في
اتجاه يوازيه عكسيا تراجع كل تواصل إنساني، إلى درجة أننا نكاد نسلم
بالموقف الطبيعي الرافض للحضارة ذات الطابع التدميري وذلك بالرجوع من جديد
إلى الحالة الطبيعية. "على أنه لا علاج يقي الإنسان هذا الانقلاب في
النظام الطبيعي" كما ذهب إلى ذلك إكاسيرار أي أنه لا سبيل إلى أن نحيا
خارج الأنظمة الرمزية. فهل علينا أن نسلم بقدر التواصل على هذه الشاكلة؟
..............
إنسانية التواصل، إنسانية الأنظمة الرمزية
الأستاذ: محمد علي كسيرة
الأستاذ: محمد علي كسيرة
التمهيد: التواصل بين الضرورة والاختيار
لا نكاد نلتقي بمسألة معاصرة في الفلسفة، إلا ولها صلة بالانسان إلى درجة
أمكننا أن نسلم فيها مع كانط بأن الفلسفة قد تحولت إلى أنتروبولوجيا، أي
إلى دراسة تسعى قدر الإمكان إلى تمثل كل ما يتعلق بهذا الكائن، فما
الإنسان؟
إن النظرة الأولية لهذا الكائن تحيلنا إلى تركيبته العضوية، فالغلاف
الخارجي الذي يغطي الجسم بأكمله والمتمثل في الجلد، ليس وحدة صماء، بل هو
منفتح من خلال ثقبه على العالم الخارجي، وما الفم والأذن والأنف إلا قنوات
تمرر داخل الجسم ما هو خارجي عنه، حتى أنه لا قوام للجسم بذاته بل إنه يجد
حيويته في تجذره في عالمه الخارجي الذي يلقى فيه غذاءه ونفسه، ليقترن كل
تواصل يشبع الجسد باللذة ويقترن كل انغلاق بالألم والضعف والوهن.
إنه محكوم علينا بيولوجيا بأن ننفتح على الطبيعة الخارجية. ولكنه محكوم
علينا أيضا ان نتواصل مع العالم في شكل جماعي، فمواجهة الإنسان للطبيعة لا
يمكن بأية حال أن تكون فردية. إن الضرورة البيولوجية للجسد تستدعي ضرورة
إجتماعية للتواصل.
إن حاجة الحيوان إلى محيطه هي نفسها حاجة المحيط إلى الحيوان، فحين يحقق
حاجته في الطبيعة لضمان بقائه فإنه يضمن في الآن نفسه توازنا إيكولوجيا
بيئيا، فالحياة الحيوانية ليست إلا إمتدادا للطبيعة نفسها، إذ لا يحتاج
الحيوان لكي يلبي حاجاته إلى تعلم، وإنما يولد أحيانا من يومه الأول قادرا
على التواصل مع محيطه بقدرته على الإنتصاب قائما. ذلك أن غريزته هي أداة
تواصله وهو لا يحتاج إلى تعلم لكي يحصل على هذه الأداة، وإنما يرثها إرثا
بيولوجيا من نوعه. لأن "الغريزة متخصصة إضطرارا" كما يذهب إلى ذلك برقسن.
أما الإنسان، فلكي يعمل، يحتاج إلى تعلم. ولكي يتعلم يحتاج إلى الآخر، فلا
تواصل مع الطبيعة دون تواصل مع الآخر وهذا ما يجعل التواصل ضرورة بشرية
بالأساس لأن التواصل يقتضي سلفا وعيا بالتواصل.
إذا كان تواصلنا مع الطبيعة لا ينتظم تلقائيا، فإن تواصلنا مع الآخر يتعدى
بدوره التلقائية المباشرة. وإذا كانت التلقائية تخلق نظاما في تواصل
الحيوان مع محيطه فإنها غير كافية بل وأحيانا مبعثا للفوضى حين يتعلق
الأمر بالإنسان. ذلك أنه لو ترك أمر التواصل الإنساني للتلقائية المباشرة
لكنا إزاء رغبات إنسانية متعارضة ومتصادمة. وبناءا عليه فإن التواصل يحتاج
إلى تجاوز الطابع المباشر بالتفكير في وسائط. وبهذا المعنى نكون أمام
خيارين: إما أن نتواصل تلقائيا – مع ما ينجر عن ذلك من تصادم
– وإما أن نختار وضع شروط للتواصل. ولحظتها نرتفع عن الطابع المباشر
الذي يسم التواصل الحيواني لنحقق تواصلا مجهزا ومنظما حتى يكون من الممكن
أن نتحدث عن إنسانية التواصل.
I- إنسانية التواصل:
حين نتحدث عن إنسانية التواصل يكون من الضروري أن نفهم أولا دلالة
"التواصل" ودلالة "الإنسانية". إن التواصل يعني الإتصال المتبادل، وسواء
أكان تبادلا للتجارب والآراء بما يعنيه ذلك من تواصل حواري أو تواصل علمي
بما تحمله المعرفة من دلالة أخلاقية لاقترانها بالخير، أو تواصل تسويقي
بما يمثله من دعاية تجارية وإشهار ونشر وبرماجيات أو تواصل يرتبط بشبكة
وسائل الإعلام والإتصالات المختلفة. وقد يقترن بشبكة النقل والمواصلات بما
تعنيه من تقريب المسافات بين البشر والأمم وبما تعننيه من إلتقاء بالآخر
البعيد عنا مكانيا أو الإلتقاء به في وسائل النقل نفسها. غير أن ما نعنيه
بالأساس بالتواصل هو التكافؤ بين مختلف الأطراف، ليحمل بذلك معنى التحاور
بما يقتضيه من مجادلة الرأي بالرأي إثراءا وتنويعا. إننا لا نسمي مثلا
الأوامر العسكرية التي يتلقاها جنديا ما تواصلية، لأنها تكتفي بالعلاقة
الأحادية: باث – متقبل، ولا تسمح بتبادل الأدوار، أي بأن يتحول
الباث متقبلا والمتقبل باثا، لأن هذه الخاصية بالأساس هي ما نطمح إليها
وهي ما تجعل من التواصل إنسانيا. فحين نتحدث عن إنسانية التواصل فإن ما
نقصده هو الإعتراف المتبادل، وأن الطرف المقابل هو كفؤ لنا، وأنه من عدم
الإنسانية أن نعتبره أقل منا مرتبتا أو يحتاج إلى قيادة وتوجيه وأوامر.
II- الثورة التواصلية:
إن تطورا هائلا قد طرأ على التواصل وعلى الأنظمة الرمزية التي تحول
بمقتضاها العالم إلى قرية معلوماتية وإلى سوق تجارية. لم تعد هناك أزمة
نقص في المعلومة، بل أزمة معيار لانتقائها واختيارها واختبارها، ولم تعد
هناك أزمة سلع بل أزمة أذواق. لم يعد الإنسان يكلف نفسه عناء التنقل في
العالم طالما أن العالم ماثل بين يديه على الشاشة . لم يعد الإنسان يكلف
نفسه جهد التسوق طالما أن الرواج للبضائع يكون عبر الشاشة. إن رأسالمال
يتحرك رقميا، إنه لم يعد يخضع للرقابة الجمروقية، إلى درجة أمكننا أن
نتحدث فيها عن إنهيار مفهوم الحدود الجغرافية ومفهوم المسافة ومفهوم
المكان في عصرنا. لم يعد الإنسان في حاجة إلى قطع المسافات وتكلف عنائها
طالما أن التواصل يفد إليه دون عناء أو كلفة. ولكن بقدر ما يتواصل الإنسان
معلوماتيا وتجاريا مع أقصى مواقع العالم، بقدر ما ينغلق في بيته وينعزل
أمام شاشة الكمبيوتر على أقرب الناس إليه. وهذا ما يجعلنا نسلم مع أدورنو:
"إن التقدم يفرق بين الناس... ووسائل الإتصال تفرق بين الناس ماديا".
إن هذا الشكل من التواصل الإنساني يجعل مسألة التواصل نفسه في موضع إحراج
وإشكال. ذلك أن مسألة التواصل لم تكن تطرح قديما في فضاء أثينا
الديمقراطية، بل لقد اختزل الأمر في مسألة الصداقة السياسية. غير أن
الفلسفة - في عصرنا الراهن- تجد نفسها مضطرة للتعاطي مع التواصل الذي يوشك
أن يقتل التواصل نفسه. إننا حقا إزاء مفارقة تجعلنا نميز بين التواصل
كواقعة والتواصل كرهان فلسفي، أي رهان إنساني، فحتى يكون التواصل إنساني
لا بد من تجاوز طابعه المصلحي الضيق ليكون كونيا.
إذا كانت اللغة الشفوية تختصر على الاستعمالات الظرفية والمنفعية الطارئة،
فإن اللغة المكتوبة تتخطى حدود المكان وحدود الزمان لكي تتأكد كنظام
تواصلي يتجاوز هذه التضييقات. إن ظهور الكتابة قد طور التواصل ومثل وعاء
للذاكرة الإنسانية، ولكن ثورة الكتابة لم تكن ثورة فعلية إلا بظهور
المطبعة، التي جعلت الكتابة تخرج عن الكنائس والقصور، لتقتحم كل البيوت.
لقد استطاعت الكتابة أن تكسر طوق السلطة الدينية والسلطة السياسية لتتحول
إلى أداة تواصلية تكون في الآن نفسه توعوية وتحررية. إن انتشار الكتابة قد
ساهم إلى حد كبير في ظهور لغات كانت في بدايتها شفوية لذلك فقد أسر ديكارت
على أن يكتب باللغة الفرنسية في زمن لم تكن اللغة الطاغية إلا اللغة
اللاتينية. وكان هدفه بالأساس أن تصل الكتابة حتى إلى النساء والأطفال في
زمن كانت اللغة حكرا على الكنائس والقصور.
إن إنتشار الكتابة يوازيه تراجعا في الأمية، بقدر ما يوازيه قدرة على
التواصل والإستفادة مع المعارف الإنسانية لقول غوسدورف "اللغة تقوم بتمكين
التواصل ومضاعفتها، إنها تنشأ من التواصل عالما جديدا هو العالم الحق".
وإذا كانت الكنائس قد سعت إلى احتكار الكتابة، فإن الكتابة على العكس، قد
أدت إلى انتشار الأنظمة الرمزية الدينية. لقد أصبحت الكتب المقدسة متاحة
للجميع، فلأي كان أن يختار مقدساته وأنماط تواصله الدينية.
لقد ضاعفت ثقافة الصورة من هذا الإنتشار ليزداد تشابك الأنظمة الرمزية من
دين وأسطورة ولغة وصورة، لتؤدي المهمة نفسها لقول إ. كاسيرار "وكل التقدم
الإنساني في الفكر وفي التجربة يعقد هذه الشبكة ويقويها" ذلك أن الأنظمة
الرمزية تطور بعضها البعض بما يسمح من تيسير التواصل وجعله الأداة المثلى
في التقاء الإنسان بالإنسان، إن التواصل من خلال الأنظمة الرمزية ليس إلا
بديلا عن مظاهر العنف والتعسف. وبهذا المعنى أمكننا أن نحلل المسألة
فرويديا لنعتبر كل هذه الأنظمة الرمزية تصعيدا يفرغ شحنة العنف الكامنة
داخل كل إنسان في شكل أنماط تساهم في إثراء التواصل، بدل تعطيله عنفا
وإرهابا وقمعا. ولعل هذا ما عناه وينر بقوله "إن تكنولوجيا الإتصال هي
السبيل لتفادي سقوط الإنسانية مجددا في عالم هيروشيما". وبدل الحرب
الباردة والعنف والعنف المضاد وبدل صراع الحضارات وصراع الديانات يكون من
الأفضل أن تكون الأنماط التواصلية تفهمية تعاطفية. وبدل الحديث عن
إمبراطوريات إستعمارية عظمى تتقاسم العالم يكون من الأجدر توحيد الإنسانية
وانتظامها ضمن أنظمة رمزية تكون بدورها إنسانية، لذلك يكون من الضروري
الإستعاضة عن ثقافة الصراع والتقاتل بثقافة التواصل الحضاري الذي يقوم فيه
الرفاه بديلا عن الصراع، لقول جون هارتلي"فقد حل الترفيه محل الدفاع".
ولكن ألا يكذب الواقع هذه المثالية ويجعلها مجرد إدعاءات ؟
III- أزمة التواصل:
إذا كنا غير قادرين على حسم الإجابة عن أسبقية الإنسان عن اللغة أو العكس،
فإننا نعلم – على الأقل – أن اللغة ليست ذاتية، "فكل لغة هي
في البداية متقبلة يتلقاها الطفل جاهزة من الوسط كما يتلقى منه غذاءه" على
حد عبارة غوسدورف. وأن لا تكون اللغة ذاتية، معناه أن الدلالات التي
تحملها هي مضمنة فيها سلفا، وهي ثابتة، بينما يشهد الواقع بحيوية الذات
الإنسانية وبحركية الأحداث، فلا يمكن، بناء على ذلك أن يحتوي الثابت
اللغوي حركية الذات والأحداث إلا لكي يطبعهما بثباته وسكونه. إن اللغة
بهذا المعنى، لا تقول إلا لكي تخون مكامن النفس وأحداث الواقع ; وما أكثر
تذمر الناس من خيانة العبارة، فاللغة ليست لغتي وإنما هي تمارس سلطتها
بمحدودية دلالاتها.
إن سلطة اللغة كبنية وكمؤسسة خارجة عن الذات تمارس سلطتها كمدونة معجمية
لدلالات محدودة هو أمر يمكن أن نشكك فيه لنبين بالمقابل مستطاعها كأداة
طيعة ولكن يبقى التساؤل: طيعة في يد من؟ هل هي أداة طيعة لكل الناس؟
قد لا نضيف شيئا إذا قلنا أن السلطة السياسية تسعى قدر الإمكان إلى امتلاك
أدوات السلطة واحتكارها، وما الأنظمة الرمزية إلا آليات مثلى لتنظيم البشر
وتعويدهم على الطاعة. إن المستعمر يبادر أولا بتعليم لغته لمستعمره، لأن
الأكثر اكتسابا للغة هو الأكثر قابلية للتطويع والإخضاع. إن الأمر نفسه
ينطبق على المجال العسكري الذي تسند فيه المراتب والأوسمة إلى الأكثر درجة
في التعليم لأنه الأكثر قابلية للإنصياع والخضوع. فليست اللغة هي ما يحقق
إنسانية الإنسان بل على العكس هي أداة إغترابه وهي الوسيلة المثلى لإبعاده
عن ذاته بإبعاده عن حريته.
إن صراعنا حول السلطة هو صراع على إمتلاك الأنظمة الرمزية التي تتحقق بها
السلطة نفسها، فعن سؤال "من هو أفضل رمز تاريخي بالنسبة إليك؟" أجاب زعيم
سياسي: "المسيح". وقد نفاجؤ بهكذا إجابة حين نتمثل الدولة الحديثة على
أنها دولة علمانية. ولكن يبدو أن لكل دولة، بل ولكل حزب معتقده، والكل يشن
الحرب ضد الكل ويسميها حربا مقدسة إلى درجة أنه من المؤسف أن تتردد على
مسامعنا عبارات تحمل تناقضا مثل عبارة "الحقد المقدس"، فهل يعقل أن يكون
الحقد مقدسا؟؟
لقد أصاب إبن خلدون بقوله: "إن أشد الحروب ضراوة تلك التي قامت على
العقيدة"، فالمقدس في عصرنا أصبح قدرة تأثيرية على جميع الأنصار سياسيا ،
ولكن تبدو المفارقة عجيبة حين نرى حروبا تحركها نوازع دينية وفي الآن نفسه
يسعف المصابون إسعافا يحمل إما صليب المسيحية أو هلال الإسلام. إن المقدس
الذي يدفع بالحرب هو نفسه الذي يضمد ويلاتها. إننا أمام زمن إلتباس المقدس
بما يوشك أن يفقده قداسته إذ لم نعد نميز بين عمليات إرهابية وعمليات
خيرية. إن أسوء ما وصلت إليه الإنسانية هو التشكيك في مقدساتها. وإذا كانت
الأنظمة الرمزية لا تنضاف إلى الواقع الإنساني بل هي الوجود نفسه فإن
التشكيك في مصداقيتها هو تشكيك في قيمة الإنسان نفسه كمبدع ومنتج لها.
إننا لم نعد ندري ما إذا كنا نستعمل المقدس أم يستعملها؟ نستعمل اللغة أم تستعملنا؟ ألا يمكن أن تسعفنا رمزية الصورة؟
إن الصورة نفسها لا تخلو من التوظيفات الإيديولوجية والاقتصادية. وإن
الواحد منا ليجد نفسه محاطا من كل الجوانب بالصورة ملصقة على الجدران وعلى
وسائل النقل العامة والخاصة، بل الأفضع من ذلك على ألبستنا، إلى درجة أمكن
القول معها بأننا أصبحنا مجرد لوحات إشهارية سياسية كانت أم اقتصادية أم
ثقافية. إننا لا نستعمل الصورة ونوظفها بقدر ما تستعملنا، وهي ليست شيئا
ينضاف إلى محيطنا، بل هي المتملكة له، وهذا ما يجد تأييده في قول ديبراي:
"فبما أن الصورة أول ساكن للمكان، فإنها ليست ضيفا علينا وإنما هي صاحبة
المحل". وإذا كان ابن خلدون قد قال: "ما دخلت السياسة شيئا إلا وأفسدته"
فإن الأمر يكون أشد خطورة إذا كانت الصورة موضع تقاسم بين السلطة السياسية
والسلطة الاقتصادية. إذا كانت الإيديولوجيا تجبرنا على أن ننظر إلى العالم
فقط من خلال منطلقاتها وأفكارها وأحكامها، فإن النزوع الاقتصادي يبدو أشد
خطورة لأنه لا يسمح بالتفكير بل يكرس عقلية الاستهلاك، وهو لا يقدم العالم
إلا في شكل فرجة ومتعة وتسلية بل أحيانا في شكل ألعاب إعلامية لا تقتصر
على الصغار بل تطال الكبار أيضا.
إن المتعة الظرفية والآنية تغني الإنسان عن التفكير وعن البحث السببي في
نشوء العالم، وعن العلاقات التي تحكمها، لأنها تقدم لنا مشهدا واحدا من
الواقع، هو الفرجة الظرفية التي تحجب عنا النظرة العقلية والمتماسكة
للعالم، ذلك أن "أصل الفرجة هو خسارة لوحدة العالم" على حد عبارة غي
ديبور. وإذا كان "للدماغ البشري مطلبا أساسيا، هو الحصول على تمثل موحد
ومنسجم للعالم"، فإن هذا نفسه ما تحول ثقافة الفرجة دونه، ذلك أنه "أمام
منضدة المشاهدة نصمت" ونمتنع عن الحوار بيننا، لنصوب أنظارنا تجاه صورة
تقدم لنا المعنى "دفعة" دون مناقشته. إن الصورة تغير أفكارنا وفي الآن
نفسه تغير لغتنا ذلك أنه "في اللغة عوضت كلمة البصر كلمة التفكير والفهم"
كما ذهب إلى ذلك ديبراي، وتراجعت فاعلية الفكر أمام طغيان الصورة وتحكمها
في البصر.
يبدو أن قدر الإنسان أن يبدع دائما مظاهر إستعباده ; فقد اعتقدنا أن اللغة
إبداعا، ولكن اتضح لنا أنها مجالا للإرغام سواء في بنيتها أو في
توظيفاتها. وقد اعتقدنا أن الصورة قد يسرت لنا الفهم وجنبتنا عناء التفكير
المطول الذي تقتضيه اللغة كما أن اعتقادنا في قيمة المقدس قد انهار أمام
تحوله إلى آلية تحريض على العنف والعنف المضاد. وكأن الإنسانية تبدع في
اتجاه يوازيه عكسيا تراجع كل تواصل إنساني، إلى درجة أننا نكاد نسلم
بالموقف الطبيعي الرافض للحضارة ذات الطابع التدميري وذلك بالرجوع من جديد
إلى الحالة الطبيعية. "على أنه لا علاج يقي الإنسان هذا الانقلاب في
النظام الطبيعي" كما ذهب إلى ذلك إكاسيرار أي أنه لا سبيل إلى أن نحيا
خارج الأنظمة الرمزية. فهل علينا أن نسلم بقدر التواصل على هذه الشاكلة؟
..............
حمزة سديرة-
- عدد المساهمات : 453
العمر : 36
المكان : قصر*قفصة
المهنه : طلب العلم
الهوايه : كل شيء
نقاط تحت التجربة : 12489
تاريخ التسجيل : 07/03/2008
رد: في رحاب البكالوريا
IV- شروط التواصل:
يمكننا أن نتوقف عند المفارقة التي تنطوي عليها الأنظمة الرمزية ; فهي من
جهة ضرورية، ولكنها من جهة أخرى تطغى عليها التوظيفات اللاإنسانية. لذلك
تكون شروطنا في مجملها مرتبطة بهذه الغاية ; فوفق أية شروط يكون التواصل
إنساني؟
1- شرط التكافؤ:
أن يكون الأفراد متساوون ضمن التواصل وضمن الأنظمة الرمزية ولا يحق لأي
كان أن يمارس وصايته على البشر بذريعة التفوق أو التحضر ذلك أن الأصل
والأساس الذي تبنى عليه العلاقات بين البشر هو التكافؤ لقول هابرماس:
"أسمي تواصلية،التفاعلات التي يكون فيها نالمشاركون متفقين مؤتلفين على
تنسيق مخططات عملهم"
ثقافيا : التسليم بالتساوي في القدرة على الإسهام في الحضارة الإنسانية دون إعتبار الثقافة حكرا على أمة دون أخرى ودون مفاضلة.
لغويا: أن يساهم التواصل في إثراء اللغات الخاصة وتمكينها من الإستفادة من
الدراسات الألسنية، بدل طغيان لغات تسمي نفسها عالمية بقصد ممارسة الهيمنة
الثقافية. غير أنه من الضروري أن نحذر في هذا المجال من تدخل النوايا
السيئة حين تسعى إلى إحياء لغات عرقية يكون المقصد منها إضعاف اللغة الأم
وإضعاف الحضارة القائمة عليها.
دينيا: تكريس حوار الديانات بدل صراعها.
فرجويا: أن تكون المؤسسات الإعلامية متاحة بالتساوي وأن تكون مصدرا لحوار
حقيقي بدل الحوارات المزعومة والمصطنعة التي خلقت فضائيات غرضها الأساسي
التعتيم عن فضائيات أخرى قد تكون مساهمة في تطوير الثقافات الإنسانية.
وكمثال على ذلك نذكر سعي الدول العظمى إلى إرساء فضائيات بمختلف اللغات
الغاية منها إضعاف الحضارات من داخلها. إن مقصدنا بالأساس هو أن نجعل
الصورة إنسانية.
2- شرط الكونية:
إن ما أنتجته الإنسانية من أنظمة رمزية هو في حقيقته مكسب للإنسانية
جمعاء، لذلك لا ينبغي أن تكون منفعته فئوية أو قطرية بل يجب أن تكون
إنسانية وكلية.
لغويا: يكون مقصد نشر اللغة توسيع الثقافات وتنويعها بدل طمس خصوصيات الشعوب وتطويعها للخضوع.
دينيا: إذا كانت الديانات التوحيدية تلتقي في القول بوحدة الإله وتلتقي في
بعض القصص الرمزية مثل خطيئة آدم وجريمة إبنه في قتل أخيه وقصص نوح وغيره
من الأنبياء فمعنى ذلك أنه يوجد في الديانات ما يمكن أن يكون دافعا لتوحيد
غاياتها الكونية. إنه لا بديل عن ثقافة المواجهة والإصطدام إلا بثقافة
الإلتقاء والتقاطع في الأهداف الإنسانية. وعوض إثارة مسائل تثير النزاع
والإقتتال فإنه يكون من الأجدر إثارة مسائل الإلتقاء ضمن ما هو كوني
وإنساني
3- شرط الحرية:
لقد تحررت الإنسانية بواسطة اللغة سياسيا ومكنت الكتابة من التوعية وفضح
آليات السلطة. والوظيفة نفسها تؤديها ثقافة الصورة لذلك فإن ما نشترطه
بالأساس هو أن تكون الصورة إنسانية في توظيفاتها وفي مقاصدها بدل أن تكون
تجارية وعوض أن تفرض الرأي الواحد والذوق الواحد، فإنه من الضروري أن تكون
حافزا على تحرير الفكر وتحرير الذوق. إن الإنساني لا يمكن أن يتحقق
بمخادعة الشعوب واستثارة غرائزها، بل إن الحرية الحقيقية والتواصل الحقيقي
يتحققان أساسا عندما يكون الإنسان هو المقصد والقيمة. وإذا كان قد قيل
قديما "أيتها الحرية كم جرائم أرتكبت باسمك" فذلك لأن شرط الحرية لا يكون
باستغفال المتلقي، بل باحترامه وتمكينه من أن يكون صاحب موقف حقيقي، بدل
تدجينه وتدجين أرائه ومواقفه وذوقه، لأن الحرية هي في المطاف الأخير قيمة
كل القيم.
V- الرهانات الإنسانية للتواصل:
1- الرهان القيمي: وهو أن نجعل قيمة الإنسان فوق قيمة الأشياء وسابق لقيمة المردودية والربح والدعاية التجارية.
2- الرهان الفكري: أن نراهن على أن الإنسان كائن مفكر، وأن العالم بأكمله
موضوع تفكير، بدل تحويل العالم إلى سوق وتحويل البشر إما إلى مستهلكين
وإما إلى لوحات إشهارية تحمل ألبسة الدعاية التجارية.
3- الرهان العملي: أن تيسر الأنظمة الرمزية العلاقات العملية بين البشر
وأن تؤمن قدر الإمكان السبل الكفيلة بالتقاء الناس ضمن ما يحفظ أمنهم
وبقاؤهم.
4- الرهان التثقيفي: وهو أن يكون مقصد الأنظمة الرمزية تثقيف الإنسان فعليا بدل إستمالته واحتوائه فكريا وحضاريا.
5- رهان التنوع: المحافظة على المشاركة في الكونية لا بما تفرضه الدعاية
من عولمة، بل بالحفاظ على الفروقات الثقافية والخصوصيات الدينية واللغوية
للشعوب.
الخاتمة:
إذا كان التواصل ضرورة وجودية ومعرفية وعملية فإن ذلك لا يقف عند الطابع
التلقائي، بل يقتضي تنظيما يحول التواصل الإعتباطي إلى الإنتظام فكريا
ورمزيا. غير أن الإنتظام وحده لا يضمن شرط إنسانية التواصل وإنسانية
الأنظمة الرمزية. لذلك يكون من الضروري أن نحدد شروطا أخلاقيا وإنسانيا كي
يكون التواصل نفسه إنسانيا، وكي يكون ما ينتجه الإنسان تأكيدا لتحضره
وتنمية لاستعداداته الجسمية والفكرية. بهذا المعنى فإنه يكون لزاما على
التواصل أن يكون مشروطا بالتكافئ والكونية والحرية، حتى يكون الإنسان
مقصدا وغاية، بدل تأليته وتشيئته ضمن "الغباء المبرمج" إعلاميا، فحاجتنا
إلى المقدس واللغة والصورة لا تقف عند المتعة والإستهلاك بل مرتهنة بمدى
ما تحققه من إنتزاع لقيمة الإنسان وسط طغيان قيمة الأشياء وذلك لتأكيد
قدرته على التفكير بنفسه كي يكون محددا لأفكاره وأفعاله ومسؤولا عن ذوقه.
ذلك أنه لا قيمة لوسائط إستبدادية تكرس وثوقية من نوع جديد، وتمارس سلطة
المتعة بدل حرية التفكير، لأن القيمة الحقيقية لأي نظام رمزي تتحدد بمدى
إستجابتها -لا لرغبة الإنسان- بل لقيمته ومطامحه كوجود له المنزلة والقيمة
المثلى.
الشّكر الى الأستاذ محمّد كسيرة
الذّي يعدنا بحملة من الدّراسات الأخرى المتناغمة مع أهداف وبرامج الفلسفة نظام جديد.....
يمكننا أن نتوقف عند المفارقة التي تنطوي عليها الأنظمة الرمزية ; فهي من
جهة ضرورية، ولكنها من جهة أخرى تطغى عليها التوظيفات اللاإنسانية. لذلك
تكون شروطنا في مجملها مرتبطة بهذه الغاية ; فوفق أية شروط يكون التواصل
إنساني؟
1- شرط التكافؤ:
أن يكون الأفراد متساوون ضمن التواصل وضمن الأنظمة الرمزية ولا يحق لأي
كان أن يمارس وصايته على البشر بذريعة التفوق أو التحضر ذلك أن الأصل
والأساس الذي تبنى عليه العلاقات بين البشر هو التكافؤ لقول هابرماس:
"أسمي تواصلية،التفاعلات التي يكون فيها نالمشاركون متفقين مؤتلفين على
تنسيق مخططات عملهم"
ثقافيا : التسليم بالتساوي في القدرة على الإسهام في الحضارة الإنسانية دون إعتبار الثقافة حكرا على أمة دون أخرى ودون مفاضلة.
لغويا: أن يساهم التواصل في إثراء اللغات الخاصة وتمكينها من الإستفادة من
الدراسات الألسنية، بدل طغيان لغات تسمي نفسها عالمية بقصد ممارسة الهيمنة
الثقافية. غير أنه من الضروري أن نحذر في هذا المجال من تدخل النوايا
السيئة حين تسعى إلى إحياء لغات عرقية يكون المقصد منها إضعاف اللغة الأم
وإضعاف الحضارة القائمة عليها.
دينيا: تكريس حوار الديانات بدل صراعها.
فرجويا: أن تكون المؤسسات الإعلامية متاحة بالتساوي وأن تكون مصدرا لحوار
حقيقي بدل الحوارات المزعومة والمصطنعة التي خلقت فضائيات غرضها الأساسي
التعتيم عن فضائيات أخرى قد تكون مساهمة في تطوير الثقافات الإنسانية.
وكمثال على ذلك نذكر سعي الدول العظمى إلى إرساء فضائيات بمختلف اللغات
الغاية منها إضعاف الحضارات من داخلها. إن مقصدنا بالأساس هو أن نجعل
الصورة إنسانية.
2- شرط الكونية:
إن ما أنتجته الإنسانية من أنظمة رمزية هو في حقيقته مكسب للإنسانية
جمعاء، لذلك لا ينبغي أن تكون منفعته فئوية أو قطرية بل يجب أن تكون
إنسانية وكلية.
لغويا: يكون مقصد نشر اللغة توسيع الثقافات وتنويعها بدل طمس خصوصيات الشعوب وتطويعها للخضوع.
دينيا: إذا كانت الديانات التوحيدية تلتقي في القول بوحدة الإله وتلتقي في
بعض القصص الرمزية مثل خطيئة آدم وجريمة إبنه في قتل أخيه وقصص نوح وغيره
من الأنبياء فمعنى ذلك أنه يوجد في الديانات ما يمكن أن يكون دافعا لتوحيد
غاياتها الكونية. إنه لا بديل عن ثقافة المواجهة والإصطدام إلا بثقافة
الإلتقاء والتقاطع في الأهداف الإنسانية. وعوض إثارة مسائل تثير النزاع
والإقتتال فإنه يكون من الأجدر إثارة مسائل الإلتقاء ضمن ما هو كوني
وإنساني
3- شرط الحرية:
لقد تحررت الإنسانية بواسطة اللغة سياسيا ومكنت الكتابة من التوعية وفضح
آليات السلطة. والوظيفة نفسها تؤديها ثقافة الصورة لذلك فإن ما نشترطه
بالأساس هو أن تكون الصورة إنسانية في توظيفاتها وفي مقاصدها بدل أن تكون
تجارية وعوض أن تفرض الرأي الواحد والذوق الواحد، فإنه من الضروري أن تكون
حافزا على تحرير الفكر وتحرير الذوق. إن الإنساني لا يمكن أن يتحقق
بمخادعة الشعوب واستثارة غرائزها، بل إن الحرية الحقيقية والتواصل الحقيقي
يتحققان أساسا عندما يكون الإنسان هو المقصد والقيمة. وإذا كان قد قيل
قديما "أيتها الحرية كم جرائم أرتكبت باسمك" فذلك لأن شرط الحرية لا يكون
باستغفال المتلقي، بل باحترامه وتمكينه من أن يكون صاحب موقف حقيقي، بدل
تدجينه وتدجين أرائه ومواقفه وذوقه، لأن الحرية هي في المطاف الأخير قيمة
كل القيم.
V- الرهانات الإنسانية للتواصل:
1- الرهان القيمي: وهو أن نجعل قيمة الإنسان فوق قيمة الأشياء وسابق لقيمة المردودية والربح والدعاية التجارية.
2- الرهان الفكري: أن نراهن على أن الإنسان كائن مفكر، وأن العالم بأكمله
موضوع تفكير، بدل تحويل العالم إلى سوق وتحويل البشر إما إلى مستهلكين
وإما إلى لوحات إشهارية تحمل ألبسة الدعاية التجارية.
3- الرهان العملي: أن تيسر الأنظمة الرمزية العلاقات العملية بين البشر
وأن تؤمن قدر الإمكان السبل الكفيلة بالتقاء الناس ضمن ما يحفظ أمنهم
وبقاؤهم.
4- الرهان التثقيفي: وهو أن يكون مقصد الأنظمة الرمزية تثقيف الإنسان فعليا بدل إستمالته واحتوائه فكريا وحضاريا.
5- رهان التنوع: المحافظة على المشاركة في الكونية لا بما تفرضه الدعاية
من عولمة، بل بالحفاظ على الفروقات الثقافية والخصوصيات الدينية واللغوية
للشعوب.
الخاتمة:
إذا كان التواصل ضرورة وجودية ومعرفية وعملية فإن ذلك لا يقف عند الطابع
التلقائي، بل يقتضي تنظيما يحول التواصل الإعتباطي إلى الإنتظام فكريا
ورمزيا. غير أن الإنتظام وحده لا يضمن شرط إنسانية التواصل وإنسانية
الأنظمة الرمزية. لذلك يكون من الضروري أن نحدد شروطا أخلاقيا وإنسانيا كي
يكون التواصل نفسه إنسانيا، وكي يكون ما ينتجه الإنسان تأكيدا لتحضره
وتنمية لاستعداداته الجسمية والفكرية. بهذا المعنى فإنه يكون لزاما على
التواصل أن يكون مشروطا بالتكافئ والكونية والحرية، حتى يكون الإنسان
مقصدا وغاية، بدل تأليته وتشيئته ضمن "الغباء المبرمج" إعلاميا، فحاجتنا
إلى المقدس واللغة والصورة لا تقف عند المتعة والإستهلاك بل مرتهنة بمدى
ما تحققه من إنتزاع لقيمة الإنسان وسط طغيان قيمة الأشياء وذلك لتأكيد
قدرته على التفكير بنفسه كي يكون محددا لأفكاره وأفعاله ومسؤولا عن ذوقه.
ذلك أنه لا قيمة لوسائط إستبدادية تكرس وثوقية من نوع جديد، وتمارس سلطة
المتعة بدل حرية التفكير، لأن القيمة الحقيقية لأي نظام رمزي تتحدد بمدى
إستجابتها -لا لرغبة الإنسان- بل لقيمته ومطامحه كوجود له المنزلة والقيمة
المثلى.
الشّكر الى الأستاذ محمّد كسيرة
الذّي يعدنا بحملة من الدّراسات الأخرى المتناغمة مع أهداف وبرامج الفلسفة نظام جديد.....
حمزة سديرة-
- عدد المساهمات : 453
العمر : 36
المكان : قصر*قفصة
المهنه : طلب العلم
الهوايه : كل شيء
نقاط تحت التجربة : 12489
تاريخ التسجيل : 07/03/2008
في رحاب البكالوريا: إضاءة أدبيّة
إضاءة أدبيّة
كيف يخلق ونّوس التفاعل بين جمهور الصاّلة والممثّلين على الخشبة؟
تعامل ونّوس في جلّ مسرحيّاته مع الحكاية الشعبية عبر منطق جدلي حقّق شكلاً من التلاحم
الخلاّق"بين الخشبة والصّالة" بمعطيات المسرح الملحمي والقادر على إبراز الدور الكبير الذي لعبه
لقاء ونوس بكل من بسكاتور، وبيتر فايس وخاصة بريشت، مما أظهر لنا مدى
استفادة سعد الله ونوس من معطيات المسرح الملحمي، وخاصة مفهوم التغريب أو
مفهوم التسييس الذي طرحه ونوس هادفاً إلى خلق حوار بين مساحتين: الأولى هي
العرض المسرحي الذي تقدمه جماعة تريد أن تتواصل مع الجمهور وتحاوره،
والثانية هي جمهور الصالة التي تنعكس فيه كل ظواهر الواقع ومشكلاته، ومن
أجل إقامة هذا الحوار يلجأ ونوس إلى تقنيات عديدة أهمها: استخدام لعبة
المسرح داخل المسرح. ففي حفلة (سمر) تجري المناقشة بين الصالة بما فيها من
مثقفين ومسؤولين طالبي متعة، والخشبة حيث المخرج والمؤلف وبقية أعضاء
العرض من الممثلين. وهو ما نجده في (مغامرة رأس المملوك جابر) حيث يبدو
العرض المسرحي وكأنه سهرة منوعات، وكذلك في عمله التسجيلي الوثائقي (سهرة
مع أبي خليل القباني) حيث يتحرك العرض بين عروض أبي خليل القباني المسرحية
في القرن التاسع عشر والجمهور من القادة الثقافيين والاجتماعيين والعامة.
وهو نفس ما نجده في مسرحية الملك هو الملك إذ يدخل الشخوص وأحدهم يقرأ
الملاحظات الأولى ويطلب الكاتب إليهم أن يدخلوا إلى المسرح كما لو كانوا
مجموعة من لاعبي السيرك.
ومن أجل إقامة هذا الحوار يحاول ونوس أيضاً أن يضع جمهوره في قلب العرض
المسرحي، وهو لذلك يبحث عن "القاسم المشترك" بينه وبين هذا الجمهور بحيث
تظل هناك مسافة تتيح الحوار والاختلاف، وتجذب الجمهور بعيداً عن الاندماج
الذي يتوخاه المسرح الأرسطي، وقد جاء التركيز من ثم على الجماليات
الفلكلورية. ولا يتوقف التوظيف الفلكلوري على أداة بارزة كالحكواتي، بل
يمتد إلى موتيفات أخرى، مثل عنصر الحيلة، وهو عنصر بارز في القص الشعبي
العربي، حيث تجيء الحيلة وسيلة خلاص في موقف متأزم، تعجز القوة الرعناء عن
حله. ولذلك سيجيء ملعوب جابر أو حيلته ليقدم حلاً للوزير الذي عجز عن
إيجاد وسيلة للنفاذ من أسوار بغداد وأبوابها التي كان الحرس يسيجها
.
الإجابة غير شافية في حال توفّر معطيات جديدة سيتمّ
وضعهابالمنتدى
حمزة سديرة-
- عدد المساهمات : 453
العمر : 36
المكان : قصر*قفصة
المهنه : طلب العلم
الهوايه : كل شيء
نقاط تحت التجربة : 12489
تاريخ التسجيل : 07/03/2008
رد: في رحاب البكالوريا
بعض خصائص مسرح سعد الله ونّوس .
يعتبر
المسرح من اكثر الفنون الادبية التصاقاً بحركة المجتمع لأنه الفن الذي
يمتح موضوعاته من الحياة مباشرة ، ولأنه الفن الوحيد الذي يتوجه توجهاً
اجتماعياً مباشراً في محاكاته للحياة بما تحمل من مشكلات وفي تحليله لها
وتصويره لانسانها في كل اوضاعه وبذلك يصبح المسرح مداراً للصراع الاجتماعي
والسياسي
بين مختلف المنازع الفكرية والسياسية في الوطن العربي ومع انه لا يمكن فصل
جانب عن جانب في مسرحنا الحديث فإن لكل مسرحية جانباً اساسياً تنطلق منه
وترتبط به بقية الجوانب .
وقد قسم النقاد المسرح الى انواع منها :
المسرح الاجتماعي - المسرح القومي - المسرح الشعري - المسرح السياسي الذي
يهتم بالاحداث السياسية اليومية والعامة وبالعلاقات التي تنشأ بين الشعب
واداراته السياسية بين المواطن والسلطة ومرتكزها الاساسي انها تتصدى
لاجهزة الحكم تحليلاً وفضحاً .
والمسرح السوري « السياسي » المعاصر اهتم بجملة قضايا تهم المواطن منها :
قضية المساواة والعدالة الاجتماعية وقضية علاقة المواطن بالسلطة .
ونحن في دراستنا هذه سنتوقف عند قضية علاقة المواطن بالسلطة في مسرح سعد الله ونوس .
لقد كان لنكسة حزيران أو لهزيمتنا كعرب حزيران 1967 دور كبير في ايجاد
وانتشار المسرح السياسي في سورية إذ لم يكن هناك على حد معرفتي مسرح سياسي
اللهم إلا إذا اعتبرنا المسرحيات القومية والوطنية التي وجدت قبل هذا
التاريخ من المسرح السياسي وإن كان الفرق بين هذه التسمية وتلك فرق كبير
ولن ندخل هنا في تفصيل هذا الامر لانه ليس مجال دراستنا .
فبعد سنة 1967 بدأ الكتاب يفتشون عن اسباب الهزيمة فكانت ولادة عدد من
المسرحيات السياسية التي تعالج وتحلل وتحرض وتسيس من ذلك ، مسرحية ( حفلة
سمر من اجل 5حزيران ) عام 1967 ( ومغامرة رأس المملوك جابر ) عام 1971 و(
الفيل يا ملك الزمان ) عام 1971 لسعد الله ونوس و ( محاكمة رجل لم يحارب )
لممدوح عدوان وبعض مسرحيات فرحان بلبل ووليد اخلاصي وغيرهم ، وكلها تنتمي
الى المسرح السياسي .
إن الدارس لمسرح سعد الله ونوس يرى انه قد ركز في مسرحه على عدة قضايا أو
لنقل على معظم القضايا التي اهتم بها المسرح السياسي والتي ذكرناها آنفاً
لكن اهم قضية رصدها وناقشها وحللها في مسرحه هي قضية علاقة المواطن
بالسلطة « والمدقق في الاعمال المسرحية السياسية سيلحظ وبسهولة هذه
العلاقة غير الحميمية بين المواطن وحكامه وسيلحظ موقف المواطن السلبي منها
» .
ولعل ونوس من بين المسرحيين السوريين من اهتم بموقف المواطن لعمله الدؤوب
في قضية التسييس التي نظر اليها من خلال المتلقي وما يجب ان يكون عليه فقد
بنى جزءاً كبيراً من مسرحه على مسألة تبني الانسان العربي لمشروعه الحضاري
بنفسه أي ان يكون له موقف كما يقول الدكتور غسان غنيم في كتابه المسرح
السياسي في سورية .
وسنلقي الضوء على قضية علاقة المواطن بالسلطة في مسرح ونوس من خلال بعض مسرحياته :
- الملك هو الملك .
- الفيل يا ملك الزمان .
- مغامرة رأس المملوك جابر .
في محاولة لاستجلاء خصائص تلك العلاقة ، وسنعمد الى عرض موجز ومكثف
لمضامين هذه المسرحيات اولاً ثم نقوم بدراسة شخصياتها لتوضيح علاقتها
بالسلطة .
مسرحية الملك هو الملك :
تقوم فكرتها الاساسية على استبدال انسان بانسان من خلال ابدال الثوب اي
استبدال الملك بملك جديد وهي لعبة ارادها الملك الاصلي لدفع الضجر
وللترويح عن النفس لذلك فقد احضر مغفلاً من عامة الشعب هو « ابو عزة
المغفل » ليتفرج عليه ويلهو به لكن مصالح الآخرين من امثال الوزير وشهبندر
التجار تقتضي استمرار اللعبة وجعلها حقيقة واقعة وبذا يصبح البديل اصيلاً
بينما يخرج الاصيل من اللعبة وبالفعل يخلع الملك رداءه ويلبسه « ابوعزة
المغفل » فيصبح هو الملك وتتوالى الاحداث ويرتقي ابو عزة العرش ويصرف امور
الدولة كأي ملك يعرف واجباته .
أما الملك الاصلي فيجن ليصبح في النهاية كأبي عزة المغفل .
لقد وجدنا ابا عزة منذ بداية المسرحية رجلاً مغفلاً غارقاً في الاوهام فقد
وضعه المؤلف في مدخل المسرحية وهو يدور كالاهبل فيما تقول عنه زوجته بأنه
« غارق في الطاس والاوهام يحلم رغم فقره وجنونه بالسلطان والجواري » لكنه
يسقى في المشهد الثالث خمراً أو منوماً ليستيقظ في المشهد الرابع ملكاً
يتصرف بحكمة تجعل الملك الاصلي ذاته يدهش لذلك .
في المشهد الخامس من المسرحية يتأمل الملك الجديد « ابو عزة » بلطة السياف
بنظرة يملؤها الشبق ويقول للسياف : « ايها السياف قف على يميني واجعل
بلطتك في متناول يدي وتنفذ في مسامي حتى يندغم واحدنا بالآخر الملك
والبلطة .. الملك هو الذي سينفذ الاحكام التي يصدرها لاشيء يطهر الملوك
مثل الدم .. سأغتسل بالدم .. سأستحم فيه » وقد حدد ونوس علاقة المواطن
بالسلطة في بداية مسرحيته الملك هو الملك بانها علاقة حرب فهي حرب بين
المسموح والممنوع بين الرعاع والدهماء والعامة من جهة والسادة من جهة اخرى
الفئة الاولى تطالب دائماً لا تمل من فرض الممنوع هي حرب تتخذ اشكالاً
متعددة بين المواطن من جهة و السلطة من جهة ثانية بأجهزتها جميعاً .
إن المدقق في شخصيتي ( الملك ) و ( أبو عزة ) يتضح له أن السلطة لا يهمها المواطن فهي في واد و المواطن في واد آخر .
فالملك عندما يتجول في المدينة مع وزيره يجدان ( أبا عزة ) .
تائهاً هائماً على وجهه ، غارقاً في أوهامه و همومه ، و مع ذلك لم يثرهما
منظره الذي يدعو الى الشفقة بل وجدا فيه ما يدعو الى الضحك فأخذه الملك
معه الى قصره ليلهو ويروح به عن نفسه مع حاشيته و عندما يلعب الملك لعبته
و يتسلم ( ابو عزة ) العرش يحكم بطريقة الملك نفسها ، الظلم و الاستبداد ،
إذ لا يهمه الا عرشه ، فنظام الحكم يبقى نفسه و ان تغير شخص الحاكم .
و المتتبع لمسرح ونوس يستشعر الحاحه الشديد على مسألة سلبية المواطن و عدم
قدرته على المشاركة في كل ما يدور حوله ، هي فكرة مبثوثة في مسرحياته
جميعاً ،فالمواطن خائف من السلطة ، متردد ، صامت إزاء الظلم ، مستسلم
لقدره ،
و الجماعة كذلك متخاذلة الى أبعد الحدود أمام السلطة .
لقد فقد المواطن حريته أمام السلطة منذ أقدم العصور ، و الحرية مسلوبة لأن
حراباً مشرعة و سجوناً مفتوحة الأبواب ، فما أسرع غياب المواطن لأتفه
الأسباب في أقبية السلطة . ( لوشاية أو كذبة ) .
في مسرحية ( الملك هو الملك ) تتحرر أم عزة من الخوف لانها تظن نفسها في
مأمن من السلطة فتمارس نقدها بحرية تامة أمام الملك المتخفي فتصرح بالظلم
الواقع على الشعب غير هيابة لانها تظن ان السلطة لا تسمعها .
مصطفى : ماذا ستقولين له ؟
أم عزة : ماذا سأقول له ؟ على لساني أحمال من الكلام . سأقول يا ملك
الزمان ، العيارون و اللصوص يحكمون البلاد و ينهبون أرزاق العباد .. العدل
نائم و ليس هناك من يفتش أو يحاسب )
مسرحية مغامرة رأس المملوك جابر :
في هذه المسرحية يقوم صراع بين الخليفة (شعبان ) ووزيره ( محمد العلقمي )
، الخليفة يريد ازاحة الوزير لانه يشكل خطراً على وجوده ، و الوزير يطمح
لتحقيق حلمه بالاستيلاء على الخلافة ، و كل واحد منهما يعد العدة لازاحة
صاحبه ، فيأمر الخليفة بتفتيش الخارج من المدينة و الداخل إليها، خوفاً من
خروج رسالة من الوزير العلقمي الى قائد المغول ، يتطوع احد مملوكي الوزير
و هو ( جابر ) الذي يعرض خدماته على الوزير فيقوم الاخير بتكليفه بالمهمة
التي كانت على الشكل التالي و هي فكرة ( جابر ) :
أن يقوم الوزير بكتابة الرسالة على رأس جابر بعد حلاقته جيداً و حينما
ينمو الشعر ثانية و يغطي الرسالة ، آنذاك يستطيع الخروج الى حيث يريد ، و
طلب ثمن ادائه لهذه المهمة ان ينال حريته و يتزوج من ( زمردة ) جارية
الوزير ، و فعلاً يتم ارسال جابر الى قائد المغول و لكن الوزير يطلب من
ذلك القائد ان يقتل حامل الرسالة جابراً الذي حمل موته تحت فروة رأسه و لم
يدر .. كما قال سعد الله في المسرحية - سنلقي الضوء هنا على شخصيات
المسرحية و هي :
الخليفة - الوزير - منصور - الرجل الرابع - المملوك جابر .
الخليفة و الوزير :
و هما شخصيتان سلطويتان تتفردان بالحكم الذي لا هم لهما سواه و تضطهدان بسببه افراد الشعب عموماً .
فالخلفية يريد توطيد حكمه و تثبيته من خلال البعد و التباعد عن الشعب و
التخلص من وزيره الذي يهدده بغية الخلاص منه بالتعاون مع اعداء البلاد
المغول لينصبوه على العرش و النتيجة هي ضياع الوطن والمواطن .
شخصية منصور :
المواطن نصف الواعي ، ثرثار من الناحية السياسية و الناس يحسبونه مخبراً بسبب ثرثرته .
الرجل الرابع :
شخصيته متممة لمنصور ، و هو رجل واع سياسياً و اجتماعياً و فكرياً .
المملوك جابر :
شخصية تمتاز بالذكاء و الفطنة ، و هو انتهازي ، باعتماده على الفطنة و
التقرب من الوزير ( العلقمي ) يريد ان يصل مآربه و لكنه يدفع ثمن
انتهازيته غالياً.
ان ونوس في مسرحيته هذه يؤكد على دور الجماعة في العمل السياسي إذ لا جدوى
من العمل الفردي كمطلب للخلاص ، و الانسان غير المسيس ستستغله السلطة و
تسحقه كما حدث للمملوك جابر الذي اراد ان يتحرر من عبوديته بطريقة الخيانة
فكان الثمن ان ضيع رأسه .
- و المسرح السياسي لا يهتم بالشخوص كأفراد او انماط فقط ، و انما يشبعها
بالقدرة على الترميز لان المسرح يعتمد في احايين كثيرة على الايحاء و
الرمز و الدلالة لا على التحديد و التعيين فقط ، فقد اكد ونوس على جابر
مثلاً باعتباره رمزاً للطبقات المضطهدة و الفقيرة غير القادرة على
المطالبة بحقوقها مع كونها تفكر بها سراً و هي مستعدة لفعل كل عمل شائن في
سبيل تحقيق طموح ذاتي .
إن خيبة جابر لاتعني إحباطاً لطموحات الجماعة بقدر ماتعني خلق حافز ورافد ذاتيين لدى أفراد المجتمع لتبصر أمورها ومصيرها .
وسعد الله لايتدخل في إيجاد مصائر لشخوصه أو تفسير قضاياها.
وفي رأيي أن استخدام ونوس الحكاية التراثية وإظهاره لطريقة استغلال السلطة
للمواطن غير الواعي وغير الفاعل بهذه الصورة البشعة له مدلول عظيم (كتابة
رسالة الخيانة على رأس جابر ومن ثم قطعه بطريقة بشعة ) على تفاهة الإنسان
الانتهازي وأن نهايته ستكون بهذه البشاعة والمأساوية وإن كان قطع رأس جابر
أثار مكامن الحقد والكراهية على الجلاد . إن التسييس والشحن والتحريض هي
مرتكزات سعد الله ونوس الأساسية في مسرحه الذي يقول : (أريد مسرحا يعلم
ويحفز على العمل ،أي أن يزيد احتقان المتفرج وهو يعلمه ) .
وفي مسرحية الفيل ياملك الزمان :
يصوّر ونوس فيها فيلاً يعيث فساداً في المدينة يقتل ويدمر ولاأحد يستطيع أن يفعل شيئاً ولاحتى أن يشتكي للملك بسبب القمع والخوف :
(- نشكو أمرنا للملك؟
- ندخل القصر ؟!
- ولم لا ؟
- ومن نحن حتى نتحدث مع الملوك ؟)
الناس يخافون من السلطة لأنها تمثل في أذهانهم مجموعة من الرموز التي تدل على الجبروت والتعسف والجور فقط .
في (الفيل ياملك الزمان) تحمل الشخوص اضطهادها وقهرها ولاتسعى الى تأكيد ذاتها إلا من خلال الجماعة التي تنتمي اليها فقط .
من الملاحظ كثرة الشخصيات السلبية في مسرح ونوس .فهي شخصيات في غالبيتها
خائفة - مستلبة - خانعة - مشتتة - انتهازية - مضطهدة - لا تحمل من المبادئ
مايبث أي بارقة أمل في الخلاص كشخصيتي (أبو عزة - وشهبندر التجار) في
مسرحية (الملك هو الملك) .فالأولى مستلبة وخانعة ومشتتة والثانية انتهازية
.
وكذلك شخصية (جابر) الانتهازية ومعظم شخصيات (الفيل ياملك الزمان ).
إن موضوع لامبالاة الجماهير وسلبيتها موضوع أثير لدى ونوس ،فلا مبالاة
الناس بما يحدث يجرّهم الى الويلات والدمار والضرر حتى على الصعيد الفردي
،فهو يؤكد أن كل مايجري في المجتمع بالنسبة للجماهير عليها أن تعيه (الرجل
الرابع في مسرحية مغامرة رأس المملوك جابر) وعليها أن تنخرط فيه وتؤدي
دورها الفاعل وإلا حل فيها البلاء وهكذا نستطيع أن نقول:
إن سعد الله ونوس أسس لمسرح سياسي في سورية خصوصاً وفي الوطن العربي
عموماً جسد من خلاله علاقة المواطن بالسلطة ،من خلال ما ذكرناه من خصائص
لبعض مسرحياته حيث رأينا أن هذه العلاقة كانت صراعاً دائماً بين المواطن
والسلطة فهي تأخذ منه كل شيء وأهمها حريته وكرامته .باختصار إنها تسلبه كل
مايمت الى إنسانيته بصلة .
والسؤال الذي نطرحه ونحاول الإجابة عليه في حدود إمكاناتنا الفنية هو :
هل استطاع ونوس إيصال ما أراد إيصاله من خلال مسرحه الى الجماهير ؟
في رأيي إن سعداً حاول أن يخلق من خلال هذا المسرح وعياً جماهيرياً عن
طريق التعليم والتسييس والتحريض مستخدماً كلّ ماأتيح له من تقنيات مسرحية
فنية حديثة في العالم ،ولكنّ مسرحاً مثل مسرح ونوس يحتاج الى جمهور من نوع
خاص الى جمهور يمتلك مقومات متلق يعمل ذهنه فما يرى ويسمع ولكن هيهات أن
يجده ونوس أو غيره
مقتبس .
يعتبر
المسرح من اكثر الفنون الادبية التصاقاً بحركة المجتمع لأنه الفن الذي
يمتح موضوعاته من الحياة مباشرة ، ولأنه الفن الوحيد الذي يتوجه توجهاً
اجتماعياً مباشراً في محاكاته للحياة بما تحمل من مشكلات وفي تحليله لها
وتصويره لانسانها في كل اوضاعه وبذلك يصبح المسرح مداراً للصراع الاجتماعي
والسياسي
بين مختلف المنازع الفكرية والسياسية في الوطن العربي ومع انه لا يمكن فصل
جانب عن جانب في مسرحنا الحديث فإن لكل مسرحية جانباً اساسياً تنطلق منه
وترتبط به بقية الجوانب .
وقد قسم النقاد المسرح الى انواع منها :
المسرح الاجتماعي - المسرح القومي - المسرح الشعري - المسرح السياسي الذي
يهتم بالاحداث السياسية اليومية والعامة وبالعلاقات التي تنشأ بين الشعب
واداراته السياسية بين المواطن والسلطة ومرتكزها الاساسي انها تتصدى
لاجهزة الحكم تحليلاً وفضحاً .
والمسرح السوري « السياسي » المعاصر اهتم بجملة قضايا تهم المواطن منها :
قضية المساواة والعدالة الاجتماعية وقضية علاقة المواطن بالسلطة .
ونحن في دراستنا هذه سنتوقف عند قضية علاقة المواطن بالسلطة في مسرح سعد الله ونوس .
لقد كان لنكسة حزيران أو لهزيمتنا كعرب حزيران 1967 دور كبير في ايجاد
وانتشار المسرح السياسي في سورية إذ لم يكن هناك على حد معرفتي مسرح سياسي
اللهم إلا إذا اعتبرنا المسرحيات القومية والوطنية التي وجدت قبل هذا
التاريخ من المسرح السياسي وإن كان الفرق بين هذه التسمية وتلك فرق كبير
ولن ندخل هنا في تفصيل هذا الامر لانه ليس مجال دراستنا .
فبعد سنة 1967 بدأ الكتاب يفتشون عن اسباب الهزيمة فكانت ولادة عدد من
المسرحيات السياسية التي تعالج وتحلل وتحرض وتسيس من ذلك ، مسرحية ( حفلة
سمر من اجل 5حزيران ) عام 1967 ( ومغامرة رأس المملوك جابر ) عام 1971 و(
الفيل يا ملك الزمان ) عام 1971 لسعد الله ونوس و ( محاكمة رجل لم يحارب )
لممدوح عدوان وبعض مسرحيات فرحان بلبل ووليد اخلاصي وغيرهم ، وكلها تنتمي
الى المسرح السياسي .
إن الدارس لمسرح سعد الله ونوس يرى انه قد ركز في مسرحه على عدة قضايا أو
لنقل على معظم القضايا التي اهتم بها المسرح السياسي والتي ذكرناها آنفاً
لكن اهم قضية رصدها وناقشها وحللها في مسرحه هي قضية علاقة المواطن
بالسلطة « والمدقق في الاعمال المسرحية السياسية سيلحظ وبسهولة هذه
العلاقة غير الحميمية بين المواطن وحكامه وسيلحظ موقف المواطن السلبي منها
» .
ولعل ونوس من بين المسرحيين السوريين من اهتم بموقف المواطن لعمله الدؤوب
في قضية التسييس التي نظر اليها من خلال المتلقي وما يجب ان يكون عليه فقد
بنى جزءاً كبيراً من مسرحه على مسألة تبني الانسان العربي لمشروعه الحضاري
بنفسه أي ان يكون له موقف كما يقول الدكتور غسان غنيم في كتابه المسرح
السياسي في سورية .
وسنلقي الضوء على قضية علاقة المواطن بالسلطة في مسرح ونوس من خلال بعض مسرحياته :
- الملك هو الملك .
- الفيل يا ملك الزمان .
- مغامرة رأس المملوك جابر .
في محاولة لاستجلاء خصائص تلك العلاقة ، وسنعمد الى عرض موجز ومكثف
لمضامين هذه المسرحيات اولاً ثم نقوم بدراسة شخصياتها لتوضيح علاقتها
بالسلطة .
مسرحية الملك هو الملك :
تقوم فكرتها الاساسية على استبدال انسان بانسان من خلال ابدال الثوب اي
استبدال الملك بملك جديد وهي لعبة ارادها الملك الاصلي لدفع الضجر
وللترويح عن النفس لذلك فقد احضر مغفلاً من عامة الشعب هو « ابو عزة
المغفل » ليتفرج عليه ويلهو به لكن مصالح الآخرين من امثال الوزير وشهبندر
التجار تقتضي استمرار اللعبة وجعلها حقيقة واقعة وبذا يصبح البديل اصيلاً
بينما يخرج الاصيل من اللعبة وبالفعل يخلع الملك رداءه ويلبسه « ابوعزة
المغفل » فيصبح هو الملك وتتوالى الاحداث ويرتقي ابو عزة العرش ويصرف امور
الدولة كأي ملك يعرف واجباته .
أما الملك الاصلي فيجن ليصبح في النهاية كأبي عزة المغفل .
لقد وجدنا ابا عزة منذ بداية المسرحية رجلاً مغفلاً غارقاً في الاوهام فقد
وضعه المؤلف في مدخل المسرحية وهو يدور كالاهبل فيما تقول عنه زوجته بأنه
« غارق في الطاس والاوهام يحلم رغم فقره وجنونه بالسلطان والجواري » لكنه
يسقى في المشهد الثالث خمراً أو منوماً ليستيقظ في المشهد الرابع ملكاً
يتصرف بحكمة تجعل الملك الاصلي ذاته يدهش لذلك .
في المشهد الخامس من المسرحية يتأمل الملك الجديد « ابو عزة » بلطة السياف
بنظرة يملؤها الشبق ويقول للسياف : « ايها السياف قف على يميني واجعل
بلطتك في متناول يدي وتنفذ في مسامي حتى يندغم واحدنا بالآخر الملك
والبلطة .. الملك هو الذي سينفذ الاحكام التي يصدرها لاشيء يطهر الملوك
مثل الدم .. سأغتسل بالدم .. سأستحم فيه » وقد حدد ونوس علاقة المواطن
بالسلطة في بداية مسرحيته الملك هو الملك بانها علاقة حرب فهي حرب بين
المسموح والممنوع بين الرعاع والدهماء والعامة من جهة والسادة من جهة اخرى
الفئة الاولى تطالب دائماً لا تمل من فرض الممنوع هي حرب تتخذ اشكالاً
متعددة بين المواطن من جهة و السلطة من جهة ثانية بأجهزتها جميعاً .
إن المدقق في شخصيتي ( الملك ) و ( أبو عزة ) يتضح له أن السلطة لا يهمها المواطن فهي في واد و المواطن في واد آخر .
فالملك عندما يتجول في المدينة مع وزيره يجدان ( أبا عزة ) .
تائهاً هائماً على وجهه ، غارقاً في أوهامه و همومه ، و مع ذلك لم يثرهما
منظره الذي يدعو الى الشفقة بل وجدا فيه ما يدعو الى الضحك فأخذه الملك
معه الى قصره ليلهو ويروح به عن نفسه مع حاشيته و عندما يلعب الملك لعبته
و يتسلم ( ابو عزة ) العرش يحكم بطريقة الملك نفسها ، الظلم و الاستبداد ،
إذ لا يهمه الا عرشه ، فنظام الحكم يبقى نفسه و ان تغير شخص الحاكم .
و المتتبع لمسرح ونوس يستشعر الحاحه الشديد على مسألة سلبية المواطن و عدم
قدرته على المشاركة في كل ما يدور حوله ، هي فكرة مبثوثة في مسرحياته
جميعاً ،فالمواطن خائف من السلطة ، متردد ، صامت إزاء الظلم ، مستسلم
لقدره ،
و الجماعة كذلك متخاذلة الى أبعد الحدود أمام السلطة .
لقد فقد المواطن حريته أمام السلطة منذ أقدم العصور ، و الحرية مسلوبة لأن
حراباً مشرعة و سجوناً مفتوحة الأبواب ، فما أسرع غياب المواطن لأتفه
الأسباب في أقبية السلطة . ( لوشاية أو كذبة ) .
في مسرحية ( الملك هو الملك ) تتحرر أم عزة من الخوف لانها تظن نفسها في
مأمن من السلطة فتمارس نقدها بحرية تامة أمام الملك المتخفي فتصرح بالظلم
الواقع على الشعب غير هيابة لانها تظن ان السلطة لا تسمعها .
مصطفى : ماذا ستقولين له ؟
أم عزة : ماذا سأقول له ؟ على لساني أحمال من الكلام . سأقول يا ملك
الزمان ، العيارون و اللصوص يحكمون البلاد و ينهبون أرزاق العباد .. العدل
نائم و ليس هناك من يفتش أو يحاسب )
مسرحية مغامرة رأس المملوك جابر :
في هذه المسرحية يقوم صراع بين الخليفة (شعبان ) ووزيره ( محمد العلقمي )
، الخليفة يريد ازاحة الوزير لانه يشكل خطراً على وجوده ، و الوزير يطمح
لتحقيق حلمه بالاستيلاء على الخلافة ، و كل واحد منهما يعد العدة لازاحة
صاحبه ، فيأمر الخليفة بتفتيش الخارج من المدينة و الداخل إليها، خوفاً من
خروج رسالة من الوزير العلقمي الى قائد المغول ، يتطوع احد مملوكي الوزير
و هو ( جابر ) الذي يعرض خدماته على الوزير فيقوم الاخير بتكليفه بالمهمة
التي كانت على الشكل التالي و هي فكرة ( جابر ) :
أن يقوم الوزير بكتابة الرسالة على رأس جابر بعد حلاقته جيداً و حينما
ينمو الشعر ثانية و يغطي الرسالة ، آنذاك يستطيع الخروج الى حيث يريد ، و
طلب ثمن ادائه لهذه المهمة ان ينال حريته و يتزوج من ( زمردة ) جارية
الوزير ، و فعلاً يتم ارسال جابر الى قائد المغول و لكن الوزير يطلب من
ذلك القائد ان يقتل حامل الرسالة جابراً الذي حمل موته تحت فروة رأسه و لم
يدر .. كما قال سعد الله في المسرحية - سنلقي الضوء هنا على شخصيات
المسرحية و هي :
الخليفة - الوزير - منصور - الرجل الرابع - المملوك جابر .
الخليفة و الوزير :
و هما شخصيتان سلطويتان تتفردان بالحكم الذي لا هم لهما سواه و تضطهدان بسببه افراد الشعب عموماً .
فالخلفية يريد توطيد حكمه و تثبيته من خلال البعد و التباعد عن الشعب و
التخلص من وزيره الذي يهدده بغية الخلاص منه بالتعاون مع اعداء البلاد
المغول لينصبوه على العرش و النتيجة هي ضياع الوطن والمواطن .
شخصية منصور :
المواطن نصف الواعي ، ثرثار من الناحية السياسية و الناس يحسبونه مخبراً بسبب ثرثرته .
الرجل الرابع :
شخصيته متممة لمنصور ، و هو رجل واع سياسياً و اجتماعياً و فكرياً .
المملوك جابر :
شخصية تمتاز بالذكاء و الفطنة ، و هو انتهازي ، باعتماده على الفطنة و
التقرب من الوزير ( العلقمي ) يريد ان يصل مآربه و لكنه يدفع ثمن
انتهازيته غالياً.
ان ونوس في مسرحيته هذه يؤكد على دور الجماعة في العمل السياسي إذ لا جدوى
من العمل الفردي كمطلب للخلاص ، و الانسان غير المسيس ستستغله السلطة و
تسحقه كما حدث للمملوك جابر الذي اراد ان يتحرر من عبوديته بطريقة الخيانة
فكان الثمن ان ضيع رأسه .
- و المسرح السياسي لا يهتم بالشخوص كأفراد او انماط فقط ، و انما يشبعها
بالقدرة على الترميز لان المسرح يعتمد في احايين كثيرة على الايحاء و
الرمز و الدلالة لا على التحديد و التعيين فقط ، فقد اكد ونوس على جابر
مثلاً باعتباره رمزاً للطبقات المضطهدة و الفقيرة غير القادرة على
المطالبة بحقوقها مع كونها تفكر بها سراً و هي مستعدة لفعل كل عمل شائن في
سبيل تحقيق طموح ذاتي .
إن خيبة جابر لاتعني إحباطاً لطموحات الجماعة بقدر ماتعني خلق حافز ورافد ذاتيين لدى أفراد المجتمع لتبصر أمورها ومصيرها .
وسعد الله لايتدخل في إيجاد مصائر لشخوصه أو تفسير قضاياها.
وفي رأيي أن استخدام ونوس الحكاية التراثية وإظهاره لطريقة استغلال السلطة
للمواطن غير الواعي وغير الفاعل بهذه الصورة البشعة له مدلول عظيم (كتابة
رسالة الخيانة على رأس جابر ومن ثم قطعه بطريقة بشعة ) على تفاهة الإنسان
الانتهازي وأن نهايته ستكون بهذه البشاعة والمأساوية وإن كان قطع رأس جابر
أثار مكامن الحقد والكراهية على الجلاد . إن التسييس والشحن والتحريض هي
مرتكزات سعد الله ونوس الأساسية في مسرحه الذي يقول : (أريد مسرحا يعلم
ويحفز على العمل ،أي أن يزيد احتقان المتفرج وهو يعلمه ) .
وفي مسرحية الفيل ياملك الزمان :
يصوّر ونوس فيها فيلاً يعيث فساداً في المدينة يقتل ويدمر ولاأحد يستطيع أن يفعل شيئاً ولاحتى أن يشتكي للملك بسبب القمع والخوف :
(- نشكو أمرنا للملك؟
- ندخل القصر ؟!
- ولم لا ؟
- ومن نحن حتى نتحدث مع الملوك ؟)
الناس يخافون من السلطة لأنها تمثل في أذهانهم مجموعة من الرموز التي تدل على الجبروت والتعسف والجور فقط .
في (الفيل ياملك الزمان) تحمل الشخوص اضطهادها وقهرها ولاتسعى الى تأكيد ذاتها إلا من خلال الجماعة التي تنتمي اليها فقط .
من الملاحظ كثرة الشخصيات السلبية في مسرح ونوس .فهي شخصيات في غالبيتها
خائفة - مستلبة - خانعة - مشتتة - انتهازية - مضطهدة - لا تحمل من المبادئ
مايبث أي بارقة أمل في الخلاص كشخصيتي (أبو عزة - وشهبندر التجار) في
مسرحية (الملك هو الملك) .فالأولى مستلبة وخانعة ومشتتة والثانية انتهازية
.
وكذلك شخصية (جابر) الانتهازية ومعظم شخصيات (الفيل ياملك الزمان ).
إن موضوع لامبالاة الجماهير وسلبيتها موضوع أثير لدى ونوس ،فلا مبالاة
الناس بما يحدث يجرّهم الى الويلات والدمار والضرر حتى على الصعيد الفردي
،فهو يؤكد أن كل مايجري في المجتمع بالنسبة للجماهير عليها أن تعيه (الرجل
الرابع في مسرحية مغامرة رأس المملوك جابر) وعليها أن تنخرط فيه وتؤدي
دورها الفاعل وإلا حل فيها البلاء وهكذا نستطيع أن نقول:
إن سعد الله ونوس أسس لمسرح سياسي في سورية خصوصاً وفي الوطن العربي
عموماً جسد من خلاله علاقة المواطن بالسلطة ،من خلال ما ذكرناه من خصائص
لبعض مسرحياته حيث رأينا أن هذه العلاقة كانت صراعاً دائماً بين المواطن
والسلطة فهي تأخذ منه كل شيء وأهمها حريته وكرامته .باختصار إنها تسلبه كل
مايمت الى إنسانيته بصلة .
والسؤال الذي نطرحه ونحاول الإجابة عليه في حدود إمكاناتنا الفنية هو :
هل استطاع ونوس إيصال ما أراد إيصاله من خلال مسرحه الى الجماهير ؟
في رأيي إن سعداً حاول أن يخلق من خلال هذا المسرح وعياً جماهيرياً عن
طريق التعليم والتسييس والتحريض مستخدماً كلّ ماأتيح له من تقنيات مسرحية
فنية حديثة في العالم ،ولكنّ مسرحاً مثل مسرح ونوس يحتاج الى جمهور من نوع
خاص الى جمهور يمتلك مقومات متلق يعمل ذهنه فما يرى ويسمع ولكن هيهات أن
يجده ونوس أو غيره
مقتبس .
حمزة سديرة-
- عدد المساهمات : 453
العمر : 36
المكان : قصر*قفصة
المهنه : طلب العلم
الهوايه : كل شيء
نقاط تحت التجربة : 12489
تاريخ التسجيل : 07/03/2008
في رحاب البكالوريا:منهجيّة فلسفيّة
مقتبس من مصدر صديق
1) 1) ما هي المقالة الفلسفيّة ؟
الاستاذ الهادي عبد الحفيظ
ü نحن ننجز مقالاتا في موادّ أخرى غير الفلسفة، لكن رغم بعض نقاط
التّشابه بين هذه المقالات، يستحسن أن نبدأ بتناسي و بتجاهل المنهجيّات
التّي كنّا نقتدي بها في هذه الموادّ.
ü انّ المقالة الفلسفيّة هي ممارسة لتفكير شخصي يستند، في نفس الوقت،
إلى معرفة فلسفيّة سابقة:
- - هذا التّفكير هو شخصي، لأنّ المطلوب، في المقالة، هو محاورة التّلميذ لذاته، بهدف الإجابة عن السّؤال المطروح.
- - و هو كذلك يستند إلى معرفة فلسفيّة، لأنّ التّلميذ مدعوّ، في جهده
التّفكيري، إلى أن يتقاطع مع بعض أعلام الفلسفة لأجل أن يثري أقواله
بمرجعيّات فلسفيّة معروفة.
ملاحظة هامّة: انّ هذا المطلب المزدوج، يرسم في نفس الوقت، المخاطر و المزالق التّي يتعيّن علينا تجنّبها: أن نقوم
بمجرّد عرض لمعارف يقع اعتبارها فلسفيّة، أو أن نتقتّر في التّعرّض إلى مجموع المعارف الفلسفيّة
المكتسبة.
2) 2) إنجاز المقالة الفلسفيّة:
أ. أ. أشكلة الموضوع:
1. 1. الموضوع السّؤال:
انّ منطلق كلّ مقالة فلسفيّة هو موضوع، تقع صياغته، في غالب الأحيان،
في شكل سؤال يقيم بصفة عامّة، علاقة بين مفهومين، و يطلب منّا أن نفكّر في
هذه العلاقة بالذّات: أي في امكانها و في طبيعتها.
§ ما الذّي يجب تجنّبه في مواجهة كلّ موضوع ؟
- - أن نجيب فوريّا و تلقائيّا عن السّؤال المطروح. و يفترض ذلك أنّنا
قمنا بالخلط بين السّؤال و القضيّة الفلسفيّة، فلم نتعرّف على ما يميّز
الثّانية عن الأولى. و هذا ما يقودنا بالطّبع إلى الامتناع عن فعل
التّفكير، و بالتّالي المخاطرة بالإخلال بما هو مطلوب حقيقة في السّؤال.
- - أن نبحث عن مرجعيّات، و ذلك انطلاقا من الانتباه فقط إلى إحدى
المفاهيم الحاضرة في الموضوع. و هذا ما يوقعنا في خطر الإخلال بتوازن
الموضوع، إذ نتجاهل و نغفل مفهوما أو نقوم بالتّعسّف على السّؤال المطروح،
حتّى نجبره على التّطابق مع ما نعرفه مسبّقا.
انّ الخطر، في هاتين الحالتين، هو نفسه و يكلّف غاليا: الخروج عن الموضوع.
§ ما الذّي يجب القيام به ؟
يتعيّن علينا أن نبحث و أن نكشف عن المشكل أو عن قضيّة تفصح عن ذاتها و تتخفّى في نفس الوقت في صلب السّؤال ذاته.
2. 2. السّؤال أو المشكل:
هناك بعض الأسئلة التّي لا تحيل الى قضايا و الى مشاكل: و من بيها
الأسئلة الظّرفيّة، أي تلك التّي يمكن أن نقدّم اجابة عنها بفضل ملاحظة
مطابقة للأشياء و للوقائع. مثال: " كم السّاعة الآن ؟ ".
لكن، في المقابل، تعبّر بعض الأسئلة الأخرى عن مشكل فلسفي: و هي تلك
التّي لا يمكن أن نجد إجابة مقنعة عنها عن طريق لجوءنا إلى ملاحظة الوقائع
( إما لأنّ السّؤال لا يتعلّق بواقعة معيّنة و محدّدة، و إما لأنّ الواقع
يقدّم جملة من الإجابات المتنوّعة و المتناقضة ). مثال: " هل من حقّ كلّ
إنسان أن يحترم ؟ ". تلك هي الأسئلة الفلسفيّة التّي تقترح بعضها كمواضيع
ممكنة لمقالات هي بدورها فلسفيّة، تسعى إلى أن تكشف و تبسط القضيّة أو
المشكل الذّي يثيره السّؤال.
3. 3. أشكلة السّؤال:
انّ الأشكلة تتّخذ كمنطلق لها، الموضوع/السّؤال، و كمنتهى صياغة المشكل.
فما هو المشكل الفلسفي إذن ؟ انّه تناقض. و ما التّناقض ؟ يتمثّل في وجود
قضيّتين تبدو كلّ واحدة منها صادقة و تستند إلى حجّة. يتمثّل المشكل، هنا،
في أنّ هاتين القضيّتين متعارضتين، بحيث إن صدقت الأولى كذبت الثّانية.
التّناقض إذن، موجود بين قضيّتين متنافرتين، و لكن مع ذلك تفتكّ كلتاهما
تصديقنا.
يكمن المشكل، هنا، في أنّه من المستحيل أن نناصر، في نفس الوقت،
الفكرتين، لأنّهما متناقضتين، كما يتعذّر كذلك أن نقبل بواحدة منها لأنّ
الأخرى هي كذلك مقنعة رغم تناقضها مع الأولى.
مثال: من جهة أولى، يكون من حقّ كلّ النّاس أن يحترموا، نظرا
لإنسانيتهم بالذّات. و من جهة ثانية نجد أنفسنا مضطرّين إلى التّسليم بأنّ
بعضا من النّاس قد خسروا حقّهم في الاحترام بسبب بعض الأعمال التّي قاموا
بها. و بذلك نجد أنفسنا قد وقعنا في تناقض و في مفارقة: فإما أن نقول بأنّ
الاحترام هو حقّ لكلّ النّاس، و إما أن نقرّ بأنّ الاحترام هو حقّ فقط
لأناس دون أناس. المشكل هنا، يكمن في أنّه لا يمكن أن نقرّ بالفكرتين في
نفس الوقت.
تجدر الإشارة إلى أنّه لا توجد طريقة محدّدة، و آليّة منهجيّة مضبوطة تمكّن من الانتقال من السّؤال المطروح إلى القضيّة الفلسفيّة.
لكن ذلك لا يجب أن ينسينا مطلبين أساسييّن يتعذّر النّجاح في هذه المهمّة، دون التّقيّد بهما:
- - إعادة صياغة السّؤال بطرق مختلفة بهدف تحديد دلالته و أبعاده.
- - و تعريف كلّ كلمات الموضوع بلا استثناء.
بعد ذلك، بإمكاننا أن:
- - نعيد صياغة السّؤال المطروح انطلاقا من تلك التّعريفات التّي
حدّدنا بها كلّ كلمة من كلمات الموضوع. انّ التّنظيمات المختلفة لكلّ حدود
الموضوع، التّي سنتحصّل عليها، ستكشف حتما عن بعض التّناقضات. في هذه
الحالة نثير مشكلا متخفّيا وراء مفاهيم الموضوع الغامضة.
- - نتساءل عن دواعي طرح السّؤال/الموضوع، و عن ما إذا كانت ملاحظة الواقع تنبّهنا إلى إجابات مناقضة للسّؤال ذاته.
- - نتساءل كذلك عن الإجابات التّي نقدّها عادة عن هذا السّؤال، أي
التّساؤل عن الآراء و المواقف العامّية التّي يقع اعتبارها إجابات مباشرة
و عفويّة عن الموضوع. إذا كانت هذه الآراء متعارضة فيما بينها، فمن
الضّروري القيام بعرض هذا التّناقض.
- - نقدّم على سبيل الافتراض إجابة ممكنة عن السّؤال، ثمّ نتساءل بعد ذلك عن دلالة هذه الإجابة، مفترضاتها، شروطها و استتباعاتها.
ينبغي في الجملة، إذن، أن نعاند نزوع الفكر الطّبيعي نحو الكسل و
الحلول السّهلة و التّلقائيّة بفضل تتبّع آثار الصّعوبات و المآزق و
التّناقضات التّي تتجلّى في كلّ موضوع فلسفي.
ب. ب. رسم استراتيجيّة لمقاربة منظّمة:
ينبغي في الوقت الحاضر أن نقوم برسم معالم المقالة، و ذلك بفضل وضع تخطيط.
على هذا الإعداد للتّخطيط أن يلتزم بهذه المقتضيات الثّلاثة:
- - يجب على العمل أن يتّخذ من الإشكالية إطارا له فلا يتعدّاه، لذلك يجدر الانطلاق من هذه الإشكالية ذاتها.
- - ينبغي تقديم حلول مختلفة و متنوّعة للمشكل الفلسفي المطروح، مع الحرص على تقديم حجج بها نبرهن على مختلف هذه الحلول.
- - يتعيّن علينا أن نتّبع تمشّيا منطقيّا واضحا و صارما يمكّن من
ترتيب الأفكار بشكل متسلسل. و لا يكون ذلك الاّ إذا حدّدنا نقطة انطلاق
العمل ( الإشكالية ) و نقطة وصوله ( الحلّ الأفضل و الإجابة الأكثر
معقوليّة )، و رسمنا بين هاتين النّقطتين سلسلة من المراحل و الأفكار
المتماسكة فيما بينها.
1. 1. المساوئ التّي يجب تجنّبها:
يوجد خطأين هامّين يمكن أن نقع فيهما: غياب النّظام و المبالغة في النّظام.
- - غياب النّظام: عرض الأفكار كيفما اتّفق، دون ترتيب و دون تمفصل
بينها، و هو ما ينفي كلّ شكل من أشكال التّقدّم المنطقي في المقالة.
- - المبالغة في النّظام: و يتمثّل في استحضار تخطيط معدّ سلفا بصفة
مسبقة، بحيث نكتفي بعد ذلك، في إطار العمل، بملء فراغات هيكل منطقي أجوف
من كلّ مضمون: مثلا أن نجيب بنعم ثمّ بلا، و أخيرا ننتهي إلى موقف نسبي
يقول نعم و لا في نفس الوقت أو نقطة اتّفاق وهميّة بين الموقفين
المتضادّين لا تقنع أحدا، و لا حتّى التّلميذ نفسه.
لا يجب أن يغيب عن أعيننا هنا، أنّه من المستحيل أن نصرّح تباعا، في اطار
نفس العلاقة، و ضمن نفس المنظور أنّ هذا الشّيئ هو أبيض و أسود في نفس
الوقت
.
|
حمزة سديرة-
- عدد المساهمات : 453
العمر : 36
المكان : قصر*قفصة
المهنه : طلب العلم
الهوايه : كل شيء
نقاط تحت التجربة : 12489
تاريخ التسجيل : 07/03/2008
رد: في رحاب البكالوريا
بالفعل موضوع ممتاز جدا
بارك الله فيك يا حمزة
بارك الله فيك يا حمزة
takwa-
- عدد المساهمات : 1380
العمر : 34
المكان : zarroug
المهنه : nchallah talbet 3élm
الهوايه : lé9raya,ma3andich 8èrha
نقاط تحت التجربة : 12568
تاريخ التسجيل : 15/09/2007
رد: في رحاب البكالوريا
takwa كتب:بالفعل موضوع ممتاز جدا
بارك الله فيك يا حمزة
أن شاء اللّه الوعي لدى الجميع يكون في المكانة الّتي نطمح إليها تحقيق نتائج طيّبة بولاية
قفصة
حمزة سديرة-
- عدد المساهمات : 453
العمر : 36
المكان : قصر*قفصة
المهنه : طلب العلم
الهوايه : كل شيء
نقاط تحت التجربة : 12489
تاريخ التسجيل : 07/03/2008
تلخيص فلسفي لمحورالعلم بين الحقيقة والنّمذجة
تلخيص فلسفي لمحورالعلم بين الحقيقة والنّمذجة
كتابة السّيد :ابراهيم قمّودي
تحقيق الأستاذ : محمّد علي كسيرة
تلخيص لأبرز الجوانب في محور"العلم بين الحقيقة والنّمذحة"
إن العلم لا يوجد في صيغة المفرد و إنما في صيغة الجمع. فما يوجد هي علوم
مختلفة واختصاصات مختلفة يمكن تمييزها من جهة الموضوع إلى علوم صورية
وعلوم تجريبية وعلوم إنسانية، كما يمكن تمييزها من جهة طبيعتها إلى علوم
نظرية وعلوم تطبيقية، و يمكن تمييزها من جهة طبيعة المعرفة التي تقدمها
إلى علوم تفسيرية وأخرى تأويلية... إلى غير ذلك من التمييزات المختلفة
والتصنيفات المتباينة للعلوم. ومن هذا المنطلق يتحوّل التفكير في العلم
إلى التفكير في ما هو مشترك بين جميع العلوم وقد يصبح السؤال عندها هل
تستجيب العلوم على اختلافاتها وتبايناتها وخصوصيتها لمطلب الكوني ؟
و عندما ننظر في العلم من جهة القيمة، بما أن العلم ليس مجرّد معرفة من
أجل المعرفة بل هو معرفة من أجل التحكم في الطبيعة وتحقيق المنفعة وهذا ما
تأكد منذ القرن 16 عندما شدّد "فرانسيس بايكون" على أن العلم قوة أي قدرة
على التأثير في الواقع وتطويعه لصالح الإنسانية، يصبح السؤال عندئذ: هل في
استجابة العلم لمطلب النجاعة التفات عن مطلب المعنى والقيمة؟ أمّا إذا
أضفنا إلى العلم الزوج التقابلي الذي تمثله الحقيقة والنمذجة فإن الأمر
يصبح أكثر تعقيدا، إذ يبدو في هذه الوجهة أن كونية العلم كمعرفة تتأسس على
هذا الزوج التقابلي، فإما أن تتحقق بالحقيقة وإما أن تتحقق بالنمذجة.
لقد حدد الفلاسفة الحقيقة بما هي صفة المعرفة المطابقة لموضوعها وهذا يعني
أن الحقيقة هي قيمة معرفية بمعنى المعيار الذي يمكننا من الحكم على
المعارف. غير أن هذا التحديد المثالي للحقيقة شهد تحوّلات عديدة في تاريخ
المعرفة العلمية، تحوّلات جعلت الحقيقة في العلم تنحى إلى أن تكون حقيقة
رياضية لا تشترط التطابق مع الواقع وإنما تقتضي تطابق الفكر مع ذاته، أي
تشترط عدم التناقض في الفكر، ذلك أن الرياضيات هي علم صوري يبحث في
العلاقات المنطقية للفكر وهي علم يستخدم المنهج الاكسيومي Axiomatique بما
هو ضرب من العرض للعلوم الرياضية، يقوم بجرد مجموعة الأوّليات التي يضعها
العقل بكامل الحرية ليستخلص منها النتائج الضرورية شريطة أن لا يكون هناك
تناقض بين الأوليات التي انطلقنا منها والنتائج التي استخلصناها. وذلك هو
الشأن في الفيزياء الرياضية، وهو ما يعترف به كل من "أنشتاين »
Einstein و"هيزنبورغ » Heisenberg، فالباحث في العلوم الفيزيائية لا
يستطيع أن يتثبت من مدى مطابقة ما يقوله عن الواقع مع الواقع ذاته، بل أن
مثل هذا البحث أصبح غير ذي دلالة في العلم. إذ نتبين أن الحقيقة بما هي
مطابقة المعرفة للواقع هي معيار وقع التضحية به في سبيل بناء رياضي
أكسيومي توجه نحو تحقيق المنفعة. لذلك يشبه « أنشتاين" العملية
المعرفية في الفيزياء النظرية بمثال الساعة المغلقة التي لا نستطيع فتحها،
فعالم الطبيعة في نشلطه العلمي كمن يسعى إلى فهم آلية اشتغال ساعة لا
يستطيع فتحها لذلك فإنه سيفترض إذا كان فطنا الطريقة التي تشتغل بها
الساعة ولكنه لا يستطيع أن يتثبت من مدى مطابقة افتراضه للكيفية الفعلية
التي تشتغل بها الساعة بما أنه لا يستطيع فتحها. إذا لم تكن مطابقة
المعرفة للواقع هي معيار صدق النظرية العلمية فما هو دور التجربة إذن؟
إن التجربة ليست مقياسا للحقيقة، ووظيفتها تتمثل في التثبت من مدى ملاءمة
المنظومة الرياضية المختارة بكامل الحرية للظاهرة المدروسة، يقول أنشتاين
« و يمكن للتجربة بطبيعة الحال أن تقودنا في اختيارنا للمفاهيم
الرياضية التي ينبغي أن نستعملها»، لأن ذلك ما يجعل النظرية نافعة،
أي أن العلم براغماتي بمعنى أن أهمية النظرية العلمية تقاس بالمنفعة التي
تحققها للإنسان أي بالنتائج العملية، و نظرية نافعة هي نظرية تمكننا من
إنتاج تقنية تفيدنا في الحياة العملية.
و يبدو أن هذا المنحى البراغماتي الذي سار فيه العلم أصبح أكثر تمظهرا في
ممارسة علمية حديثة نسبيا تتمثل في النمذجة، فما النمذجة؟ وما هي آليات
اشتغالها كمسار علمي؟ ما هي أبعادها المختلفة؟ وهل يمكن اعتبارها العامل
الموحد للعلم؟ ثم قبل ذلك ما النموذج؟ وما الفرق بينه وبين الباراديغم؟
إن الباراديغم، حسب تعريف موران E.Morin، هو بناء نظري يوجّه الخطاب
والبحث ورؤية العالم أو هو مجموع مبادئ التركيب والاقصاء الأساسية التي
توجّه كلّ فكر وكلّ نظرية وكلّ رؤية للعالم. فالباراديغم يقتضي، إذن، فكرة
مفاهيم رئيسية، فكرة ترابط ضروب علائقية منطقية قوية، إذ أن الباراديغم
يقارب مشكل المبادئ الأولى في الخطابات وفي النظريات وفي أنساق التفكير،
وهذه المبادئ الأولى يمكن أن تؤسس علاقات التقابل أو علاقات التمييز أو
علاقات الجمع، مثال ذلك أن الفكر العلمي كان محكوما ببراديغم فصل عالم
الموضوع على عالم الذات، فعالم الموضوع محكوم بشرط الصّرامة والمنطق
والحساب في حين أن عالم الذات محكوم بالأحاسيس والانفعالات والعاطفة.
ويرى الفيلسوف الأمريكي "توماس سمويل كوهن » Thomas Samuel Kohen
أنّ كلّ ثورة علمية تتحدّد بظهور براديغمات جديدة وهو ما يعني أن المعرفة
العلمية تشتغل بالبراديغمات وأن تطوّر العلم لا يتحقق عبر تكديس المعارف
ولكن بتحول في المبادئ المنظمة للمعرفة، أي تحوّل في البراديغمات وبالتالي
فإن ولادة كل براديغم تُعلن تحوّلا في المشاكل المعلنة والمدروسة، تحولا
مرفوقا بتغير قواعد الممارسة العلمية، كذلك كان الشأن عندما وقع استبدال
الأرض بالشمس كمركز للعالم إذ تغيرت معه نظرتنا إلى العالم ومررنا من
عقلانية أرسطية تفسر العالم تفسيرا أنتروبومورفيا كيفيا إلى عقلانية كمية
تفسّر العالم بقوانين رياضية.
من هذا المنطلق يرى "جون لويس لوموانيو » J.L.Lemoigneأنّ العلوم
الحديثة مثل النسقية La Systhemique وعلوم التنظيم والقرار وعلوم المعرفة
والتواصل التي تطوّرت انطلاقا من 1948 سنة ميلاد السيبارنيتيقا La
Cibernitique (علم التوجيه)، تقتضي تفكيرا ابستيملوجيا يراجع البراديغم
الوضعي ذلك أنّ هذه العلوم الجديدة لا تتحدّد بموضوعها الذي يمكن ملاحظته
وضعيا ولكن بمشاريعها المعرفية.
فهذه العلوم وخاصة منها علوم الاصطناعي لا تنظر إلى المعرفة باعتبارها
يقول لومواينو:« اكتشاف أو انكشاف مواضيع طبيعية محدّدة، بل
باعتبارها اختراعا أين يتمّ تصور الظواهر مكوّنة اصطناعيا وبطريقة حرة من
قبل الباحث»، وهذا يعني أن علوم الاصطناعي لا تنظر إلى صلاحية
قضاياها انطلاقا من مبادئ وضعية، فالوضعية لا تستطيع أن تؤسس هذه العلوم
وأسس هذه العلوم يشبهها « لوموانيو" بأرخبيل علمي تمثل علوم الهندسة
جزيرته الرئيسية، إذ تتقدم الابستيمولوجيا التكوّنية كأفق ممكن لتجاوز
صعوبات العلوم الوضعية في تفسير المركب والفصل فيه بدقة، ومن هذا المنطلق
يرى "لوموانيو" أن التكوّنية تمثل براديغم علمي محترم.
النموذج ليس البراديغم إذن. و النموذج الذي كان يعني في الأصل المرجع الذي
سنقلده أو سنعيد إنتاجه بما هو المثال و تحوّل في مرحلة أولى ليفيد نتيجة
هذا التقليد إذ نتحول من نموذج الفنان إلى التمثل الذي يحققه الفنان، أصبح
اليوم مستعملا في العلوم ليشير لا إلى المثل الأعلى العلمي و لا إلى
المُثل الأفلاطونية و لا إلى الصورة الحسية للنظرية المجرّدة ولا أيضا إلى
المجاز أو المماثلة الرمزية بصورة خاصة وليس هو الشيء المصغّر، و إنما
يشير إلى التمثل الذهني لشيء ما ولكيفية اشتغاله، إنه يقول
"فاليزار"B.Walliser: "تمثل لشيء واقعي سواء كان ذهنيا أو ماديا يتمّ
التعبير عنه بلغة أدبية أو في شكل رسوم بيانية أو رموز رياضية".
وهذا يعني أن النموذج هو بنية مركبة تتفاعل فيها ثلاث أبعاد رئيسية، بعد
تركيبي، وبعد دلالي، وبعد براغماتي أو تداولي. وعندما نضع شيئا ما في
نموذج نستطيع أن نقلّد اصطناعيا تصرف هذا الشيء وبالتالي الاستعداد
لردوده. وهو ما يتضمن أنّ النمذجة ليست إلا الفكر المنظّم لتحقيق غاية
عملية، فالنموذج هو النظرية الموجهة نحو الفعل الذي نريد تحقيقه، ذلك أنه
أمام عجز المقاربات التحليلية على تفسير الظواهر الجديدة (الظواهر المركبة
والمعقدة) حاول الباحثون المعاصرون إيجاد مناهج بحث تتلاءم مع هذه
الظواهر، والنمذجة هي أحد هذه المناهج المعتمدة في هذا الاتجاه لذلك تقدم
النمذجة باعتبارها فعل استراتيجي يتطلب مشاركة من الفاعلين. إنها شكل جديد
من إبداع المعرفة تكون فيعه العلاقات بين النظرية والممارسة، بين البحث
والفعل وثيقة جدا بما أنها بحوث تهدف إلى تغيير عبر التشكيل المتفاعل
للفعل والخطاب، إنها تمشّي يُنتج معارف نظرية وعملية ويقتضي مسار تعاون
بين باحثين وممارسين من اختصاصات مختلفة ممّا يؤدي إلى توسيع الإشكاليات
وسبل حلولها الممكنة.
و هذا يعني أن النمذجة تسعى قبل كل شيء إلى فهم ما يحدث ذلك أن المنمذج لا
يبحث فقط عن حل خبريEmpirique) ) يقول "باسكال نوفال » Pascal
Nouvel «و لفهم شيء ما علينا أن نعمل أشياء كثيرة أخرى والنموذج هو
التعبير عن مثل تلك العملية المراقبة للإهمال» ذلك أن النموذج في
منظور "نوفال" يهدف أساسا، كوسيلة تبسيط، إلى الفهم فالمنذمج ينمذج ليفهم
و ليُفْهِم. و بهذا المعنى فإن النموذج يمكن أن يكون قانونا رياضيا لذلك
يعتبر "نوفال" أن قانون نيوتن F= m . a ) ) (ق = ك . س) ( القوة تساوي
كمية الكتلة مضروبة في كمية التسارع) يمثل نموذجا. وبالتالي فإن النمذجة
ليست إلا تواصلا مع تقليد علمي متجذر في التاريخ يتمثّل في الإقرار بكون
العلم هو تفسير للمرئي المعقد باللامرئي البسيط و يتقدم النموذج باعتباره
وسيلة هذا التبسيط بالنسبة لنوفال.
و هكذا فان النموذج هو نسق رموز يمكننا من استحضار اغلب الإدراكات التي
نكونها عندما نريد وصف ظاهرة سواء مُلاحظة أو مُتخيلة، حتى نتمكن من
تأويلها عقليا. وتطوّر مناهج البرمجيات المعلوماتية مكّن النمذجة من
استثمار حقل الاصطناعات الأكثر اختلافا كما مكّنتها من بناء وتقييم
المردود الزماكاني Spatiotemporel للظواهر المنمذجة، وهذا يعني أنه، أن
ننمذج صيرورة ديناميكية، هو أن نصفها بطريقة علمية كمية بواسطة الرياضيات
لأن ذلك يمكننا من دراسة تطوّر هذه الصيرورة الديناميكية ومن مراقبتها عبر
اصطناع المتغيرات الممكنة وعبر استبدال بعض المتغيرات الأخرى. وبالتالي
فإن النمذجة تهدف أساسا إلى:
• تـأويج الفعالية Efficacité.
• تأويج إمكانية الاشتغال Fiabilité.
• التحكّم في المصاريف.
• تأمين التحكم والمراقبة للظاهرة (المشروع).
فالنمذجة إذن تمكّن من الحصول على حلّ فعال وقابل للاشتغلال بما أنها تأخذ
بعين الاعتبار كلّ المتغيرات وكلّ الحالات الممكنة، إذ يتعلق الأمر بالبحث
عن الحلّ الأمثل الذي يكون بالضرورة أكثر فعالية من أيّ حلّ تقريبي، ولكن
أيضا أفضل اشتغال بما أننا نعرف التأثيرات المتناسبة مع مختلف المتغيرات
ونعرف بالتالي أي المتغيرات أهمّ وأيها ثانوي. وعندما ننمذج تكون لدينا
وسائل كمية تمكننا من تحديد المتغيرات الأكثر أهمية وبالتالي من التحكم في
مصاريف المشروع، فمثلا، إذا لم نأخذ بعين الاعتبار تأويج موضع المستودعات
فإننا نضطر إلى دفع مصاريف تنقل أكثر. فالنمذجة تمكننا من التحكم في
المشروع ومراقبته إذ نعرف ما يجب فعله ونعرف ما هو مهمّ فنتجنّب بذلك
المفاجآت غير السارة.
وهكذا فإن المقاربة النسقية للنمذجة هي منهجية جديدة تمكّن من تجميع
وتنظيم المعارف لتأويج النجاعة في الفعل وتقتضي دراسة المشكلات في كلّيتها
وفي تعقدها وفي ديناميكيتها الخاصة لذلك تتأسس النمذجة على أكسومية
اتصالية أو على بداهات علائقية تمكن من تجاوز عقبة الاختزالية التبسيطية
المكبلة للمقاربات العلمية الوضعية، ذلك أن نظرية النسق العام تجعل من
موضوع النمذجة مشروعا في محيط نشيط وتمكّن الباحثين من تمثل الظواهر
القابلة للتحليل جزئيا أو كليا ومعرفة هذه الظواهر تمرّ عبر علاقة جدلية
ثلاثية بين الوجود والفعل والصيرور.
يتعلق الأمر إذن بمحاولة حصر النسق المركب المدروس لاستباق ردود أفعاله
بطريقة صورية ودون عودة إلى التجربة إلاّ في المستوى الافتراضي أي وصف نسق
واقعي بالطريقة التي تجعلنا قادرين على معالجته بالحاسوب، فالنمذجة هي إذن
مبدأ أو تقنية تمكّن الباحث من بناء نموذج لظاهرة أو لسلوك عبر إحصاء
المتغيرات أو العوامل المفسرة لكل واحدة من هذه المتغيرات، فهي تمشي علمي
يمكّن من فهم الأنساق المركّبة والمعقدة عبر خلق نموذج هو بنية صورية تعيد
إنتاج الواقع افتراضيا.
نقلا من موسوعة مينارف الفلسفيّة
كتابة السّيد :ابراهيم قمّودي
تحقيق الأستاذ : محمّد علي كسيرة
تلخيص لأبرز الجوانب في محور"العلم بين الحقيقة والنّمذحة"
إن العلم لا يوجد في صيغة المفرد و إنما في صيغة الجمع. فما يوجد هي علوم
مختلفة واختصاصات مختلفة يمكن تمييزها من جهة الموضوع إلى علوم صورية
وعلوم تجريبية وعلوم إنسانية، كما يمكن تمييزها من جهة طبيعتها إلى علوم
نظرية وعلوم تطبيقية، و يمكن تمييزها من جهة طبيعة المعرفة التي تقدمها
إلى علوم تفسيرية وأخرى تأويلية... إلى غير ذلك من التمييزات المختلفة
والتصنيفات المتباينة للعلوم. ومن هذا المنطلق يتحوّل التفكير في العلم
إلى التفكير في ما هو مشترك بين جميع العلوم وقد يصبح السؤال عندها هل
تستجيب العلوم على اختلافاتها وتبايناتها وخصوصيتها لمطلب الكوني ؟
و عندما ننظر في العلم من جهة القيمة، بما أن العلم ليس مجرّد معرفة من
أجل المعرفة بل هو معرفة من أجل التحكم في الطبيعة وتحقيق المنفعة وهذا ما
تأكد منذ القرن 16 عندما شدّد "فرانسيس بايكون" على أن العلم قوة أي قدرة
على التأثير في الواقع وتطويعه لصالح الإنسانية، يصبح السؤال عندئذ: هل في
استجابة العلم لمطلب النجاعة التفات عن مطلب المعنى والقيمة؟ أمّا إذا
أضفنا إلى العلم الزوج التقابلي الذي تمثله الحقيقة والنمذجة فإن الأمر
يصبح أكثر تعقيدا، إذ يبدو في هذه الوجهة أن كونية العلم كمعرفة تتأسس على
هذا الزوج التقابلي، فإما أن تتحقق بالحقيقة وإما أن تتحقق بالنمذجة.
لقد حدد الفلاسفة الحقيقة بما هي صفة المعرفة المطابقة لموضوعها وهذا يعني
أن الحقيقة هي قيمة معرفية بمعنى المعيار الذي يمكننا من الحكم على
المعارف. غير أن هذا التحديد المثالي للحقيقة شهد تحوّلات عديدة في تاريخ
المعرفة العلمية، تحوّلات جعلت الحقيقة في العلم تنحى إلى أن تكون حقيقة
رياضية لا تشترط التطابق مع الواقع وإنما تقتضي تطابق الفكر مع ذاته، أي
تشترط عدم التناقض في الفكر، ذلك أن الرياضيات هي علم صوري يبحث في
العلاقات المنطقية للفكر وهي علم يستخدم المنهج الاكسيومي Axiomatique بما
هو ضرب من العرض للعلوم الرياضية، يقوم بجرد مجموعة الأوّليات التي يضعها
العقل بكامل الحرية ليستخلص منها النتائج الضرورية شريطة أن لا يكون هناك
تناقض بين الأوليات التي انطلقنا منها والنتائج التي استخلصناها. وذلك هو
الشأن في الفيزياء الرياضية، وهو ما يعترف به كل من "أنشتاين »
Einstein و"هيزنبورغ » Heisenberg، فالباحث في العلوم الفيزيائية لا
يستطيع أن يتثبت من مدى مطابقة ما يقوله عن الواقع مع الواقع ذاته، بل أن
مثل هذا البحث أصبح غير ذي دلالة في العلم. إذ نتبين أن الحقيقة بما هي
مطابقة المعرفة للواقع هي معيار وقع التضحية به في سبيل بناء رياضي
أكسيومي توجه نحو تحقيق المنفعة. لذلك يشبه « أنشتاين" العملية
المعرفية في الفيزياء النظرية بمثال الساعة المغلقة التي لا نستطيع فتحها،
فعالم الطبيعة في نشلطه العلمي كمن يسعى إلى فهم آلية اشتغال ساعة لا
يستطيع فتحها لذلك فإنه سيفترض إذا كان فطنا الطريقة التي تشتغل بها
الساعة ولكنه لا يستطيع أن يتثبت من مدى مطابقة افتراضه للكيفية الفعلية
التي تشتغل بها الساعة بما أنه لا يستطيع فتحها. إذا لم تكن مطابقة
المعرفة للواقع هي معيار صدق النظرية العلمية فما هو دور التجربة إذن؟
إن التجربة ليست مقياسا للحقيقة، ووظيفتها تتمثل في التثبت من مدى ملاءمة
المنظومة الرياضية المختارة بكامل الحرية للظاهرة المدروسة، يقول أنشتاين
« و يمكن للتجربة بطبيعة الحال أن تقودنا في اختيارنا للمفاهيم
الرياضية التي ينبغي أن نستعملها»، لأن ذلك ما يجعل النظرية نافعة،
أي أن العلم براغماتي بمعنى أن أهمية النظرية العلمية تقاس بالمنفعة التي
تحققها للإنسان أي بالنتائج العملية، و نظرية نافعة هي نظرية تمكننا من
إنتاج تقنية تفيدنا في الحياة العملية.
و يبدو أن هذا المنحى البراغماتي الذي سار فيه العلم أصبح أكثر تمظهرا في
ممارسة علمية حديثة نسبيا تتمثل في النمذجة، فما النمذجة؟ وما هي آليات
اشتغالها كمسار علمي؟ ما هي أبعادها المختلفة؟ وهل يمكن اعتبارها العامل
الموحد للعلم؟ ثم قبل ذلك ما النموذج؟ وما الفرق بينه وبين الباراديغم؟
إن الباراديغم، حسب تعريف موران E.Morin، هو بناء نظري يوجّه الخطاب
والبحث ورؤية العالم أو هو مجموع مبادئ التركيب والاقصاء الأساسية التي
توجّه كلّ فكر وكلّ نظرية وكلّ رؤية للعالم. فالباراديغم يقتضي، إذن، فكرة
مفاهيم رئيسية، فكرة ترابط ضروب علائقية منطقية قوية، إذ أن الباراديغم
يقارب مشكل المبادئ الأولى في الخطابات وفي النظريات وفي أنساق التفكير،
وهذه المبادئ الأولى يمكن أن تؤسس علاقات التقابل أو علاقات التمييز أو
علاقات الجمع، مثال ذلك أن الفكر العلمي كان محكوما ببراديغم فصل عالم
الموضوع على عالم الذات، فعالم الموضوع محكوم بشرط الصّرامة والمنطق
والحساب في حين أن عالم الذات محكوم بالأحاسيس والانفعالات والعاطفة.
ويرى الفيلسوف الأمريكي "توماس سمويل كوهن » Thomas Samuel Kohen
أنّ كلّ ثورة علمية تتحدّد بظهور براديغمات جديدة وهو ما يعني أن المعرفة
العلمية تشتغل بالبراديغمات وأن تطوّر العلم لا يتحقق عبر تكديس المعارف
ولكن بتحول في المبادئ المنظمة للمعرفة، أي تحوّل في البراديغمات وبالتالي
فإن ولادة كل براديغم تُعلن تحوّلا في المشاكل المعلنة والمدروسة، تحولا
مرفوقا بتغير قواعد الممارسة العلمية، كذلك كان الشأن عندما وقع استبدال
الأرض بالشمس كمركز للعالم إذ تغيرت معه نظرتنا إلى العالم ومررنا من
عقلانية أرسطية تفسر العالم تفسيرا أنتروبومورفيا كيفيا إلى عقلانية كمية
تفسّر العالم بقوانين رياضية.
من هذا المنطلق يرى "جون لويس لوموانيو » J.L.Lemoigneأنّ العلوم
الحديثة مثل النسقية La Systhemique وعلوم التنظيم والقرار وعلوم المعرفة
والتواصل التي تطوّرت انطلاقا من 1948 سنة ميلاد السيبارنيتيقا La
Cibernitique (علم التوجيه)، تقتضي تفكيرا ابستيملوجيا يراجع البراديغم
الوضعي ذلك أنّ هذه العلوم الجديدة لا تتحدّد بموضوعها الذي يمكن ملاحظته
وضعيا ولكن بمشاريعها المعرفية.
فهذه العلوم وخاصة منها علوم الاصطناعي لا تنظر إلى المعرفة باعتبارها
يقول لومواينو:« اكتشاف أو انكشاف مواضيع طبيعية محدّدة، بل
باعتبارها اختراعا أين يتمّ تصور الظواهر مكوّنة اصطناعيا وبطريقة حرة من
قبل الباحث»، وهذا يعني أن علوم الاصطناعي لا تنظر إلى صلاحية
قضاياها انطلاقا من مبادئ وضعية، فالوضعية لا تستطيع أن تؤسس هذه العلوم
وأسس هذه العلوم يشبهها « لوموانيو" بأرخبيل علمي تمثل علوم الهندسة
جزيرته الرئيسية، إذ تتقدم الابستيمولوجيا التكوّنية كأفق ممكن لتجاوز
صعوبات العلوم الوضعية في تفسير المركب والفصل فيه بدقة، ومن هذا المنطلق
يرى "لوموانيو" أن التكوّنية تمثل براديغم علمي محترم.
النموذج ليس البراديغم إذن. و النموذج الذي كان يعني في الأصل المرجع الذي
سنقلده أو سنعيد إنتاجه بما هو المثال و تحوّل في مرحلة أولى ليفيد نتيجة
هذا التقليد إذ نتحول من نموذج الفنان إلى التمثل الذي يحققه الفنان، أصبح
اليوم مستعملا في العلوم ليشير لا إلى المثل الأعلى العلمي و لا إلى
المُثل الأفلاطونية و لا إلى الصورة الحسية للنظرية المجرّدة ولا أيضا إلى
المجاز أو المماثلة الرمزية بصورة خاصة وليس هو الشيء المصغّر، و إنما
يشير إلى التمثل الذهني لشيء ما ولكيفية اشتغاله، إنه يقول
"فاليزار"B.Walliser: "تمثل لشيء واقعي سواء كان ذهنيا أو ماديا يتمّ
التعبير عنه بلغة أدبية أو في شكل رسوم بيانية أو رموز رياضية".
وهذا يعني أن النموذج هو بنية مركبة تتفاعل فيها ثلاث أبعاد رئيسية، بعد
تركيبي، وبعد دلالي، وبعد براغماتي أو تداولي. وعندما نضع شيئا ما في
نموذج نستطيع أن نقلّد اصطناعيا تصرف هذا الشيء وبالتالي الاستعداد
لردوده. وهو ما يتضمن أنّ النمذجة ليست إلا الفكر المنظّم لتحقيق غاية
عملية، فالنموذج هو النظرية الموجهة نحو الفعل الذي نريد تحقيقه، ذلك أنه
أمام عجز المقاربات التحليلية على تفسير الظواهر الجديدة (الظواهر المركبة
والمعقدة) حاول الباحثون المعاصرون إيجاد مناهج بحث تتلاءم مع هذه
الظواهر، والنمذجة هي أحد هذه المناهج المعتمدة في هذا الاتجاه لذلك تقدم
النمذجة باعتبارها فعل استراتيجي يتطلب مشاركة من الفاعلين. إنها شكل جديد
من إبداع المعرفة تكون فيعه العلاقات بين النظرية والممارسة، بين البحث
والفعل وثيقة جدا بما أنها بحوث تهدف إلى تغيير عبر التشكيل المتفاعل
للفعل والخطاب، إنها تمشّي يُنتج معارف نظرية وعملية ويقتضي مسار تعاون
بين باحثين وممارسين من اختصاصات مختلفة ممّا يؤدي إلى توسيع الإشكاليات
وسبل حلولها الممكنة.
و هذا يعني أن النمذجة تسعى قبل كل شيء إلى فهم ما يحدث ذلك أن المنمذج لا
يبحث فقط عن حل خبريEmpirique) ) يقول "باسكال نوفال » Pascal
Nouvel «و لفهم شيء ما علينا أن نعمل أشياء كثيرة أخرى والنموذج هو
التعبير عن مثل تلك العملية المراقبة للإهمال» ذلك أن النموذج في
منظور "نوفال" يهدف أساسا، كوسيلة تبسيط، إلى الفهم فالمنذمج ينمذج ليفهم
و ليُفْهِم. و بهذا المعنى فإن النموذج يمكن أن يكون قانونا رياضيا لذلك
يعتبر "نوفال" أن قانون نيوتن F= m . a ) ) (ق = ك . س) ( القوة تساوي
كمية الكتلة مضروبة في كمية التسارع) يمثل نموذجا. وبالتالي فإن النمذجة
ليست إلا تواصلا مع تقليد علمي متجذر في التاريخ يتمثّل في الإقرار بكون
العلم هو تفسير للمرئي المعقد باللامرئي البسيط و يتقدم النموذج باعتباره
وسيلة هذا التبسيط بالنسبة لنوفال.
و هكذا فان النموذج هو نسق رموز يمكننا من استحضار اغلب الإدراكات التي
نكونها عندما نريد وصف ظاهرة سواء مُلاحظة أو مُتخيلة، حتى نتمكن من
تأويلها عقليا. وتطوّر مناهج البرمجيات المعلوماتية مكّن النمذجة من
استثمار حقل الاصطناعات الأكثر اختلافا كما مكّنتها من بناء وتقييم
المردود الزماكاني Spatiotemporel للظواهر المنمذجة، وهذا يعني أنه، أن
ننمذج صيرورة ديناميكية، هو أن نصفها بطريقة علمية كمية بواسطة الرياضيات
لأن ذلك يمكننا من دراسة تطوّر هذه الصيرورة الديناميكية ومن مراقبتها عبر
اصطناع المتغيرات الممكنة وعبر استبدال بعض المتغيرات الأخرى. وبالتالي
فإن النمذجة تهدف أساسا إلى:
• تـأويج الفعالية Efficacité.
• تأويج إمكانية الاشتغال Fiabilité.
• التحكّم في المصاريف.
• تأمين التحكم والمراقبة للظاهرة (المشروع).
فالنمذجة إذن تمكّن من الحصول على حلّ فعال وقابل للاشتغلال بما أنها تأخذ
بعين الاعتبار كلّ المتغيرات وكلّ الحالات الممكنة، إذ يتعلق الأمر بالبحث
عن الحلّ الأمثل الذي يكون بالضرورة أكثر فعالية من أيّ حلّ تقريبي، ولكن
أيضا أفضل اشتغال بما أننا نعرف التأثيرات المتناسبة مع مختلف المتغيرات
ونعرف بالتالي أي المتغيرات أهمّ وأيها ثانوي. وعندما ننمذج تكون لدينا
وسائل كمية تمكننا من تحديد المتغيرات الأكثر أهمية وبالتالي من التحكم في
مصاريف المشروع، فمثلا، إذا لم نأخذ بعين الاعتبار تأويج موضع المستودعات
فإننا نضطر إلى دفع مصاريف تنقل أكثر. فالنمذجة تمكننا من التحكم في
المشروع ومراقبته إذ نعرف ما يجب فعله ونعرف ما هو مهمّ فنتجنّب بذلك
المفاجآت غير السارة.
وهكذا فإن المقاربة النسقية للنمذجة هي منهجية جديدة تمكّن من تجميع
وتنظيم المعارف لتأويج النجاعة في الفعل وتقتضي دراسة المشكلات في كلّيتها
وفي تعقدها وفي ديناميكيتها الخاصة لذلك تتأسس النمذجة على أكسومية
اتصالية أو على بداهات علائقية تمكن من تجاوز عقبة الاختزالية التبسيطية
المكبلة للمقاربات العلمية الوضعية، ذلك أن نظرية النسق العام تجعل من
موضوع النمذجة مشروعا في محيط نشيط وتمكّن الباحثين من تمثل الظواهر
القابلة للتحليل جزئيا أو كليا ومعرفة هذه الظواهر تمرّ عبر علاقة جدلية
ثلاثية بين الوجود والفعل والصيرور.
يتعلق الأمر إذن بمحاولة حصر النسق المركب المدروس لاستباق ردود أفعاله
بطريقة صورية ودون عودة إلى التجربة إلاّ في المستوى الافتراضي أي وصف نسق
واقعي بالطريقة التي تجعلنا قادرين على معالجته بالحاسوب، فالنمذجة هي إذن
مبدأ أو تقنية تمكّن الباحث من بناء نموذج لظاهرة أو لسلوك عبر إحصاء
المتغيرات أو العوامل المفسرة لكل واحدة من هذه المتغيرات، فهي تمشي علمي
يمكّن من فهم الأنساق المركّبة والمعقدة عبر خلق نموذج هو بنية صورية تعيد
إنتاج الواقع افتراضيا.
نقلا من موسوعة مينارف الفلسفيّة
حمزة سديرة-
- عدد المساهمات : 453
العمر : 36
المكان : قصر*قفصة
المهنه : طلب العلم
الهوايه : كل شيء
نقاط تحت التجربة : 12489
تاريخ التسجيل : 07/03/2008
الخصوصية و الكونية
الخصوصية و الكونية
الكونية و السلم عند KANT
الموقع الفلسفي مينارف
ابراهيم قمودي
الكونية و السلم عند KANT
الموقع الفلسفي مينارف
ابراهيم قمودي
عندما نعتبر أن حالة الطبيعة هي حالة حرب، نعتقد أن السلم ليس إلا نوعا من
الهدنة بين حربين و كأن السلم ليس حالة طبيعية. و كانط لا يناقش و لا ينفي
كون حالة الطبيعة هي حالة حرب و أن الإنسان شرير، و لكنه يقر بضرورة إقامة
السلم. و على خلاف الحس المشترك يرى كانط أن السلم هو مشروع قابل للتحقيق،
لا بمعنى تغيير جذري في الطبيعة الإنسانية بحيث نتحول من إنسان شرير إلى
آخر خير، بل إن إنشاء الحق يمثل بالنسبة له خلاصا سياسيا للإنسان. ذلك إن
كانط يرى أن السلم هو نتيجة للحق فلا يكون السلم إلا بتطبيق الحق، فالحق
هو الذي يحدد التعايش السلمي بين الحريات إذ لا تكون شرعية إلا العلاقات،
سواء بين الأفراد أو بين الدول، التي لا تقوم على العنف و إنما تقوم على
الخضوع الحر لقانون مشترك.
و من هذا المنطلق فإن السلم ليس مثاليا لا يمكن تحقيقه بل، إنه مطلب العقل
ذاته، لذلك يتعلق الأمر بالنسبة لكانط بتحديد شروط إمكان السلم, شروط يجب
إن تؤمن في ذات الوقت واقعيته و طابعه الدائم. لذلك يقدم "كانط" الشروط
الحقوقية التي تجعل الحرب مستحيلة، و التي يمكن تلخيصها في ثلاث شروط
أساسية:
إقرار النظام الجمهوري باعتباره النظام الوحيد الذي يجعل الحرب غير محتملة
لأنه يقتضي موافقة المواطنين، والمواطنون يخيّرون السلم والأمن على الصراع.
التحالف الضروري بين الشعوب على مستوى عالمي، ذلك أن اتحاد الدول في
كنفدرالية هو ما يضمن الأمن لكلّ دولة بحيث يكون من حقّ الاتحاد فرض السلم
على الرؤساء الذين يريدون تضخيم قوّتهم.
سنّ قانون سياسي كوني يحمي حقّ الغرباء حتى لا ترى الدّول في حضور الغرباء
على أقاليمها فعل عدواني، وهو ما يعني دفاع كانط عن فكرة مواطنة عالمية،
إذ أنّ الفرد يجب أن يتمتع بحقوق بطريقة مستقلة عن انتمائه الوطني
والإقليمي.
و يجب أن نلاحظ أن كانط يؤسس هذا الحق السياسي الكوني، أي الحق الذي ينظم
علاقات مواطن دولة مع بقية العالم، على معاينة جغرافية فالأرض مستديرة
والناس ينتهون بالضرورة إلى التلاقي. ومن هذا المنطلق فإن الأرض هي ملك
مشترك للنوع الإنساني ولا أحد له الحق طبيعيا في أن يكون هنا أو هناك. و
بالتالي فإن حق الضيافة يجب أن يُسند إلى كلّ إنسان، فكلّ مواطن له الحق
في أن يُعامل معاملة سلمية. ذلك إن الحق السياسي الكوني عند كانط، هو حق
العلاقات الحرة والتنقل الحر، وهو حق التجارة الحرة وحق العدالة في
المعاملة وحق الهجرة. وهذا الحق يحدّد واجب كلّ الدول في ضيافة الغريب وفي
عدم معاملته كعدوّ.
وهكذا فإن الحق السياسي الكوني يدين غطرسة الدول الاستعمارية التي تخلط
بين حق الزيارة وحق الغزو فتحتلّ الأراضي الأجنبية دون اعتبارٍ لحقوق
متساكنيها. الحق السياسي الكوني هو أيضا إدانة لكل أشكال التخوف من الغريب
التي تخلط بين الغريب والعدوّ وترى فيه خطرا كامنا ولذلك فإن تأسيس حق
سياسي كوني يجعل من كلّ إنسان مواطنا للعالم لا مواطنا عالميا بمعنى تنكره
لأصوله وثقافته ولكن إنسان منفتح على العالم، إنسان لا يتوقف وعيه
بالمواطنة مع حدود بلده ولكن هذا الوعي بالمواطنة يتسع بحسب العالم كلّه.
و يبرز كانط أن التاريخ الإنساني يقف إلى جانب السلم بما أن الحرب تتحوّل
شيئا فشيئا في نظر الأفراد إلى شيء لا يمكن التسامح معه والمفارقة التي
يحيل إليها كانط تتمثل في كون كثرة الحرب هي التي ستولّد السلم لذلك يحذّر
كانط من خُطب المستبدين الذين يقرّون بأن الإنسان شرير جدا ولا يحترم الحق
لتبرير الحرب. ذلك أنه من وجهة نظر "كانط" ما يجب على الإنسان فعله هو
بالضبط ما يستطيع فعله وهو معنى الحرية الأخلاقية عنده. وإذا كان السلم
الدائم يمثل خيرا مثاليا بما هو الخير الأسمى السياسي فإن الحق الكوني هو
مطلب قابل للتحقيق في ظروف الإنسان الواقعية والفعلية، ذلك أن "كانط" يقيم
نوعا من المماثلة بين الأفراد والدول في حالة الطبيعة فحالة الطبيعة هي
حالة عدوانية وتنافس، هي حالة حرب تماما كما وصفها « هوبز".
والأفراد ينشئون بالعقد الاجتماعي مجتمعا مدنيا يؤمّن العدالة بفضل الحق،
والحق يؤمن في نفس الوقت التعايش السلمي بين الأفراد الذين يتنازلون عن
حقهم في استخدام العنف لفائدة الحق، ويلاحظ "كانط » أن نفس الشيء
يمكن أن يتحقق في مستوى الدول بالكيفية التي تجعل الدول تغادر حالة
الطبيعة كحالة حرب عبر إنشاء مجتمع الأوطان أو حلف بين الأوطان تؤسس حالة
الحق. يتعلق الأمر إذن، بعقد اجتماعي جديد يكون أعضاءه الدول ولكنه عقد لا
يتعلق بالتخلي عن السيادة، وهو أمر غير معقول ولا يولّد غير الفشل، بل هو
عقد يتمّ بالتنازل عن الحرب كضرب لحلّ المشاكل وبتأسيس الحق السياسي
الكوني. وأمن الشعوب لا يؤمن بالقوة أو بقوانينهم الخاصة ولكن يؤمّن
بمجتمع الدول وبالحق السياسي الكوني وهو ما يتحقق بالتدرج حسب "كانط" و
السلم الذي لا يكون من الوهلة الأولى كونيا يصبح كذلك بالتجمع والاتحاد
المتطور إذ تنخرط فيه الشعوب بتلقائية وبصفة متدرجة.
ذلك هو الكوني كمطلب, الكوني الذي نظرت له الحداثة مع كانط غير إن كانط لم
يأخذ بعين الاعتبار أهمية العامل الاقتصادي في نشأة أو اندلاع الحروب, لم
يأخذ بعين الاعتبار أهمية الايدولوجيا كمؤسس للتحالفات في الحرب و اكتفى
بمناشدة الإرادة الخيرة للسياسيين, و قام بنداء للعقل لنصرة الحق و لكن
هذا النداء لم يتم الاستماع إليه حيث نلاحظ اليوم تعدي أمريكا على سيادة
الشعوب و الدول باسم الكوني المعولم. كانط أيضا لم يتبين أهمية المسارات
اللاواعية في ظهور العنف وهو ما تفطن له "فرويد" في نظرية الكبت و هذا
يعني إن نظرية السلم أكثر تعقيدا مما تصورها كانط, لا لأن مسألة السلم
مسألة لا حل لها و لكن هي مشكل يقتضي فهما أكثر تجذرا مما كان يتوقعه
كانط, ومهما تصورنا الحلول فان سن قوانين لا يكفي لحل المشاكل و لحل
الصراعات الإنسانية, ذلك ما تترجمه العولمة اليوم التي تدعي أنها تحقق
الكوني كمطلب إنساني نظرت له الحداثة، فإذا بالشعوب تفقد أصالتها
الثقافية، و إذا بالقوانين تأول وفق مصالح الإمبريالية باسم الكوني.
"الخصوصيّة والكونيّة"
التنوع الثقافي عند Claude Lévi-Strauss
ابراهيم قمّودي
الموقع الفلسفي مينارف
التنوع الثقافي عند Claude Lévi-Strauss
ابراهيم قمّودي
الموقع الفلسفي مينارف
إن عصرنا اليوم هو عصر الاختلاف دون منازع، فنحن نمدح الاختلاف و نقرضه،
نطالب بحق الاختلاف ونناضل من أجله. غير أن الحضور الدائم لكلمة الاختلاف
في منطوقنا اليومي و في مختلف المنابر، لا يعكس بالضرورة حضور فكرة
الاختلاف في ظلّ واقع العولمة حيث تسيطر ثقافة واحدة، وحيث نلاحظ مواقف
عنصرية و لاتسامح مع الاختلاف الثقافي. ذلك هو منطلق "كلود لفي ستراوس" في
تظنّنه على ما آلت إليه العلاقات الإنسانية اليوم والعلاقات بين الثقافات
والحضارات في ظلّ الحدّ الأقصى من الاتصال أو ما سمّاه "إفراط الاتصال
». ما هو إذن شأن الاختلاف الثقافي اليوم؟ هل هو واقع فعلي معيش أم
أنّ الاختلاف هو مجرّد كلمة أو شعار نتبجح بها في المنابر لتوشي الخطب؟
عندما قارن "كلود لفي ستراوس" علاقات القرابة والأساطير عند "البدائيين"
لاحظ أنه ينتهي دائما إلى نفس المشكل الأساسي، فاستخلص أن وراء تنوع
الثقافات توجد وحدة نفسية للإنسانية، إذ هنالك عناصر أساسية مشتركة
للإنسانية، والحضارات لا تقوم إلا بتركيب هذه العناصر المشتركة في تشكيلات
مختلفة. ولذلك نلاحظ بين الثقافات البعيدة عن بعضها البعض تشابهات وهي
تشابهات لا تُعزى بالضرورة إلى التواصل بين الحضارات خاصة إذا ما تبيّنا
وجود حضارات يصعب تصور الاتصال فيما بينها نظرا لانزوائها وتباعدها عن
بعضها البعض مثلما هو شأن حضارة "الأنكا" في "البيرو" و"الداهومي" في
"افريقيا ".
و يلاحظ "كلود لفي ستراوس"، انطلاقا من دراسته للأساطير والقواعد
الاجتماعية لمختلف الثقافات نواة أساسية تمثل لا متغيرات بنيوية Des
Invariants structurales في كلّ بقاع العالم مثل علاقات المحرمات
Prohibition de l’inceste، فهذا الممنوع يحضر في كلّ المجتمعات
ويمثل لا متغير بنيوي يسمح في كلّ المجتمعات من التحول من الإنسان
البيولوجي إلى الإنسان الاجتماعي. ومن هذا المنطلق يقرّ "لفي ستراوس"
أنه:"ليس هناك حضارة بدائية وأخرى متطورة"، بل هناك إجابات مختلفة لمشكلات
أساسية ومتماثلة، وما يسميه العنصريون بالمتوحشين هم أيضا يفكرون وفكرهم
ليس أقلّ مرتبة من فكر الغربيين بل هو فقط فكر يشتغل بطريقة مختلفة عن فكر
الغربيين. وهذا يعني أن الإنسانية عند « لفي ستراوس" تتطور في ضروب
متنوعة من المجتمعات والحضارات، وهذا التنوع الثقافي ليس مرتبطا بأي حتمية
بيولوجية لأن التنوع البيولوجي ليس إلا تنوعا على مستوى آخر موازٍ للتنوع
الثقافي خاصة وأن التنوع الثقافي يتميز عن التنوع البيولوجي من جهة كون
التنوع الثقافي يعدّ بالمئات والآلاف في حين أن التنوع البيولوجي يُعدّ
بالعشرات. وقدرة الثقافة على دمج هذا المجموع المركب من الاختراعات في
الميادين المختلفة والذي نسميه حضارة يتناسب مع عدد واختلاف الثقافات التي
تتشارك مع بعضها عن قصد أو عن غير قصد في تأسيس استراتيجيا مشتركة. ذلك ما
ينتهي إليه "لفي ستراوس" عبر مقارنته بين أوروبا في عصر النهضة وأمريكا ما
قبل "كولومبس »، فأوروبا عصر النهضة كانت تمثل موضع تلاقي وصهر
التأثيرات الأكثر تنوعا بدءا بالتقليد الروماني واليوناني فالجرماني
والأنقلوساكسوني وصولا إلى التأثيرات العربية والصينية، في حين أن أمريكا
ما قبل "كولومبس" لا تنعم بهذا التنوع بحكم عزلتها كقارة، وفي حين أن
الثقافات التي كانت تتلاقح في أوروبا تمثل نتيجة اختلافات قديمة تعود إلى
ألفيات مما جعلها تحقق توازنا اجتماعيا فإن ثقافات أمريكا لم تكن متمفصلة
بما فيه الكفاية وهو ربما ما يفسر انهيارها أمام حفنة من المستعمرين ثم إن
الحلف الثقافي في أمريكا ما قبل "كولومبس" كان مقاما بين أطراف أقلّ
اختلافا.
وهذا يعني أنه ليس هناك مجتمع ترسّبي في ذاته وبذاته والتاريخ الترسبي ليس
خصوصية بعض الأعراق أو بعض الثقافات بل هو نتيجة سلوك ثقافي، هو ضرب من
وجود الثقافات يتمثل في وجودها معا، وهكذا يستخلص "لفي ستراوس" أن التقاء
الثقافات قد يؤدي إلى نتيجتين، فإما أن يؤدي إلى تصدّع وانهيار نموذج أحد
المجتمعات وإما أن يؤدي إلى تأليف أصيل بمعنى ولادة نموذج ثالث لا يمكن
اختزاله في النموذجين السابقين. وهذا يعني أنه ليس هناك تلاقح حضاري دون
مستفيد والمستفيد الأوّل هو ما يسميه "لفي ستراوس" بالحضارة العالمية التي
لا تمثل حضارة متميزة عن الحضارات الأخرى ومتمتعة بنفس القدر من الواقعية
وإنما هي فكرة مجردة. ومساهمة الثقافات الفعلية المختلفة لا تقتصر على
لائحة ابتكاراتها الخاصة، خاصة وأنّ البحث عن جدارة ثقافة ما باختراع أو
بآخر هو أمر لا يمكن التثبت منه، ثم إن المساهمات الثقافية يمكن توزيعها
إلى صنفين، فمن جهة لدينا مجموعة من الإضافات والمكتسبات المعزولة التي
يسهل تقييم أهميتها وهي محدودة ومن الجهة المقابلة لدينا إسهامات نسقية
ترتبط بالطريقة الخاصة التي يختارها كلّ مجتمع للتعبير أو لإشباع مجموع
طموحات إنسانية والمشكل بالنسبة لـ"لفي ستراوس" لا يتمثل في قدرة مجتمع ما
على الانتفاع من نمط عيش جيرانه ولكن، إذا ما كان هذا المجتمع قادرا و إلى
أيّ مدى يكون قادرا على فهم ومعرفة جيرانه؟ ومن هذا المنطلق فإن الحضارة
العالمية لا يمكن أن توجد إلا كفكرة، من حيث أنها: "تحالف للثقافات التي
تحتفظ كلّ واحدة منها بخصوصيتها ».
أما ما هو بصدد التحقق في إطار العولمة، فليس إلا علامة تقهقر الإنساني
والكوني. وإذا كانت الإنسانية تأبى أن تكون المستهلك العقيم للقيم التي
أنتجتها في الماضي، فإنه عليها أن تتعلم من جديد أن كلّ خلق حقيقي يتضمّن
نفيا ورفضا للقيم الأخرى، لأننا لا نستطيع أن نذوب في الآخرين وأن نكون
مختلفين في نفس الوقت والعصر الذهبي للخلق تحقق في "ظلّ شروط الحد الأدنى
من الاتصال"، لأن هذا الحدّ الأدنى من الاتصال هو ما يدفع أطراف التواصل
رغم البعد ودون أن يكون التواصل دائما وسريعا وهو الشكل الذي يضعف
الاختلاف. و"كلود لفي ستراوس" يعلم أن العودة إلى الوراء غير ممكنة، ولكن
الوجهة التي تسير فيها الإنسانية، وجهة العولمة تجعل الوضع الإنساني
مشحونا ومولدا للحقد العرقي و اللاتسامح الثقافي "فنحن الآن مهددون
باحتمال تحولنا إلى مجرّد مستهلكين قادرين على استهلاك أي شيء من أية نقطة
في العالم ومن أية ثقافة والثمن دائما فقداننا لأصالتنا بأكملها". يبدو
إذن أنّ إفراط الاتصال هو ما يهدّد الإنساني لأنه يهدّد التنوع والاختلاف
المحفّز والمولّد للإبداع المحرز للتقدم. و بالتالي فإن عدم اعتبار
الاختلاف يجعلنا نعتقد أن ما هو عادي بالنسبة إلينا هو كذلك بالنسبة لكلّ
الناس، يجعلنا نعتقد أن معاييرنا الثقافية هي معايير كونية، ويجعلنا نعتقد
أن ما هو عادي بالنسبة إلينا هو أيضا طبيعيا.
وهكذا فإن المختلف بثقافته لا يعتبر فقط غريبا بل أيضا بربريا، فالغريب هو
الآخر بالنسبة إلى الأنا، هو من ينتمي إلى ثقافة مختلفة والبربريّ هو
الغريب الذي أُموضعه في مرتبة أقلّ من الإنسان. لذلك يسمي "كلود لفي
ستراوس » مركزية إثنية Ethnocentrisme الحكم المسبق الذي لا يحكم
قيميا على ثقافة أخرى إلا انطلاقا من ثقافته الخاصة. وهذا يعني أنّ
المركزية الاثنية بالنسبة للوعي الجماعي، هي عند « كلود لفي ستراوس
» نظير الأنانية بالنسبة للوعي الفردي. لذلك يدعونا « كلود
لفي ستراوس" إلى التسامح مع الثقافات الأخرى وأن نتعلم تقبّل اختلافات
الإنسانية، ذلك ما يسميه بالنسبية الثقافية، فليس هناك ثقافة لها الحق في
النظر إلى ذاتها باعتبارها أرقى من الثقافات الأخرى، ولذلك يقول"كلود لفي
ستراوس" :" إن البربري هو ما يعتقد في وجود البربرية"، فمن وجهة النظر
الأنثروبولوجية ليس هناك سلّم مفاضلة بين الثقافات وإنما هناك تنوّع نسبي
بين الثقافات ومفهوم التفوق الثقافي ليس إلاّ وليد الحكم المسبقة الذي
تمثله المركزية الاثنية أو الميل لاعتبار ثقافتنا الخاصة نموذجا للإنسان.
حمزة سديرة-
- عدد المساهمات : 453
العمر : 36
المكان : قصر*قفصة
المهنه : طلب العلم
الهوايه : كل شيء
نقاط تحت التجربة : 12489
تاريخ التسجيل : 07/03/2008
الخصوصية و الكونية:مفهوم العولمة
العولمة
تعني العولمة في اللغة جعل الشيء عالمي. و هي
أيضاً العملية التي تقوم من خلالها المؤسسات، سواء التجارية أو غير
التجارية، بتطوير تأثير عالمي أو ببدء العمل في نطاق عالمي. ولا يجب الخلط
بين العولمة وبين "التدويل" أو "جعل الشيء دولياً". ذلك إن العولمة عملية
اقتصادية في المقام الأول، ثم سياسية، ويتبع ذلك الجوانب الاجتماعية
والثقافية وهكذا. أما جعل الشيء دولياً فقد يعني غالباً جعل الشيء مناسباً
أو مفهوماً أو في المتناول لمختلف دول العالم. ثم إن العولمة عملية تحكم
وسيطرة ووضع قوانين وروابط، مع إزاحة أسوار وحواجز محددة بين الدول وبعضها
البعض. و واضح من هذا المعنى أنها عملية لها مميزات وعيوب، في حين أن جعل
الشيء دولياً هو في الغالب مجهود إيجابي صرف، يعمل على تيسير الروابط
والسبل بين الدول المختلفة.
و هكذا فإن العولمة هي تغيراً اجتماعياً يتمثل في زيادة الترابط بين
المجتمعات وعناصرها بسبب ازدياد التبادل الثقافي، والتطور الهائل في
المواصلات والاتصالات وتقنياتهما الذي ارتبط بالتبادل الثقافي والاقتصادي
كان له دوراً أساسياً في نشأته. لذلك يستخدم مصطلح العولمة للإشارة إلى :
تكوين القرية العالمية:
أي تحول العالم إلى ما يشبه القرية لتقارب الصلات بين الأجزاء المختلفة من
العالم مع ازدياد سهولة انتقال الأفراد، و التفاهم المتبادل، والصداقة بين
"سكان الأرض".
العولمة الاقتصادية: ازدياد الحرية الاقتصادية وقوة العلاقات بين أصحاب المصالح الصناعية في بقاع الأرض المختلفة.
والعولمة تتداخل مع مفهوم التدويل ويستخدم المصطلحان للإشارة إلى الآخر
أحيانا، ولكن البعض يفضل استخدام مصطلح العولمة للإشارة إلى تلاشي الحدود
بين الدول وقلة أهميتها.
وبسبب تلك الاختلافات في المعنى، أصبحت العولمة موضوعاً خلافياً ومثيراً
للجدل في شتى أنحاء العالم و انقسم معظم الناس في العالم إلى قسمين:
قسم يشجع الفكرة ويرى فيها كل خير وإيجابية ولا يرى عيوباً على
الإطلاق أو يرى عيوباً ويقرر بصورة حاسمة أن التغلب عليها كلها يسير؛
ومعظم هذا القسم من الدول المتطورة والغنية.
وقسم يشجب ويعارض الفكرة بتعصب ولا يرى فيها إلا كل سلبية وشر وجشع وظلم؛ ومعظم هذا القسم من الدول الفقيرة والدول النامية.
و مهما كانت آراء الناس فإن العولمة هي فكرة، و كفكرة في حد ذاتها ليست
إيجابية وليست سلبية. أي أنها ببساطة فكرة، لها تعريفها الخاص، ويمكن
استخدامها في الخير أو في الشر.
و هذا يعني أن المشكلة ليس في قضية العولمة نفسها كفكرة ، بل في كيفية
تطبيقها وفي رغبات الإنسان نفسه و انفعالاته، مثل الطمع أو الجشع وما فيه
من ظلم الغير والحب الشديد للمال وحب القوة والتسلط والتحكم...لذلك يمكن
القول أن أحد الأسباب الرئيسية للخوف من العولمة اليوم هو تسلط أمريكا
كدولة عظمى في الوقت الحالي، على بقية دول العالم، وإتباع سياسات غير
عادلة و ظالمة، وعدم احترام العديد من القوانين الدولية. و قد نظن من هذا
المنظور، أن معارضة العولمة قد تكون السياسة المثلى حتى يأمن الضعيف
والفقير في العالم على نفسه وماله ودمه، من الدول الأقوى والأغنى وخاصة من
أمريكا. وهو ما يفسر المقاومة القوية التي تواجه العولمة في مختلف مناطق
العالم وخصوصا في أوروبا والدول النامية. إذ أنها قد تؤثر سلبا على
إمكانيات نمو اقتصاديات محلية في ظل غياب التوازن بين الدول المتقدمة
والفقيرة. كما يتهمها الكثيرون بأنها تذيب الثقافات المحلية و تجير العالم
في خدمة القوي، ويعتبرون أن الولايات المتحدة الأمريكية تهيمن على العالم
اقتصاديا من خلال فرض سيطرتها الاقتصادية والعسكرية باسم العولمة، وبهذا
المعنى ينتفي القول بأن "العالم تطور ليصبح قرية صغيرة"، ليصبح "العالم
تأخر ليصبح إمبراطورية كبيرة"
و في مقابل ذلك هناك الكثير ممن يدافعون عن العولمة و خاصة أمريكا،والمؤسسات العملاقة التي تؤثر في اقتصاد العالم كله،إذ تريد أن
تجبر كل دول العالم على الخضوع لقوانين العولمة. و إن قاومت بعض الدول
سياسياً، فإن الشعوب والمؤسسات والشركات لن تستطيع أن تقاوم اقتصادياً
خاصة و أن العولمة هي عملية ماضية في طريقها دون توقف بالفعل، إن لم يكن
سياسياً، على الأقل فاقتصادياً وثقافياً بطريقة مكثفة.
و تقوم العولمة على مجموعة من الآليات :
_ رسملة العالم أي تحويل
العالم إلى النظام الرأسمالي،إذ تقوم العولمة من الناحية الاقتصادية على
نشر الرأسمالية كنظام للتجارة ونظام للاستهلاك. و قد لعب الإعلام الدولي
دور كبير في فرض النظام الرأسمالي على البشرية من خلال تعزيز صورة إيجابية
للشركات المتعددة الجنسية. ولقد كانت ثورة الاتصال هي الأداة التي استخدمت
للتلاعب بالرأي العام لفرض النظام الرأسمالي على العالم. خاصة و أن
الإعلام والاتصال والمعلومات هي مكونات أساسية في الاقتصاد العالمي إذ تصل
عائدات هذا القطاع إلى 1.5 تريليون دولار وتحصل الولايات المتحدة وحدها
على 47% من العائدات العالمية لهذا القطاع. و الرسملة تسبب فقر دول العالم
النامي و ارتفاع مديونياتها حيث وصلت في نهاية التسعينيات إلى مبالغ ضخمة
وهذا يجبر دول الجنوب على تقديم تنازلات سياسية واجتماعية.
_ لبرلة العالم
و بالتالي تحرير العالم من القيود الاجتماعية والسياسية. والعلاقة المميزة
لليبرالية هي الانحياز للفرد دون تدخل الحكومات وباستقلالية عن الدولة. و
النظام الإعلامي الدولي يرى أن الليبرالية هي النظام الوحيد الصالح للحكم.
والمضمون الذي يقدمه النظام الإعلامي الدولي لا يساهم في تشكيل المواطن
الذي يستطيع أن يشارك بفاعلية في شؤون المجتمع و الدولة.
_ أمركة العلم،إذ
تتصرف أمريكا وفقا لاحتكارها للقوة العسكرية و القوة الاقتصادية و
الاعلامية لإخضاع العقول والسيطرة على الشعوب و التحكم في ثرواتها الوطنية
والقومية.
تعني العولمة في اللغة جعل الشيء عالمي. و هي
أيضاً العملية التي تقوم من خلالها المؤسسات، سواء التجارية أو غير
التجارية، بتطوير تأثير عالمي أو ببدء العمل في نطاق عالمي. ولا يجب الخلط
بين العولمة وبين "التدويل" أو "جعل الشيء دولياً". ذلك إن العولمة عملية
اقتصادية في المقام الأول، ثم سياسية، ويتبع ذلك الجوانب الاجتماعية
والثقافية وهكذا. أما جعل الشيء دولياً فقد يعني غالباً جعل الشيء مناسباً
أو مفهوماً أو في المتناول لمختلف دول العالم. ثم إن العولمة عملية تحكم
وسيطرة ووضع قوانين وروابط، مع إزاحة أسوار وحواجز محددة بين الدول وبعضها
البعض. و واضح من هذا المعنى أنها عملية لها مميزات وعيوب، في حين أن جعل
الشيء دولياً هو في الغالب مجهود إيجابي صرف، يعمل على تيسير الروابط
والسبل بين الدول المختلفة.
و هكذا فإن العولمة هي تغيراً اجتماعياً يتمثل في زيادة الترابط بين
المجتمعات وعناصرها بسبب ازدياد التبادل الثقافي، والتطور الهائل في
المواصلات والاتصالات وتقنياتهما الذي ارتبط بالتبادل الثقافي والاقتصادي
كان له دوراً أساسياً في نشأته. لذلك يستخدم مصطلح العولمة للإشارة إلى :
تكوين القرية العالمية:
أي تحول العالم إلى ما يشبه القرية لتقارب الصلات بين الأجزاء المختلفة من
العالم مع ازدياد سهولة انتقال الأفراد، و التفاهم المتبادل، والصداقة بين
"سكان الأرض".
العولمة الاقتصادية: ازدياد الحرية الاقتصادية وقوة العلاقات بين أصحاب المصالح الصناعية في بقاع الأرض المختلفة.
والعولمة تتداخل مع مفهوم التدويل ويستخدم المصطلحان للإشارة إلى الآخر
أحيانا، ولكن البعض يفضل استخدام مصطلح العولمة للإشارة إلى تلاشي الحدود
بين الدول وقلة أهميتها.
وبسبب تلك الاختلافات في المعنى، أصبحت العولمة موضوعاً خلافياً ومثيراً
للجدل في شتى أنحاء العالم و انقسم معظم الناس في العالم إلى قسمين:
قسم يشجع الفكرة ويرى فيها كل خير وإيجابية ولا يرى عيوباً على
الإطلاق أو يرى عيوباً ويقرر بصورة حاسمة أن التغلب عليها كلها يسير؛
ومعظم هذا القسم من الدول المتطورة والغنية.
وقسم يشجب ويعارض الفكرة بتعصب ولا يرى فيها إلا كل سلبية وشر وجشع وظلم؛ ومعظم هذا القسم من الدول الفقيرة والدول النامية.
و مهما كانت آراء الناس فإن العولمة هي فكرة، و كفكرة في حد ذاتها ليست
إيجابية وليست سلبية. أي أنها ببساطة فكرة، لها تعريفها الخاص، ويمكن
استخدامها في الخير أو في الشر.
و هذا يعني أن المشكلة ليس في قضية العولمة نفسها كفكرة ، بل في كيفية
تطبيقها وفي رغبات الإنسان نفسه و انفعالاته، مثل الطمع أو الجشع وما فيه
من ظلم الغير والحب الشديد للمال وحب القوة والتسلط والتحكم...لذلك يمكن
القول أن أحد الأسباب الرئيسية للخوف من العولمة اليوم هو تسلط أمريكا
كدولة عظمى في الوقت الحالي، على بقية دول العالم، وإتباع سياسات غير
عادلة و ظالمة، وعدم احترام العديد من القوانين الدولية. و قد نظن من هذا
المنظور، أن معارضة العولمة قد تكون السياسة المثلى حتى يأمن الضعيف
والفقير في العالم على نفسه وماله ودمه، من الدول الأقوى والأغنى وخاصة من
أمريكا. وهو ما يفسر المقاومة القوية التي تواجه العولمة في مختلف مناطق
العالم وخصوصا في أوروبا والدول النامية. إذ أنها قد تؤثر سلبا على
إمكانيات نمو اقتصاديات محلية في ظل غياب التوازن بين الدول المتقدمة
والفقيرة. كما يتهمها الكثيرون بأنها تذيب الثقافات المحلية و تجير العالم
في خدمة القوي، ويعتبرون أن الولايات المتحدة الأمريكية تهيمن على العالم
اقتصاديا من خلال فرض سيطرتها الاقتصادية والعسكرية باسم العولمة، وبهذا
المعنى ينتفي القول بأن "العالم تطور ليصبح قرية صغيرة"، ليصبح "العالم
تأخر ليصبح إمبراطورية كبيرة"
و في مقابل ذلك هناك الكثير ممن يدافعون عن العولمة و خاصة أمريكا،والمؤسسات العملاقة التي تؤثر في اقتصاد العالم كله،إذ تريد أن
تجبر كل دول العالم على الخضوع لقوانين العولمة. و إن قاومت بعض الدول
سياسياً، فإن الشعوب والمؤسسات والشركات لن تستطيع أن تقاوم اقتصادياً
خاصة و أن العولمة هي عملية ماضية في طريقها دون توقف بالفعل، إن لم يكن
سياسياً، على الأقل فاقتصادياً وثقافياً بطريقة مكثفة.
و تقوم العولمة على مجموعة من الآليات :
_ رسملة العالم أي تحويل
العالم إلى النظام الرأسمالي،إذ تقوم العولمة من الناحية الاقتصادية على
نشر الرأسمالية كنظام للتجارة ونظام للاستهلاك. و قد لعب الإعلام الدولي
دور كبير في فرض النظام الرأسمالي على البشرية من خلال تعزيز صورة إيجابية
للشركات المتعددة الجنسية. ولقد كانت ثورة الاتصال هي الأداة التي استخدمت
للتلاعب بالرأي العام لفرض النظام الرأسمالي على العالم. خاصة و أن
الإعلام والاتصال والمعلومات هي مكونات أساسية في الاقتصاد العالمي إذ تصل
عائدات هذا القطاع إلى 1.5 تريليون دولار وتحصل الولايات المتحدة وحدها
على 47% من العائدات العالمية لهذا القطاع. و الرسملة تسبب فقر دول العالم
النامي و ارتفاع مديونياتها حيث وصلت في نهاية التسعينيات إلى مبالغ ضخمة
وهذا يجبر دول الجنوب على تقديم تنازلات سياسية واجتماعية.
_ لبرلة العالم
و بالتالي تحرير العالم من القيود الاجتماعية والسياسية. والعلاقة المميزة
لليبرالية هي الانحياز للفرد دون تدخل الحكومات وباستقلالية عن الدولة. و
النظام الإعلامي الدولي يرى أن الليبرالية هي النظام الوحيد الصالح للحكم.
والمضمون الذي يقدمه النظام الإعلامي الدولي لا يساهم في تشكيل المواطن
الذي يستطيع أن يشارك بفاعلية في شؤون المجتمع و الدولة.
_ أمركة العلم،إذ
تتصرف أمريكا وفقا لاحتكارها للقوة العسكرية و القوة الاقتصادية و
الاعلامية لإخضاع العقول والسيطرة على الشعوب و التحكم في ثرواتها الوطنية
والقومية.
حمزة سديرة-
- عدد المساهمات : 453
العمر : 36
المكان : قصر*قفصة
المهنه : طلب العلم
الهوايه : كل شيء
نقاط تحت التجربة : 12489
تاريخ التسجيل : 07/03/2008
فلسفة: التفكير العلمي
انّ الدراسات
الفلسفيّة متوفّرة والحمد لله وحده-وهذا راجع لجهود أنصارالمعارف-ولكن
دائما ينبغي علينا تطويعها لما يتناغم مع الأهداف العامّة البيداغوجيّة
التّربويّة المرسومة اليكم الأهداف الفلسفيّة لتلاميذ البكالوريا نظام
جديد:
II- العلم بين الحقيقة والنّمذجة :
1- أبعاد النّمذجة
أ - البعد التّركيبي
الأكسمة – البنية – التّرييض – الصّورنة
ب – البعد الدّلالي
الافتراضي – القانون - الملائم - النّظريّة - الواقعي.
ج – البعد التّداولي
التّفسير – التّحقيق – الفهم – النّجاعة.
2- النّمذجة ومطلب الحقيقة
أ- الحدود الابستيمولوجيّة
الاختزاليّة – التّاريخيّة – الأنظمة التّقنيّة.
ب – الحدود الفلسفيّة
الحقيقة – المسؤوليّة – المعنى.
تتمحور هذه المسألة حول النّمذجة العلميّة باعتبارها التّمشّي المشترك بين
مختلف الحقول العلميّة والمميّز لها عن أشكال الخطاب الأخرى، وتتعلّق
بمنزلة النّموذج العلميّ المزدوجة بين انشداده إلى مرجع خارجي عنه وسعيه
إلى بناء واقع مستحدث، أي بين ضرورة تلزم النّموذج، ومواضعة موسومة
بالتّعدّد والنّسبية.
ذلك ما يبرّر تفصيل القول في النّمذجة العلميّة على جهات ثلاث (تركيبيّة
ودلاليّة وتداوليّة) تتصادى مع توتّرات ايبستمولوجيّة ثلاثة :
- توتّر بين تمثيل الظّواهر باللّغة الطّبيعيّة وتمثيلها بواسطة أنظمة رمزيّة اصطناعيّة.
- توتّر بين معطيات التّجربة العيانيّة ومقتضيات الإنشاءات التّجريديّة.
- توتّر بين معرفة نظريّة مطلوبة لذاتها وإرادة نجاعة التّحكّم في الظّواهر.
إنّ مقاربة الممارسة العلميّة بواسطة النّمذجة تتيح لنا قراءة نقديّة
للإنتاج المعرفيّ العلميّ تمكّن من تجاوز تشتّت حقوله، ومن تقصّي حدوده
الايبستيمولوجيّة والفلسفيّة.
----------------------------------*****----------------------------------------الفلسفيّة متوفّرة والحمد لله وحده-وهذا راجع لجهود أنصارالمعارف-ولكن
دائما ينبغي علينا تطويعها لما يتناغم مع الأهداف العامّة البيداغوجيّة
التّربويّة المرسومة اليكم الأهداف الفلسفيّة لتلاميذ البكالوريا نظام
جديد:
II- العلم بين الحقيقة والنّمذجة :
1- أبعاد النّمذجة
أ - البعد التّركيبي
الأكسمة – البنية – التّرييض – الصّورنة
ب – البعد الدّلالي
الافتراضي – القانون - الملائم - النّظريّة - الواقعي.
ج – البعد التّداولي
التّفسير – التّحقيق – الفهم – النّجاعة.
2- النّمذجة ومطلب الحقيقة
أ- الحدود الابستيمولوجيّة
الاختزاليّة – التّاريخيّة – الأنظمة التّقنيّة.
ب – الحدود الفلسفيّة
الحقيقة – المسؤوليّة – المعنى.
تتمحور هذه المسألة حول النّمذجة العلميّة باعتبارها التّمشّي المشترك بين
مختلف الحقول العلميّة والمميّز لها عن أشكال الخطاب الأخرى، وتتعلّق
بمنزلة النّموذج العلميّ المزدوجة بين انشداده إلى مرجع خارجي عنه وسعيه
إلى بناء واقع مستحدث، أي بين ضرورة تلزم النّموذج، ومواضعة موسومة
بالتّعدّد والنّسبية.
ذلك ما يبرّر تفصيل القول في النّمذجة العلميّة على جهات ثلاث (تركيبيّة
ودلاليّة وتداوليّة) تتصادى مع توتّرات ايبستمولوجيّة ثلاثة :
- توتّر بين تمثيل الظّواهر باللّغة الطّبيعيّة وتمثيلها بواسطة أنظمة رمزيّة اصطناعيّة.
- توتّر بين معطيات التّجربة العيانيّة ومقتضيات الإنشاءات التّجريديّة.
- توتّر بين معرفة نظريّة مطلوبة لذاتها وإرادة نجاعة التّحكّم في الظّواهر.
إنّ مقاربة الممارسة العلميّة بواسطة النّمذجة تتيح لنا قراءة نقديّة
للإنتاج المعرفيّ العلميّ تمكّن من تجاوز تشتّت حقوله، ومن تقصّي حدوده
الايبستيمولوجيّة والفلسفيّة.
الدّراسة بعنوان :التفكير العلمي(منقول قصد تحقيق الفائدة)
[size=16][size=12][size=16][size=12]"إن ظاهرة المعرفة البشرية، لهي بدون شك، المعجزة الرئيسية في الكون، فهي تطرح إشكالا لن نجد له حلا عما قريب"
كارل بوبر
مقدمة: ينخرط الإنسان العادي في واقعه بوصفه المجال الحيوي،الذي يعيش فيه
وطبقا لعلاقته بهذه الواقع تتكون له معارف شتى حول ظواهره، هذه الظواهر من
ناحية أخرى هي موضوع لمعرفة علمية، بناء على ذلك قد يأخذنا الظن أن
المعرفة العامية بداية تلقائية للمعرفة العلمية، من باب أن المعرفة هي
امتلاك معلومات حول موضوع ما، لكن النظرة الفاحصة قد تكشف عن فروق جوهرية
بين المعرفتين تدفعنا إلى طرح السؤال التالي: ما الذي يميز المعرفة
العلمية عن المعرفة العامية؟
1/ المعرفة العلمية عميقة: أهم ميزة للمعرفة العلمية، أنها عميقة، لا
يكتفي فيها العالم بالواقع العفوي كما يبدو في الشعور المباشر، بل يبني
الوقائع ويجعلها قابلة للدراسة العلمية، تكتسب المعرفة العلمية عمقها من
كونها مقصودة ومبينة عكس المعرفة العامية التي تعد عفوية تلقائية تأتي
استجابة للواقع المباشر، وكون المعرفة العلمية عميقة مبنية، منظمة فهي
تخالف وتناقض المعرفة العامية، التي تنقل لنا الأرض بوصفها مستوية، ساكنة.
2/ امعرفة العلمية موضوعية: يقصد بالموضعية تناول الظواهر كما هي في
الواقع بعيدا عن أي اعتبار ذاتي سواء كان ميلا أو رغبة أو هوى في النفس أو
كان إسقاطا لاعتقاد أو تخمين مسبق أو ثقافية شخصية، معنى ذلك أن المعرفة
العلمية لم تعد علمية إلا أنها موضوعية ،يتخلص فيها العالم من كل الأحكام
المسبقة خلافا للمعرفة العامية التي تتميز أساسا بأنها ذاتية نفعية تترجم
ميولنا واهتماماتنا، فالتصنيف الذي ينظر إلى الكائنات الحيوانية من جهة
أنها نافعة أو ضارة يترجم تماما هذه النظرة الذاتية بينما التصنيف العلمي
يقوم على صفات موضوعية كشكل الجسم.
3/ المعرفة العلمية كمية: لم تكتسب المعرفة العلمية طابعها العلمي، إلا
حينما اعتمدت على التكميم، وعليه يقال "أن تقدم العلم هو تقدم القياس" لقد
مر بنا كيف أن ترتيب العلوم من حيث الدقة يخضع لمدى اعتمادها على
الرياضيات، بينما المعرفة العامية، معرفة كيفية يقنع فيها الرجل العادي
بالوصف الكيفي، فالماء كيف على لسان شاربه أو كيف عند لامسه.
4/ المعرفة العلمية كلية: أهم ميزة للمعرفة العلمية هي كونها تصاغ في شكل
قوانين عامة، فالقول أن الماء سائل يتركب من ذرتين من الهيدروجين وذرة
واحدة من الاكسجين لا يقتصر على العينة التي كانت موضع دراسة وتحليل بل
تشمل كل المياه، في الماضي والحاضر والمستقبل، بينما المعرفة العامية
أشتات من الخبرات لا رابط بينها، وهذا يعود أصلا لأنها نفعية فمعرفة
الفلاح لسقوط المطر مرتبطة بوصفه خيرا عميما وهو ليس نفس الحكم في موقع
آخر كوقت جني بعض المحاصيل...الخ.
نتيجة: من التمييز السابق نصل إلى أن المعرفة العلمية ضرب من التفكير
يتناول ظواهر الواقع وفق منهج صارم ودقيق يهدف إلى كشف القوانين الدقيقة
والموضوعية والكلية التي تحكم الظواهر.
مشكلة نشأة وتطور المعرفة العلمية
أ. ضبط المشكلة: تكشف الخصائص السابقة أن المعرفة العلمية معرفة متميزة
تختلف عن المعرفة العامية، فهل يعني ذلك أن المعرفة العلمية منفصلة في
نشأتها وتطورها عن المعرفة العامية أم تتصل بها رغم من بينهما من تفاوت
وتباين؟ بصيغة أوضح ما حقيقة تطور المعرفة العلمية؟ هل تطورت متصلة
بالمعرفة العامية أم منفصلة عنها؟
ب. التحليل:
1. النظرية الاتصالية [التراكمية]: يعتقد الكثير من مؤرخي العلم أن
المعرفة العلمية لم تنشأ من عدم، بل كانت حصيلة لتاريخ كبير من التطور
كانت بموجبه المعرفة العلمية ذات يوم مجرد معرفة عامية وخبرات شخصية
ذاتية، نقرأ مثل هذه الفكرة عند جيمس فريزر الذي يعتقد "أن العلم نشأ في
أحضان السحر" فالكيمياء التي أسس لها لا فوازية حصيلة لجهود الأوائل من
المشعوذين والفلك الحديث نتيجة للتنجيم، وهكذا.
إن أصحاب هذه النظرية يقرأون تاريخ العلم، كما لو كان تاريخيا خطيا متصلا،
فهو سلسلة متصلة الحلقات وما المعرفة العلمية سوى حلقة من هذه الحلقات لقد
دأب أوجست كونت على القول أن المعرفة البشرية مرت بثلاث مراحل متصلة
أولاها مرحلة التفكير اللاهوتي وثانيتها مرحلة التفكير الميتافيزيقي
وثالثتهامرحلة التفكير الوضعي التي نشأ العلم في أحضانها إن أصحاب هذا
الاتجاه يذهبون إلى أبعد حينما لا يرون فرقا جوهريا بين المعرفة العلمية
والمعرفة العامية إذ يقول ماكس بلانك: "لا فرق في الطبيعة بين الاستدلال
العلمي والاستدلال العادي اليومي، وإنما الفرق بينهما في درجة النقاء
والدقة وهذا شبيه شيئا ما، بالاختلاف بين المجهر والعين المجردة".
نفهم من موقف هذه النظرية أن العلم امتدادا للمعرفة العامية سواء استقرأنا التاريخ أو نظرنا إليهما في بنيتها.
النقد: يصدق هذا الموقف ويبدو أكثر تماسكا إذ نظرنا إلى العلم من الخارج
أي إذا اكتفينا بالتأريخ له بغض النظر عن بنيته وتركيبه الداخلية، فلو
تسلحنا بنظرة نقدية إلى المعرفة العلمية لظهر لنا أن النظرية العلمية
تمتلك بنية متميزة أساسا فما بالك لو وضعنا المعرفة العلمية إزاء المعرفة
العامية.
2. النظرية الانفصالية [نظرية القطيعة الإبستمولوجية*]:
في المقابل للنظرية السابقة، تتجه نظرية القطيعة إلى تأكيد الانفصال
المطلق بين المعرفة العلمية والمعرفة العامية لسبب وجيه أن بنية المعرفة
العلمية تختلف جوهريا عن بنية المعرفة العامية ، فمن أين لها بالصلة بها
إذا كانتا من طبيعتين مختلفتين يقول باشلار: "لا بد لنا أن نقبل القطيعة
بين المعرفة الحسية والمعرفة العلمية... إن النزوعات العادية للمعرفة وهي
تستمد حوافزها من النزعة النفعية والنزعة الواقعية المباشرتين... إلا
خاطئتين"
إن سيطرة النزعة النقدية الإبستمولوجية امتد إلى علاقة العلم بالعلم إذ
يؤكد إدجار موران (e/morin) بالقول: "إن تاريخ المعرفة العلمية ليس فقط
تاريخ تراكم وتوسع، وأنه أيضا تاريخ التحولات والقطائع..." فإذا كان ظهور
فيزياء انشتاين ثورة في علم الفيزياء فلأنها تختلف من حيث المبدأ عن
فيزياء نيوتن فإذا كان هذا حال العلم مع العلم فالأولى أن تكون القطيعة
بين العلم والمعرفة العامية إن المعرفة العامية بخصائصها (ذاتية، كيفية،
معطاة) تشكل عائقا أمام المعرفة العلمية ينبغي لها أن تبدأ بإزاحتها
وهدمها.
نقد: كان للنظرة الإبستمولوجية أثرا كبيرا في التحول إلى النظر إلى العلم
من كونه كاشفا واضحا، موضحا؛ إلى معرفة قابلة للنقد والمحاكمة في مبادئها
وفروضها وفي نتائجها ومع ذلك فمنطق التطور يقتضي شكلا من الاتصال في
المعارف على أن الاتصال لا يعني بالضرورة تحول المعرفة العامية إلى معرفة
علمية بل يمكن أن يكون الاتصال بإعادة النظر.
نتيجة: مما سبق نستنتج أن موقفنا من إشكالية تطور العلم يختلف باختلاف
الزاوية التي ننظر منها إلى العلم فإذا كنا ننظر إليه من الخارج بوصفنا
مؤرخين فالأقرب أنه امتداد لمعارف سابقة عليه أما إذا التزمنا النظرة
الابستمولوجية فالأقرب أن للمعرفة العلمية بنية خاصة متميزة في المبدأ
والمنهج والنتائج.
خصائص الروح العلمية:
لكل مجال معرفي مواصفات وخصائص يختلف بها عن مجال آخر، فالمعرفة العلمية
تفكير متميز في موضوعه ومناهجه ونتائجه، وهذا يعني أن الباحث في هذا الحقل
أو ذاك لا يكون بارعا في ميدان بحثه وذاك ما نسميه بالضبط الروح العلمية
في ميدان العلم والروح الفلسفية في ميدان الفلسفة والروح الفنية في ميدان
الفن والسؤال المطروح هو ما هي خصائص الروح العلمية؟ ما هي الصفات التي
تجعل العالم عالما؟.
يمكن تصنيف خصال وخصائص الروح العلمية إلى ثلاثة أصناف متكاملة:
أ. خصائص وصفات أخلاقية: يتميز العالم الحق بجملة من الصفات الأخلاقية،
ضرورية في البحث العلمي، تزرع فيه القابلية للبحث بروح عالية لذكر منها
التواضع للبحث العلمي والعلماء فمهما كانت قدرات الباحث وإمكانياته فهو
يشعر بأنه مازال في بداية الطريق ويلزمه بذل جهد أكبر لتحقيق الأفضل كما
أن الصبر ضروري في البحث العلمي لأنه ببساطة شاق وعسير ويقتضي تضحيات جسام
بالنفس والمال والجهد زيادة على ما فيه من مخاطرة ومغامرة لا يقوى عليها
والأمانة من المفروض أن يتحلى العالم بدرجة عالية من الصدق أثناء البحث،
فلا يغش ولا يصمت على خطأ يتعلق بالعلم وهو لا ينبغي شيئا غير العلم.
ب. خصائص وصفات نفسية انفعالية: ونحصرها أساسا في الميل والرغبة، التي
تسكن الباحث وتدفعه إلى مواصلة العمل يقول ريني بورال: "فما هو مصدر هذه
القدرة على الانتباه؟ غنه الاهتمام الذي يحرك الباحث ومم يستمد المبدع
بالفعل هذه الطاقة الضرورية إن لم يستمدها من حياته العاطفية؟".
ج. خصائص وصفات عقلية: إذا كانت الخصائص السابقة مشتركة بين المبدعين فإن
العالم يتميز على وجه الدقة بجملة من الخصال العقلية نذكر من هذه الصفات
أهمها كالموضوعية ونعني بذلك أن العالم بطبعه ميال إلى النزاهة ورؤية
الواقع كما هو، فهو حيادي يفضل بين أهوائه وميوله ومعتقداته وبين موضوع
بحثه زيادة على الروح الوضعية ومعناه أن العالم يميل إلى ربط الظواهر
بأسبابها الواقعية ويرفض تلقائيا أي تبرير ميتافيزيقي أو غيبي للظواهر ذلك
أن الظواهر ترتبط بأسباب واقعية وموضوعية قابلة للتجسيد، كما ينبغي للعالم
أن يتحلى بروح الدقة فهو ميال إلى التعبير الكمي الدقيق ويرفض الوصف
الكيفي، العام للظواهر وزيادة على ذلك الروح الحتمية والروح النسبية في آن
واحد، فالروح الحتمية تعني أن الظواهر ترتبط بأسبابها بشكل ضروري ومتى
توفرت نفس الأسباب أدت إلى نفس النتائج أما الروح النسبية فتعني أن نتائج
العلم مهما كانت يقينية فإنها نسبية قابلة للتغير والتطور[/size][/size][/size][/size]
[size=16]. [/size]كارل بوبر
مقدمة: ينخرط الإنسان العادي في واقعه بوصفه المجال الحيوي،الذي يعيش فيه
وطبقا لعلاقته بهذه الواقع تتكون له معارف شتى حول ظواهره، هذه الظواهر من
ناحية أخرى هي موضوع لمعرفة علمية، بناء على ذلك قد يأخذنا الظن أن
المعرفة العامية بداية تلقائية للمعرفة العلمية، من باب أن المعرفة هي
امتلاك معلومات حول موضوع ما، لكن النظرة الفاحصة قد تكشف عن فروق جوهرية
بين المعرفتين تدفعنا إلى طرح السؤال التالي: ما الذي يميز المعرفة
العلمية عن المعرفة العامية؟
1/ المعرفة العلمية عميقة: أهم ميزة للمعرفة العلمية، أنها عميقة، لا
يكتفي فيها العالم بالواقع العفوي كما يبدو في الشعور المباشر، بل يبني
الوقائع ويجعلها قابلة للدراسة العلمية، تكتسب المعرفة العلمية عمقها من
كونها مقصودة ومبينة عكس المعرفة العامية التي تعد عفوية تلقائية تأتي
استجابة للواقع المباشر، وكون المعرفة العلمية عميقة مبنية، منظمة فهي
تخالف وتناقض المعرفة العامية، التي تنقل لنا الأرض بوصفها مستوية، ساكنة.
2/ امعرفة العلمية موضوعية: يقصد بالموضعية تناول الظواهر كما هي في
الواقع بعيدا عن أي اعتبار ذاتي سواء كان ميلا أو رغبة أو هوى في النفس أو
كان إسقاطا لاعتقاد أو تخمين مسبق أو ثقافية شخصية، معنى ذلك أن المعرفة
العلمية لم تعد علمية إلا أنها موضوعية ،يتخلص فيها العالم من كل الأحكام
المسبقة خلافا للمعرفة العامية التي تتميز أساسا بأنها ذاتية نفعية تترجم
ميولنا واهتماماتنا، فالتصنيف الذي ينظر إلى الكائنات الحيوانية من جهة
أنها نافعة أو ضارة يترجم تماما هذه النظرة الذاتية بينما التصنيف العلمي
يقوم على صفات موضوعية كشكل الجسم.
3/ المعرفة العلمية كمية: لم تكتسب المعرفة العلمية طابعها العلمي، إلا
حينما اعتمدت على التكميم، وعليه يقال "أن تقدم العلم هو تقدم القياس" لقد
مر بنا كيف أن ترتيب العلوم من حيث الدقة يخضع لمدى اعتمادها على
الرياضيات، بينما المعرفة العامية، معرفة كيفية يقنع فيها الرجل العادي
بالوصف الكيفي، فالماء كيف على لسان شاربه أو كيف عند لامسه.
4/ المعرفة العلمية كلية: أهم ميزة للمعرفة العلمية هي كونها تصاغ في شكل
قوانين عامة، فالقول أن الماء سائل يتركب من ذرتين من الهيدروجين وذرة
واحدة من الاكسجين لا يقتصر على العينة التي كانت موضع دراسة وتحليل بل
تشمل كل المياه، في الماضي والحاضر والمستقبل، بينما المعرفة العامية
أشتات من الخبرات لا رابط بينها، وهذا يعود أصلا لأنها نفعية فمعرفة
الفلاح لسقوط المطر مرتبطة بوصفه خيرا عميما وهو ليس نفس الحكم في موقع
آخر كوقت جني بعض المحاصيل...الخ.
نتيجة: من التمييز السابق نصل إلى أن المعرفة العلمية ضرب من التفكير
يتناول ظواهر الواقع وفق منهج صارم ودقيق يهدف إلى كشف القوانين الدقيقة
والموضوعية والكلية التي تحكم الظواهر.
مشكلة نشأة وتطور المعرفة العلمية
أ. ضبط المشكلة: تكشف الخصائص السابقة أن المعرفة العلمية معرفة متميزة
تختلف عن المعرفة العامية، فهل يعني ذلك أن المعرفة العلمية منفصلة في
نشأتها وتطورها عن المعرفة العامية أم تتصل بها رغم من بينهما من تفاوت
وتباين؟ بصيغة أوضح ما حقيقة تطور المعرفة العلمية؟ هل تطورت متصلة
بالمعرفة العامية أم منفصلة عنها؟
ب. التحليل:
1. النظرية الاتصالية [التراكمية]: يعتقد الكثير من مؤرخي العلم أن
المعرفة العلمية لم تنشأ من عدم، بل كانت حصيلة لتاريخ كبير من التطور
كانت بموجبه المعرفة العلمية ذات يوم مجرد معرفة عامية وخبرات شخصية
ذاتية، نقرأ مثل هذه الفكرة عند جيمس فريزر الذي يعتقد "أن العلم نشأ في
أحضان السحر" فالكيمياء التي أسس لها لا فوازية حصيلة لجهود الأوائل من
المشعوذين والفلك الحديث نتيجة للتنجيم، وهكذا.
إن أصحاب هذه النظرية يقرأون تاريخ العلم، كما لو كان تاريخيا خطيا متصلا،
فهو سلسلة متصلة الحلقات وما المعرفة العلمية سوى حلقة من هذه الحلقات لقد
دأب أوجست كونت على القول أن المعرفة البشرية مرت بثلاث مراحل متصلة
أولاها مرحلة التفكير اللاهوتي وثانيتها مرحلة التفكير الميتافيزيقي
وثالثتهامرحلة التفكير الوضعي التي نشأ العلم في أحضانها إن أصحاب هذا
الاتجاه يذهبون إلى أبعد حينما لا يرون فرقا جوهريا بين المعرفة العلمية
والمعرفة العامية إذ يقول ماكس بلانك: "لا فرق في الطبيعة بين الاستدلال
العلمي والاستدلال العادي اليومي، وإنما الفرق بينهما في درجة النقاء
والدقة وهذا شبيه شيئا ما، بالاختلاف بين المجهر والعين المجردة".
نفهم من موقف هذه النظرية أن العلم امتدادا للمعرفة العامية سواء استقرأنا التاريخ أو نظرنا إليهما في بنيتها.
النقد: يصدق هذا الموقف ويبدو أكثر تماسكا إذ نظرنا إلى العلم من الخارج
أي إذا اكتفينا بالتأريخ له بغض النظر عن بنيته وتركيبه الداخلية، فلو
تسلحنا بنظرة نقدية إلى المعرفة العلمية لظهر لنا أن النظرية العلمية
تمتلك بنية متميزة أساسا فما بالك لو وضعنا المعرفة العلمية إزاء المعرفة
العامية.
2. النظرية الانفصالية [نظرية القطيعة الإبستمولوجية*]:
في المقابل للنظرية السابقة، تتجه نظرية القطيعة إلى تأكيد الانفصال
المطلق بين المعرفة العلمية والمعرفة العامية لسبب وجيه أن بنية المعرفة
العلمية تختلف جوهريا عن بنية المعرفة العامية ، فمن أين لها بالصلة بها
إذا كانتا من طبيعتين مختلفتين يقول باشلار: "لا بد لنا أن نقبل القطيعة
بين المعرفة الحسية والمعرفة العلمية... إن النزوعات العادية للمعرفة وهي
تستمد حوافزها من النزعة النفعية والنزعة الواقعية المباشرتين... إلا
خاطئتين"
إن سيطرة النزعة النقدية الإبستمولوجية امتد إلى علاقة العلم بالعلم إذ
يؤكد إدجار موران (e/morin) بالقول: "إن تاريخ المعرفة العلمية ليس فقط
تاريخ تراكم وتوسع، وأنه أيضا تاريخ التحولات والقطائع..." فإذا كان ظهور
فيزياء انشتاين ثورة في علم الفيزياء فلأنها تختلف من حيث المبدأ عن
فيزياء نيوتن فإذا كان هذا حال العلم مع العلم فالأولى أن تكون القطيعة
بين العلم والمعرفة العامية إن المعرفة العامية بخصائصها (ذاتية، كيفية،
معطاة) تشكل عائقا أمام المعرفة العلمية ينبغي لها أن تبدأ بإزاحتها
وهدمها.
نقد: كان للنظرة الإبستمولوجية أثرا كبيرا في التحول إلى النظر إلى العلم
من كونه كاشفا واضحا، موضحا؛ إلى معرفة قابلة للنقد والمحاكمة في مبادئها
وفروضها وفي نتائجها ومع ذلك فمنطق التطور يقتضي شكلا من الاتصال في
المعارف على أن الاتصال لا يعني بالضرورة تحول المعرفة العامية إلى معرفة
علمية بل يمكن أن يكون الاتصال بإعادة النظر.
نتيجة: مما سبق نستنتج أن موقفنا من إشكالية تطور العلم يختلف باختلاف
الزاوية التي ننظر منها إلى العلم فإذا كنا ننظر إليه من الخارج بوصفنا
مؤرخين فالأقرب أنه امتداد لمعارف سابقة عليه أما إذا التزمنا النظرة
الابستمولوجية فالأقرب أن للمعرفة العلمية بنية خاصة متميزة في المبدأ
والمنهج والنتائج.
خصائص الروح العلمية:
لكل مجال معرفي مواصفات وخصائص يختلف بها عن مجال آخر، فالمعرفة العلمية
تفكير متميز في موضوعه ومناهجه ونتائجه، وهذا يعني أن الباحث في هذا الحقل
أو ذاك لا يكون بارعا في ميدان بحثه وذاك ما نسميه بالضبط الروح العلمية
في ميدان العلم والروح الفلسفية في ميدان الفلسفة والروح الفنية في ميدان
الفن والسؤال المطروح هو ما هي خصائص الروح العلمية؟ ما هي الصفات التي
تجعل العالم عالما؟.
يمكن تصنيف خصال وخصائص الروح العلمية إلى ثلاثة أصناف متكاملة:
أ. خصائص وصفات أخلاقية: يتميز العالم الحق بجملة من الصفات الأخلاقية،
ضرورية في البحث العلمي، تزرع فيه القابلية للبحث بروح عالية لذكر منها
التواضع للبحث العلمي والعلماء فمهما كانت قدرات الباحث وإمكانياته فهو
يشعر بأنه مازال في بداية الطريق ويلزمه بذل جهد أكبر لتحقيق الأفضل كما
أن الصبر ضروري في البحث العلمي لأنه ببساطة شاق وعسير ويقتضي تضحيات جسام
بالنفس والمال والجهد زيادة على ما فيه من مخاطرة ومغامرة لا يقوى عليها
والأمانة من المفروض أن يتحلى العالم بدرجة عالية من الصدق أثناء البحث،
فلا يغش ولا يصمت على خطأ يتعلق بالعلم وهو لا ينبغي شيئا غير العلم.
ب. خصائص وصفات نفسية انفعالية: ونحصرها أساسا في الميل والرغبة، التي
تسكن الباحث وتدفعه إلى مواصلة العمل يقول ريني بورال: "فما هو مصدر هذه
القدرة على الانتباه؟ غنه الاهتمام الذي يحرك الباحث ومم يستمد المبدع
بالفعل هذه الطاقة الضرورية إن لم يستمدها من حياته العاطفية؟".
ج. خصائص وصفات عقلية: إذا كانت الخصائص السابقة مشتركة بين المبدعين فإن
العالم يتميز على وجه الدقة بجملة من الخصال العقلية نذكر من هذه الصفات
أهمها كالموضوعية ونعني بذلك أن العالم بطبعه ميال إلى النزاهة ورؤية
الواقع كما هو، فهو حيادي يفضل بين أهوائه وميوله ومعتقداته وبين موضوع
بحثه زيادة على الروح الوضعية ومعناه أن العالم يميل إلى ربط الظواهر
بأسبابها الواقعية ويرفض تلقائيا أي تبرير ميتافيزيقي أو غيبي للظواهر ذلك
أن الظواهر ترتبط بأسباب واقعية وموضوعية قابلة للتجسيد، كما ينبغي للعالم
أن يتحلى بروح الدقة فهو ميال إلى التعبير الكمي الدقيق ويرفض الوصف
الكيفي، العام للظواهر وزيادة على ذلك الروح الحتمية والروح النسبية في آن
واحد، فالروح الحتمية تعني أن الظواهر ترتبط بأسبابها بشكل ضروري ومتى
توفرت نفس الأسباب أدت إلى نفس النتائج أما الروح النسبية فتعني أن نتائج
العلم مهما كانت يقينية فإنها نسبية قابلة للتغير والتطور[/size][/size][/size][/size]
حمزة سديرة-
- عدد المساهمات : 453
العمر : 36
المكان : قصر*قفصة
المهنه : طلب العلم
الهوايه : كل شيء
نقاط تحت التجربة : 12489
تاريخ التسجيل : 07/03/2008
وعي الهزيمة .. قراءة في اعمال سعد الله ونوس المسرحية
وعي الهزيمة .. قراءة في اعمال سعد الله ونوس المسرحية
[right]:*-*
ماذا تعني الكتابة عن مؤلف مات بعد أن ترك مجموعة من الكتب تتفاوت أهميتها
بين كتاب وكتاب، أو بين قارئ وقارئ؟ هل يعني ذلك أن سعد الله لم يزل لديه
ما يقوله؟ أم يعني ذلك أن كاتباً مسرحياً آخر لم يلفت الانتباه بعد فيمكن
الحديث عنه ويؤجل سعد الله الي وقت مستقطع بين الأوقات الفاعلة في مسيرة
الابداع العربي؟
أسئلة كثيرة ومكررة، وقد لا تلقي أجوبة حاسمة طالما أن الواقع العربي
وتجلياته السياسية والاجتماعية والثقافية، هو علي هذا الفوات الحضاري الذي
يدمي العين والأذن واللسان، لا ديمقراطية، لا مستوي معيشيا مقبولا، لا وعي
بما جري أو يجري، أو الي أين يمكن الوصول؟ هي أسئلة سعد الله ونوس علي أية
حال، واستعادتها هي تأكيد آخر علي فشل أجوبته، أو بالأحري علي هزيمة
الكتابة في مجتمع لا يقرأ، لأنه ببساطة لا يريد أن يعرف، لأنه ببساطة وجد
أن أيّاً من جاهر بمعرفته وأراد أن يساهم بها في حراك أمته، لترقي الي
مستوي امكانياتها، مات بالسوط أو بغيره.
استعادة الموت، نبش القبور، الدخول الي السجون، تلقي الصفعات والركلات
والهزائم، الاصغاء الي النحيب والآلام، الي المؤامرات والدسائس، الخيبة
والندم تحديداً، هو كل ما يمكن أن يجنيه المرء من قراءة ثانية وثالثة
ورابعة... أولي وأخيرة لأدب سعد الله، أقول أدباً وأقصد ذلك، فقط ليمكن
الحديث ويتشعب ويمتد امتداد حكايات هذا الواقع ووقائعه التي يستعيدها علي
شكل شخوص هي غالباً أشباح تتحرك في دواخلنا، في ذاكرتنا، نتنفسها مع
الهواء ونشربها مع المياه، أكثر مما نعايشها أو نعيشها في أفكارنا ورؤانا
وأحلامنا، لذلك تبدو غريبة حيناً ومستحضرة حيناً، ولكنها هي من يصوغ
وجودنا ويدفعه الي هذا الخراب الذي نتبرأ منه طالما هو بدوره يرفضنا، يرفض
ما نفكر فيه، وبالتالي يرفض كل ما يمكن أن نقوله له.
ـ 1 ـ أراد سعد الله أن يحتال، أن يظهر ذكاءه، دخل في مسامات هذا الواقع،
في وحوله وهزائمه، وأخذ يكتب منذ البداية كان يعرف أنه يكتب أكثر مما ينشئ
مسرحاً، فهو يعرف أن الذين يكتب لهم تعودوا علي السماع، علي التقاط
الهمسات أكثر مما تعودوا علي المكاشفة، وربما كان يعرف أيضاً أن لا مسرح
بلا كتابة، ولا كتابة مسرحية بلا أدب، بل هذه الكتابة دائماً أرادت أن
تكون شعراً، أو اعتقدت ذلك، حتي بدا كما لو لم يكن لدي سعد الله أسئلة
مسرحية، كان لديه هاجس أن يعبّر، أن يفضح، أن يشير الي موضع الألم.
كانت همومه في البداية كبيرة بحجم هذه الـ ميدوزا التي تحدق في الحياة بما
يعني قلقاً وجودياً مبكراً وخطيراً. لكن من يصغي؟ من يفهم؟ والشعب الذي
يكتب له هو شعب مقموع ببدائية، وجائع حتي لرغيف الخبز، فما الذي يعنيه أن
تنتصر الآلة ـ الجسد، وينهزم الكمان ـ الروح؟ أو تنتصر الشهوة الحيوانية
المبرمجة عقلياً وينهزم الحب بتجلياته الفنية والحسّية ـ بتأويل آخر لهذه
المسرحية ـ؟ أسئلة ربما جاء بها سعد الله من عالم حديث ومتقدم، من لغة
أخري ليس لديها مشاكل بسيطة مثل هذه التي نعيشها، بمعني ليس الاغتراب أمام
الآلة ما هو ملح الآن، ماهو الملح اذن؟ حاول أن يطرح سؤالاً وجودياً آخر،
ربما يجعله يقترب من واقعه، ومن الكون الذي يفكر به أو فيه أو من خلاله،
فيكتب المقهي الزجاجي لكن لا فائدة أيضاً فنحن لا نصنع الزمن كي يؤرقنا بل
مجرد التفكير في ذلك يعني خطيئة عقوبتها النفي والالغاء. لذلك أخذ سعد
الله يستعير أفكاراً من أزمنة وأمكنة قديمة ويحاول صياغتها بالواقع
المتخلف الذي نعيشه، فكر بالظلم المطلق، بالحظ العاثر، بالغبن الذي يشعر
به الشقيق الأصغر تجاه أخيه الأكبر ومردوداته النفسية فكتب مسرحيته الجراد
.
فكر بالفقير الذي يموت جائعاً مشرداً علي الرصيف ولا يجد من يدفنه سوي
عابر ثري يأخذ جثته ليطعمها لكلبه الجائع، كما تحكي مسرحيته جثة علي
الرصيف . فكر بالانسان المثقف المتعلم الذي يقتله رجال الجهل العابث الذين
لا يفهمون الرجولة سوي تسلط وقسوة وتهور، كما في مسرحيته عندما يلعب
الرجال . فكر بتجار المديح والموالي وصناع المناصب فصاغ كنايته الجميلة عن
الكرسي في مسرحيته لعبة الدبابيس .
فكر بالمقاومة وكيف ينبغي أن تتخلص من أمراضها الاجتماعية والسلطوية كي
تولد ولادة سليمة فكتب مسرحيته فصد الدم . فكر بسلبية الناس وخوفهم من
السلطة ومداراتها فكتب مسرحيته الفيل يا ملك الزمان . هي بدايات، صحيح
أنها قصيرة، لكنها تبرز الي أيّ حدّ كان طموح سعد الله بأن يتمثل القلق
الانساني بشموليته، بعيداً عن آنية السياسي وتعسفه، بأن يتمثل تلك الرؤي
التي تحاول كشف هشاشة الانسان واغترابه، وشعوره بالضعف أمام القوي التي
تهدد كينونته: الآلة، الزمن، الارث الاجتماعي والنفسي والاقتصادي
والسلطوي... ومن الطبيعي أن يأتي مثل هذا التمثل انزياحاً لغوياً
لاعتبارات آنفة، انزياحاً هو أقرب الي القصة الحوارية منه الي الفعل
المسرحي.
وبالطبع كذلك لم يأت هذا القول حكماً سلبياً طالما أن سعد الله كان قد صرح
به في مقدمة مسرحيته ميدوزا تحدق في الحياة أولي مسرحياته المنشورة، انه
توصيف لاهتمام الكاتب الشاب، لعشقه اللغوي، ولشغله علي اللغة طيلة حياته
الابداعية باعتبارها الحامل الأول لمسرحياته دون أن يعني ذلك اغفالاً
لاستقلالية المسرح كفن ينبغي تمثيله. علي أية حال تتضح أهمية هذه
المسرحيات القصيرة تاريخياً أو بالأحري كتأريخ لابداع كاتبها من جهتين:
الأولي أنها تبرز مقدرة سعد الله علي صوغ حكاية ـ أو استعارتها ـ في قالب
مسرحي. والثانية أهمية الأفكار التي يتصدي لها وعمقها في كشف معاناة
الانسان ولا سيما ما هو جوهري في كينونته.
اضافة الي هاتين الناحيتين تمتاز حكاية جوقة التماثيل بأنها المسرحية
الأولي التي منحت سعد الله ونوس لقب الكاتب المسرحي ـ كما أري ـ فهي
بحكايتيها: بائع الدبس الفقير و الرسول المجهول في مأتم انتيغونا تبدو
وكأنها تتويج ابداعي لمرحلة البدايات، فهي علي الأقل تشي بالتركيبة الفنية
التي ستظهر فيما بعد في أكثر من مسرحية وعلي أكثر من شكل، وهي بالأصل لم
تغب عن سردياته المسرحية عبر هذا المزج الأدبي بين ما هو سردي وحواري
بمهارة توضح مقدرة أو موهبة أصيلة في كيفية الحكي وتمثله بأساليب الكتابة
والعرض معاً.
اذن في حكايا جوقة التماثيل يستمر سعد الله بانزياحاته اللغوية، ولكن
باضافة بعد مسرحي تقليدي يتمثل باستعادة أو بمساءلة المسرح اليوناني علي
وجه الدقة وما يمثله من قيم فلسفية وسياسية كانت الجوقة هي من تقوم بدورها
في المسرحيات الاغريقية المعروفة. هذا الضمير الجمعي للحق والخير والجمال
الذي انهار مثالاً وراء الآخر أمام بؤس الواقع وسلطاته القمعية في حكاية
بائع الدبس الفقير لينحل ويتلاشي تماماً في المكان ذاته ولكن عبر الحكاية
الثانية الرسول المجهول في مأتم أنتيغونا لا تمثل بموتها موت المثل والقيم
المشار اليها وحسب وانما تؤكد علي أنّ للمسرح في زمن الكاتب ومكانه دوراً
آخر يختلف تماماً عن دوره في أيام ازدهار الديمقراطية الأولي وازدهار
التساؤلات الكبري للذات الانسانية عن العدالة والحق والشر والعقاب،
تساؤلات بقيت مطروحة في هذه الحكايا وبانزياح شعري يتمثل باضمحلال الشر
ذاتياً ليعود بفكرة القدر القديمة من المسرح الاغريقي ذاته. لكن ما هو أهم
في هذه المسرحية أكثر من غيره أنها استطاعت أن تركب بين زمنين مسرحيين
متباينين: الأول هو الزمن الاغريقي القديم، والثاني هو الزمن العربي
المعاصر، ليسائل أحدهما الآخر في مسرحية واحدة هي بائع الدبس الفقير أو
الرسول المجهول في مأتم أنتيغونا ، ولتجعل في مكان الحكي في الوقت نفسه
قابلاً لحكايات متعددة هي حكايات العالم أو الانسانية مطلقاً. وعلي هذا لا
يبدو سعد الله في هذه المرحلة مهتماً بانشاء مسرح عربي أو حتي التفكير
بذلك طالما أن ما يعاني منه هو نتيجة لامتداد تاريخ انساني متكامل، ولصراع
تعيشه البشرية جمعاء بما ينفي أية خصوصية تاريخية سوي خصوصية المؤلف
وطبيعة كتابته الأدبية. ـ 2 ـ مواجهة الواقع المتخلف بثقافة حداثوية
متحررة كانت شغل المبدعين العرب في القرن العشرين، ولكن من غير أن يمتلكوا
أدوات التغيير فيه، لأقل الأدوات الابداعية لذلك. وهذا ما يمكن ملاحظته في
بدايات سعد الله أيضاً، اذ ثمة غربة تقترب كثيراً من قراءة الحكايات
الأجنبية المترجمة حتي في مسرحيته حكايا جوقة التماثيل كان لحضور البعد
الاغريقي أثر مُخِلّ في تناول المشاكل المحلية أكثر مما هو مخلخل لها ـ
هذه المرة سوف يتم تجاوزه حتي في المسرحيات المقتبسة كما هو آت ـ لكن ليكن
الحديث عن تحول أساسي بعد هزيمة حزيران (يونيو) التي أرخ لها سعد الله في
مسرحيته الشهيرة حفلة سمر من أجل 5 حزيران حيث المسرح بدأ يستجيب للواقع
ويدخل في تركيبه الذهني والفني بطريقة يمكن الحديث من خلالها عن تمثل عربي
لهذا الفن الوافد الينا مؤخراً، بما يزيد بقليل عن قرن من الزمن. لكن قبل
ذلك، وفي هذه المسرحية بالذات، أودّ التوقف عند رؤية سوف تلازم سعد الله
فيما سيكتبه لاحقاً وربما هي ما أفضت الي مسرحيات أخري تلامس ما أتحدث عنه
بل وتتطور عنه برؤية واضحة لابداع مسرح مختلف وأكاد أقول محليا. غير أن
هذه الفكرة الأساسية التي ينبغي البدء بها بعبارة أدق تتحدث عن تركيب
رؤيوي للفعل المسرحي يتجاوب وفعل القول بما هو الواقع أيضاً. بمعني آخر ان
ادخال المتفرجين في صلب اللعبة المسرحية هو حاجة فعلية لقولها، وليس رؤية
فنية مستعارة من التغريب البريختي مثلاً، وهذه الحاجة نفسها هي ما دفعت
سعد الله للابتعاد عن لغته الانشائية من أجل الاقتراب من لغة تتواءم
والفعل المسرحي بعد أن كانت تحاول الانابة عنه. وهي بالتالي أصبحت لغة
متعددة بتعدد شخصيات هذا الفعل وتباين مستوياتها الاجتماعية والنفسية
والثقافية، وبالتالي قد لا تبرز أهمية مسرحية مثل حفلة سمر من أجل 5
حزيران في تصديها للهزيمة وتداعياتها ـ فهي لم تقل شيئاً جديداً يمكن فعله
سوي اشراك الجماهير حقيقة في العمل السياسي وهذا ما لم يتحقق حتي في
المسرح ـ بقدر ما تبرز في كونها شكلت حافزاً للبحث عن أشكال جديدة للفرجة
ليس من الضروري أن يكون متعارفاً عليها عالمياً. لكن كيلا يبدو هذا البحث
رؤية فنية وحسب يعود سعد الله الي كيفية هذه التركيبة وليس الي الرؤية
اليونانية التي أظهر فشل محاكاتها عربياً ليصغي الي الحكاية العربية بل
والي كيفية حكايتها ليكتب مسرحيته مغامرة رأس المملوك جابر اذ وكما هو
معروف أن كرسي الحكواتي هو أول شكل من أشكال التفرج الحكائي العربي، وربما
الحيوية القائمة بين الراوي ومن يصغي اليه، طقسية هذا الروي، وتبادل
الآراء والتعليقات وانقسامها واختلافها حول ما يروي، هي ما أغرت سعد الله
بالاستفادة من كل ذلك في مفهومه للمسرح السياسي الذي جاء عفوياً ربما في
مسرحيته السابقة حفلة سمر ليأخذ منحي جمالياً مقصوداً لذاته في هذه
المسرحية، في تركيبها بين زمن الحكي القديم وزمن الاصغاء الجديد من جهة،
وحكاية سعد الله للزمنين مجتمعين والتفرج عليها مجدداً من جهة أخري.
ذات التركيبة ينشئها سعد الله في مسرحيته التالية سهرة مع أبي خليل
القباني ليؤكد اهتمامه بأشكال الفرجة العربية، ولكن ليظهر، هذه المرة،
الولادة العسيرة للمسرح العربي في سورية، لاستقبال هذا المسرح بكثير من
الحذر والريبة، ومن ثم المواجهة بين أبي خليل القباني وقوي التخلف في
المجتمع العربي بما فيها القوي الفنية التي انتصرت لأشكال الفن القديمة
كمسرح الظل والفنون الدينية. أما أهمية هذه المسرحية فربما تعود أساساً
الي كونها عززت رؤية سعد الله للمسرح العربي الجديد أو السياسي كما يحلو
له أن يسميه، وأوصلتها الي ذروة الحلم أو امكانيته وذلك باستنفاذ أشكال
الواقع وتطلعه الي صيغ جديدة للحوار كان نتيجتها حرق مسرح القباني في
النهاية!. ما يمكن قوله بهذا الصدد ان رغبة سعد الله في إنشاء مسرح
ديمقراطي عربي في مسرحياته المتتالية حفلة سمر من أجل 5 حزيران و مغامرة
رأس المملوك جابر و سهرة مع أبي خليل القباني علي أنقاض ديمقراطية المسرح
الاغريقي القديم كما يمكن الاستنتاج سطحياً بالمقارنة مع مسرحيته السابقة
حكايا جوقة التماثيل انما هي رغبة استفاد منها المسرح العربي فنياً ربما،
أقصد بتوظيف أشكال الفرجة المحلية لكسر الحاجز التقليدي بين مكان العرض
ومكان التفرج بأسلوب يتجاوب وطبيعة الكتابة المسرحية أو طقسها المتعارف
عليه في تراث الحكي العربي، لكنها فشلت في المقــابل أن تحقـــق غايتها أو
هدفها في خلق تقاليد لذلك، وقد يكون الواقع السياسي المستبد من أهم
الأسباب التي أعاقت سعد الله في ابداع أشكال اخراجية غير تلك التي سمع بها
أو رآها، هي ذات الأسباب التي عاني منها أبو خليل القباني ولكن بتجليات
أكثر خفاء.
[right]:*-*
ماذا تعني الكتابة عن مؤلف مات بعد أن ترك مجموعة من الكتب تتفاوت أهميتها
بين كتاب وكتاب، أو بين قارئ وقارئ؟ هل يعني ذلك أن سعد الله لم يزل لديه
ما يقوله؟ أم يعني ذلك أن كاتباً مسرحياً آخر لم يلفت الانتباه بعد فيمكن
الحديث عنه ويؤجل سعد الله الي وقت مستقطع بين الأوقات الفاعلة في مسيرة
الابداع العربي؟
أسئلة كثيرة ومكررة، وقد لا تلقي أجوبة حاسمة طالما أن الواقع العربي
وتجلياته السياسية والاجتماعية والثقافية، هو علي هذا الفوات الحضاري الذي
يدمي العين والأذن واللسان، لا ديمقراطية، لا مستوي معيشيا مقبولا، لا وعي
بما جري أو يجري، أو الي أين يمكن الوصول؟ هي أسئلة سعد الله ونوس علي أية
حال، واستعادتها هي تأكيد آخر علي فشل أجوبته، أو بالأحري علي هزيمة
الكتابة في مجتمع لا يقرأ، لأنه ببساطة لا يريد أن يعرف، لأنه ببساطة وجد
أن أيّاً من جاهر بمعرفته وأراد أن يساهم بها في حراك أمته، لترقي الي
مستوي امكانياتها، مات بالسوط أو بغيره.
استعادة الموت، نبش القبور، الدخول الي السجون، تلقي الصفعات والركلات
والهزائم، الاصغاء الي النحيب والآلام، الي المؤامرات والدسائس، الخيبة
والندم تحديداً، هو كل ما يمكن أن يجنيه المرء من قراءة ثانية وثالثة
ورابعة... أولي وأخيرة لأدب سعد الله، أقول أدباً وأقصد ذلك، فقط ليمكن
الحديث ويتشعب ويمتد امتداد حكايات هذا الواقع ووقائعه التي يستعيدها علي
شكل شخوص هي غالباً أشباح تتحرك في دواخلنا، في ذاكرتنا، نتنفسها مع
الهواء ونشربها مع المياه، أكثر مما نعايشها أو نعيشها في أفكارنا ورؤانا
وأحلامنا، لذلك تبدو غريبة حيناً ومستحضرة حيناً، ولكنها هي من يصوغ
وجودنا ويدفعه الي هذا الخراب الذي نتبرأ منه طالما هو بدوره يرفضنا، يرفض
ما نفكر فيه، وبالتالي يرفض كل ما يمكن أن نقوله له.
ـ 1 ـ أراد سعد الله أن يحتال، أن يظهر ذكاءه، دخل في مسامات هذا الواقع،
في وحوله وهزائمه، وأخذ يكتب منذ البداية كان يعرف أنه يكتب أكثر مما ينشئ
مسرحاً، فهو يعرف أن الذين يكتب لهم تعودوا علي السماع، علي التقاط
الهمسات أكثر مما تعودوا علي المكاشفة، وربما كان يعرف أيضاً أن لا مسرح
بلا كتابة، ولا كتابة مسرحية بلا أدب، بل هذه الكتابة دائماً أرادت أن
تكون شعراً، أو اعتقدت ذلك، حتي بدا كما لو لم يكن لدي سعد الله أسئلة
مسرحية، كان لديه هاجس أن يعبّر، أن يفضح، أن يشير الي موضع الألم.
كانت همومه في البداية كبيرة بحجم هذه الـ ميدوزا التي تحدق في الحياة بما
يعني قلقاً وجودياً مبكراً وخطيراً. لكن من يصغي؟ من يفهم؟ والشعب الذي
يكتب له هو شعب مقموع ببدائية، وجائع حتي لرغيف الخبز، فما الذي يعنيه أن
تنتصر الآلة ـ الجسد، وينهزم الكمان ـ الروح؟ أو تنتصر الشهوة الحيوانية
المبرمجة عقلياً وينهزم الحب بتجلياته الفنية والحسّية ـ بتأويل آخر لهذه
المسرحية ـ؟ أسئلة ربما جاء بها سعد الله من عالم حديث ومتقدم، من لغة
أخري ليس لديها مشاكل بسيطة مثل هذه التي نعيشها، بمعني ليس الاغتراب أمام
الآلة ما هو ملح الآن، ماهو الملح اذن؟ حاول أن يطرح سؤالاً وجودياً آخر،
ربما يجعله يقترب من واقعه، ومن الكون الذي يفكر به أو فيه أو من خلاله،
فيكتب المقهي الزجاجي لكن لا فائدة أيضاً فنحن لا نصنع الزمن كي يؤرقنا بل
مجرد التفكير في ذلك يعني خطيئة عقوبتها النفي والالغاء. لذلك أخذ سعد
الله يستعير أفكاراً من أزمنة وأمكنة قديمة ويحاول صياغتها بالواقع
المتخلف الذي نعيشه، فكر بالظلم المطلق، بالحظ العاثر، بالغبن الذي يشعر
به الشقيق الأصغر تجاه أخيه الأكبر ومردوداته النفسية فكتب مسرحيته الجراد
.
فكر بالفقير الذي يموت جائعاً مشرداً علي الرصيف ولا يجد من يدفنه سوي
عابر ثري يأخذ جثته ليطعمها لكلبه الجائع، كما تحكي مسرحيته جثة علي
الرصيف . فكر بالانسان المثقف المتعلم الذي يقتله رجال الجهل العابث الذين
لا يفهمون الرجولة سوي تسلط وقسوة وتهور، كما في مسرحيته عندما يلعب
الرجال . فكر بتجار المديح والموالي وصناع المناصب فصاغ كنايته الجميلة عن
الكرسي في مسرحيته لعبة الدبابيس .
فكر بالمقاومة وكيف ينبغي أن تتخلص من أمراضها الاجتماعية والسلطوية كي
تولد ولادة سليمة فكتب مسرحيته فصد الدم . فكر بسلبية الناس وخوفهم من
السلطة ومداراتها فكتب مسرحيته الفيل يا ملك الزمان . هي بدايات، صحيح
أنها قصيرة، لكنها تبرز الي أيّ حدّ كان طموح سعد الله بأن يتمثل القلق
الانساني بشموليته، بعيداً عن آنية السياسي وتعسفه، بأن يتمثل تلك الرؤي
التي تحاول كشف هشاشة الانسان واغترابه، وشعوره بالضعف أمام القوي التي
تهدد كينونته: الآلة، الزمن، الارث الاجتماعي والنفسي والاقتصادي
والسلطوي... ومن الطبيعي أن يأتي مثل هذا التمثل انزياحاً لغوياً
لاعتبارات آنفة، انزياحاً هو أقرب الي القصة الحوارية منه الي الفعل
المسرحي.
وبالطبع كذلك لم يأت هذا القول حكماً سلبياً طالما أن سعد الله كان قد صرح
به في مقدمة مسرحيته ميدوزا تحدق في الحياة أولي مسرحياته المنشورة، انه
توصيف لاهتمام الكاتب الشاب، لعشقه اللغوي، ولشغله علي اللغة طيلة حياته
الابداعية باعتبارها الحامل الأول لمسرحياته دون أن يعني ذلك اغفالاً
لاستقلالية المسرح كفن ينبغي تمثيله. علي أية حال تتضح أهمية هذه
المسرحيات القصيرة تاريخياً أو بالأحري كتأريخ لابداع كاتبها من جهتين:
الأولي أنها تبرز مقدرة سعد الله علي صوغ حكاية ـ أو استعارتها ـ في قالب
مسرحي. والثانية أهمية الأفكار التي يتصدي لها وعمقها في كشف معاناة
الانسان ولا سيما ما هو جوهري في كينونته.
اضافة الي هاتين الناحيتين تمتاز حكاية جوقة التماثيل بأنها المسرحية
الأولي التي منحت سعد الله ونوس لقب الكاتب المسرحي ـ كما أري ـ فهي
بحكايتيها: بائع الدبس الفقير و الرسول المجهول في مأتم انتيغونا تبدو
وكأنها تتويج ابداعي لمرحلة البدايات، فهي علي الأقل تشي بالتركيبة الفنية
التي ستظهر فيما بعد في أكثر من مسرحية وعلي أكثر من شكل، وهي بالأصل لم
تغب عن سردياته المسرحية عبر هذا المزج الأدبي بين ما هو سردي وحواري
بمهارة توضح مقدرة أو موهبة أصيلة في كيفية الحكي وتمثله بأساليب الكتابة
والعرض معاً.
اذن في حكايا جوقة التماثيل يستمر سعد الله بانزياحاته اللغوية، ولكن
باضافة بعد مسرحي تقليدي يتمثل باستعادة أو بمساءلة المسرح اليوناني علي
وجه الدقة وما يمثله من قيم فلسفية وسياسية كانت الجوقة هي من تقوم بدورها
في المسرحيات الاغريقية المعروفة. هذا الضمير الجمعي للحق والخير والجمال
الذي انهار مثالاً وراء الآخر أمام بؤس الواقع وسلطاته القمعية في حكاية
بائع الدبس الفقير لينحل ويتلاشي تماماً في المكان ذاته ولكن عبر الحكاية
الثانية الرسول المجهول في مأتم أنتيغونا لا تمثل بموتها موت المثل والقيم
المشار اليها وحسب وانما تؤكد علي أنّ للمسرح في زمن الكاتب ومكانه دوراً
آخر يختلف تماماً عن دوره في أيام ازدهار الديمقراطية الأولي وازدهار
التساؤلات الكبري للذات الانسانية عن العدالة والحق والشر والعقاب،
تساؤلات بقيت مطروحة في هذه الحكايا وبانزياح شعري يتمثل باضمحلال الشر
ذاتياً ليعود بفكرة القدر القديمة من المسرح الاغريقي ذاته. لكن ما هو أهم
في هذه المسرحية أكثر من غيره أنها استطاعت أن تركب بين زمنين مسرحيين
متباينين: الأول هو الزمن الاغريقي القديم، والثاني هو الزمن العربي
المعاصر، ليسائل أحدهما الآخر في مسرحية واحدة هي بائع الدبس الفقير أو
الرسول المجهول في مأتم أنتيغونا ، ولتجعل في مكان الحكي في الوقت نفسه
قابلاً لحكايات متعددة هي حكايات العالم أو الانسانية مطلقاً. وعلي هذا لا
يبدو سعد الله في هذه المرحلة مهتماً بانشاء مسرح عربي أو حتي التفكير
بذلك طالما أن ما يعاني منه هو نتيجة لامتداد تاريخ انساني متكامل، ولصراع
تعيشه البشرية جمعاء بما ينفي أية خصوصية تاريخية سوي خصوصية المؤلف
وطبيعة كتابته الأدبية. ـ 2 ـ مواجهة الواقع المتخلف بثقافة حداثوية
متحررة كانت شغل المبدعين العرب في القرن العشرين، ولكن من غير أن يمتلكوا
أدوات التغيير فيه، لأقل الأدوات الابداعية لذلك. وهذا ما يمكن ملاحظته في
بدايات سعد الله أيضاً، اذ ثمة غربة تقترب كثيراً من قراءة الحكايات
الأجنبية المترجمة حتي في مسرحيته حكايا جوقة التماثيل كان لحضور البعد
الاغريقي أثر مُخِلّ في تناول المشاكل المحلية أكثر مما هو مخلخل لها ـ
هذه المرة سوف يتم تجاوزه حتي في المسرحيات المقتبسة كما هو آت ـ لكن ليكن
الحديث عن تحول أساسي بعد هزيمة حزيران (يونيو) التي أرخ لها سعد الله في
مسرحيته الشهيرة حفلة سمر من أجل 5 حزيران حيث المسرح بدأ يستجيب للواقع
ويدخل في تركيبه الذهني والفني بطريقة يمكن الحديث من خلالها عن تمثل عربي
لهذا الفن الوافد الينا مؤخراً، بما يزيد بقليل عن قرن من الزمن. لكن قبل
ذلك، وفي هذه المسرحية بالذات، أودّ التوقف عند رؤية سوف تلازم سعد الله
فيما سيكتبه لاحقاً وربما هي ما أفضت الي مسرحيات أخري تلامس ما أتحدث عنه
بل وتتطور عنه برؤية واضحة لابداع مسرح مختلف وأكاد أقول محليا. غير أن
هذه الفكرة الأساسية التي ينبغي البدء بها بعبارة أدق تتحدث عن تركيب
رؤيوي للفعل المسرحي يتجاوب وفعل القول بما هو الواقع أيضاً. بمعني آخر ان
ادخال المتفرجين في صلب اللعبة المسرحية هو حاجة فعلية لقولها، وليس رؤية
فنية مستعارة من التغريب البريختي مثلاً، وهذه الحاجة نفسها هي ما دفعت
سعد الله للابتعاد عن لغته الانشائية من أجل الاقتراب من لغة تتواءم
والفعل المسرحي بعد أن كانت تحاول الانابة عنه. وهي بالتالي أصبحت لغة
متعددة بتعدد شخصيات هذا الفعل وتباين مستوياتها الاجتماعية والنفسية
والثقافية، وبالتالي قد لا تبرز أهمية مسرحية مثل حفلة سمر من أجل 5
حزيران في تصديها للهزيمة وتداعياتها ـ فهي لم تقل شيئاً جديداً يمكن فعله
سوي اشراك الجماهير حقيقة في العمل السياسي وهذا ما لم يتحقق حتي في
المسرح ـ بقدر ما تبرز في كونها شكلت حافزاً للبحث عن أشكال جديدة للفرجة
ليس من الضروري أن يكون متعارفاً عليها عالمياً. لكن كيلا يبدو هذا البحث
رؤية فنية وحسب يعود سعد الله الي كيفية هذه التركيبة وليس الي الرؤية
اليونانية التي أظهر فشل محاكاتها عربياً ليصغي الي الحكاية العربية بل
والي كيفية حكايتها ليكتب مسرحيته مغامرة رأس المملوك جابر اذ وكما هو
معروف أن كرسي الحكواتي هو أول شكل من أشكال التفرج الحكائي العربي، وربما
الحيوية القائمة بين الراوي ومن يصغي اليه، طقسية هذا الروي، وتبادل
الآراء والتعليقات وانقسامها واختلافها حول ما يروي، هي ما أغرت سعد الله
بالاستفادة من كل ذلك في مفهومه للمسرح السياسي الذي جاء عفوياً ربما في
مسرحيته السابقة حفلة سمر ليأخذ منحي جمالياً مقصوداً لذاته في هذه
المسرحية، في تركيبها بين زمن الحكي القديم وزمن الاصغاء الجديد من جهة،
وحكاية سعد الله للزمنين مجتمعين والتفرج عليها مجدداً من جهة أخري.
ذات التركيبة ينشئها سعد الله في مسرحيته التالية سهرة مع أبي خليل
القباني ليؤكد اهتمامه بأشكال الفرجة العربية، ولكن ليظهر، هذه المرة،
الولادة العسيرة للمسرح العربي في سورية، لاستقبال هذا المسرح بكثير من
الحذر والريبة، ومن ثم المواجهة بين أبي خليل القباني وقوي التخلف في
المجتمع العربي بما فيها القوي الفنية التي انتصرت لأشكال الفن القديمة
كمسرح الظل والفنون الدينية. أما أهمية هذه المسرحية فربما تعود أساساً
الي كونها عززت رؤية سعد الله للمسرح العربي الجديد أو السياسي كما يحلو
له أن يسميه، وأوصلتها الي ذروة الحلم أو امكانيته وذلك باستنفاذ أشكال
الواقع وتطلعه الي صيغ جديدة للحوار كان نتيجتها حرق مسرح القباني في
النهاية!. ما يمكن قوله بهذا الصدد ان رغبة سعد الله في إنشاء مسرح
ديمقراطي عربي في مسرحياته المتتالية حفلة سمر من أجل 5 حزيران و مغامرة
رأس المملوك جابر و سهرة مع أبي خليل القباني علي أنقاض ديمقراطية المسرح
الاغريقي القديم كما يمكن الاستنتاج سطحياً بالمقارنة مع مسرحيته السابقة
حكايا جوقة التماثيل انما هي رغبة استفاد منها المسرح العربي فنياً ربما،
أقصد بتوظيف أشكال الفرجة المحلية لكسر الحاجز التقليدي بين مكان العرض
ومكان التفرج بأسلوب يتجاوب وطبيعة الكتابة المسرحية أو طقسها المتعارف
عليه في تراث الحكي العربي، لكنها فشلت في المقــابل أن تحقـــق غايتها أو
هدفها في خلق تقاليد لذلك، وقد يكون الواقع السياسي المستبد من أهم
الأسباب التي أعاقت سعد الله في ابداع أشكال اخراجية غير تلك التي سمع بها
أو رآها، هي ذات الأسباب التي عاني منها أبو خليل القباني ولكن بتجليات
أكثر خفاء.
حمزة سديرة-
- عدد المساهمات : 453
العمر : 36
المكان : قصر*قفصة
المهنه : طلب العلم
الهوايه : كل شيء
نقاط تحت التجربة : 12489
تاريخ التسجيل : 07/03/2008
رد: في رحاب البكالوريا
هذا الوعي بالهزيمة، بعدم قابلية العرب للحوار، وبالتالي للمسرح، هو ما
دفع سعد الله للارتداد الي دوره الأساس، دور الكاتب الذي ينظر الي عالم
علي أنه مسرح ينبغي كشف لعبته، لعبته السياسية التي لم تزل ملحة بشكلها
التقليدي ولكن خارج الأطر المحددة للنزعات السلطوية بمختلف ايديولوجياتها
التي أفشلت مسرحه أو أجبرته علي الانكماش ولو الي حين، أقصد السلطات
الاجتماعية والسياسية والاقتصادية غير الحاكمة بالضرورة والتي تملك منصباً
علي أتباعها هو ذات المنصب الذي يشغله ملك في مكان وزمان غير محددين ليدل
علي تشابه السلطات الاستبدادية مهما كان شكلها. وعلي الأرجح هذا ما أراده
سعد الله أو ما فهمته من عنوان مسرحيته الملك هو الملك التي تخلت عن محلية
الحكي والفرجة لصالح فكرة تصلح لأي واقع يعاني استبداداً ما. لكن كشف
الاستبداد، فهم طبيعته، ارتكاس معرفي يفرضه واقع عاجز عن الحراك أو
التجاوب ونخبته، بمعني أنه واقع عاجز عن تأريخ حداثوي له. ولذلك بدت هذه
المسرحية تقليدية في بنائها وفرجتها اذا ما قورنت بالتطور المفترض عن
المسرحيات السابقة لها، لولا أنها برهنت، مع ذلك، علي غني تجربة سعد الله
واغتنائها بمقومات مسرحية يمكن اعتمادها في أية كتابة قادمة كتهيئة سردية
لأدبية كان قد بدأ حياته الابداعية بها. ـ 3 ـ لا أعرف حقيقة ان كان سعد
الله علي دراية بفشل امكانية الحوار في مجتمع غير متكافئ القوي، أو غير
قادر علي انتاج بنية للتكافؤ في أية مرحلة من مراحله التاريخية يمكن
الحوار من خلالها حين توقف عن البحث الابداعي لأشكال المسرح في المجتمع
العربي، محاولاً أن يستعير صيغا جديدة للكتابة من أقلام كتاب انتصرت
مجتمعاتها حداثوياً لتريحه قليلاً من شبح السلطة بمفهومها السياسي الفظ
والمباشر علّه يستحث الجماهير التي حاول الانتصار لها علي أن تفعل شيئاً،
أن تنظر الي ما حولها، أن تفكر فيما تعيشه، أن تنفض عنها غبار الغفلة
والدردشة لتري ما يمكن فعله قبل أن تسلب كل ما تملك وترمي كنفاية الي
طرقات التشرد والموت، فيجد في مسرحية كيف تخلص السيد موكينبوت من آلامه
للكاتب بيتر فايس صيغة ملائمة لذلك، يستطيع أن يكتب اعتماداً علي حكايتها
مسرحيته رحلة حنظلة من الغفلة الي اليقظة ليعود بالمسرح الي بساطة القول
اذا لم يكن الي سطحيته اذ ماذا يعني أن نعرف ما يدور حولنا طالما أنه لا
يمكن أن نفعل حياله شيئاً؟، سؤال تبدو اجابة سعد الله عليه أكثر سلبية في
مسرحية لاحقة. لكن ما هو ايجابي في هذه المسرحية أنها تحررت قليلاً من
مفهوم السلطة الفردية لتوزعه علي شكل بنية اجتماعية واقتصادية أكثر مما هو
حالة سياسية آنية، ليقترب بذلك من ملامسة الأزمة لكن بلا أطراف يمكن
محاورتها بما يشكل تراجعاً ملحوظاً حتي عن مسرحه السياسي والاكتفاء تماماً
بدور الراوي الذي يستطيع أن يلتقط تفاصيل الواقع ويسردها كما هي.
لكن مع انطلاق الانتفاضة الفلسطينية أواخر القرن الماضي يجد سعد الله نفسه
في موقف محرج، فالواقع العربي ليس علي هذا النحو من السلبية وانما أدوات
مبدعيه كانت عاجزة علي ما يبدو عن صياغة فعل مماثل لهذا التحرك العفوي بل
هي سارت به الي ما يشبه زهوة الفرسان لتقضي عليه قبل ولادته. وربما لهذا
استشرف سعد الله نهاية كارثية لا تحتملها حكاية الفارس ولا حتي وضوح
الصراع وبدائيته فلجأ الي التواء المثقف وأزماته فاستعاد حكاية القصة
المزدوجة للدكتور بالمي للكاتب المسرحي انطونيو بويرويانيجو ليكتب مسرحيته
الاغتصاب التي شرح من خلالها الصراع العربي الاسرائيلي علي أساس عقد نفسية
سادية علي الأغلب، ربما يكون الشفاء منه سريرياً أكثر منه سياسياً ليخلص
الي هذه النتيجة التي تدعو للدعابة وتتلخص في أن الحوار بين الاسرائيليين
والعرب أو الفلسطينيين لا يمكن أن يتم الا بين شرائح المثقفين وقد تخلّوا
عن هواياتهم القومية والدينية! ما يؤسف له أيضاً في هذه المسرحية أن
امكانية الحوار الذي تفترضه لم يكن بين العرب أنفسهم، وانما مع وافدين من
ديمقراطيات أخري، وربما هذا يفسر انضواء كثير من المثقفين والمبدعين العرب
تحت اشراف منظمات وقوي ـ علي الأقل سلطاتها هي من تصوغ الواقع العربي منذ
اتفاقية سايكس بيكو وأشباهها من الاتفاقيات والمشاريع التي تتبناها
الولايات المتحدة الأمريكية اليوم.
ما أريد قوله ان سعد الله، شأنه شأن العرب جميعاً حتي المبدعين
الفلسطينيين منهم، لم يستطع أن يتجاوب والمرحلة التاريخية لشعب وجد نفسه
لم يعد يحتمل بؤسه وشقاءه فتمرّد علي شرطه التاريخي ليكتشف أنه وحيد ولا
أحد قادر علي الانتصار له في هذه المسرحية سوي محاولة أدبية ربما تذكر
بأدب القسوة في القرن التاسع عشر. لكن كيلا أحمل سعد الله ما لا طاقة له
به يمكن القول: انه ومن خلال هاتين المسرحيتين استطاع أن يؤكد علي كونية
المسرح باعتباره فناً مثله مثل الموسيقي والرسم أو أدباً مثله مثل الشعر
والرواية فهو ان كان قد استعار شكلهما المسرحي من لغات أخري الا أنه
بكتابته الأدبية عرف كيف يجعلهما عربيتين لغة ووقائع، وهذا لا يعني
بالضرورة غلق الباب أمام احتمالات مسرحية لها خصوصيتها المحلية. ? كاتب من
سورية 4 ـ
اطمأن سعد الله في السنوات الأخيرة من حياته الي ما يشبه الواقعية النقدية
أو حتي الوصفية فيما يكتبه من مسرحيات، مكتفياً بدور الراوي لأحداث ووقائع
يعيشها أو يعايشها في محيطه الاجتماعي، موائماً هذه المرة بين المسرحية
والرواية ولكن بعد أن تخلصت لغته من انشائية البدايات وانزياحاتها. وربما
يكون توصيف هذه المرحلة الختامية من مؤلفاته بالروايات المسرحية أقرب الي
الدقة، وهو توصيف قد لا يملك قيمة معيارية علي أساس أن الكتابة الحديثة
كثيراً ما جمعت بين عدة أجناس أدبية وفنية بل كثيراً ما أعدت الروايات
مسرحياً لتعرض علي الخشبة بل ان أعمال سعد الله الأخيرة تتضمن هذا
الاحتمال الفني لامكانيات الشاشة السينمائية أو التلفازية كفضاء عرض، ومع
ذلك لا ينبغي أن ينكر المرء هذه المتعة التي يمكن تحصيلها من قراءة هذه
الأعمال وهي متعة أدبية، تشبه ما يجنيه المرء من قراءة الروايات الأدبية
المحضة، وهذا شيء لصالح ما يكتبه سعد الله بالتأكيد، بل أعتقد أن هذا
الشيء هو ما جعل عمله علي هذا النحو من الأهمية، اضافة الي هذه الجرأة في
تناول الواقع نقدياً بوقائعه وشخوصه المعاشة حتي أن أولي هذه الروايات
تأخذ عنواناً مباشراً للدلالة علي راهنية ما تتحدث عنه، وأقصد بها مسرحيته
يوم من زماننا ..
يبين سعد الله من خلال هذه المسرحية أحد جوانب الفساد في المجتمع وهو جانب
الدعارة، ليس بجانبه الوجودي كعلاقة اعتبارية بين الرجل والمرأة وان حصل
ذلك كنتيجة وانما في تدخلها في عمل المؤسسات كرشوة أو كمصيدة لمحاربة
النزاهة وما الي ذلك، وفي تفشيها بين شرائح الفقراء كمحاولة لتحسين ظروفهم
وما يتبع ذلك من مشاكل أخلاقية تطال حتي الرموز الدينية ليؤدي في المحصلة
الي هزيمة أبرز المعاني الانسانية التي تربط الرجل بالمرأة وهو الحب الذي
ينسحب ممثلوه من الحياة دون أدني مقاومة وكأن قدراً محتماً لا مهرب منه
سوف يقضي علي أيّ عاشقين يرغبان في إعلاء شأن الحب أو يحاولان احياءه بل
ما هو أشد غرابة من ذلك أن هذا القدر الذي يتمثل بالظروف الاجتماعية
والاقتصادية والسياسية، سوف يأخذ، وعلي النقيض من منظومة سعد الله
العلمانية أو الحداثوية، بعداً طهرانياً يبدو الحب فيه وكأنه خطيئة ينبغي
أن يحاسب عليها أيّ عاشق أو عاشقة يقترفانها بعيداً عن المؤسسة الزوجية
واستمرارها ليس انتصاراً للقوة الذكورية المتحكمة في المجتمع ولكن كنتيجة
حتمية لهيمنة هذه القوة ونفي أيّة امكانية للتغلب عليها كما هي الحال في
مسرحيته أحلام شقية ، لكن فهم القدرية باعتبارها شرطاً تاريخياً قد لا
يسوغ اعتبار الحب خطيئة ينبغي التطهر منها، بل ما هو أنكي من هذا الفهم أن
سعد الله يتبني هذه القدرية الطهرانية في مسرحيته الأيام المخمورة حتي بعد
أن تخلص العاشقان من شرطهما التاريخي المتخلف.
أيضاً استحوذت العلاقة بين المرأة والرجل علي تفكير سعد الله في مسرحيته
طقوس الاشارات والتحولات ولكن برؤية أكثر حراكاً من المسرحيات السابقة علي
الرغم من أنها مستمدة من تاريخ العرب ما قبل النهضوي، وهي مسرحية تحاول،
اذا ما أمعنت التفسير في احتمالاتها، أن توضح أهمية الاهتمام بثقافة
الجسد، بطاقاته الفنية كالرقص مثلاً، باعتباره حاجة طبيعية ينبغي أنسنتها
بعيداً عن طقوس الاسراف أو الزهد في التعامل مع حاجات الانسان الأساسية
ومنها الجنس، والا راوح المجتمع في الدوران حول حلقة المحرم والعصيان
المستتر و فيها، ولكن سعد الله رصد هذه الحلقة عبر ظاهرتين معاكستين:
الأولي هي ممارسة السادة الرجال للجنس مع خادماتهن قبل بلوغهن وتحويلهن
بالتالي الي عاهرات يعترف المجتمع بشرعية وجودهنّ في وسطه، والثانية هي
المكاشفة في العلاقات الجنسية المشبوهة حتي الشاذة منها لاتخاذ هؤلاء
السادة من الغلمان مناهل جنسية، ولكن بما يكفل التراتبية الاجتماعية بين
السادة والخدم أو العاهرات من جهة والهيمنة الذكورية من جهة أخري.
لكنّ المسرحية تفترض اختراقاً لهذه التراتبية كأن تقوم امرأة من السادة ـ
وتحت رغبة عارمة لجسدها بالانطلاق والتحرر لم تشبعها بزواجها من رجل سيد
اعتاد معاشرة العاهرات هو نقيب الأشراف ـ بالتحول من امرأة سيدة الي غانية
أو عاهرة تبيع جسدها، ملبيّةً بذلك أصداء أصوات عاشتها من خلال اغتصاب
أبيها وأخوتها الذكور للخادمات في حرمة البيت الذي ولدت وتربت فيه، مع
ملاحظة أن هذه المرأة أبدت رغبة في الرقص أكثر من الجنس لتسويغ تحولها
هذا، ولكن ماذا تفعل اذا ما ارتبط الرقص بالعهر في مجتمعها؟ طبعاً هذا
المجتمع سوف يتصدي لهذه الظاهرة الجديدة بالمفهوم الطهراني ذاته فيتم
اصدار فتوي بتحريم البغاء لتقتل المرأة علي يد شقيقها الأصغر بينما يقتل
زوجها شهوات جسده عن طريق الزهد والتصوف. فتكتمل بذلك حالة الفصام الشرقي
بين ما هو ظاهر وما هو مخفيّ، بين تقشف الروح وشهوانية الجسد، بين حلال
الرجل وحرام المرأة...أفكار مرتبكة ومربكة لا تؤسس الا لحكايتها التي
تحاكي واقعاً تدعي أنها تنقده، كأن سعد الله دخل حقاً نفقاً مظلماً لا
نهاية لالتواءاته وتعرجاته.
آخر هذه الالتواءات كانت مسرحيته ملحمة السراب التي تقوم بدورها علي
ثنائية اقتصادية حادة التناقض بين انفتاح اقتصادي هو بطبيعته يفتح المجال
أمام متع الحياة وأفراحها والواقع المتخلف والفقير الذي يرتضي من الحياة
أغانيها، وعلي ما يبدو أن سعد الله ينحاز الي الواقع الثاني للحفاظ علي
الحياة الريفية ببساطتها وبمعانيها عن الحب والأسرة والأرض باتخاذه لموقف
مسبق من المشروع السياحي الذي يقيمه رجل يصفه سعد الله بالغاوي الذي يتبع
شيطانه، متناسياً ربما أن العمل السياحي هو نتاج حداثوي، وليس بالضرورة أن
يلغي الحب أو الأغنيات القديمة، وان كان يساعد بما يوفره من غني وتنوع علي
مكاشفة الانسان لرغباته وتطلعاته والخوض في هذا أري أنه يحتاج الي وعي
أعمق بالوجود لا يبدو أنه كان متوافراً لدي شخصيات مسرحيته التي انقسمت
بين مقبل بشراهة علي هذا المشروع وما يتيحه من متع عديدة وزاهد به
وبالحياة كلها، بل أن يحتال هذا الغاوي علي رجال القرية في النهاية أمر لا
يفند أهمية قيام مثل هذا المشروع، فضلاً عن أن الذاكرة العربية عبر تاريخ
حضارتها الواسع مؤسسة علي الانفتاح الذي يمكن وصفه اليوم بالسياحي، لكن
يمكن القول: ان الفساد المتفشي في مؤسسات المجتمع ومعاملات الناس فيما
بينهم حتي التجارية والصناعية منها بغياب قانون يعطي لكل ذي حق حقه قد
يبرز سلبية التطلعات الحداثوية وخاصة اذا ما تمثلت بالمظاهر المتعوية التي
تحتاج الي منظومة من التفكير حرّة أو متحررة، وربما هذا ما انعكس علي
أوليات سعد الله وتفكيره فيما يكتبه اما بنزوع مقاوم قد لا يصلح لمجتمع هو
شره بتكوينه وان يبدي غير ذلك كعادته، واما بنزوع نقدي يستطيع أن يعي
مواطن الضعف والهزيمة ولكن بلا رؤية ابداعية واضحة يمكن أن تحرض علي فعل
مغاير ومختلف، وربما هو فعل يحتاج الي وعي أكثر امتداداً من الواقع الضيق
الذي خاض آلامه واخفاقات أحلامه.
وعلي هذا الأساس شكلت مسرحيته منمنمات تاريخية استجابة لهزيمة الواقع أكثر
من رغبة في تخطيها، وهي ان كانت تحمل في معظم مستوياتها عرضاً لأشكال
الهزيمة كما هي أعماله الأخري بما لا يدعو الي مزيد من التفكر، الا أنّ
سؤالها أو امتحانها للمثقف أو العالم ربما قد جاء سؤالاً نافلاً وربما في
غير محله علي اعتبار أن مفكراً وعالماً مثل ابن خلدون يتمثل منظومة فكرية
لم يُستنفذ قولها ومفعوله وحسب بل هي بشموليتها وبراغماتيتها قد لا تصغي
كثيراً الي ما يصغي اليه سعد الله عن أخلاقية القول ودلالة ما يفعله
قائله، بمعني أن أهمية ابن خلدون تكمن في أنه استطاع أن يكتشف علماً كان
يستطيع العرب الافادة منه لو أرادوا بينما تتباكي مسرحية مثل منمنمات
تاريخية علي ما حصل للعرب وعلي ما يحصل لهم ولم يكن بوسع ابن خلدون أن
يرده لو ترك قلمه وامتشق سيفاً ليموت داخل أسوار دمشق أو قلعتها، أما أن
تحتاج الشعوب الي مواقف مفكريها ومبدعيها فهذا قد لا يعني شيئاً مهماً
طالما أن صحة المواقف قد لا تعني صحة السبل والطرق التي يمكن أن توصل
الشعوب الي تحقيق طموحاتها، وما لدي ابن خلدون هو علم يحتاج الي القوة لكي
يؤكده وانما كانت خيانته نتيجة لخيانة الواقع لأفكاره، وهذا لا يسوغ شيئاً
بقدر ما يوضحه. هل أوضح سعد الله ونوس الواقع؟ ربما أوضح واقعاً مهزوماً
فاته أن يعرف كيف يصوغ أسئلته.
[/right]
---------------------------------------------
منقول
دفع سعد الله للارتداد الي دوره الأساس، دور الكاتب الذي ينظر الي عالم
علي أنه مسرح ينبغي كشف لعبته، لعبته السياسية التي لم تزل ملحة بشكلها
التقليدي ولكن خارج الأطر المحددة للنزعات السلطوية بمختلف ايديولوجياتها
التي أفشلت مسرحه أو أجبرته علي الانكماش ولو الي حين، أقصد السلطات
الاجتماعية والسياسية والاقتصادية غير الحاكمة بالضرورة والتي تملك منصباً
علي أتباعها هو ذات المنصب الذي يشغله ملك في مكان وزمان غير محددين ليدل
علي تشابه السلطات الاستبدادية مهما كان شكلها. وعلي الأرجح هذا ما أراده
سعد الله أو ما فهمته من عنوان مسرحيته الملك هو الملك التي تخلت عن محلية
الحكي والفرجة لصالح فكرة تصلح لأي واقع يعاني استبداداً ما. لكن كشف
الاستبداد، فهم طبيعته، ارتكاس معرفي يفرضه واقع عاجز عن الحراك أو
التجاوب ونخبته، بمعني أنه واقع عاجز عن تأريخ حداثوي له. ولذلك بدت هذه
المسرحية تقليدية في بنائها وفرجتها اذا ما قورنت بالتطور المفترض عن
المسرحيات السابقة لها، لولا أنها برهنت، مع ذلك، علي غني تجربة سعد الله
واغتنائها بمقومات مسرحية يمكن اعتمادها في أية كتابة قادمة كتهيئة سردية
لأدبية كان قد بدأ حياته الابداعية بها. ـ 3 ـ لا أعرف حقيقة ان كان سعد
الله علي دراية بفشل امكانية الحوار في مجتمع غير متكافئ القوي، أو غير
قادر علي انتاج بنية للتكافؤ في أية مرحلة من مراحله التاريخية يمكن
الحوار من خلالها حين توقف عن البحث الابداعي لأشكال المسرح في المجتمع
العربي، محاولاً أن يستعير صيغا جديدة للكتابة من أقلام كتاب انتصرت
مجتمعاتها حداثوياً لتريحه قليلاً من شبح السلطة بمفهومها السياسي الفظ
والمباشر علّه يستحث الجماهير التي حاول الانتصار لها علي أن تفعل شيئاً،
أن تنظر الي ما حولها، أن تفكر فيما تعيشه، أن تنفض عنها غبار الغفلة
والدردشة لتري ما يمكن فعله قبل أن تسلب كل ما تملك وترمي كنفاية الي
طرقات التشرد والموت، فيجد في مسرحية كيف تخلص السيد موكينبوت من آلامه
للكاتب بيتر فايس صيغة ملائمة لذلك، يستطيع أن يكتب اعتماداً علي حكايتها
مسرحيته رحلة حنظلة من الغفلة الي اليقظة ليعود بالمسرح الي بساطة القول
اذا لم يكن الي سطحيته اذ ماذا يعني أن نعرف ما يدور حولنا طالما أنه لا
يمكن أن نفعل حياله شيئاً؟، سؤال تبدو اجابة سعد الله عليه أكثر سلبية في
مسرحية لاحقة. لكن ما هو ايجابي في هذه المسرحية أنها تحررت قليلاً من
مفهوم السلطة الفردية لتوزعه علي شكل بنية اجتماعية واقتصادية أكثر مما هو
حالة سياسية آنية، ليقترب بذلك من ملامسة الأزمة لكن بلا أطراف يمكن
محاورتها بما يشكل تراجعاً ملحوظاً حتي عن مسرحه السياسي والاكتفاء تماماً
بدور الراوي الذي يستطيع أن يلتقط تفاصيل الواقع ويسردها كما هي.
لكن مع انطلاق الانتفاضة الفلسطينية أواخر القرن الماضي يجد سعد الله نفسه
في موقف محرج، فالواقع العربي ليس علي هذا النحو من السلبية وانما أدوات
مبدعيه كانت عاجزة علي ما يبدو عن صياغة فعل مماثل لهذا التحرك العفوي بل
هي سارت به الي ما يشبه زهوة الفرسان لتقضي عليه قبل ولادته. وربما لهذا
استشرف سعد الله نهاية كارثية لا تحتملها حكاية الفارس ولا حتي وضوح
الصراع وبدائيته فلجأ الي التواء المثقف وأزماته فاستعاد حكاية القصة
المزدوجة للدكتور بالمي للكاتب المسرحي انطونيو بويرويانيجو ليكتب مسرحيته
الاغتصاب التي شرح من خلالها الصراع العربي الاسرائيلي علي أساس عقد نفسية
سادية علي الأغلب، ربما يكون الشفاء منه سريرياً أكثر منه سياسياً ليخلص
الي هذه النتيجة التي تدعو للدعابة وتتلخص في أن الحوار بين الاسرائيليين
والعرب أو الفلسطينيين لا يمكن أن يتم الا بين شرائح المثقفين وقد تخلّوا
عن هواياتهم القومية والدينية! ما يؤسف له أيضاً في هذه المسرحية أن
امكانية الحوار الذي تفترضه لم يكن بين العرب أنفسهم، وانما مع وافدين من
ديمقراطيات أخري، وربما هذا يفسر انضواء كثير من المثقفين والمبدعين العرب
تحت اشراف منظمات وقوي ـ علي الأقل سلطاتها هي من تصوغ الواقع العربي منذ
اتفاقية سايكس بيكو وأشباهها من الاتفاقيات والمشاريع التي تتبناها
الولايات المتحدة الأمريكية اليوم.
ما أريد قوله ان سعد الله، شأنه شأن العرب جميعاً حتي المبدعين
الفلسطينيين منهم، لم يستطع أن يتجاوب والمرحلة التاريخية لشعب وجد نفسه
لم يعد يحتمل بؤسه وشقاءه فتمرّد علي شرطه التاريخي ليكتشف أنه وحيد ولا
أحد قادر علي الانتصار له في هذه المسرحية سوي محاولة أدبية ربما تذكر
بأدب القسوة في القرن التاسع عشر. لكن كيلا أحمل سعد الله ما لا طاقة له
به يمكن القول: انه ومن خلال هاتين المسرحيتين استطاع أن يؤكد علي كونية
المسرح باعتباره فناً مثله مثل الموسيقي والرسم أو أدباً مثله مثل الشعر
والرواية فهو ان كان قد استعار شكلهما المسرحي من لغات أخري الا أنه
بكتابته الأدبية عرف كيف يجعلهما عربيتين لغة ووقائع، وهذا لا يعني
بالضرورة غلق الباب أمام احتمالات مسرحية لها خصوصيتها المحلية. ? كاتب من
سورية 4 ـ
اطمأن سعد الله في السنوات الأخيرة من حياته الي ما يشبه الواقعية النقدية
أو حتي الوصفية فيما يكتبه من مسرحيات، مكتفياً بدور الراوي لأحداث ووقائع
يعيشها أو يعايشها في محيطه الاجتماعي، موائماً هذه المرة بين المسرحية
والرواية ولكن بعد أن تخلصت لغته من انشائية البدايات وانزياحاتها. وربما
يكون توصيف هذه المرحلة الختامية من مؤلفاته بالروايات المسرحية أقرب الي
الدقة، وهو توصيف قد لا يملك قيمة معيارية علي أساس أن الكتابة الحديثة
كثيراً ما جمعت بين عدة أجناس أدبية وفنية بل كثيراً ما أعدت الروايات
مسرحياً لتعرض علي الخشبة بل ان أعمال سعد الله الأخيرة تتضمن هذا
الاحتمال الفني لامكانيات الشاشة السينمائية أو التلفازية كفضاء عرض، ومع
ذلك لا ينبغي أن ينكر المرء هذه المتعة التي يمكن تحصيلها من قراءة هذه
الأعمال وهي متعة أدبية، تشبه ما يجنيه المرء من قراءة الروايات الأدبية
المحضة، وهذا شيء لصالح ما يكتبه سعد الله بالتأكيد، بل أعتقد أن هذا
الشيء هو ما جعل عمله علي هذا النحو من الأهمية، اضافة الي هذه الجرأة في
تناول الواقع نقدياً بوقائعه وشخوصه المعاشة حتي أن أولي هذه الروايات
تأخذ عنواناً مباشراً للدلالة علي راهنية ما تتحدث عنه، وأقصد بها مسرحيته
يوم من زماننا ..
يبين سعد الله من خلال هذه المسرحية أحد جوانب الفساد في المجتمع وهو جانب
الدعارة، ليس بجانبه الوجودي كعلاقة اعتبارية بين الرجل والمرأة وان حصل
ذلك كنتيجة وانما في تدخلها في عمل المؤسسات كرشوة أو كمصيدة لمحاربة
النزاهة وما الي ذلك، وفي تفشيها بين شرائح الفقراء كمحاولة لتحسين ظروفهم
وما يتبع ذلك من مشاكل أخلاقية تطال حتي الرموز الدينية ليؤدي في المحصلة
الي هزيمة أبرز المعاني الانسانية التي تربط الرجل بالمرأة وهو الحب الذي
ينسحب ممثلوه من الحياة دون أدني مقاومة وكأن قدراً محتماً لا مهرب منه
سوف يقضي علي أيّ عاشقين يرغبان في إعلاء شأن الحب أو يحاولان احياءه بل
ما هو أشد غرابة من ذلك أن هذا القدر الذي يتمثل بالظروف الاجتماعية
والاقتصادية والسياسية، سوف يأخذ، وعلي النقيض من منظومة سعد الله
العلمانية أو الحداثوية، بعداً طهرانياً يبدو الحب فيه وكأنه خطيئة ينبغي
أن يحاسب عليها أيّ عاشق أو عاشقة يقترفانها بعيداً عن المؤسسة الزوجية
واستمرارها ليس انتصاراً للقوة الذكورية المتحكمة في المجتمع ولكن كنتيجة
حتمية لهيمنة هذه القوة ونفي أيّة امكانية للتغلب عليها كما هي الحال في
مسرحيته أحلام شقية ، لكن فهم القدرية باعتبارها شرطاً تاريخياً قد لا
يسوغ اعتبار الحب خطيئة ينبغي التطهر منها، بل ما هو أنكي من هذا الفهم أن
سعد الله يتبني هذه القدرية الطهرانية في مسرحيته الأيام المخمورة حتي بعد
أن تخلص العاشقان من شرطهما التاريخي المتخلف.
أيضاً استحوذت العلاقة بين المرأة والرجل علي تفكير سعد الله في مسرحيته
طقوس الاشارات والتحولات ولكن برؤية أكثر حراكاً من المسرحيات السابقة علي
الرغم من أنها مستمدة من تاريخ العرب ما قبل النهضوي، وهي مسرحية تحاول،
اذا ما أمعنت التفسير في احتمالاتها، أن توضح أهمية الاهتمام بثقافة
الجسد، بطاقاته الفنية كالرقص مثلاً، باعتباره حاجة طبيعية ينبغي أنسنتها
بعيداً عن طقوس الاسراف أو الزهد في التعامل مع حاجات الانسان الأساسية
ومنها الجنس، والا راوح المجتمع في الدوران حول حلقة المحرم والعصيان
المستتر و فيها، ولكن سعد الله رصد هذه الحلقة عبر ظاهرتين معاكستين:
الأولي هي ممارسة السادة الرجال للجنس مع خادماتهن قبل بلوغهن وتحويلهن
بالتالي الي عاهرات يعترف المجتمع بشرعية وجودهنّ في وسطه، والثانية هي
المكاشفة في العلاقات الجنسية المشبوهة حتي الشاذة منها لاتخاذ هؤلاء
السادة من الغلمان مناهل جنسية، ولكن بما يكفل التراتبية الاجتماعية بين
السادة والخدم أو العاهرات من جهة والهيمنة الذكورية من جهة أخري.
لكنّ المسرحية تفترض اختراقاً لهذه التراتبية كأن تقوم امرأة من السادة ـ
وتحت رغبة عارمة لجسدها بالانطلاق والتحرر لم تشبعها بزواجها من رجل سيد
اعتاد معاشرة العاهرات هو نقيب الأشراف ـ بالتحول من امرأة سيدة الي غانية
أو عاهرة تبيع جسدها، ملبيّةً بذلك أصداء أصوات عاشتها من خلال اغتصاب
أبيها وأخوتها الذكور للخادمات في حرمة البيت الذي ولدت وتربت فيه، مع
ملاحظة أن هذه المرأة أبدت رغبة في الرقص أكثر من الجنس لتسويغ تحولها
هذا، ولكن ماذا تفعل اذا ما ارتبط الرقص بالعهر في مجتمعها؟ طبعاً هذا
المجتمع سوف يتصدي لهذه الظاهرة الجديدة بالمفهوم الطهراني ذاته فيتم
اصدار فتوي بتحريم البغاء لتقتل المرأة علي يد شقيقها الأصغر بينما يقتل
زوجها شهوات جسده عن طريق الزهد والتصوف. فتكتمل بذلك حالة الفصام الشرقي
بين ما هو ظاهر وما هو مخفيّ، بين تقشف الروح وشهوانية الجسد، بين حلال
الرجل وحرام المرأة...أفكار مرتبكة ومربكة لا تؤسس الا لحكايتها التي
تحاكي واقعاً تدعي أنها تنقده، كأن سعد الله دخل حقاً نفقاً مظلماً لا
نهاية لالتواءاته وتعرجاته.
آخر هذه الالتواءات كانت مسرحيته ملحمة السراب التي تقوم بدورها علي
ثنائية اقتصادية حادة التناقض بين انفتاح اقتصادي هو بطبيعته يفتح المجال
أمام متع الحياة وأفراحها والواقع المتخلف والفقير الذي يرتضي من الحياة
أغانيها، وعلي ما يبدو أن سعد الله ينحاز الي الواقع الثاني للحفاظ علي
الحياة الريفية ببساطتها وبمعانيها عن الحب والأسرة والأرض باتخاذه لموقف
مسبق من المشروع السياحي الذي يقيمه رجل يصفه سعد الله بالغاوي الذي يتبع
شيطانه، متناسياً ربما أن العمل السياحي هو نتاج حداثوي، وليس بالضرورة أن
يلغي الحب أو الأغنيات القديمة، وان كان يساعد بما يوفره من غني وتنوع علي
مكاشفة الانسان لرغباته وتطلعاته والخوض في هذا أري أنه يحتاج الي وعي
أعمق بالوجود لا يبدو أنه كان متوافراً لدي شخصيات مسرحيته التي انقسمت
بين مقبل بشراهة علي هذا المشروع وما يتيحه من متع عديدة وزاهد به
وبالحياة كلها، بل أن يحتال هذا الغاوي علي رجال القرية في النهاية أمر لا
يفند أهمية قيام مثل هذا المشروع، فضلاً عن أن الذاكرة العربية عبر تاريخ
حضارتها الواسع مؤسسة علي الانفتاح الذي يمكن وصفه اليوم بالسياحي، لكن
يمكن القول: ان الفساد المتفشي في مؤسسات المجتمع ومعاملات الناس فيما
بينهم حتي التجارية والصناعية منها بغياب قانون يعطي لكل ذي حق حقه قد
يبرز سلبية التطلعات الحداثوية وخاصة اذا ما تمثلت بالمظاهر المتعوية التي
تحتاج الي منظومة من التفكير حرّة أو متحررة، وربما هذا ما انعكس علي
أوليات سعد الله وتفكيره فيما يكتبه اما بنزوع مقاوم قد لا يصلح لمجتمع هو
شره بتكوينه وان يبدي غير ذلك كعادته، واما بنزوع نقدي يستطيع أن يعي
مواطن الضعف والهزيمة ولكن بلا رؤية ابداعية واضحة يمكن أن تحرض علي فعل
مغاير ومختلف، وربما هو فعل يحتاج الي وعي أكثر امتداداً من الواقع الضيق
الذي خاض آلامه واخفاقات أحلامه.
وعلي هذا الأساس شكلت مسرحيته منمنمات تاريخية استجابة لهزيمة الواقع أكثر
من رغبة في تخطيها، وهي ان كانت تحمل في معظم مستوياتها عرضاً لأشكال
الهزيمة كما هي أعماله الأخري بما لا يدعو الي مزيد من التفكر، الا أنّ
سؤالها أو امتحانها للمثقف أو العالم ربما قد جاء سؤالاً نافلاً وربما في
غير محله علي اعتبار أن مفكراً وعالماً مثل ابن خلدون يتمثل منظومة فكرية
لم يُستنفذ قولها ومفعوله وحسب بل هي بشموليتها وبراغماتيتها قد لا تصغي
كثيراً الي ما يصغي اليه سعد الله عن أخلاقية القول ودلالة ما يفعله
قائله، بمعني أن أهمية ابن خلدون تكمن في أنه استطاع أن يكتشف علماً كان
يستطيع العرب الافادة منه لو أرادوا بينما تتباكي مسرحية مثل منمنمات
تاريخية علي ما حصل للعرب وعلي ما يحصل لهم ولم يكن بوسع ابن خلدون أن
يرده لو ترك قلمه وامتشق سيفاً ليموت داخل أسوار دمشق أو قلعتها، أما أن
تحتاج الشعوب الي مواقف مفكريها ومبدعيها فهذا قد لا يعني شيئاً مهماً
طالما أن صحة المواقف قد لا تعني صحة السبل والطرق التي يمكن أن توصل
الشعوب الي تحقيق طموحاتها، وما لدي ابن خلدون هو علم يحتاج الي القوة لكي
يؤكده وانما كانت خيانته نتيجة لخيانة الواقع لأفكاره، وهذا لا يسوغ شيئاً
بقدر ما يوضحه. هل أوضح سعد الله ونوس الواقع؟ ربما أوضح واقعاً مهزوماً
فاته أن يعرف كيف يصوغ أسئلته.
[/right]
---------------------------------------------
منقول
حمزة سديرة-
- عدد المساهمات : 453
العمر : 36
المكان : قصر*قفصة
المهنه : طلب العلم
الهوايه : كل شيء
نقاط تحت التجربة : 12489
تاريخ التسجيل : 07/03/2008
صفحة 1 من اصل 4 • 1, 2, 3, 4
مواضيع مماثلة
» يا حسرة على البكالوريا ...
» منتدى الباكالوريا علوم تقنية
» ترجمة شهادة البكالوريا
» وزارة التربية تتخذ إجراءات مبكرة لمنع الغش في البكالوريا
» حياة القلوب في رحاب الذكر
» منتدى الباكالوريا علوم تقنية
» ترجمة شهادة البكالوريا
» وزارة التربية تتخذ إجراءات مبكرة لمنع الغش في البكالوريا
» حياة القلوب في رحاب الذكر
صفحة 1 من اصل 4
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى